Falsafa Almaniyya Muqaddima Qasira
الفلسفة الألمانية: مقدمة قصيرة جدا
Genres
ويسمي هيجل هذه العملية «النفي المعين»؛ فالنظريات المفندة لا تطرح جانبا، بل تسمح بوضع نظريات أفضل. فالفلسفة توضح كيف أن كل فهم معين لشيء ينطوي على قصور يقود إلى وصف أكمل. وفي النهاية، يؤدي إظهار أوجه القصور تلك إلى التعبير في نظام فلسفي عن كل الطرق التي يمكن بها للأشياء أن ترتبط بعضها ببعض. ويبلغ هذا النظام ذروته في «الفكرة المطلقة»؛ أي بيان السبب في أن كل الحقائق الجزئية تعتمد على علاقاتها بحقائق أخرى لتبريرها، ومن ثم لا توجد دعاوى إيجابية حاسمة حتى يتم إظهار أوجه القصور في كل الدعاوى الجزئية.
يتعقب كتاب «فينومنولوجيا العقل/الروح» الهياكل المتضمنة في كيفية «ظهور» العقل. وتتضح طبيعة هذا المنهج من فكرة أن العقل يظهر، لا كونه الشيء الذي يظهر له العالم. ولعل النظر إلى الطريقة التي يمكن بها للذات أن تكون على اتصال حقيقي بالموضوع هو الأسلوب الخطأ لتناول نظرية المعرفة. ويستخدم هيجل مجازا تعلم السباحة؛ فإذا لم يدخل المرء إلى الماء فلا يمكنه تعلم السباحة، وبالطريقة نفسها لا تتسنى للمرء المعرفة دون الانغماس بالفعل فيما ينبغي معرفته. ويعطي كتاب «فينومنولوجيا العقل/الروح» وصفا تتبعيا للعلاقات التاريخية بين الذات والموضوع، الأمر الذي رآه كانط في صورة مقولات سرمدية للفكر؛ فلكي يتطور الفكر من الأساس يتحتم أن يكون شيء ما مفقودا. وحتى على المستوى الغريزي، يكون جوهر علاقة الشيء المفتقد ل «غيره» حاضرا، فالكائنات الحية تحتاج طعاما وتحتاج إلى التكاثر، ودون وجود «الآخر» لا يمكنها الوجود؛ ومن ثم يكون كل شيء في جانب منه هو نفسه وليس نفسه في ذات الوقت: فالطعام الذي تأكله ليس أنت، لكنه يصبح أنت. والتغلب على احتياج ما يعني أن الذات تعتمد على الموضوع، لكن هذا الاعتماد ليس في حد ذاته أساس مزيد من التطور. ولكن، فقط عندما يتطور وعي مستدام بالاعتمادية تنشأ الفكرة في شكل - مثلا - ذكرى ما يلبي الحاجة.
وقد أشار تيري بينكرد إلى تصور هيجل على أنه وصف ل «السلوك الاجتماعي للعقل»؛ إذ يشرح كتاب «فينومنولوجيا العقل/الروح» كيف يسمح الاعتماد بأنواع جديدة من العلاقات بين الناس والأشياء. ومن منطلق الموقف الذي ترى فيه النفس الآخر دوما على أنه تهديد - يقصد هيجل هنا مقولة هوبز «حرب الجميع ضد الجميع» التي تسبق العلاقات القانونية - تنشأ القدرة على افتراض أن الآخر له حقوق كما لي حقوق. وفي الواقع، فمن دون الإقرار المتبادل بين النفس والآخر، لن يكون للحقوق أي وجود ملموس من الأساس. وفي فقرة شهيرة من كتاب «فينومنولوجيا العقل /الروح» عن «السيادة والعبودية»، يستهلك السيد منتجات العبد الذي قد أخضعه لنفسه؛ فالاعتماد الناتج للسيد على العبد يمكن الأخير من تطوير قدرته على معالجة العالم، إلى الحد الذي يمكن أن يكون فيه أقوى من السيد. فالفقرة نموذج للكيفية التي تغير بها علاقات القوة بين الذاتية الناس وعلاقاتهم بالعالم، كما أنها تأمل تاريخي في كيفية تجلي هذا النموذج في زوال الأرستقراطية الإقطاعية في الثورة الفرنسية.
