مقدمة: لماذا الفلسفة الألمانية؟
1 - كانط والحداثة
2 - المنحى اللغوي
3 - المثالية الألمانية
4 - الفلسفة «الرومانسية المبكرة»
5 - ماركس
6 - نيتشه وشوبنهاور و«موت الإله»
7 - الكانطية الجديدة والفلسفة التحليلية وفلسفة الظواهر
8 - هايدجر
9 - النظرية النقدية
المراجع
قراءات إضافية
مقدمة: لماذا الفلسفة الألمانية؟
1 - كانط والحداثة
2 - المنحى اللغوي
3 - المثالية الألمانية
4 - الفلسفة «الرومانسية المبكرة»
5 - ماركس
6 - نيتشه وشوبنهاور و«موت الإله»
7 - الكانطية الجديدة والفلسفة التحليلية وفلسفة الظواهر
8 - هايدجر
9 - النظرية النقدية
المراجع
قراءات إضافية
الفلسفة الألمانية
الفلسفة الألمانية
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
أندرو بووي
ترجمة
محمد عبد الرحمن سلامة
مراجعة
هبة عبد المولى
مقدمة: لماذا الفلسفة الألمانية؟
تشتهر الفلسفة الألمانية عن جدارة أحيانا بأنها مبهمة ونظرية إلى حد بعيد، وكثير منها غاب فعليا عن عالم الفلسفة الأنجلو-أمريكية في الفترة ما بين ثلاثينيات إلى سبعينيات القرن العشرين، ويرجع هذا الغياب في جزء منه إلى الارتياب في أن هناك تواطؤا بصورة أو بأخرى بين النازية والفلسفة الألمانية. ومؤخرا فحسب تجدد الاهتمام الحقيقي بشخصيات مثل جورج فيلهيلم وفريدريش هيجل ومارتن هايدجر في عالم الفلسفة الأنجلو- أمريكية. وترجع زيادة الاهتمام بالفلسفة الألمانية - على نحو لم يقتصر فقط على الفلسفة الأكاديمية - إلى شعور عام بالأزمة فيما يتعلق بتوجه العالم المعاصر. وترتبط هذه الأزمة بالعوامل الأساسية فيما يسمى غالبا «الحداثة». وتظهر الحداثة في مجتمعات مختلفة في أوقات مختلفة، لكنها بوجه عام تنطوي على ملامح معينة تميزها. وتميل المجتمعات السابقة على الحداثة إلى الاعتماد على صورة تقليدية للعالم ترتكز على علم اللاهوت. وعلى الرغم من أن تلك الصورة تنطوي على صراعات تؤدي أحيانا إلى العنف والتمزق المجتمعي، فهي لا تزال تشكل خلفية مستقرة إلى حد كبير لكيفية تجاوب الناس مع العالم. أما الحداثة، في المقابل، فتجبر الثقافات على مواجهة نتائج نشأة العلوم الطبيعية الحديثة وأشكال الإنتاج والتبادل الجديدة. وفي الغالب، فإن التهديد ليقينيات النظام القديم له تأثيرات صادمة تجعل الكثير من الناس يتمسكون بمفاهيم هذا النظام الجامدة، فهم يعارضون التغيرات التي ينطوي عليها النظام الجديد حتى وهم يستعملون كثيرا مما تأتي به تلك التغيرات. ولا تتأكد إمكانية الانتقال إلى نظام جديد أكثر استقرارا إلا بعد وقوع أحداث كارثية تجعل من هذا الانتقال ضرورة لا مفر منها.
قد تنطبق بعض جوانب هذه القصة على بعض أوجه ازدواجية مشاعر العالم الإسلامي المعاصر تجاه الثقافة الغربية الحديثة. إلا أن المنحى المأساوي غالبا للتاريخ الألماني بدءا من القرن السابع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية وأخيرا سقوط جدار برلين عام 1989 ربما يكون النموذج الأكثر وضوحا لكيفية حدوث التحول إلى الحداثة. وفيما يتعلق بهذا التحول، فإن الفلسفة الألمانية تفهم على وجهين؛ فهي مؤشر مشكل للتاريخ الألماني، وهي أيضا مصدر حيوي لمحاولة معرفة الكيفية التي يمكن للمرء بها أن يتقبل عالما فيه - على حد تعبير كارل ماركس في كتابه «بيان الحزب الشيوعي» عام 1848 - «كل راسخ وصلب يتبخر في الهواء، وكل مقدس يستباح، وفي النهاية يجبر البشر على مواجهة ظروفهم في الحياة وعلاقاتهم بعضهم ببعض في تجرد وحيادية.» ومن ثم، يمكن أن تكون لطبيعة الفلسفة الألمانية المزدوجة قيمتها في معالجة الأزمات في العالم المعاصر. ويتضح من الأحداث الأخيرة أن الحاجة إلى الدين لم تختف في كثير من الأوساط، على الرغم من أن العلم قد قوض كثيرا من الأفكار التي حافظت على الدين على نحو تقليدي، كما قوضت النزعة الاستهلاكية على نحو متزايد العديد من القيم الدينية للمجتمعات التقليدية. وعليه، فإن الصراع بين الاحتياجات التي لباها الدين سابقا والآثار الاجتماعية للعلم الحديث والرأسمالية الحديثة هو مفتاح كثير من مبادئ الفلسفة الألمانية.
ربما يظن أولئك الذين اعتادوا على اختصاصات «الفلسفة التحليلية» الأنجلو- أمريكية أن تلك المزاعم غير ذات صلة باهتماماتهم. لكن الفلسفة التحليلية - كما يوحي اسمها - تجسيد للحداثة. وأحد مصادر نجاح العلوم الطبيعية الحديثة هو التركيز على تحليل الموضوعات إلى عناصرها المكونة، وصياغة القوانين التي تحكم تلك العناصر. وعلى هذا النحو نفسه، بدأ نهج تحليلي في الفلسفة يسعى إلى عزل عناصر اللغة عن طريق تجريدها من علاقاتها بالظواهر الأخرى ومحاولة إرساء قواعد عامة تحكمها. وكان الهدف هو وضع نظرية للحقيقة والمعنى تقوم على بيان كيفية اتصال الكلمات والجمل بأجزاء الواقع التي تشير إليها. ومن ثم، تعين اشتقاق وصف عام لآلية عمل اللغة من تحليل عناصرها الخاصة. وكان الهدف هو حل كثير من المشكلات التقليدية للفلسفة عن طريق توضيح كيف أن هذه المشكلات كانت نتيجة انعدام الكفاية المنطقية لأشكال اللغة اليومية.
يعتقد الآن على نطاق واسع أن هذا النهج لن يتمكن من تحقيق غايته؛ فلا يمكن افتراض أن المعنى قابل للتحليل تماما على نحو تجزيئي، وفكرة اللغة المنقاة منطقيا تعتمد دوما على فهم سابق للغات طبيعية «غير منقاة». فالطرق التي تتصل بها عناصر اللغة بعضها مع بعضها والممارسات غير اللغوية والمعرفة العامة غير المتأصلة في عناصر اللغة عوامل أساسية في تفسير المعنى. ومن ثم، يتحول تركيز الفلسفة من تركيز على كيف «تمثل» اللغة الأشياء إلى تركيز على كل الطرق التي «تعبر» أو «تبين» اللغة بها كيفية اتصالنا بالعالم. ويمكن أن يتراوح هذا التركيز الأخير بين عبارات موضوعية عما نعرفه وتعبيرات عن وجودنا في أشكال لفظية وغير لفظية، مثل الموسيقى أو الرسم. وقد شكل هذا المفهوم «الشمولي» جزءا من الفلسفة الألمانية منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ووفقا للموروث الألماني، فإنه يمكن التماس كثير من البدائل الرئيسية للمنهج التحليلي للفلسفة. فالتضاد بين المفهومين التحليلي والشمولي يتعلق أيضا بمواقف ثقافية متضادة؛ فبينما يميل توجه الموروث التحليلي في الغالب نحو العلوم الطبيعية، يعلق الموروث الألماني أهمية كبيرة على الفن والقضايا الجمالية.
ويوحي هذا التضاد بصراع حام داخل الفلسفة الحديثة، ويمكن تمييز الصراع بطرق متعددة؛ كالصراع بين «التفسير» و«الفهم»، أو «الوضعية» و«الرومانسية»، أو «ثقافتي» العلوم والإنسانيات. فكيف نتعامل - كما يتوجب علينا في كثير من المواقف - مع الصدامات التي تظهر بين الطريقة التي يخبرنا بها العلم عن كينونة العالم، والطرق الأخرى التي يفسر الناس بها عالمهم ويشعرون به؟ تبدأ الفلسفة الألمانية فعليا عندما يخالج الشك فكرة أن البشر «على معرفة» في عالم إمكانية فهمه مكفولة من قبل الإله. ومن توابع هذا التغير أن الطرق المتنافسة لتفسير العالم تصبح على ما يبدو غير قابلة للتوفيق فيما بينها؛ مما يؤدي إلى ظهور الصراعات المميزة تحديدا للحداثة.
ولم يختف هذا الخلاف، كما سيتضح مما يلي. ففي الثلاثين عاما الأخيرة، أو نحو ذلك، شهدت دراسة الإنسانيات ظهور عدد متنام من المناهج النظرية التي هي محل نزاع كبير، وقد تضمنت هذه المناهج على وجه التحديد استنطاقا للأفكار المتعارف عليها حول المعنى والحقيقة. وشاع هذا الاستنطاق جزئيا بسبب أن الافتراضات محدودة النطاق ذات النزعة العرقية التي اعتمد عليها كثيرا في الحكم على الثقافة في العالم الغربي قد تزعزعت نتيجة تأثيرات العولمة وانحسار الاستعمار. والوعي بأن الثقافة ترتبط دوما بآليات عمل القوة، وبأن ما يعتقد أنه حقيقي يتأثر إلى حد بعيد بالظرف التاريخي، يعني أن فهم الثقافة يتطلب تأملا مستنيرا من الناحية النظرية. ومع ذلك، لم تنزع المناهج النظرية التي غيرت الإنسانيات بطرق مثيرة للجدل - وأشهرها: البنيوية، وما بعد البنيوية، ونظرية النوع الاجتماعي، والنظرية النقدية، والهرمنيوطيقا، والتحليل النفسي - إلى تضمين الفلسفة التحليلية. وما ينسى أو يغض الطرف عنه أحيانا أن أكثر هذه المناهج النظرية - المرتبطة غالبا بالمنظرين الفرنسيين أمثال: جاك دريدا وميشيل فوكو وآخرين - تعتمد على أعلام الفلسفة الألمانية وأشهرهم: هيجل ونيتشه وهايدجر. والآن، فإن أفكار أعلام الفلسفة الألمانية هؤلاء على وجه الخصوص هي التي يستعان بها أيضا للرد على بعض فرضيات الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية؛ ومن ثم يوفر الاهتمام بالفلسفة الألمانية فرصا لحدوث تفاعلات جديدة بين المناهج المتعارضة سابقا.
ومع ذلك، فإن الغاية الأساسية هنا هي استكشاف ما تخبرنا به الفلسفة الألمانية عن بعض المشكلات الكبرى للحداثة. وينبغي أن يسهل هذا النهج على القراء الالتفات إلى النصوص الكبرى المعترف بصعوبتها للفلسفة الألمانية، التي لا تزال مهمة للغاية لوضع المصطلحات التي يمكن بها فهم العالم الحديث. للمزيد من الوصف التفصيلي للحجج الفلسفية، يمكنك الرجوع إلى كتابي «مقدمة إلى الفلسفة الألمانية من كانط إلى هابرماس» (كامبريدج: بوليتي، 2003).
الفصل الأول
كانط والحداثة
أهمية كانط وإسهاماته
من يقرأ أعمال إيمانويل كانط (1724-1804) يواجه بوابل من المصطلحات التقنية، مثل: «الأحكام التركيبية القبلية » و«وحدة الإدراك المتعالي». كيف يتوصل المرء من محاولة فهم هذه المصطلحات إلى دور كانط المحوري في أي وصف يتعلق بكيفية تغير الفلسفة في العالم الحديث، والكيفية التي يمكن بها للفلسفة تغيير هذا العالم؟ ولكي يدرك المرء هذا الدور، عليه أن يفهم فلسفة كانط على أنها جزء من الصورة التاريخية الكبرى التي هي بمنزلة تعبير عنها. وحتى إذا كنا غير موقنين بصحة أفكاره أو معناها، فلا يزال يمكننا قراءة عمله باعتباره استجابة للتغيرات الجذرية التي شهدها العالم في عصره. وقد أصبح الصراع الضمني هنا - بين فكرة أننا ينبغي أن نرسي الحقيقة بشأن فلسفة كانط، وفكرة أننا ينبغي أن نفهم كانط على أنه تعبير عن عصره - في حد ذاته قضية في الفترة التي كان كانط يكتب فيها. والسبب في ذلك أن تركيزا فلسفيا جديدا على كيفية تأثير الممارسات البشرية على الطرق التي يفهم بها العالم قد شكك في الافتراض القائل: إن للأشياء جوهرا عقلانيا أبديا. وقد تأثر التركيز الجديد بالتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية السريعة في الفترة من النصف الثاني من القرن الثامن عشر فما يليها في أوروبا، وأثر عليها أيضا.
