على أن هناك ثلاثة حلول رئيسية لمشكلة الشر واللامعقولية الظاهرين في العالم. ففي استطاعتنا أن نتخذ موقفا متطرفا ونقول إن ما يسمى بالشر ليس إلا خطأ في أذهاننا نحن. ففي الذهن الإلهي أو اللامتناهي، لا يمكن أن يوجد إلا الخير والحق، بحيث إن أي خطأ أو شر لا بد أن يكون ناتجا عن أذهاننا نحن المتناهية الفانية. وكل ما علينا هو أن نطرح جانبا فكرة الشر (ما دامت لا توجد إلا في أذهاننا) لكي نمحو تحقيق الشر؛ ذلك لأن الفكرة والتحقق هنا شيء واحد. والحل الثاني لمشكلة الشر أقل تطرفا وأقرب إلى «الذهن العادي». في هذا الحل يعترف بحقيقة الشر، ولكن يقال إننا لو نظرنا إلى الأمور من منظور طويل الأمد؛ أي إذا تعلمنا أن نرى الأشياء «من منظور الأزل» - لأدركنا أنه مهما تكن أصالة الأمم والشقاء والحمق الموجود في العالم، فإن هذه الأمور تتناقص بالتدريج. ومن الممكن أن يسمى هذا بالموقف التاريخي من المشكلة. فأنصار هذا الموقف يؤمنون بالتقدم، ويرون أن في استطاعة الإنسان، باستخدام العقل وجهوده الخاصة، أن يعجل مسيرة التقدم ويمضي بحركته إلى تحقيق نتائج لا حد لها، من بينها محو الكثير مما نعده الآن شرا. وتعرف وجهة النظر هذه باسم «مذهب التحسن
Meliorism »؛ أي المذهب القائل إن الأمور قابلة لأن تنصلح. ويوحي هذا المذهب في الدين - حيث تدعو إليه كثير من الكنائس المتحررة اليوم بأن الله يحتاج إلى مساعدتنا في الكفاح، وبأن الحياة (وربما العملية الكونية بأسرها) تمثل صراعا لا يرحم بين قوى الخير وقوى الشر. في هذا الصراع لا بد من تجنيد كل مقاتل، وفيه يساعد اختيار الخير على قطع دابر الشر من جذوره. وباختصار، فالشر حقيقي بالفعل، غير أن حقيقته ستزول بانتصار الخير بمضي الوقت، وهو انتصار يمكن تحقيقه بتضافر الجهود بين الله والإنسان.
1 (4) الأفلاطونية
هناك وجهة نظر تقع بين التفسيرين الدينيين (اللذين هما في أساسهما عمليان) للعلاقة بين المظهر والحقيقة، وهي وجهة نظر لها أهمية ميتافيزيقية أعظم بكثير. تلك هي الأفلاطونية، التي هي مذهب من أسمى ما أنتجه النظر الفلسفي. وعلى الرغم من أن تفكير أفلاطون ليس مثاليا بالمعنى الدقيق، ما دام للعناصر الأساسية في مذهبه وجود خارج عن الذهن (أما مسألة كونها ذات طبيعة روحية أو مادية أم منطقية فحسب، فهي من المسائل التي تثير أعظم الجدل في تاريخ الفلسفة)، فإن الأفلاطونية تتميز مع ذلك بسمات متعددة تتضح في المثالية المحدثة. وهي تمثل المزاج والموقف العام لهذه المدرسة الكبيرة تمثيلا جيدا.
يشيد أفلاطون مذهبه على أساس التقابل بين المظهر والحقيقة، وهو التقابل الذي نناقشه الآن. فالطبيعة الحقيقية لأي شيء هي في نظره «الفكرة» التي تتجسد في هذا الشيء. وهو ينظر إلى هذه الأفكار أو الماهيات على أن لها وجودا مستقلا وحقيقة أرفع، بل إنها هي الحقيقة بعينها، أما الأشياء المادية فتقتصر على أن تعكس أو تحاكي هذه الحقيقة القصوى، التي هي ماهية الشيء المادي وأنموذجه الأزلي الثابت في نفس الآن. وهكذا يوجد، من وراء قناع التجربة الحسية، عالم مثالي من الماهيات. ومن هذا المجال الأعلى تأتي كل حقيقة: وكلما كان الشيء أكثر تجسيدا «للفكرة» أو «المثال» الكامن من ورائه، كان له مزيد من الحقيقة.
2
مستويات للحقيقة : غير أن هذا كله عرض مركز مجرد؛ ولذا سنقوم بتحليله وتخفيفه إلى حد ما. فأفلاطون يقول بوجود مستويين أو حالتين للحقيقة؛ أولهما هو الحقيقة الواضحة التي لا تنكر في الموضوعات اليومية الملموسة؛ أعني حقيقة الكراسي والصخور والأشجار والجبال والكائنات الحية. غير أن الوجود على هذا المستوى لا يمثل الحقيقة بمعناها الصحيح، بل إن هذه الحقيقة الحقة إنما تكمن من وراء قناع الحقيقة الظاهرية، وتستقر في عالم أعلى. (ولا يفصح أفلاطون بوضوح عن رأيه في المكان المحدد لهذا العالم الأعلى، إلا لكي يوحي بأنه في مكان ما «في السموات العليا»). هذا العالم يكون نظاما مثاليا للماهيات الأزلية، التي توجد في سلم متدرج مبني على مبادئ أخلاقية ويسوده مثال الخير. ولكن ما هي هذه الماهيات الأزلية المثالية، وما علاقاتها بهذا العالم اليومي الأدنى للأشياء المادية أو الطبيعية؟ يطلق أفلاطون على هذه الأحوال المثالية للحقيقة اسم «المثل» أو «الصور»
Forms
على التخصيص، وقد أصبح اللفظ الأخير هو المفضل في اللغة الإنجليزية. غير أن لكلمة «الصورة» عدة معان، أحدها مضاد تماما لمقصد أفلاطون. فكثيرا ما يكون المقصود من اللفظ هو الشكل الخارجي أو التخطيط العام للشيء؛ أعني قسماته الكلية أو مظهره العام. غير أن هذا اللفظ في نظر أفلاطون، يعني التركيب الباطن أو الفكرة المحدودة التي تتجسد في الشيء. فكيف يكون الشيء شيئا؛ أعني مثلا كيف يكون البيت بيتا؟ هذا هو السؤال الذي تستطيع الصورة أو المثال الإجابة عنه بأن تعرض ماهية الشيء. وبذلك تكون صورة البيت هي خطته أو تصميمه أو تنظيمه، وهذا التصميم أو التنظيم يتكشف في مجموعة من اللوحات الهندسية أكثر مما يتكشف في نموذج أو سلسلة من المقاطع الأمامية والجانبية، أو حتى في الصورة الفوتوغرافية للمبنى الكامل؛ ذلك لأن الصورة الأفلاطونية هي دائما الفكرة غير الملموسة، أو التصور. الذي قد يتجسد أو يتمثل جزئيا في الأشياء المادية، ولكنه لا يمكن أن يتحقق فيها كاملا.
وعلى ذلك فإن عالم الحقيقة الحقة هو عالم من الصور التي هي أزلية ثابتة كاملة. فتلك هي نماذج كل فئات الأشياء الأرضية أو أنواعها. ويرى أفلاطون أنه لا يوجد شيء ليست له صورة مناظرة له، يستمد منها ما له من حقيقة.
Unknown page