يوضح هذا المزيج من التجريد النظري والإحالة المادية للتاريخ فكرة هيجل في أن الفلسفة هي «تجسيد لفكر عصرها»، وليست تمثيلا حقيقيا خالدا للعالم. لكن ثمة دوافع متصارعة لدى هيجل بين (أ) فكرة أن الفكر تولده تفاعلات تاريخية جزئية بين الناس والعالم، وهي طريقة لقراءة كتابه «فينومنولوجيا العقل/الروح»، و(ب) هدف إعطاء وصف فلسفي حاسم لهياكل كل تلك التفاعلات، وهو ما يقدمه في «علم المنطق» (1812-1816). فالأول ربما يشير إلى «نهاية الفلسفة»؛ لأنها لم تعد تتطلب وصفا للطبيعة النهائية للأشياء، والأخير يصر على ضرورة أن يكون الوصف نفسه المسجل للحقيقة على مدى التاريخ صادقا على نحو لا يخضع للتغير التاريخي. وتعتمد التفسيرات المختلفة لهيجل على الجانب الذي ينظر إليه على أنه جوهري في فلسفته.
غالبا ما ينظر إلى هيجل على أنه مفكر نظري جدا؛ وهو ما أدى إلى تجاهله في معظم الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية حتى وقت قريب، لكن قضية «المباشرية» تعطي صورة مختلفة، فكثير من الفلاسفة التحليليين اعتبروا أن «معطيات الحس» هي أساس المعرفة؛ لأن الدليل الشهودي ضروري للعلم السليم. ومع ذلك، تعد هذه النظرة الفلسفية لمعطيات الحس مثالا على «المباشرية». وفي «فينومنولوجيا العقل/الروح»، يستعين هيجل بالبيانات اليقينية «المباشرة» الأوضح ظاهريا أمام المرء في اللحظة الراهنة، ويتمثل هذا (في حالتي) في هذا الكمبيوتر الموجود هنا الآن، ولكن نظرا لأنه يتعين دوما توسيط إدراكات جزئية معينة عن طريق التصورات العامة التي نستخدمها للتعرف عليها، فلا يوجد شيء مفهوم في البيانات غير المتصورة من الأساس. ويوضح هيجل أن الألفاظ «الدلالية» - «هذا»، «هنا»، «الآن» - هي كليات تتوسط بالفعل لمضمون إدراكي عن طريق تمكيني من التركيز على شيء معين، وتصبح «هنا» هي هذه النافذة إذا نظرت خارجها الآن، بدلا من الكتابة. وتنطوي هذه الدعوى على شكل مختلف من التركيب الأساسي للفكر الهيجلي؛ فكل ورود للألفاظ «هذا» و«هنا» و«الآن» ينفي السابق واللاحق من «هذا» و«هنا» و«الآن»؛ ولذا تفتقر جميعها إلى شيء ما، لكن مجموع مرات ورود «هذا» و«هنا» و«الآن» هو المجموع الإيجابي للمكان والزمان. وتظهر حقيقة الجزئي من خلال توسطها عن طريق تصورات عامة، وإلا فهو غير محدد. وكما هو الحال في فلسفة كانط، لو لم توجد أحداس لكانت التصورات خاوية، ودون التصورات لكانت الأحداس عمياء.