إن علاقة كانط بهذه التحولات ليست مباشرة - فقد قضى معظم حياته بعيدا عن مركز الأحداث في كونجسبرج في شرق بروسيا - لكنها لا شك تركت أثرها على عمله. وإذا لم يكن لتأملاته عن الحرية، على سبيل المثال، دخل بالثورة الفرنسية لكان من الصعب أن نعرف كيف نفكر فيها بطريقة مادية على أية حال. ومع ذلك، فالأحكام على تلك التأملات ينبغي ألا تعتمد على السياقات التي ظهرت فيها فحسب؛ وهذا معناه أن الفلسفة تبدو منطوية على مطالب متناقضة، إلا أننا ينبغي ألا نحاول بالضرورة استبعاد تلك التناقضات الفلسفية؛ لأنها يمكن أن تكون تعبيرا عن الصراعات الموجودة في الحياة الاجتماعية والسياسية، والتي لا يمكن للفلسفة نفسها حلها. وفي سعي كانط لحل بعض أهم المعضلات الفلسفية لعصره، فإنه يتجاوز بنا تلك المعضلات إلى مشكلات العالم الحديث الأشمل.
السياق الفلسفي
إن المواقف التي يرد عليها كانط هي نفسها تعبيرات عن عوامل تاريخية محورية للحداثة، ف «عقلانية» جوتفريد لايبنتز (1646-1716) وباروخ إسبينوزا (1632-1677)، التي حملها كريستيان فولف (1679-1754) وآخرون إلى عهد كانط، تفترض أن النجاح الجديد للعلم الطبيعي المرتكز على أساس رياضي يقوم على تركيبات متأصلة في الطبيعة. ولأن الرياضيات تتألف من حقائق ضرورية لا يمكن تغييرها بالدليل التجريبي، فمن الممكن أن تكون لها منزلة تأسيسية يفتقر إليها أي شكل آخر من أشكال المعرفة. كما أن منزلتها المطلقة تربطها على ما يبدو بعلم اللاهوت، فالمعرفة التجريبية عرضة للخطأ بالضرورة؛ لذا يمكن النظر إلى عصمة الرياضيات عن الخطأ على أنها امتلاك لمصدر يفوق البشر. لكن العلوم الحديثة - كما أشار الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776) - تعتمد أيضا على اهتمام جديد ودقيق بالمعطيات التجريبية، وهذه المعطيات تؤخذ من الإدراكات الإنسانية؛ ومن ثم ليست لها حتمية الرياضيات. وقد تمثل أثر دعاوى هيوم على كانط في إيقاظه من إيمانه «الدوجماتي» بفكرة النظام الكوني المضمن؛ ف «الدوجماتية» بالنسبة لكانط هي الإيمان بالمبادئ الميتافيزيقية الأساسية التي لا تخضع للبحث النقدي، وهو اعتقاد قائم في الفلسفة منذ أفلاطون على الأقل. أما بالنسبة لهيوم، فلا يمكن أن يقال إن مبدأ السببية مضمن في الكون؛ لأن جميع الأدلة على الحتمية السببية تستقى من إدراكنا للزوم شيء عن آخر. ومن ثم، فأي يقين ظاهر تولده العلوم الجديدة مصحوب بشك حول ما يضفي الشرعية على ذلك اليقين. ويحتمل أن تكون تداعيات وجهة نظر هيوم بالنسبة للدين كارثية؛ فنظام الأشياء الآن يعتمد على ما يدركه البشر كأفراد، وليس على السلطة الإلهية.
شكل : إيمانويل كانط، عام 1790 تقريبا.
1
يسعى كانط إلى إيجاد حل للصدام بين العقلانية والتجريبية عن طريق إعادة التفكير في العلاقة بين الحتمية الرياضية والإدراكات المحتملة. ومع ذلك، لا ينصب اهتمامه فقط على نظرية المعرفة؛ فأول أعماله الكبرى «نقد العقل المحض» (1781، الطبعة الثانية 1787) يجعل الحرية شيئا محوريا، الأمر الذي سيوضحه بالتفصيل بعد ذلك في «النقد الثاني»؛ أعني: «نقد العقل العملي» (1788) (وفي كتابه «أساس ميتافيزيقا الأخلاق» (1785)). وفي عام 1790، نشر كانط «النقد الثالث» له؛ ألا وهو «نقد الحكم» (1790)، الذي يعالج قضية علم الغائية (فكرة وجود تخطيط أو قصد في الطبيعة) والجمال الطبيعي والفني.
كيف إذن تتصل القضايا المختلفة التي يتصدى لها كانط بعضها ببعض؟ يميل العلم الحديث إلى التحول لمحمية من فروع معرفية آخذة في التخصص، ومن توابع هذا الأمر أن تحليل الطبيعة إلى مكونات معينة يمكن أن يحدث شعورا بالتفكك. وقد افترضت الفلسفة وعلم اللاهوت في السابق وحدة ضمنية في تنوع الظواهر الطبيعية، وقد حول هيوم مصدر هذه الوحدة إلى مسألة فلسفية كبرى؛ ومن ثم يحاول كانط تأسيس أشكال جديدة من الوحدة لتحل محل تلك الأشكال التي لم يعد بقاؤها ممكنا. ومع ذلك، فهو لم يكن مهتما فقط بالمعرفة العلمية، بل أيضا بالأساس الأخلاقي للمجتمع وبالعلاقات مع الطبيعة التي لا يمكن للقوانين العلمية تفسيرها. ويمكن النظر إلى الانتقادات الثلاثة على أنها تعبيرات عن الطريقة التي تصير بها مجالات العلم والقانون والأخلاق والفن أكثر انفصالا عن بعضها البعض في الحقبة الحديثة، مع أن علاقاتها ببعض قد أصبحت أحد الاهتمامات الحيوية.
المثالية المتعالية
كانت «المثالية» في زمن كانط مرتبطة بفكرة الأسقف بيركلي عن أن «الوجود إدراك»: إذا لم يدرك الشيء فكيف لنا أن نؤكد أنه موجود من الأساس؟ لكن كانط يصر على أن مثاليته «المتعالية» هي في الواقع نوع من «الواقعية»؛ لأنها تفترض أن الأشياء توجد بصرف النظر عن إدراكنا لها، ولذلك ربما يبدو معنيا بمواقف متناقضة أو متعارضة. وهذا الانطباع تعززه حقيقة أن غاية المثالية المتعالية هي إعطاء أساس «للموضوعية» بلغة «الذاتية»، فالحتميات الموضوعية لقوانين الطبيعة تعتمد على «شروط إمكان» ذاتية للمعرفة، هذه الشروط هي ما يعنيه الجانب «المتعالي» من نظرية المعرفة الخاصة به. فالشروط ذاتية؛ لأنها نتاج تفكيرنا، لكنها يجب أن تنطوي على الحتمية، لا أن تكون اعتباطية على غرار الآراء الذاتية. ومن ثم، يريد كانط أن يشرح كيف تعتمد المعرفة على أثر العالم علينا وعلى الطرق التي ينظم بها العقل ذلك الأثر، مستشهدا في ذلك بقوانين الحركة لنيوتن.
إن المشكلة الأساسية أن ما ينتمي إلى الجانب الذاتي وما ينتمي إلى الجانب الموضوعي للمعرفة كان إحدى القضايا الأكثر جدلا في الفلسفة الحديثة، ولا يزال كذلك. فبعض الفلاسفة هذه الأيام يظنون، على سبيل المثال، أن العقل هو جهاز يشغل البرنامج اللازم للتفكير، حتى إنه يمكن أيضا إنشاء مثيل للبرنامج بواسطة آليات الكمبيوتر؛ وبذلك يمكن للجانب الذاتي للمعرفة أن يفسر بطريقة سببية. وعلى الجانب الآخر، يوحي «القصد» - الذي يعني أن التفكير يكون «في» أشياء بعينها - بأن الشيء الذي يدرك عالما من الموضوعات لا يمكن أن يكون هو نفسه موضوعا كالموضوعات التي يدركها، وهذا أمر فاصل بالنسبة لكانط. فالجانب القصدي يسمح لنا بإنتاج أحكام مختلفة عن شيء ما، الأمر الذي قد «ينظر إليه باعتباره» عددا ربما لا نهائيا من الأشياء. ومهما تكن حقيقة الحجج الفلسفية هنا، فإن المواقف المتخذة فيما يتعلق بها تؤثر على طريقة تفكير البشر في أنفسهم.
فلماذا إذن سيق كانط إلى مذهب المثالية المتعالية من الأساس؟ السبب مضمن في قولته المأثورة: إن «الأفكار دون مضمون فارغة، والأحداس دون تصورات عمياء»، فالأولى هي الأفكار («الدوجماتية») كتلك المتعلقة بطبيعة الإله القائمة على مجرد تصورات استخدمت للحديث عن الإله مثل «الوجود الحتمي» و«الكمال» وما إلى ذلك. «والأحداس» - وهي بالألمانية
Anschauungen
المشتقة من
anschauen
بمعنى «ينظر إلى» - هي مادة إدراكاتنا التي يمكن استخدامها كدليل تسويغي. ودون طرق لتنظيم الدليل عن طريق التعريف به بلغة التصورات سيواجه المرء تفاصيل فوضوية لا نهائية؛ فما ندركه يختلف دوما من لحظة إلى لحظة في جانب ما مهما يكن ضئيلا، ولا يوجد موضوعان متطابقان على نحو قاطع. وعلى الرغم من أن كانط يريد الاحتفاظ بما يقترحه منفصلا عن علم النفس، فإن الأبحاث النفسية في الإدراك تثبت أن ما نراه يتشكل من خلال تراكيب تصورية نمتلكها بالفعل. وعلى الرغم من المشكلات المتعلقة بالعلاقة بين معطيات الإدراك وتفكيرنا، فإن كانط لا يشك في أن المعرفة العلمية ممكنة؛ ولذا فالمهمة هي الوقوف على ما يجعلها ممكنة. إن التماثل ليس بالأمر الوارد في عالم المعطيات الإدراكية، الذي لا يمكن أبدا إظهاره على أنه متطابق تماما ويقع في أماكن وأوقات محددة؛ ومن ثم فالمثالية المتعالية تزعم أنه يجب أن توجد قواعد عقلية لإدراك العالم، بحيث يتعين أن تسير الموضوعات وفقا لطرق تفكيرنا لا العكس. وقد رأى كانط هذا التغير في المنظور باعتباره «تحولا كوبرنيكيا»؛ مماثلا لما فعله كوبرنيكوس عندما قلب علم الكونيات البطلمي رأسا على عقب وقال: إن الأرض ليست مركز الكون.
ويسمي كانط القواعد العامة لفهم الموضوعات «مقولات»، وهو مصطلح أخذه عن أرسطو الذي نظر إلى المقولات باعتبارها تحدد الطرق التي يمكن أن يعبر بها عن الأشياء. وبالنسبة لكانط تحدد المقولات «تصورات أي موضوع بوجه عام»، الأمر الذي لا يمكن استمداده من النظر إلى العالم. ومقولات الوحدانية والتعددية هي أساس ما يصطلح كانط على تسميته «الأحكام التركيبية القبلية»، وهذه هي الأحكام الرياضية التي كان يظن من قبل أنها بديهية، لكن يرى كانط أنها تثبت كيف استطاع العقل أن ينمي معرفته عن طريق التفكير المحض. فالعدد 4 لا يمكن تعريفه مثلا على أنه 2 + 2 فقط؛ لأنه يمكن أيضا أن يكون مركبا من 3 + 1 و4 + 0 ومجموعات أخرى لا نهائية، من قبيل 3,3333 + 0,6667، وكلها يمكن أن تزيد معرفتنا بالعدد 4. (ومن القضايا التي لا تزال محل نزاع حقيقة ما إذا كان يجب التفكير في هذه التراكيب على أنها بالفعل «مضمنة في» 4، حتى إذا لم نكن نحسبها.) وتقدم مقولة السببية أفضل طريقة لفهم حجته بشكل عام؛ فإذا كنت أظن أن شيئا علة شيء آخر، فسوف أحكم بأن الحدث (ب) يتبع بالضرورة الحدث (أ)، وما أدركه أنا هو (أ) ثم (ب): والتفكير فيهما على أنهما مرتبطان بطريقة سببية يتطلب أكثر من تعاقب حدث على آخر؛ فهو يتطلب كلا من مقولة السببية والقدرة على الحكم بأن ارتباط الحدث (ب) مع الحدث (أ) السابق عليه ارتباط ضروري. ويركب الحكم على نحو فاعل الأجزاء المختلفة للتجربة الإدراكية في علاقة بعضها مع بعض. ويرى كانط الأحكام على أنها «تلقائية»: بمعنى أنها - خلافا لكل شيء في عالم الطبيعة - ليست مسببة عن شيء آخر . والأحكام تقتضي منا اتخاذ موقف بشأن إن كان شيء ما هو الواقع القائم أم لا؛ فمادة الإدراك تعطيها لنا «القابلية السلبية للتلقي»، والمعرفة تنتج من التطبيق الفاعل للمقولات والتصورات على تلك المادة. ولعل كانط بطريقة مذهلة (ومحل تساؤل) يصر على أن المكان والزمان هما إطار يقدمه تفكيرنا، وليسا خاصيتين للعالم الموضوعي؛ وهذا لأننا إنما ندرك الأشياء في مكان وزمان محددين، حيث لا توجد طريقة لإدراك الأشياء «كلها دفعة واحدة». والحاجة إلى التركيب تأتي بسبب أن التجربة تقع داخل هذا الإطار المحدد، وعلى التفكير أن يربط اللحظات المختلفة للتجربة ليجعلها مفهومة.
