150

Falsafa Anwacha

الفلسفة أنواعها ومشكلاتها

Genres

المهام اللاحتمية : أيا كان الجانب الذي ننحاز إليه آخر الأمر في الجدال الدائر بين الحتمية واللاحتمية، فينبغي أن نعلم أن كل رأي قد قام بدور هام في تاريخ الفكر، وذلك إذ حافظ على تداول أفكار هامة معينة. فلا شك مثلا في أن أعظم دور قام به مذهب اللاحتمية هو اعتقاده الراسخ بأننا نحن الذين نصنع مصيرنا بأيدينا، جزئيا على الأقل؛ أي كما قال الشاعر:

أنا سيد مصيري

وربان سفينة نفسي

وقد يصف القدري هذا القول بأنه وهم بحت، كما أن من المؤكد أن أنصار مذهب الحتمية يصفونه بأنه نصف حقيقة فحسب. ومع ذلك فإنه اعتقاد أنقذ أشخاصا لا حصر لهم من اليأس، وربما من الانتحار. فإذا استطعت أن أومن، بوصفي لا حتميا، بأن السيادة الكاملة لقوانين العلة والمعلول تتوقف فجأة عندما تصل إلى مجال الحكم الشخصي والقرار الأخلاقي، فإني أكون عندئذ محصنا ضد بعض من أسوأ ضربات الحياة. ففي استطاعة هذا الاعتقاد أن يزودني بدرع داخلية يمكن أن تظل فيها نفسي أو شخصيتي المتكاملة (أي «الأنا الباطن»، كما تسميه إحدى مدارس الفكر الملهم) في سلام وهدوء مهما يحدث. وهكذا يتيح لي الإيمان اللاحتمي الاحتفاظ بيقين راسخ بأنني حتى لو لم أستطع التحكم في الظروف الخارجية، فسيظل في استطاعتي ألا أدع هذه الظروف تسيطر علي سيطرة كاملة. ذلك لأنني أستطيع أن أقاوم تحكمها في، وحتى عندما تبلغ الأمور أسوأ مداها، فسيظل في إمكاني وضع إرادتي في مقابل كل قوتها الهدامة، متحديا إياها أن تفعل أقصى ما تستطيع.

ولما كان قليل من اللاحتميين هم الذين يعترفون بأن هذا الإيمان الأساسي بقدرة الفرد على الانتصار داخليا على الظروف الخارجية هو كل ما تستطيع هذه المدرسة أن تقدمه، فأغلب الظن أنهم يتفقون جميعا على أن هذا هو أعظم نصيب تسهم به اللاحتمية. فمن الواضح أنها تتيح ملجأ يعصمنا من الهجوم، نستطيع أن نحتمي به دائما عندما تبدو الحياة ثقيلة الوطأة علينا، ويمكننا أن نستجمع فيه قوانا لمواجهة الحياة ثانية. وعلى ذلك فإن اللاحتمية تقدم إلينا الكثير، وذلك إذا نظرنا إلى الأمور بمنظار برجماتي. فإذا ما كنا نقدر وجهات النظر الأخلاقية المختلفة على أساس ما يمكنها الإسهام به في السعادة البشرية، فمن المؤكد أن اللاحتمية تحتل عندئذ مكانة رفيعة في القائمة. فهي مصدر إلهام دائم لأولئك الذين يمكنهم الإيمان بهذا الاعتقاد، بل إن أولئك الذين يخالفون هذا الإيمان مضطرون إلى الاعتراف بأن مذاهب قليلة أخرى هي التي تستطيع أن تفعل أكثر مما تفعله اللاحتمية لرفع الروح المعنوية للإنسان.

وعد الحتمية : أسهم الحتمي من جانبه بدور له قيمته الكبرى، وهو يعدنا بمزايا أعظم في المستقبل عندما تتحقق النتائج الكاملة للموقف الحتمي. فهو أولا قد فعل الكثير من أجل ربط الطبيعة البشرية ببقية العالم الطبيعي، وقد ساعد ذلك على تحقيق حلم طالما طاف بمخيلة الفيلسوف والعالم، وهو الوصول إلى معرفة موحدة تماما، تشمل تجربة الإنسان بأسرها وتفسرها. وقد أسهم الحتمي بنصيب آخر، هو تكوين صور أكثر علمية وواقعية للإنسان. ولقد كانت هذه الصورة، جزئيا، مخففة لغلواء الإنسان، بل كانت مخيبة لآماله؛ إذ إنها أثبتت أن الإنسان معتمد على بيئته في حياته العقلية، لا في حياته المادية وحدها. ولكن هذه الصورة كانت مثيرة وملهمة إلى حد أكبر؛ إذ إنها توحي بإمكانات هائلة للسعادة البشرية إذا أمكننا أن نعرف كيف نسيطر على بيئتنا سيطرة أفضل. وهنا يكمن أعظم وعد تقدمه إلينا الحتمية. فإذا كانت ذاتنا أو شخصيتنا، كما يرى الفرض الحتمي، حصيلة كل ما صادفناه، وكان له تأثير في الكائن العضوي المادي الذي ولدنا به، فإنه يترتب على ذلك أن يكون في وسعنا (عن طريق التعليم وتحسين السلالات) أن ننتج كائنات بشرية قريبة من أعلى المستويات. ذلك لأننا إذا استطعنا تكييف الفرد بحيث يستجيب لأمور معينة ويتخذ قرارات خاصة، فمن الواضح أننا نستطيع عندئذ أن نحقق سيطرة وفعالية اجتماعية أعظم - وبالتالي سعادة بشرية تفوق كل ما كنا نحلم به حتى اليوم.