إن «جدلية» هيجل هي العملية التي تتغير فيها مادة علاقاتنا وشكلها بالعالم بالنسبة إلى بعضها ببعض. وبالنسبة لهيجل، فإن «تصور» موضوع ليس (كما هو الحال لدى كانط) مجرد قاعدة لتعريف شيء، بل يشمل بدلا من ذلك كل الطرق التي يفهم بها الشيء عن طريق انخراطنا فيه. ومن ثم لا يوجد «شيء في ذاته»؛ لأن الشيء إنما يصبح شيئا عن طريق كونه بالنسبة لنا. ويرى هيجل أن «الشيء في ذاته» لدى كانط هو نتاج لتجريد الشيء عن كل شيء نعرفه عنه، وهذا يتركنا بلا شيء حقيقي على الإطلاق، فقط فكرة عامة لا متعينة. فالمباشرية الظاهرة للشيء يتم الوصول إليها بالفعل عن طريق التوسط؛ أي نفي ما نعرفه عنه بالفعل.
يستخدم هيجل هذه الأنماط من الفكر لوصف جميع الأبعاد الأساسية للعالم الحديث، من العلم إلى القانون والسياسة، إلى التاريخ، وإلى الفن. فالانتقال من المباشرية اللامتعينة إلى التوسط يعتمد على ربط الأشياء على نحو أكثر توسعا بما ليست عليه. وفي «فلسفة الحق»، على سبيل المثال، يكتسب الفرد «المباشر» هويته المبدئية من خلال الأسرة، لكن مطالب الأسرة جزئية وتحتاج إلى قانون الدولة إذا كان يتعين توفيقها مع مطالب الأسر الأخرى. ومع ذلك، فالمشكلة هنا أن الشرعية التي تأتي بالنسبة لهيجل في المستوى الأعلى يمكن في المواقف الملموسة أن تؤدي إلى كبت المستوى الأدنى على ما يفترض.
إن انتقادات هيجل للاعتماد على المباشرية معقولة في الغالب، وهي تلعب دورا في التحديات المعاصرة لافتراضات كثير من الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية. ولكن، لماذا وجد رد فعل مناهض لهيجل منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر فصاعدا، ومرة أخرى في الفلسفة التحليلية منذ مطلع القرن العشرين حتى وقت قريب جدا؟ أحد الأسباب لرد الفعل الذي حدث في ثلاثينيات القرن التاسع عشر هو اصطدام دعاوى هيجل فيما يتعلق بسلطة العقل مع مفهوم أن القدرات العقلانية التي أحدثت تغيرات كبرى في القرن التاسع عشر يمكنها أن تؤدي إلى أشكال لا عقلانية من التنظيم المجتمعي؛ فإرسال الأطفال إلى المناجم يكاد يؤكد لا عقلانية الواقع. وفيما بعد، سيتعارض عمل هيجل البلاغي، الذي يتعامل مع مصطلحات مثل «عالم الروح»، مع الاهتمام المتنامي بالتفاصيل التجريبية في العلوم الطبيعية، والتي هي وجهة الفلسفة التحليلية.
مع ذلك، يتم غالبا تجاهل حقيقة ظهور منهج بديل لمنهج هيجل الذي ظهر في «الرومانسية الألمانية المبكرة» التي تبدأ في منتصف تسعينيات القرن الثامن عشر، وهو منهج يشارك هيجل بعض أفكاره، لكنه يفارق العناصر الجوهرية للمثالية الألمانية. فالموقف الهيجلي يمكن أن يوضح كيف أن العقلانية تحقق إنجازات يتعذر تحقيقها، من النوع الذي نجده في إدراكات من قبيل أن الرق لا يمكن الدفاع عنه، وأن النساء ينبغي ألا يعاملن على أنهن أدنى منزلة من الرجال. أما الموقف الرومانسي، فلن ينكر بالضرورة أن تلك الإنجازات نهائية، لكنه سيشكك في طبيعة القصة الفلسفية الكبيرة التي يستخدمها مؤيدو الفكر الهيجلي لتفسير ذلك، وذلك على أساس أن قصة وحدوية لتقدم العقل ربما تحجب مصادر أخرى لتوليد المعنى في العالم الحديث.
هوامش
Unknown page