الذات الحديثة
يعتمد البناء الكامل لتوصيف كانط للمعرفة على ما يسميه «الوحدة التركيبية للإدراك الواعي». و«الإدراك الواعي» هو القدرة على تأمل المرء في أحكامه: بمعنى أنني يمكنني أن أدرك عن وعي بعد ظهيرة اليوم حقيقة أنني فكرت هذا الصباح في أيام عطلتي؛ ومن ثم فقد كنت حتما موجودا في لحظة التفكير بشأن أيام عطلتي، وفي لحظة التفكير بشأن التفكير فيها. وهذا التتابع «التركيبي» لذاتي هو أساس الذاكرة. ودون وجود ما يربط لحظات التجربة - والذي يجب من وجهة النظر المنطقية أن يكون هو الشيء نفسه في كلتا اللحظتين - لن توجد طريقة لجمع ما هو مختلف معا؛ ومن ثم يقول كانط إنه «يجب أن تكون «أنا أفكر» قادرة على مصاحبة جميع تمثيلاتي.» ولكن الشق المنطقي يمكن أن ينطوي على شيء أكثر تأكيدا؛ ففكرة العالم المتسق الآن تبدو هي نفسها معتمدة على وحدة الذات، ومن ثم يمكن التفكير في هذه الوحدة بطريقتين: الأولى تتضمن فقط الشق المنطقي المبين توا، أما في الثانية فيمكن تضخيم الوحدة إلى فكرة النفس باعتبارها «النور» الذي يجعل العالم مفهوما. وستحظى هذه الحالة الازدواجية للنفس بأهمية بالغة في الفلسفة الألمانية اللاحقة.
تنطوي الحداثة على زيادة هائلة في قدرة الإنسان على تحصيل المعرفة والسيطرة على الطبيعة، وإذا كان أساس هذه القدرة هو حقا فاعلية الذات، فمن الممكن إذن ربط المشكلات التي تجلبها التغيرات العلمية والتقنية بالتفسيرات المختلفة للذاتية. ولأن الذات متناهية وفانية، فإنها تعتمد بطبيعتها على كونها كائنا طبيعيا، ويمكنها أيضا في الوقت نفسه الهيمنة أكثر فأكثر على الطبيعة الخارجية والداخلية، وربما تؤدي الهيمنة على الطبيعة عندئذ إلى محاولات كارثية للتغلب على اعتماد الذات على الطبيعة. وعلاوة على ذلك، فإن الذات تبدو في الوقت نفسه جزءا من الطبيعة الفيزيائية، ولكنها أيضا ليست جزءا من الطبيعة؛ لأنها تتمتع بحرية أخلاقية في مقاومة دوافع طبيعية. ويتصدى كانط للإشكاليات التي تنشأ من هذا الوضع الثنائي؛ ومن ثم يمكن أن تقرأ الطرق المتناقضة التي فسرت بها أقوال كانط على أنها تعبيرات عن الطبيعة المنقسمة لرؤية البشر لأنفسهم في الحداثة.
الأشياء في ذواتها
إن الانقسامات في الوجود البشري الحديث هي العنصر الأكثر تجليا في تأملات كانط عن الحرية، وتعتمد هذه الانقسامات على تمييزه بين الكيفية التي يظهر بها العالم وكينونة العالم «في ذاته»، وبين العالم باعتباره «ظاهرة» والعالم باعتباره «شيئا في ذاته»؛ فكل شيء في العالم الظاهر خاضع للقوانين الحتمية، بما في ذلك عقولنا وسائر أجسادنا. وفي الوقت نفسه، عندما نقاوم نزغات غرائزنا التي يمكن تفسيرها على نحو سببي، فنحن نتصرف وفق «سببية نابعة من الحرية»؛ فنحن نمنع أنفسنا من فعل شيء لأننا نظن أنه خطأ. وينعكس الجانب غير المعقول من رؤية كانط في حقيقة أن تلك القرارات لا تقع في مكان وزمان؛ لأن كل شيء يقع خاضع للقوانين الحتمية. أما الجانب المعقول في هذه الرؤية، فإنه ينعكس في حقيقة أن المجتمعات تحمل أفرادها مسئولية ما يفعلون، ما لم يتأت إظهار أنهم أكرهوا على فعله من خلال قوى خارجة عن نطاق سيطرتهم.
ويرانا كانط أحرارا «في ذواتنا»، لكن وفقا للكيفية التي تحددنا بها القوانين الطبيعية على أننا موضوعات ظاهرة في الطبيعة. ومع ذلك، فمعنى «الشيء في ذاته» مشاع عنه الغموض؛ فلا يمكننا أن ندرك كل ما يتعلق بموضوع ما دفعة واحدة، ولذا ربما يعني إجمالي أوجه الموضوع، ولكنه يمكن أيضا أن يعني أن الطبيعة الحقيقية للأشياء مخفية في جوهرها؛ لأننا إنما نصل إلى الأشياء «بالنسبة إلينا». ويوحي هذا الغموض بشعور حديث بعدم الارتياح بشأن مكان الجنس البشري في الطبيعة. وربما يمكن للمعرفة البشرية الوصول إلى الطبيعة بصورة احتمالية - إن لم تكن فعلية - في جميع جوانبها، إلا أنه يحتمل أيضا أن المعرفة العلمية تحجب أو تحدث طرقا نخفق بها في فهم الطبيعة. وتوجد مجموعة من أهم العلاقات الإنسانية بالطبيعة لا تعتمد على معرفة القوانين السببية، ولكن ربما تكون لها صلة - على سبيل المثال - بالكيفية التي يمكن بها للطبيعة أن تكون مصدرا للتجديد الروحي، أو أن تكون شيئا يصان ضد صروف التكنولوجيا وسلبياتها. ويرجع السبب في نشأة هذه الأفكار إلى أن ثمة علاقة فيما يبدو بين حرية الإنسان والشعور بجانب لا يمكن معرفته من الطبيعة: فلا الحرية ولا الطبيعة في ذاتها جزء من عالم الظواهر.
العقل والحرية
يدرك كانط أن المرء لا يمكنه ببساطة أن يستبعد القضايا التي تثيرها «الميتافيزيقا»؛ أي وضع صورة عامة عن الكيفية التي يتشكل بها العالم. ومهمة «العقل»، في مقابل مهمة «الفهم» المعرفي، هي إرساء مبادئ تجعل أفكارنا مترابطة. واكتشاف المزيد دوما من القوانين الجديدة للطبيعة لا يخبرنا عن ماهية ارتباط هذه القوانين بعضها ببعض؛ ولأجل ذلك يحتاج المرء إلى «فكرة» أن جميع الظواهر الطبيعية محكومة بقوانين وتؤلف نظاما كليا، وهو ليس بالأمر الذي يمكننا التأكد منه. وللأفكار مكانة تنظيمية؛ فنحن نحتاج إليها لترتيب الأفكار عن الأشياء بوجه عام، لكن ما تزعمه ليس «جوهريا»؛ لأن ذلك سيتضمن زعما من النوع الذي يرفضه كانط باعتباره «دوجماتيا». ومن ثم، فجميع التساؤلات المتعلقة بالطبيعة المطلقة للأشياء تصبح مستعصية الإجابة، لكن هذا - كما يصر كانط نفسه - لا يتخلص من الدافع لطرحها.
في النقد الأول، يثبت كانط - الذي كان هو نفسه مؤمنا - على نحو هادم أن البراهين الفلسفية على وجود الإله غير صحيحة؛ ومن ثم فالدين يجب أن يكون مسألة إيمان لا معرفة. فأين يدع ذلك الأسئلة «الكبيرة» عن معنى الحياة؟ ترجع صرامة بعض ما توجب على كانط أن يقدمه هنا إلى القيود التي لاحظناها، ويعد النقد الثاني وكتاب «أساس ميتافيزيقا الأخلاق» محاولتين لإعطاء أساس للأخلاق دون الاحتكام إلى السلطة الإلهية. وليس بالضرورة أن يكون الاعتقاد الذي لا يزال شائعا بأن الأخلاق تحتاج أساسا مطلقا من النوع الذي يقدمه علم اللاهوت؛ مقنعا. ولعل كل ما يحتاج إليه المرء من دافع للتصرف بأخلاقية هو إدراك أن الآخرين يمكن أن يعانوا مثلما يعاني. ورغم ذلك، يظل كانط مهتما بإعطاء تبرير حاسم للمعايير التي يستخدمها المرء للحكم على ما ينبغي أن يفعله؛ لأسباب أهمها أنه يرى ضرورة الحصول على طرق لتبرير العقوبات القانونية على الذين لا يطيعون أمر التصرف على نحو أخلاقي. والشيء المذهل فيما يقترحه هو أنه لا ينطوي على وصايا أخلاقية ملموسة.
من المعروف عن كانط أنه يرى أن «الإرادة الخيرة» وحدها يمكن اعتبارها خيرا دون قيد؛ فأي شيء نعتبره خيرا في العالم التجريبي يمكن في ظروف أخرى أن يتحول إلى شر، أما الإرادة فتقع خارج الطبيعة، حيث كل شيء مسبب عن شيء وسبب لشيء آخر. ومع ذلك، فخيرية الإرادة الخيرة لا تعطي أي توجيه فيما يتعلق بما ينبغي في الواقع أن نفعله، وما نفعله يعتمد على «أوامر»، فإذا كنا نرغب في تحقيق هدف، فعلينا أن ننشد الوسائل لتحقيق ذلك الهدف، وهذا يقتضي أوامر «افتراضية»، لكن هذه ليس لها مضمون أخلاقي بالضرورة؛ لأنها يمكن أن تتضمن إرادة الوسيلة لقتل شخص ما. وتعتمد الأخلاق بدلا من ذلك على «الأمر المطلق»: «علي ألا أتصرف إلا على النحو الذي يمكنني أيضا أن أريد به لمبدئي أن يصير قانونا عالميا.» لا يملي كانط على المرء ما ينبغي أن يكون عليه مبدأ تصرفه، وهذا هو صلب الموضوع؛ فعلى الأفراد أن يقرروا أساس تصرفاتهم، لا أن يتركوها تفرض عليهم، وإلا فهم فاقدون لما يميز ما نفعله عما يحدث في عالم الطبيعة. والاستقلال الذاتي لا يكمن في قدرة المرء على فعل ما يشتهي (ومن ثم يكون عبدا لشهواته كما رأى روسو)؛ بل في القدرة على التصرف حسب المبادئ المختارة على افتراض أننا ينبغي ألا نمنح أنفسنا ما لا نمنحه للآخرين.
إن استراتيجية كانط هي الإشارة إلى الطرق التي نقر من خلالها بإنسانيتنا المشتركة، مثل مشاركة القدرة على ضبط النفس وفق مبادئ لا تمليها المصلحة الشخصية. وربما يبدو هذا ساذجا: فكيف نعرف ما إذا كنا في الحقيقة نتصرف على نحو مستقل أم لا، إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى قدرتنا على خداع النفس؟ يوافق كانط على أننا لا يمكننا معرفة هذا، وكل ما يمكن الاحتكام إليه هو شعور بأن لدينا «فكرة غرض آخر أكثر قيمة للوجود» مما تحكمه السببية الطبيعية. وهذه الفكرة يمكن أن تقودنا إلى إدراك أن الكائنات العاقلة الأخرى ينبغي ألا تكون مجرد وسيلة لغاياتنا؛ فالكائنات العاقلة لديها قيمة أصيلة، وهي «الكرامة»، والتي هي أمر لا يقدر ب «ثمن»؛ لأنها غير قابلة للمبادلة بشيء آخر.