من وجهة أخرى فلو كان اللاحتمي على حق، وكان في استطاعة الإنسان أن يتخذ قرارات غير مسببة على الإطلاق، فعندئذ يكون التعليم والجهد الذي يبذل للتحكم في البيئة الاجتماعية، كما رأينا من قبل، مضيعة للوقت إلى حد بعيد. ولهذا السبب كان القائل بالحتمية يتهم خصمه بأنه أكثر قدرية من القدري الصريح. ذلك لأنه إذا كان في استطاعتنا في أية لحظة أن ننكر تاريخنا الفردي بأسره، ونسلك اعتباطا وكأننا قد ولدنا فجأة من جديد في عالم لا علية فيه. فمن الواضح عندئذ أننا لا نملك أية سيطرة على السلوك البشري. وإن مجتمعا يتألف من إرادات غير متحددة أصلا بأي شيء لا يكون إلا فوضى أخلاقية، بل إن العالم كما تصوره القدرية لينطوي على نظام يفوق ذلك الذي تصوره النظرة اللاحتمية إلى الأمور. (7) المشكلة في صلتها بالمثالية والطبيعية

اللاحتمية والمثالية : تبدو العلاقات بين الخلاف حول حرية الإرادة وبين التقابل الأوسع بين المذهبين المثالي والطبيعي أوضح من أن تحتاج إلى تحديد؛ ذلك لأن المثالية واللاحتمية كانتا مرتبطتين طوال تاريخ الفلسفة الغربية ارتباطا بلغ من الوثوق حدا أصبح معه الحديث عن أحدهما ينطوي ضمنا على الحديث عن الآخر. فمعظم المثاليين ينظرون إلى الحتمية على أنها فكرة لا يمكن تصورها حتى لو كانت حتمية معتدلة كتلك التي يقدمها المذهب في صورته المعاصرة. فإما أن يكون الإنسان حرا في حياته الذهنية والإرادية، وإما أن يكون عبدا تقيده أغلال القدرية بالمسار الآلي لعالم متخبط. وفي رأي الذهن المثالي أن الاختيار بين هذين الطرفين أمر لا مفر منه، فإما أن يكون الإنسان حرا بحق وإما أن يكون عبدا بالمعنى الكامل. أما صاحب المذهب الطبيعي فيرى، على العكس من ذلك، أنه لما كانت الطبيعة حدا أبعد وأقصى من الذهن، ولما كانت الطبيعة البشرية جزءا لا يتجزأ من النظام الطبيعي، فيترتب على ذلك منطقيا أن قوانين النظام الطبيعي تسري بالضرورة على الإنسان. ولا يوجد، من بين القوانين والمبادئ التي تحكم الطبيعة، ما هو أهم وأشد ضرورة من مبدأ العيلة.

والواقع أن الموقفين المتعارضين للمدرستين الميتافيزيقيتين الكبريين إزاء الحتمية يلزم منطقيا من مسلماتهما ومصادرتهما الخاصة. فبالنسبة إلى المثالية، التي تؤمن بأن الواقع روحي، يكون من المنطقي الاعتقاد بأن أوجه نشاطنا الذهني والإرادي قد تكون عالية على القوانين التي تحكم العالم غير الذهني أو خارجة عنها. وفضلا عن ذلك فإذا نظر إلى الواقع على أنه قوة خلاقة من نوع ما، فعندئذ يمكن أن ينظر إلى مثل هذه القوانين (أي قوانين العلة والمعلول مثلا) على أنها مخلوقة لكي تسري على العالم المادي على التخصيص. ومعنى ذلك أن تلك القوانين لا يقصد منها أن تسري على الذهن وأوجه نشاطه. وهذا موقف أشبه ما يكون بموقف المشرع الذي يضع قوانين لا تنطبق عليه هو نفسه.

الحتمية والمذهب الطبيعي : يوجه صاحب المذهب الطبيعي إلى المثالي، كعادته، تهمة ارتكاب جريمتين عقليتين: وضع العربة قبل الحصان، والإغراق في التفكير القائم على التمني. ففي رأي صاحب المذهب الطبيعي أن الأقرب إلى المنطق بالتأكيد هو الاعتقاد بأن الذهني قد انبثق من المادي، وبأن القوانين العامة التي تحكم الأصل تحكم الفرع أيضا. فهنا يكشف المثالي عن ميله المعتاد إلى جعل العالم مأمونا بالنسبة إلى القيم بأي ثمن، حتى لو كان معنى ذلك إغماض عينيه عن الوقائع وتجاهل النتائج الرئيسية للعلم. ويواصل صاحب المذهب الطبيعي كلامه قائلا إن من الواضح أن المذهب اللاحتمي، الأثير لدى المثالي، لا يهتم أساسا بالوقائع، وإنما يهمه تصوير العالم على أنه مشتل مصمم أحسن تصميم، تستطيع فيه أعز قيم الإنسان أن تنمو وتضمن ازدهارها الكامل. فينبغي أن يلاحظ مثلا أن الواقعة الفعلية الوحيدة التي يقدمها اللاحتمي تأييدا لموقفه هي الشعور بالحرية الذي نحس به عندما نتخذ قرارا. فإذا ما قارنا هذا الحدس الواحد بوقائع العلم التي لا حصر لها، ولا سيما كشوف علم النفس ، لبدت هذه «الواقعة» اللاحتمية الوحيدة منعزلة ضعيفة التأثير إلى حد بعيد. وينتهي صاحب المذهب الطبيعي من ذلك التساؤل: أيحق لنا أن نستغرب إذن حين نجد اللاحتمي يؤيد موقفه قبل كل شيء، على أساس ما ينبغي أن يكون عليه الموقف في عالم أخلاقي مرتكز حول القيم؛ أي على أساس ما يكون خيرا للإنسان؟

Unknown page