إن احتكام كانط لإنسانية مشتركة يبدو ساذجا في ضوء ما تتسم به الحداثة من الاستغلال والحرب شبه المتواصلة والقتل الجماعي المستند إلى دوافع عرقية، وسوف ينتقد هيجل مبدأ «الأمر المطلق»؛ لافتقاده أي جذور في العادات والممارسات الأخلاقية التي تتطور في المجتمعات التاريخية الواقعية. ومع ذلك، فإن تلك الانتقادات لم تجعل مطالبات كانط بالعالمية ضربا من التكرار؛ فدون المطالبة بفكرة عالمية للإنسانية، يكون القانون الدولي مفتقرا لوجود مبدأ مؤسس. وفي أعقاب النازية، صارت فكرة «الجريمة ضد الإنسانية» ضرورية في القانون الدولي، وبالطبع يمكن أن يكون تنفيذ القانون الدولي صعبا على نحو باعث على اليأس، إلا أن جزءا من غرض كانط من فصل العالم التجريبي عن عالم الحرية، هو الإبقاء على فكرة أنه لا يمكن أبدا اختزال الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها الأشياء في الكيفية التي كانت ولا تزال عليها. وغالبا ما ينتقد موقفه من وجهة نظر فلسفية؛ لأن هذا الفصل يتطلب فكرة عالم «معقول» من الحرية خارج المكان والزمان. لكن المشكلة الفلسفية في تأسيس نظرية متفق عليها بشأن تلك الأمور لم تدمر فكرة الإنسانية باعتبارها تمتلك حقوقا متساوية؛ وذلك استنادا إلى فكرة القدرة الكامنة للبشر على الاستقلال.
الطبيعة والجمال والحرية
يكشف كانط الصعوبات ويطرح احتمالات جديدة تتعلق بكيفية اتصال البشر بالطبيعة، فإذا كانت الطبيعة هي خلق الإله، فإن محدودية معرفتنا بها ترجع إلى محدودية قدرات الإنسان وعدم معصوميته من الخطأ، أما العلم التام فيفترض أنه لدى الإله. ومن ثم تعتمد الاستجابات الأخرى للطبيعة، كالاستجابات الجمالية، على فكرة أن عجائب الطبيعة وأسرارها تتعلق بالأصل الإلهي لها، كما هو مطروح في فكرة «كتاب الطبيعة»، وإذا لم يعد لتلك التصورات اللاهوتية أي دعم فلسفي؛ فإن علاقة البشر بالطبيعة تصبح مشكلة. في «النقد» الأول، الطبيعة هي مجرد منظومة من القوانين الحتمية، ولا يمكن أن تطرح هنا تساؤلات عن الدلالات الأخرى للطبيعة؛ لأن كل ما يمكننا قوله عن الطبيعة يعتمد على تطبيق المقولات والتصورات على الأحداس. وبالمثل، فإن التصورات «المادية» أو «الفيزيائية» الفلسفية الحديثة تحصر التفسيرات الصحيحة في التفسيرات التي تقدمها العلوم، أما الظواهر التي تبدو خارج نطاق التفسير العلمي، مثل الوعي أو المتعة الحسية، فستحظى في النهاية بتفسيرات محكومة بالقانون.
ويرجع أحد أسباب عدم تبني كانط هذه الرؤية الاختزالية إلى أنه حتى المعرفة الكاملة نظريا بالطبيعة لا تؤسس «غرض» هذه المعرفة. فما هو الغرض من رؤية موضوعية بالكامل للوجود بالنسبة لبشر واقعيين في المواقف الحياتية الملموسة؟ وفي النقدين الأولين، يفصل كانط جذريا المعرفي عن الأخلاقي؛ وهذا يؤدي إلى القلق من أن الطبيعة هي حقا مجرد آلة محكومة بالقانون. وهنا تنشأ فكرة «العدمية» الحديثة، التي هي نتاج فكرة أنه لا توجد قيمة في أي شيء يحدث في الطبيعة؛ لأن الأمر ليس سوى سلاسل من الأسباب لأسباب أخرى. وقبل كانط لم تكن تلك الهموم ملحة؛ لأنه كان يفترض أن الأشياء في الطبيعة لها غاية - «علة غائية» - تتطور باتجاهها. والمزاعم الوضعية بشأن الغائية في الطبيعة «دوجماتية»؛ لأنه لا يمكن تقنينها كمعرفة. لكن كانط لم يكن يرغب في التخلي عن الغائية، وطريقته لمحاولة الإبقاء عليها في النقد الثالث لا تزال محل خلاف؛ فهو يربط الغائية بالجمال الطبيعي والفني.
وعلى الرغم من أن موقفه هنا مشكل جدا، فهو تعبير تاريخي مهم آخر عن تغير الطريقة التي يفسر الناس بها العالم. وأثناء النصف الثاني من القرن الثامن عشر، مر تقدير جمال الطبيعة بتحول جذري في العالم الغربي؛ فبعد رؤيته على أنه تهديد، صارت الطبيعة البرية - مثل جبال الألب - ينظر إليها على أنها مورد ذو قيمة؛ لأننا لا يمكننا السيطرة عليها بصورة تامة. فالطبيعة أصبحت ذات قيمة في ذاتها، والعلاقات الأخرى بالطبيعة خلاف المعرفية أو اللاهوتية أصبحت مهمة، وهذا التغير هو جزء مما يمهد لنشأة علم الجمال الحديث. ويربط كانط الجمال الفطري للعالم الطبيعي بالجمال الفني وبالاستجابات غير المعرفية للطبيعة، فشكل الموضوع الطبيعي ليس شيئا تفسره القوانين الفيزيائية والكيميائية التي تحكمه؛ لأنه يعتمد على العلاقة التبادلية للمكونات المختلفة للشيء. ويزعم كانط أن التماسك العضوي للأشياء في الطبيعة يعني أن الأمر «كما لو أن عقلا قد اشتمل على أساس وحدة تعددية القوانين التجريبية [للطبيعة]». وهذه طريقة لاهوتية غير مباشرة للإبقاء على الغائية، رغم أن كانط يقر بأن المرء لا يمكنه معرفة إن كان ذلك «الفهم» موجودا أم لا. والشيء الأقل خلافا هو اقتراحه أن المتعة التي ينبغي الحصول عليها من تأمل شكل الكائنات الحية في الطبيعة تجبرنا على التفكير بطريقة لا يمكن اختزالها في قوانين علمية.
إن الهدف من كتاب «نقد الحكم» هو البحث في كيفية عمل الحكم «وفق مبدأ ملاءمة الطبيعة لقدرتنا على المعرفة»؛ ومن ثم، فالمقصود من النقد هو تقديم مبدأ وحدة الجنس البشري والطبيعة المفتقد في النقدين الأولين. ويتيح لنا هذا المبدأ فهم الموضوع الطبيعي ككل، بدلا من مجرد تحليل أجزائه، ويتضح في تمتعنا بشكل الموضوعات الطبيعية. وهذه الفكرة مرتبطة بكل من قدرتنا على الانتقال من فهم الجزئيات إلى صياغة القواعد التي تحكم تلك الجزئيات، وبفكرة أن تقدير الفن ليس ذاتيا فحسب؛ فبينما يئول تفضيل نوع من الخمر على آخر إلى ما هو «ملائم» لي أو لك، فإن الأحكام على الجمال تنطوي على الزعم بأن الآخرين ينبغي أن يوافقوا على الحكم نفسه. ويعتقد كانط أن ذلك الاتفاق الضمني يشير إلى «شعور عام» ضمني يمكننا من مشاركة عالم يمكننا إدراكه بالطريقة نفسها، وهنا يصبح المعرفي والجمالي متلازمين.
من الأمور المحورية في تصور كانط مفهوم «الفكرة الجمالية»، وهي: «تمثيل للخيال يعطي المرء الكثير للتفكير فيه، لكن دون وجود أفكار معينة مسبقة؛ أي «تصور» قادر على أن يكون ملائما له.» وترمز تلك الأفكار إلى ما لا يمكن للمعرفة الوصول إليه بطريقة أخرى، مثل فكرة الحسن، فالوصول إلى الأفكار العليا التي تشير إلى شعور إنساني مشترك بالقيمة لا تصوري؛ لأنه لا ينطوي على تطبيق قاعدة على حدس. وبالمثل في تجربتنا مع «السامي»، عندما نتأمل ظواهر طبيعية مهددة، مثل البرق والبراكين والأعاصير من موضع أمان، فإننا ندرك طريقة أخرى للارتباط بالطبيعة لا يحددها ما نستطيع معرفته. والطبيعة هنا تقهر قدرتنا على فهمها، ويرى كانط أن فكرة الحرية واضحة في شعورنا بحدود ما يمكننا فهمه عقلانيا وتجريبيا.
قد يبدو كانط فيلسوفا عقلانيا إلى حد مفرط، يترك مساحة قليلة جدا للاهتمامات التي تعطي معنى لحياة الناس، لكن في تعيينه لحدود ما يمكن للفلسفة أن تزعمه بطريقة مبررة، فإنه يكون مدفوعا أيضا باتجاه يتجاوز تلك الحدود. وتكمن أهمية الأفكار التي يعتزم تناولها في الفصول التالية في الكيفية التي تساعدنا بها على فهم ما صار أهدافا مهيمنة للعالم الحديث، وأفول فكرة أن الأهداف الأهم متأصلة في نظام العالم نفسه؛ يعني أن مهمة تأسيس الأهداف تقع صراحة علينا. فالمعارك الأيديولوجية الكبيرة إبان الثورة الفرنسية، التي أدت إلى تطور الديمقراطية الحديثة، وإلى كوارث الحداثة التي تمثلها النازية والستالينية؛ ترتبط ارتباطا وثيقا بالقصة الفلسفية التي رأيناها تبدأ بإصرار كانط على استقلال البشر.
هوامش
الفصل الثاني
المنحى اللغوي
البعد المفقود
يقدم كانط رؤية فلسفية غاية في الجدة والعمق، حتى إنه من المذهل إدراك أنه يتجاهل إلى حد كبير أحد الهموم الكبرى للفلسفة الحديثة. ففي عام 1812، لاحظ كارل ليونارد راينهولد (1757-1823) الذي كان مسئولا عن تزايد الاهتمام في البداية بفلسفة كانط الذي أدى إلى المثالية الألمانية (انظر الفصل الثالث)؛ أن «علاقة التفكير بالكلام، وأسلوب التوظيف اللغوي في التفلسف لم يخضعا مطلقا للتدقيق والصياغة» لدى كانط والمثالية الألمانية. لكن حتى قبل أن يكتب كانط أهم نصوصه وجد فلاسفة في ألمانيا كانت اللغة بالنسبة لهم أمرا فاصلا. فما الذي جعل هؤلاء المفكرين يركزون على اللغة بينما يبدو أن آخرين لم يعتبروا اللغة أمرا حاسما على الإطلاق؟
رأى كانط أن نظام العالم الذي يمكن معرفته يعتمد على النشاط المعرفي للذات، والتفسيرات المتضاربة لذلك النشاط تزداد تعقيدا حالما تؤخذ في الاعتبار علاقة اللغة بالذات. فعلى الرغم من أن الذوات تستخدم اللغة فهي لا تخترعها، وبمعنى لا يزال محل نزاع فإنها تحتاج إلى اللغة؛ لكي تصبح ذواتا على أية حال. فما هو أصل اللغة؟ لقد افترض بوجه عام أن أصل اللغة - مثل نظام العالم - إلهي، وهذا الافتراض ربط فكرة اللغة كجزء من خلق الإله بإمكانية فهم العالم؛ إذ تشير اللفظة اليونانية
logos
إلى كل من «الكلمة» بمعنى الكلام، وإلى النظام العقلاني للأشياء. وأما بداية الحداثة في الفلسفة، فيمكن تمييزها من خلال التزامن القريب للأسئلة الفلسفية الجديدة لدى هيوم وكانط مع التشكيك بالأصل الإلهي للغة. فالأول يقود إلى فكرة الذات كمركز للفلسفة، والآخر يكشف في المقابل عن اعتماد الذات على شيء لم تنشئه، وتصبح اللغة هي «الآخر» الذي يستمر أصله حتى اليوم في طرح مشكلات مهمة. (فكر في الخلافات المتعلقة بمدى إمكانية تفسير اللغة بطريقة ملائمة من حيث الجينات.) تتسم الفلسفة الألمانية بصراعات بين مناهج وضعت الذات في مركز الفلسفة، ومناهج تشير إلى أن الذات تعتمد على شيء مغاير لذاتها، وتشير فكرة هذا الاعتماد إلى سبب تطور فكرة «اللاوعي» في هذا الوقت، والقضايا النظرية هنا هي مجددا إشارات لتغيرات تاريخية. ومزجت فكرة «الأيديولوجيا» بين قضايا اللغة وقضايا اللاوعي؛ فقد ظهرت أثناء الثورة الفرنسية، وكانت في البداية تعني فقط منظومة من الأفكار، ولكن سرعان ما تطورت «الأيديولوجيا»، من خلال ماركس على وجه التحديد، إلى مصطلح يستخدم لتمييز اعتقاد الناس في أن أفعالهم تحددها الإرادة الحرة، عندما يعتمدون في الحقيقة دون وعي على الطرق السائدة للتحدث والعمل في طبقتهم الاجتماعية.
يعد ظهور فرع «الأنثروبولوجيا» في النصف الثاني من القرن الثامن عشر إشارة أخرى لما هو موضع نقاش هنا؛ فجزء مما أدى إلى نشأة الأنثروبولوجيا هو الوعي بأن اللغة الطبيعية لشعب ليست مجرد وسيلة لقول الأشياء نفسها التي يمكن قولها بلغة أخرى، فلغة الشعب هي أيضا نتاج مواجهاته الخاصة مع العالم. ويؤدي فهم هذه المواجهات إلى وعي جديد بحجم الاختلاف الذي ربما يكون عليه العالم بالنسبة لثقافات أخرى. ويستدل على أهمية هذا الأمر بالحالات التي يمكن فيها أن تصبح لغة أقلية عرقية أمرا فاصلا بالنسبة لهويتها، ولكن هذا النوع من الهوية يمكن أن يكون في الغالب ذا حدين؛ فما يربط بعض الناس ببعض يمكن أن يكون هو نفسه ما يفصلهم عن آخرين عندما يصبح من ليسوا أعضاء في مجتمع لغوي «الآخر» الغريب. وتتعلق أسئلة الهوية اللغوية أيضا بظهور القومية، التي هي مصدر لكثير من إراقة الدماء في التاريخ الحديث، ولعله لهذا السبب ينظر إلى يوهان جوتفريد هيردر (1744-1803) أحيانا بارتياب - غير مبرر - إلى حد كبير؛ بسبب تركيزه على دور اللغة في تشكيل الهوية.
التمثيل والتعبير
يكشف هيردر - الذي كان تلميذا مفضلا لكانط حتى تنازعا في ثمانينيات القرن الثامن عشر - ومعاصره وصديقه يوهان جورج هامان (1730-1788)، عن مفارقة في المفاهيم الحديثة للغة. كما رأينا، فإن النجاح الجديد للعلوم الطبيعية مصحوب بشكوك حول أساس ذلك النجاح. وبرؤية عقلانية، يمكن تجاوز الفوارق بين اللغات؛ لأن حقائق العلم يمكن صياغتها بأية لغة طبيعية. ومن ثم، قد تبدو الرؤية العقلانية متوافقة مع تصورات نظام الكون الممنوح من الإله. إلا أن احتكام عقلانية القرن الثامن عشر إلى فكرة «لغة عالمية» توضع تماما على غرار العلم المؤسس على الرياضيات الذي يساعد في الوصول إلى هذه الفكرة، يقوض بالفعل كثيرا من الأسس السابقة لعلم اللاهوت. ومن جانب آخر، تشكك المناهج الجديدة في اللغة، موضع النقاش هنا، في فكرة أن جميع اللغات يمكن - أو ينبغي - أن تكون قابلة لقياس واحد.
تنزع الرؤى العقلانية إلى النظر إلى اللغة بالأساس من حيث الكيفية التي «تمثل» بها الأشياء في العالم، فهدف العلم هو في النهاية الوصول إلى الكلمات التي تعطي إعادة عرض حقيقية للعالم - بمعنى تلك التي «تعرض مجددا ما هو موجود بالفعل كما هو». ويرى هامان وهايدجر، في أعقاب جان جاك روسو وآخرين، أن هذا النهج أخفق في تقدير كيفية أن اللغة تعبير جوهري عن ماهية أن تكون إنسانا، فاللغة لها دور أبعد من مجرد تمثيل العالم؛ إذ يمكنها أن تظهر جوانب جديدة من أنفسنا ومن العالم لم تكن لتظهر دونها، ومن ثم يمكن فهم جميع الأشكال الرمزية البشرية بما فيها الموسيقى والفن المرئي على أنها «لغة».
اللغة والعقل
في كتابه «عن الأدب الألماني الحديث: مقتطفات» عام 1766-1768، يعلن هيردر بالفعل ما سوف يكون المقدمة المنطقية الأساسية للفلسفة التحليلية للقرن العشرين: «فلو صح أننا لا يمكننا التفكير دون أفكار، وأننا نتعلم التفكير من خلال الكلمات، فإن اللغة تعطي للمعرفة الإنسانية كلها حدودها وإطارها»، وهي «أداة الأفكار البشرية ومضمونها وشكلها». والسؤال هو: كيف بالضبط نفهم اللغة؟ فالفوارق حتى اليوم بين الفلسفة التحليلية و«القارية/الأوروبية» قائمة في الغالب على تأويلات مختلفة لماهية اللغة. وفي نقلة نبوئية، يقترح هامان أن اللغة يمكن أن تؤثر على تقييم الفلسفة المتعالية لكانط، فهو يتساءل كيف ترتبط مقولات كانط باللغة مقترحا أن «الكلمات هي «أحداس» محضة وتجريبية وأيضا «تصورات» محضة وتجريبية»، وتشكيكه في فصل كانط للأحداس القابلة والتصورات التلقائية هو جزء مما يمهد لنشأة المثالية الألمانية.
من الأهداف المحورية للمثالية الألمانية التغلب على مقابلات كانط بين المظاهر والأشياء في حد ذاتها، وبين القابلية والتلقائية. وتتمثل فكرة هامان في أننا نكتسب الكلمات بطريقة استقبالية كضوضاء أو علامات في العالم الموضوعي، لكنها ليست مجرد موضوعات؛ فالكلمات لا يمكن أن تكون إلا كلمات، لا مجرد علامات أو ضوضاء، إذا كان لها معنى يؤثر على كيفية فهمنا للعالم، وقد يبدو واضحا أن الشيء التالي الذي ينبغي فعله هو فصل اللغة إلى تلك الأجزاء التي لها مغزى موضوعي بحت ، وتلك الأجزاء التي هي «ذاتية». إلا أنه قد ثبت حتى الآن في الفلسفة الحديثة استحالة رسم هذا الخط الفاصل بطريقة متفق عليها؛ لأسباب أهمها: أن اللغة نفسها لازمة لرسم الخط. وإذا كانت اللغة تقاوم الفصل الحاسم بين الذاتي والموضوعي، فيمكن التشكيك في نوع الفلسفة التي تحاول بيان الكيفية التي يعكس أو يمثل بها العقل الذاتي بنجاح - يكثر أو يقل - طبيعة العالم الموضوعي؛ فالدعاوى المتعلقة بالموضوعية تعتمد على استخدام اللغة، واللغة نفسها لا يمكن القول بأنها موضوعية محضة أو ذاتية محضة.
وعلى الرغم من الدعاوى المتكررة بعكس ذلك، فإن الشعور اليومي بالحقيقة يجب ألا يتأثر إلى حد بعيد بتلك الأفكار؛ فالمتشككون لا يمكنهم الاحتجاج على عجز اللغة عن التعبير عن الحقيقة دون التسليم مقدما بأن حقيقة مزاعمهم يمكن نقلها عن طريق اللغة. وبدلا من ذلك، تطرح الأفكار الجديدة المتعلقة باللغة أسئلة عما يعنيه التعبير عن الحقيقة، فالقول بأن شيئا ما موضوعي محض سوف يتطلب منظورا فوقيا، خارج اللغة - «رؤية من لا مكان» - والفكرة هي أن الحاجة إلى وصف ذلك المنظور باللغة نفسها يضع هذا الأمر موضع تساؤل. ومن ثم، فالحقيقة ربما تكون هدفا تصوريا يحفز على البحث، لا شيء نعرف دوما على نحو قاطع أننا قد فهمناه. وسوف تنطوي فلسفة القرن العشرين على نزاعات سكولاستية بين مناهج تسعى إلى قصر نطاق الحقيقة في عبارات يمكن التحقق منها كوسيلة لمحاولة ضمان الموضوعية الكاملة، ومناهج توسع نطاق الحقيقة ليشمل أي تعبير يجسد جانبا من العالم. وفي المنهج الأخير، يمكن للفن أن يكون أداة لنقل الحقيقة عندما يكشف أو يعطي معنى جديدا لمنظور عن العالم. وتحمل المناهج الأخيرة كثيرا مما ابتدأه هامان وهيردر.
وبينما يمكن للمرء تجاهل الكثير من القضايا التاريخية والأسلوبية في نصوص كانط ويظل يستخدمها في الفلسفة المعاصرة، فإنه لا يمكن فصل الأسلوب المعقد والإيمائي لنصوص هامان عن مضمونها؛ إذ تخلق نصوصه شبكة من الترابطات التي تربط جوانب العالم بطرق غير متوقعة غالبا. فبالنسبة لهامان، النظر إلى اللغة باعتبارها تحدد معاني الكلمات ، ليست هي الطريقة المثلى للنظر إليها؛ فاللغة هي احتفال بتنوع الخلق الإلهي، الأمر الذي يفتح الباب لوجهات نظر جديدة. وهناك عملية ترجمة لا نهائية «من لغة الملائكة إلى لغة البشر؛ أي من الأفكار إلى الكلمات - من الأشياء إلى الأسماء - من الصور إلى العلامات». وعليه، فإن الجانب «الأدبي» للغة ليس إضافة عارضة إلى اللغة، بل هو لبها؛ فمثلا عندما ينتقد هامان كانط، فإنه يفعل ذلك بطريقة بلاغية جدا. وقبل أن نصل إلى السؤال الكانطي عن كيف تكون المعرفة الموضوعية ممكنة، يؤكد هامان:
يبقى سؤال رئيسي آخر: كيف تكون القدرة على التفكير ممكنة؛ أي القدرة على التفكير «يمين التجربة وشمالها، قبلها ودونها، معها وبعدها»؟ إن المرء لا يحتاج إلى استدلال لإثبات الأولوية النسبية للغة قبل الوظائف المقدسة «السبعة» للافتراضات والاستنتاجات المنطقية وشعاراتها.
إن ما تعنيه هذه الفقرة غريبة الأسلوب يتضح من خلال علاقته باهتمام هامان بأخطار التجريد.
لا يزال قدر كبير من الفلسفة الحديثة منذ ديكارت مهتما بنموذج معين من مذهب الشك؛ إذ يفصل ديكارت العقل عن الجسد بدعواه أن اليقين المعرفي الوحيد هو وعي العقل بنفسه. ومعرفة عالم الموضوعات، بما في ذلك جسد المرء نفسه، مشكوك فيه بطبيعته. ولا يقبل هامان الصورة الديكارتية؛ لأنها تفترض أن معرفة العالم القائمة على تبرير عقلي هي الأساس الجوهري للفلسفة، لكنه يظن بدلا من ذلك أن «الاعتقاد قليلا ما يقع بلغة الأسباب كالتذوق والشم»، واتصالنا الجوهري مع العالم «حسي». وينبغي ألا يفهم هذا الاتصال باصطلاحات «المذهب التجريبي» للوك وآخرين (ممن أثروا عليه رغم ذلك)؛ حيث إن «معطيات الحس» هي المصدر الوحيد للمعرفة. واهتم هامان عوضا عن ذلك بالكيفية التي نصل بها إلى عالم مفهوم. والبدء بوصف نقدي لل «عقل» - على غرار فلسفة كانط - لا يفسر كيف يوجد عقل من الأساس، وهو أمر يتعلق بالسؤال عن أصل اللغة.
يسعى كل من هامان وهيردر إلى الإجابة عن سؤال: لماذا نحتاج العقل لفهم اللغة، بل ونحتاج أيضا اللغة لنعقل؟ بيد أن أحدا منهما لم يوفق في الحقيقة للإجابة عن السؤال بطريقة مقنعة. ويحاول هامان استخدام علم اللاهوت كمخرج من المشكلة الفلسفية، عن طريق رؤية الخلق نفسه كلغة تخلق فيها كلمة الإله الشيء الذي تعينه، وهو بذلك يسير وفق موروث القبالا اليهودية. ويستمد شكه في التجريد من فكرته التي مفادها أن اللغة تنشأ من اتصالنا العملي والحسي بالعالم؛ وهو من ثم يرفض قبول الرياضيات كأساس للعقل، ويرى بدلا من ذلك أن «الأساس والمعيار الأول والأخير الوحيد للعقل» هو اللغة التي لا تستند لشيء سوى العرف والاستخدام، ولا يمكن النظر إليها من حيث «الموثوقية العامة والضرورية».
وسيكون هذا الموقف حيويا في ظهور المفهوم الحديث لل «هرمنيوطيقا»؛ أي فن أو علم التأويل. فالهرمنيوطيقا مهمة بالنسبة لتساؤل الفلسفة الألمانية عن الاعتبارات العلمية للغة، ولنقدها لمذهب «العلموية»؛ أي الاعتقاد بأن الحقائق السائغة الوحيدة هي الحقائق العلمية. وبالنسبة للهرمنيوطيقا، لا يمكن أن تنشأ الأسئلة العلمية على الإطلاق ما لم نفهم بالفعل العالم من خلال استخدامنا العملي للغات الطبيعية. ولا يمكن تفسير المدركات القبلية السابقة المتضمنة في هذا الرأي بوصف علمي؛ لأن قابلية فهم هذا الوصف ستعتمد في حد ذاتها عليها. وثمة فكرة حاسمة لو صحت سيكون لها توابع مدمرة للمفاهيم العلمية، وهي أن الفهم لا يمكن اختزاله في التفسير؛ لأن التفسير دوما يفترض شكلا ما من الفهم المسبق.
غالبا ما لا يشارك هيردر الاهتمامات اللاهوتية لهامان، لكنه مهتم بالدرجة نفسها بتنوع اللغات البشرية. وعدم تأييده لفكرة أن اللغة ما هي إلا تمثيل للأشياء واضح تماما، «ليس السؤال كيف يمكن اشتقاق تعبير أتيمولوجيا وتحديده تحليليا، بل كيف يستخدم؟ فالأصل والاستخدام في الغالب مختلفان جدا.» وفي مقاله المهم «مقال في أصل اللغة» عام 1772، لم يستطع هيردر أن يعطي إجابة مقنعة عن كيفية وصولنا إلى لغة دون عقل وإلى عقل دون لغة، لكنه اقترح جانبا رئيسيا للطريقة التي يمكننا بها تمييز اللغوي عن اللالغوي. وفكرة هيردر أننا لدينا القدرة على صفاء الذهن
Besonnenheit ، الأمر الذي يمكن المرء من انتقاء خصائص الأشياء في العالم، مثل ثغاء الشاة، ويستطيع المرء استخدام عدد غير محدد من الألفاظ الأخرى لتمييز الشاة؛ ومن ثم تظل الخاصية الرئيسية للغة هي على وجه الدقة قدرتها الأبدية على تمكين تلك التمييزات. فاللغة تجعلنا قادرين على فهم أن الشاة من الثدييات، وأنها غذاء، وأنها رمز للمسيح، وأنها ما ينتج أصواتا معينة بالريف ... وهكذا. إن رؤيتي هيردر وهامان «كليتان»: فالعالم بالنسبة لهما لا يتألف من مجموعة موضوعات معينة يمكن تسميتها، وإنما تتحدد ماهية الأشياء من خلال الطرق التي تجسد بها اللغة وغيرها من أوجه النشاط البشري الأشياء الأخرى. فما ترى عليه الشاة يعتمد على مكانها في عالم من الدلالات التي تظهر من خلال ممارسات ثقافة معينة؛ ومن ثم يصبح العالم شبكة من الدلالات التي تتغير خصائصها بتغير علاقات الإنسان بالعالم.
شلايرماخر
إن التأملات الرائدة لهيردر عن اللغة مبعثرة في كتبه، وغير متسقة على نحو ملحوظ، وفريدريش دانيال أرنست شلايرماخر (1768-1834) هو من سيطور الأفكار التي تم استعراضها هنا إلى مفهوم أكثر تنظيما وتماسكا. فكثير من آراء شلايرماخر قد بدأت تعاود الظهور في ضوء إخفاق بعض المناهج التحليلية في إيلاء ما يكفي من الاهتمام للطبيعة الكلية للغة. وعادة ما يقدم شلايرماخر على أنه منظر التفسير «التقمصي»، الذي «يتحسس المرء فيه طريقه» إلى عقل المؤلف. وهذه النظرة خاطئة تماما؛ فبدلا من ذلك، تعرض هرمنيوطيقيته ونصوص أخرى وصفا متطورا للغة يعتمد على شكل من الأفكار الفلسفية من النوع الذي سنقابله في الفصل الثالث (وهو لا يستخدم الكلمة الألمانية لل «تقمص»). ويتصدى شلايرماخر للصراع بين نظرة أن المعنى واللغة تتحكم فيهما نوايا الذات، ونظرة أن اللغة موجودة قبل الذات في شكل تراكيب وقواعد مشتركة.
يشتهر شلايرماخر بأنه اللاهوتي الذي لعب دورا حاسما في تطور البروتستانتية الحديثة، وأوضح لاهوته السبب في أن اللغة أصبحت محورية جدا لتفكيره. وما أوضحه كانط عن كون البراهين الرئيسية لوجود الإله غير صحيحة، كان يعني أنه على علم اللاهوت أن يعيد بناء نفسه على نحو لا يعتمد على البرهان الفلسفي. أما شلايرماخر، فيؤسس لاهوته على ما يسميه «شعورا بالافتقار المطلق » للذات؛ فهو يرى الذات - على نهج كانط - قابلة وتلقائية، لكن بالنسبة له لا يوجد فارق أساسي بين القابلية والتلقائية، فكلتاهما تشمل الذات والعالم بدرجات مختلفة. وبالنسبة لشلايرماخر، فإن الحقيقة المحضة في كوننا نفهم العالم ونفسره بطريقة فاعلة على أية حال يتعذر تفسيرها بمصطلحات فلسفية. ورغم أننا يمكننا توجيه فاعليتنا العقلية والفلسفية، فإننا لسنا مصدر كوننا فاعلين، فهذا ممنوح كجزء من طبيعتنا، وعلينا أن نستجيب لهذا الافتقار بطرق غير معرفية؛ لأن معرفتنا تعتمد على هذه الفاعلية أيضا، والشعور بأن فاعليتنا ترتبط بفاعلية سائر الكون الحي هي ما يقود إلى الدين. فالشعور بالإله إذن قائم على هذا الشعور بالارتباط بكل أكبر ليس في نطاق قدرتنا.
تنطوي اللغة أيضا على القابلية والتلقائية، وهي تستلزم نوعا آخر من اعتماد الذات على شيء لا تنشئه. وتنطوي الطبيعة الاجتماعية المتأصلة للغة على شعور باعتماد الذات على «الآخر»، بل أيضا شعور بالترابط البشري الذي يأخذ الذات إلى ما وراء نفسها. إن تركيز شلايرماخر على اللغة يقوده في نصوصه عن الهرمينوطيقا من عام 1805 فصاعدا إلى تأملات مؤثرة في مشكلات التأويل. وهو يؤسس هذه التأملات على الصراع بين اللغة كشيء سابق الوجود في المجتمع، وكشيء يمكن للذوات الفردية استخدامه للتعبير عن فرديتها؛ والهدف هو فهم العلاقة بين هذين الجانبين في النص أو القول المراد تأويله. ولا يمكن أبدا تحقيق هذه المهمة بطريقة حاسمة؛ لأن المرء لا يمكنه أبدا الوصول إلى جميع سياقات القول، ولا كل الدوافع له. ومن ثم، يوضح شلايرماخر أن التأويل محدود بالضرورة، وهو ممارسة لا يمكن أن تكون لها قواعد حاسمة.
ويقوده هذا الموقف إلى أفكار متبصرة تشير إلى السبب في أن مناهج اللغة التي كانت الأساس المبدئي للفلسفة التحليلية كانت مخطئة (انظر الفصل السابع). فقد فرق كانط بين الأحكام «التحليلية» التي هي صحيحة بفضل معاني الكلمات فيها، مثل: «الأعزب هو رجل غير متزوج»، والأحكام «التركيبية» التي تتطلب معرفة بالعالم مثل: «فريد سميث أعزب.» وعلى أساس هذه التفرقة، حاول فلاسفة مثل جوتلوب فريجه وبرتراند راسل في مطلع القرن العشرين وضع أسس منطقية لفهم اللغة تكون مستقلة عن الحقائق الممكنة عن العالم المستمدة من التجربة. وكرس كثير من الجهد الذي تلا ذلك لمحاولة إنجاح هذا المشروع؛ ففي خمسينيات القرن العشرين، رأى الفيلسوف الأمريكي «دبليو في أوه كواين» أن هذه التفرقة لا يمكن الدفاع عنها؛ لأن فهمنا لأية عبارة يمكن تعديله في ضوء عبارات صحيحة أخرى، حيث لا توجد كلمات يمكن أن يقال إنها مترادفة تماما. وهذه الرؤية تعكس الشمولية التي رأيناها لدى هيردر وهامان، وفي حال قبولها فإنها تؤذن بنهاية مشروع الفلسفة القائمة على تحليل التصورات التأسيسية. والحقيقة المثيرة للاهتمام أن شلايرماخر قد أوضح هذه الفكرة جيدا حتى قبل أن توجد «الفلسفة التحليلية»؛ ففي كتابه «الجدل» الذي نشر بعد وفاته يقول:
إن الفارق بين الأحكام التحليلية والتركيبية مائع لا نتحصل منه على قيمة ... وهذا الفارق ... يعبر فقط عن حالة مختلفة من صياغة المفاهيم.
وما يعد تحليليا لن يعد كذلك في سياقات أخرى؛ حيث لا توجد مفاهيم تأسيسية راسخة خارج الشبكة المتغيرة للغة. وبالنظر إلى تاريخ مقاربات الفلسفة الألمانية في اللغة بعد كانط، يمكن الاستدلال على مقدار ما تم تجاهله في تناول اللغة في الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية. ويتعلق السبب في تجاهل المقاربات الألمانية بالرغبة التحليلية للفلسفة في منافسة العلوم الطبيعية بشدة، وسيكون موضوع الفصول التالية هو بيان إن كان هذا هو المسار الأفضل للفلسفة أم لا.
الفصل الثالث
المثالية الألمانية
ما المثالية الألمانية؟
يمكن تفسير الذات الحديثة على أنها - حسب عبارة كانط - «تمنح التشريع» لكل من الطبيعة (ممثلة في العلوم) والذات نفسها (ممثلة في حرية الإرادة الأخلاقية)، وأيضا على أنها مبتلاة بإحساس ب «الضياع» ناتج عن ارتيابها في اللاهوت وفي الأدوار والهويات التقليدية. وقد سعى كانط إلى إثبات فكرة حرية الإرادة عن طريق وضع الحرية في مجال لم يكن خاضعا لقوانين الطبيعة. وفي الوقت نفسه، كان يتعذر على المعرفة البشرية بلوغ الطبيعة «في ذاتها»؛ فكيف إذن تتصل الطبيعة في حد ذاتها بحرية الإنسان؟ تهدف «المثالية الألمانية »، التي ظهرت في تسعينيات القرن الثامن عشر، إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الذاتي والموضوعي في ضوء دعاوى كانط. كيف تتصل قدرتنا «التلقائية» على «منح التشريع» للطبيعة بالطبيعة التي يمنح لها التشريع؟ إن هذه القدرة يجب - على نحو ما - أن تمنحها لنا الطبيعة نفسها؛ لأننا كائنات طبيعية. لكن على النقيض من سائر عناصر الطبيعة لا يمكن للقدرة أن تظهر؛ لأنها هي التي تجعل التفكير في الطبيعة بطريقة موضوعية «كمظهر» ممكنا على أية حال. وما تظهر له الأشياء لا يمكن أن يكون شيئا كالذي يظهر تماما، وهذا يعني أن الدعاوى بشأن قدرتنا التشريعية لا يمكن أن ترتكز على دليل موضوعي عن العقل، كالذي يمكن الحصول عليه من علم النفس؛ لأن ذلك العلم نفسه يعتمد أيضا على تلك القدرة. وعليه، فإن الفكرة التي تراها المثالية الألمانية ضمنية لدى كانط، هي أن المعرفة التي تعتمد على تلقائية الحكم والفعل الإرادي التلقائي يمكن النظر إليهما على أنهما يشتركان في المصدر نفسه، ويتعذر الوصول إلى هذا المصدر بنوع البحث المتبع في العلوم، وتقود هذه الفكرة إلى احتمالين أساسيين يشتركان في نقاط معينة.
يرى أحد الاحتمالين «الذاتية» - «الأنا» بالمعنى الواسع جدا لها في المثالية الألمانية - على أنها أساس وجود «عالم» في المقام الأول، وليست الفوضى اللامتسقة؛ ومن ثم فإن «الذاتية» هي ما يولد أشكالا قادرة على البقاء تصبح من خلالها الطبيعة شيئا حيا ومفهوما، ودون «الضوء» الذي يضفيه التفكير على الطبيعة، ستكون الطبيعة عصية على الفهم لنفسها. ويمكن الاستدلال على أهمية هذا النوع من المقاربة بفكرة أن المادة التي تتألف منها الكائنات الحية تستبدل أثناء حياتها، دون أن تصبح شيئا مختلفا. والفكرة هي أن هذا يوحي بسيادة نوع معين من مفهوم «العقل» - بالمعنى الذي ينشئ أشكالا مفهومة - على الطبيعة؛ فدون فاعلية العقل لا شيء محددا يمكن أن يظهر من الأساس. وهكذا يصبح جوهر الفلسفة هو فاعلية الذات، وليس تفسير العالم الطبيعي الموضوعي.
والاحتمال الآخر هو أن كلا من فاعلية العقل والحرية متأصل في «إنتاجية» الطبيعة. فالطبيعة مرة أخرى ليست مجرد نظام موضوعي من القوانين؛ لأنها «تنتج» الذاتية، التي عن طريقها تعرف نفسها وتصبح متمتعة بحرية الإرادة، بدلا من البقاء منغلقة على نفسها. ومع ذلك، فإنتاجية الطبيعة لا تقع في النهاية في نطاق سيطرتنا، حتى إن تفكيرنا «يحدث»، وهو ليس بالشيء الذي ندفع أنفسنا عن وعي إلى القيام به. وما إن يظهر التفكير حتى توجد درجة من حرية الإرادة في التفكير. والسؤال هو: ما مدى الحسم الذي تكون عليه حرية الإرادة هذه؟ فالذات المفكرة هنا ليست شفافة تماما لذاتها، وتعتمد إلى حد ما على شيء «غير واع».
يشترك كلا الاحتمالين في فكرة أنه على الرغم من أن التغيرات في الطبيعة تحددها القوانين، فإن فكرة أن الطبيعة مهيكلة من الأساس، وديناميكية لا ثابتة، لا تتحدد على هذا المنوال نفسه. تتعلق الأفكار المتصلة بالبديل الأول بسالومون ميمون (1754-1800) ويوهان جوتليب فيشته (1762-1814)، بينما تتعلق الأفكار في البديل الثاني ب «فلسفة الطبيعة» لفريدريش فيلهيلم جوزيف شيلينج (1775-1854). ويحاول جورج فيلهيلم فريدريش هيجل (1770-1831) تجاوز الفروق بين هذين البديلين عن طريق وصف العلاقة بين الذاتي والموضوعي بطريقة جديدة، كما سنرى. ومنذ نهاية عشرينيات القرن التاسع عشر فصاعدا، سيبرهن شيلينج على أن وصف هيجل للمثالية عاجز عن فهم الملامح المحورية للوجود الإنساني.
شكل : فريدريش فيلهيلم جوزيف شيلينج، عام 1848.
1
في الحداثة، من الصعب أن تصمد فكرة الانتماء إلى كل ذي معنى، ويعني التمدن أن الاتصال المباشر بالطبيعة يميل إلى الانحسار بالنسبة إلى شرائح كبيرة من السكان. ويتزايد أيضا خضوع الطبيعة لآثار تحليل العلم لعناصرها، وهذا الخضوع يعطي أولوية لموضعة المناهج على الطرق الأخرى لفهم العالم. والنتيجة يمكن أن تكون كبتا لجوانب معينة من ذواتنا، مثل الحاجة إلى التعامل مع العالم على أنه ذو مغزى في جوهره؛ وسيسمي عالم الاجتماع ماكس فيبر فيما بعد هذا النهج في تفريغ المعنى من الطبيعة ب «التحرر من أوهام» العالم. لكن - كما يتضح الآن من الأزمة البيئية - توجد على الأرجح حدود لقدرة البشر على إخضاع الطبيعة، ويبدي شيلينج بالفعل ملاحظات نقدية عن الآثار المدمرة لاعتبار البيئة مجرد موضوع للأهداف البشرية في نهاية القرن الثامن عشر. وبالمثل، يطالب بيان رسمي موجز - غالبا ما يشار إليه ب «البرنامج الأقدم لنظام المثالية الألمانية» عام 1796 (مؤلفه شيلينج أو هيجل أو صديقهما الشاعر فريدريش هولدرلين 1770-1843) - ب «ميثولوجيا العقل»، وسيعمل هذا على مواءمة رؤية العالم العلمية الجديدة مع الأشكال الرمزية الموظفة في حياة الناس اليومية. فما يخبرنا به العلم الحديث يجب أن تصاحبه قرارات بشأن ما ينبغي فعله عن طريق إيجاد طرق لإيصال وتقييم المعرفة تشرك التخيل الجمالي والأخلاقي لجميع مستويات المجتمع، على النحو الذي قد انتهجه علم الأساطير في المجتمعات التقليدية. وعلى الرغم من أنه سينظر إلى هذه الرؤية على أنها متعذرة التحقيق، فإن التناقضات التي أحدثتها لا تزال ظاهرة في إخفاق القدرة التكنولوجية المتزايدة للجنس البشري على إيجاد عالم أكثر عدلا وإنسانية.
تحاول أيضا المثالية الألمانية حل التناقضات التي تنشأ عن تآكل النظام الذي تمثله فكرة أن سلطة الملك مستمدة من الإله، فضرب عنق الملك في كل من الثورتين الإنجليزية والفرنسية يلخص تغيرات وقعت في طبيعة الشرعية المميزة للحداثة؛ إذ يجب أن يؤسس النظام الآن بحرية بمعرفة البشر، من دون احتكامات إلى سلطة أعلى. ولكن المصالح البشرية متشعبة بطبيعتها، ولا سيما عندما يزداد الحراك الاجتماعي كنتاج لظهور الرأسمالية، فكيف إذن يمكن شرعنة السلطة بوجه عام؟ فالثورة الفرنسية تمارس الإرهاب باسم العقل، وتشي الطرق التي يمكن بها للمبادئ العالمية أن تؤدي إلى اللاإنسانية بالحاجة إلى مناهج جديدة لتصالح الفرد والمجتمع. وتتضح الصعوبات التي ينطوي عليها هذا التصالح في حقيقة أن عمل هيجل على هذه القضية في «فلسفة الحق» (1820) قد قرئ على أنه أول دفاع شمولي عن سلطة الدولة التي تعلو على الفرد. ومع ذلك، فالأمور ليست بهذه السهولة، وكما يرى هيجل فدون نظام اجتماعي يحكمه القانون لن تكون للفرد حقوق من الأساس؛ فالحقوق تعتمد على الإقرار بأن القانون يطبق على النفس وعلى الآخرين. ويأتي فهم اعتماد المصطلحات المتعارضة على بعضها - كالحال بين «الإرادة العامة» للدولة وإرادة الفرد - في صميم الفكر المثالي الألماني الذي يسعى إلى التغلب على التناقضات الاجتماعية والفلسفية التي نشأت من نهاية النظام الإقطاعي.
مصادر المثالية الألمانية
إن المثالية الألمانية ليست مشابهة لمثالية بيركلي التي فيها «الوجود إدراك». ومع ذلك، فإن أحد مصادرها هو التساؤل عما إن كان كانط - على الرغم منه - مثاليا بركليانيا. يرفض كانط المثالية؛ إذ إنه على الرغم من أننا نعرف الأشياء من خلال الطريقة التي ندركها بها، فإنها لا تزال موجودة «في ذواتها»، فكيف مع ذلك ترتبط المظاهر بالأشياء في ذواتها؟ في عام 1789 شكك فريدريش هاينريش جاكوبي (1743-1819) في دعوى كانط أن الأشياء في ذواتها تسبب المظاهر. فبالنسبة لكانط، يربط السبب مظهرا بآخر يخلفه بالضرورة، والأشياء في ذواتها لا تظهر؛ ولذا لا يمكن - حسب كانط نفسه - أن يقال عنها إنها تسبب المظاهر. وهذا على ما يبدو يطرح الاختيار بين بديلين: إما التخلص من الأشياء في ذواتها بالكلية عن طريق تبني مثالية شاملة، وإما التخلي عن المثالية المتعالية، مع خطر العودة إلى الميتافيزيقا «الدوجماتية» التي انتقدها كانط. ويشكل التغلب على ما هو محل نزاع في هذا البديل إحدى المهام الجوهرية للمثالية الألمانية.
توضح تساؤلات جاكوبي عن اتجاه الفلسفة في هذا الوقت السبب في أن اهتمامات المثاليين الألمان أكثر من كونها مجرد اهتمامات إبستمولوجية. وقد نشأ ما يسمى «جدل وحدة الوجود»، الذي بدأ عام 1783، حول دعوى جاكوبي عن أن كاتب حركة التنوير جي إي ليسينج قد أقر بكونه إسبينوزيا، وكان إسبينوزا قد حرم كنسيا من قبل الكنيسة اليهودية الهولندية بسبب الإلحاد عام 1656، وكان الإلحاد لا يزال غير مقبول للسلطات الحاكمة في ألمانيا في القرن الثامن عشر. وفي نهاية القرن، فقد فيشته عمله الأكاديمي نظرا لاعتباره ملحدا؛ فإله إسبينوزا ليس هو خالق العالم والمشرع له، بل مجموع الطبيعة المنظم: فالإله والطبيعة سواء. وفي نظام إسبينوزا، تعتمد ماهية الأشياء على عدم كونها أشياء أخرى، لا على شيء متأصل في ذواتها. وكل شيء «يقيد بشروط» الأشياء الأخرى، وهي بدورها تقيده. ويرى جاكوبي أن هذا يؤدي إلى تسلسل من «شروط الشروط»، لا يمكن تبرير أي تفسير فيه على نحو قاطع؛ ومن ثم فالمعرفة الأساسية تتطلب شيئا «غير مشروط». وبالنسبة لجاكوبي، هذا هو الإله الذي يجعل التفاصيل أجزاء ذات معنى لعالم نستثمر فيه معرفيا وأخلاقيا وعاطفيا، لا مجرد أجزاء من نظام ميكانيكي. ويتوقف تسلسل التفسيرات - في رأي جاكوبي - عن طريق إدراك أن «إيماننا/اعتقادنا» في الحقيقة لا يمكن تبريره بمصطلحات معرفية (والتي تؤدي إلى التسلسل الموصوف توا)؛ ولذا يتوجب عليه اللجوء إلى علم اللاهوت. ولكن إذا كان غير المشروط سيكون بمنزلة تفسير فلسفي (أي تفسير لا يرى الإله على أنه تفسير لعالم الشروط)، فالمرء ينتهي إلى موقف متناقض من «تحتم اكتشاف شروط لغير المشروط»؛ لأن التفسير هو بدقة إيجاد شروط الشيء.
ولذلك، فالمثالية الألمانية تحاول إيجاد طرق جديدة لتفسير «غير المشروط» أو «المطلق»؛ ففي العلم الحديث، تفسر الأشياء عن طريق طلب شروط للشروط. وفي اعتقاد جاكوبي أن هذا يعني أنه لا توجد شرعية نهائية للعلم؛ فالمرء بإمكانه دوما أن يسعى وراء تفسيرات سببية، لكن لا يمكن أن يوجد سبب نهائي لفعل هذا. علاوة على ذلك، فالعلم لا يمكنه أن يؤدي وظيفته إلا في عالم قد كشف نفسه بالفعل على أنه مستساغ ومفهوم «قبل» أن نطلب أوصافا علمية له. (وهذه النقطة ستشكل لاحقا جوهر فكر هايدجر.) ويعتبر جاكوبي ما ينشأ عن مذهب إسبينوزا «عدمية»؛ لأنه لا يقدم وصفا للكيفية التي يكون بها الوجود قابلا للفهم من الأساس، فيجب أن يوضع سبب الانخراط في النشاط العلمي في نطاق الفعل البشري. لكن المشكلة هي كيف يمكن شرعنة الفعل، وهذه هي المشكلة التي سيكون حلها هو فهم «المطلق».
ومن ثم، يمكن فهم المثالية الألمانية على أنها استكشاف لفكرة أن الذاتية «غير مشروطة». وفي محاولاته خلال الفترة ما بين 1789 و1790 تقريبا لجعل كانط أكثر إقناعا لجمهور أعرض من الناس، أصر كارل ليونهارد راينهولد على أن الفكر في حاجة لأساس إذا كان يتعين تجنب تسلسل من النوع الذي وصفه جاكوبي، ورأى أن «حقيقة الوعي» لم تكن نفسها مشروطة؛ لأنها أساسا هي ما يمكننا من أن نكون مدركين للشروط. وأكد ميمون على أن تمييز كانط بين القابل والتلقائي تتعذر استمراريته، فوجود العالم الموضوعي مستنبط من السببية المفترضة للأشياء في ذواتها؛ لكن مقولة السببية تعتمد على الذات وليس على الموضوع، وما هو مسبب هو إدراكات «الذات». وعليه، فإن علاقة الذات-الموضوع تستلزم فقط نوعين من الوعي: لاوعيا ذاتيا وعالما موضوعيا منفصلا، ويظهر العالم موضوعيا؛ لأن ما ينتج إدراكات «العالم الخارجي» هو الجانب «اللاواعي» من الذات. إن فكرة هامان أن القابل والتلقائي لا يمكن أن يكونا منفصلين بالكلية فكرة فاصلة بالنسبة إلى المثالية الألمانية. وإذا كانت القابلية السلبية والتلقائية الفاعلة في الظاهر درجتين مختلفتين في الحقيقة لنفس «الفاعلية»، فإن الفجوة بين الذات والعالم يمكن سدها، وعندئذ سينظر إلى الوعي على أنه وعي «بالعالم» بمعنيين: فهو ينتمي إلى العالم كشيء ينبثق من الطبيعة، كما أنه يجعل العالم موضوع المعرفة والفعل. والسؤال هو: كيف يفسر هذان المعنيان؟
فيشته
إن الفرض المحوري لفيشته هو أن فاعلية الإرادة الحرة للذات هي جوهر الفلسفة، فيمكن للذات فهم العالم بطريقة موضوعية، لكن لا يمكن أن تكون هي نفسها موضوعا. وبالنسبة لفيشته، فإن الذات حرة الإرادة يجب ألا تقيد بأي شيء خارج عنها؛ فلو كانت قابلة للتفسير من خلال ما يقيدها لكانت مجرد موضوع تحدده القوانين الطبيعية. ويمكن تصور الذوات البشرية مجرد روبوتات شديدة التعقيد، ومع ذلك - بالنسبة إلى فيشته - فقدرة الذوات على «التأمل» هي التي تؤكد على أن هذا لا يمكن أن يكون واقع الأمر؛ فما يمكننا من التأمل في معرفتنا وفعلنا ليس أية علة من النوع الذي نقابله في الطبيعة، بل حريتنا. ومن ثم، تنطوي «الأنا» التي يمكنها التأمل على شيء «مطلق»، غير مقيد بأي شيء خارج ذاته. وفي التأمل، يظهر الذاتي جزءا من «نفسه» في شيء موضوعي، لكنه لا يفعل ذلك مدفوعا بشيء موضوعي. والموقف الذي يقرر فيه المرء أن يكون ناقدا لنفسه يمكن أن يوحي بالمراد هنا، فالمرء بفعله ذلك «يردع » نفسه من أجل إعلاء قيمة الدلالة الموضوعية لما يتحتم عليه فعله، وبعبارة فيشته، فإنه ينظر إلى العملية الأساسية على أنها «الأنا المطلق» الذي لا ينطوي على شيء يعتمد على شيء غيره، مقسما نفسه ومؤسسا بذلك العلاقة بين الذاتي والموضوعي، الأنا واللاأنا.
ولأن المرء يمكنه أن يرى الكون نفسه بطرق مماثلة - حيث يصبح الكون موضوعا منفصلا عن الذات عندما ينشأ الوعي - فليس من الواضح دوما كيف أعد فيشته تصوره؛ فقبل أن يوجد الوعي كان الكون موجودا «في ذاته»، ثم أصبح بعد ذلك موجودا «من أجل ذاته» - وهي مصطلحات سوف يستخدمها جان بول سارتر، على سبيل المثال، لاحقا فيما يتعلق بالذات الفردية. وتعني كلمة
Gegenstand - أي الموضوع - الشيء الذي «يعارض» شيئا آخر، والذي هو في هذه الحالة الأنا. وبالنسبة لفيشته، يقسم «الأنا المطلق» إلى ذات نسبية وموضوع، لكن يجب أن يظل الذاتي مسيطرا على الموضوعي، وإلا فالعالم لن يتطور أبدا. فالعالم الموضوعي لا يمكن معايشته كموضوعي إلا عن طريق ذات؛ ولذا فالذات يجب أن تكون سابقة. وإذن، فالغرض من الوجود إنما يوجد في فاعلية الذات، في العقل العملي لا النظري.
لا يزال المعلقون على فيشته غير متفقين على ما يعنيه بالضبط؛ فكيف على سبيل المثال ترتبط الذوات البشرية الفردية - التي ربما نادرا ما تمارس حريتها في الحقيقة - بالمبدأ التوليدي للذاتية المضمن في «الأنا المطلق»؟ يصف فيشته «الأنا» بأنها «عمل-فعل»، في مقابل «حقيقة». ف «الأنا» هي بداية مطلقة؛ لأنها لا تستمد من شيء سوى نفسها، وإلا فحرية الإرادة وهم. لكنه في دعواه أن «الوعي بشيء خارجنا ليس قطعا سوى نتاج قدرتنا على التفكير»، يجعل «الوعي» بالشيء خارجنا هو وحده نتاج قدرتنا على التفكير، وليس الشيء نفسه؛ ولذا يمكن النظر إليه على أنه يقدم شكلا من أشكال المثالية المتعالية لكانط. لكن كيف يمكن للمرء أن يفهم «الأنا» في الفلسفة من دون تحويلها إلى موضوع؟ وجواب فيشته أن هذا يحدث عن طريق «حدس عقلي»، «أعرف من خلاله الشيء؛ لأنني أقوم به»، بدلا من معرفته كشيء موضوعي. ويدور كثير من التطور التالي للمثالية الألمانية حول تداعيات هذا المصطلح.
والسبب هو أن ذلك الحدس العقلي يتعلق بالطريقة التي تصف بها الفلسفة اتصال العقل بالعالم؛ فقد رأى كانط الحدس العقلي على أنه نوع من الفكر المميز للإله، الذي يخلق الموضوع الحقيقي عن طريق التفكير فيه؛ وكان هذا يعني أنه أنكر إمكان وجود ذلك الحدس لدى عقول محدودة مثل عقولنا. وبالنسبة لفيشته، فإن التزامن في الحدس العقلي لفعل التفكير مع ما يفكر فيه هو ما يتغلب على فكرة الفجوة بين العقل والعالم. ولكن أليس هذا - كما سيعترض جاكوبي - ضربا من النرجسية يعكس فيه التفكير نفسه أمام نفسه فحسب؟ يبدو أن الأهمية التي وضعها فيشته على الذات لا تترك مجالا لأي استقلال لعالم الطبيعة، الذي يصبح مجرد موضوع للفاعلية البشرية. وعلاوة على ذلك، فإن تبرير التأكيد على «الأنا» يعتمد على فعل الحدس البشري الذي يمكن الوصول إليه فقط عبر فعل التأمل، فكيف يتصل تأمل ذات واحدة بتأمل ذات أخرى؟ إن تأكيد فيشته على حرية الإرادة الفردية يعكس التغيرات الاجتماعية والسياسية الحيوية في العالم الحديث، لكنه أيضا يوحي بالأخطار. ومن شيلينج إلى هايدجر وما وراءهما، ينظر في الغالب إلى مشكلات العالم الحديث على أنها تتصل بدافع الذات إلى الهيمنة على ما يعارضها.
شيلينج
بعد أن طرح في البداية موقفا قريبا من موقف فيشته، يخلص شيلينج إلى اتهام فيشته باختزال الطبيعة في كونها موضوع الغايات البشرية، بينما ينبغي فهمها أيضا على أنها مصدر للمعنى والغاية. وفي نهاية القرن الثامن عشر، ربط تطوير إعلاء جديد لقيمة جمال وعظمة الطبيعة غير البشرية بالبحث عن الاهتداء في عالم يتزايد النظر إليه على أنه يفتقر إلى الأسس اللاهوتية، وكان ظهور علم الجمال في النقد الثالث لكانط وثيق الصلة أيضا بإعادة تقييم علاقات الجنس البشري بالطبيعة، فليس مصادفة إذن أن يحاول شيلينج في أعماله أن يطور مفهوما جديدا للطبيعة، ويرى الفن على أنه طريقة لفهم العلاقة بين العقل والعالم.
إن أفضل طريقة لتناول «فلسفة الطبيعة» لدى شيلينج إنما تكون من خلال فكرة «التنظيم الذاتي»؛ فعندما يتطور نظام عضوي عن طريق تفاعل مكوناته يصبح أكبر من مجموع أجزائه المادية التي يحكمها القانون. ويرى شيلينج التطور العضوي مرتبطا بحرية الإرادة الإنسانية؛ لأن كليهما ينطوي على ما هو أكبر من التقرير عن طريق القوانين الطبيعية. وتتضح الحاجة لربط أنفسنا بالطبيعة على نحو أكثر ملاءمة في الفصل الديكارتي بين العقل والطبيعة: «يستطيع المرء أن يدفع بما يشاء من المواد العابرة الكثيرة ... بين العقل والمادة، لكن يجب أحيانا أن تأتي المرحلة التي يكون فيها العقل والمادة كيانا واحدا.» ويتناول شيلينج تفرقة إسبينوزا بين الطبيعة «المنتجة» و«المنتجات» الموضوعية للطبيعة فيما أسماه
natura naturata . فالأولى تشير إلى مفهوم بديل للطبيعة عما نجده في العلوم الطبيعية، والحقيقة الأساسية بشأن الطبيعة هنا أنها تتضمن الحياة وتتطور إلى أشكال جديدة؛ فبينما تعتمد العلوم على تحليل الأجزاء، تهتم فلسفة الطبيعة بالروابط الأساسية بين تلك الأجزاء. وفي ضوء الأزمة البيئية، فإن ذلك النهج يبدو ذا بصيرة؛ فهو يوضح كيف أن التحليل التجزيئي عن طريق العلوم الجزئية ربما يكون غير قادر على فهم تفاعل الجوانب المنفصلة - وإن كانت في النهاية متصلة - للطبيعة ككل. وتهدف فلسفة الطبيعة لدى شيلينج إلى ربط «الإنتاجية غير الواعية» للطبيعة ب «الإنتاجية الواعية» للعقل. والفكر هو النقطة التي عندها «تعود الطبيعة تماما إلى نفسها»، وهو يكشف أن «الطبيعة متطابقة في الأساس مع ما هو معروف فينا على أنه ذكي وواع.» فدون فكر تكون الطبيعة مبهمة، وبدون الطبيعة لا يتمكن الفكر من الحدوث إطلاقا؛ ومن ثم فالمهمة هي فهم الانتقال من الإنتاجية اللاواعية إلى الواعية.
وهنا يظهر انقسام في الفلسفة الألمانية بين النظريات التي تسعى إلى وصف تصوري كامل لكيفية اتصال العقل بالعالم والمناهج التي تحتكم إلى الأشكال اللاتصورية من «الحدس»، وخطورة الأخيرة أنها يمكن أن تؤدي إلى إهمال الحجة العقلية، لكن توجد أسباب جدية لأنواع معينة من الاحتكام إلى «الحدس». ويؤكد شيلينج في كتابه «نظام المثالية المتعالية» (1800) أن الأعمال الفنية هي التجسيد الموضوعي ل «الحدس العقلي». وإذا كان الحدس العقلي واقعا داخل الذات، كحال المعرفة عن طريق الفعل لدى فيشته، فمن غير الواضح كيف يمكن أن يلعب دورا تسويغيا في الفلسفة. وبالنسبة لشيلينج، يتطلب إنتاج الفن إنتاجية غير واعية تأخذ الفنان إلى وراء ما تحكمه قواعد الوسيط الفني الموجودة. وعن طريق إظهار هذه الإنتاجية اللاواعية في شيء موضوعي يمكن إدراكه على نحو واع، يظهر الفن ما لا يمكن للفلسفة أن تقوله؛ ومن ثم فإن الفن هو «أداة» الفلسفة، وهو وسيط سهل المنال للعامة يعبر عن كيفية اتصال الواعي باللاواعي. وإذا نظرنا إلى عمل فني على أنه موضوع للمعرفة يجب أن تحدده التصورات، فلن نفهم كيف يمكنه تغيير علاقة الذات بالعالم؛ فالفن يمكنه فعل هذا لأنه يمكن دوما تفسيره بطرق جديدة، وهذا يجعل معنى الفن «لا متعينا» على نحو ما؛ لأنه لا يمكن تقريره بصورة قاطعة. ولكن بدلا من أن يكون إخفاقا فلسفيا، يظهر هذا اللاتعين - الذي يجعل العمل «لا متناهيا» على نحو ما - كيف يمكن السمو فوق عالم المعرفة المتناهية، دون إطلاق دعاوى فلسفية «دوجماتية».
لا يؤيد شيلينج فكرة الفن كتوفيق بين الذاتي والموضوعي، ويرى أنه لو وجد تناغم بين الذاتي والموضوعي فإن الحرية ستكون مجرد جزء من الغرض العام للطبيعة، وسيكون كل شيء مقررا سلفا. ومن حوالي عام 1809 فصاعدا، يخلع شيلينج على فكرة الحرية صفة الراديكالية عن طريق رؤيتها من حيث إمكانية فعل الشر، من خلال التأكيد على إرادة المرء على نحو لا تحكمه الأعراف الموجودة. ودون هذه الإمكانية، فإن «جوهر» الحرية - الذي يتطلب شعورا بانفتاح محتمل - يكون مفتقدا. لا ينكر شيلينج الضروريات في الفكر العقلاني ولا يتوقف عن محاولة تطوير فلسفة منهجية، ومع ذلك فهو يشكك في فكرة أن العقل يمكنه تفسير وجود ذاته؛ ولذا يقدم احتمالا أساسيا في التفكير الذي هو على خلاف مع مشروع المثالية للتوفيق بين العقل والعالم.
وتصبح مهمة فلسفة شيلينج اللاحقة هي فهم كيفية ظهور العالم المفهوم أصلا من حالة قبل عقلانية. فمنذ حوالي نهاية عشرينيات القرن التاسع عشر حتى وفاته عام 1854، يشكك شيلينج في نفس إمكانية إدراك أهداف المثالية الألمانية:
بعيدا ... عن الإنسان وفاعليته التي تجعل العالم قابلا للفهم، فإن الإنسان نفسه هو الأكثر استعصاء على الفهم، وهو ما يدفعني باستمرار إلى القول بتعاسة كل الوجود ... إنه - أي الإنسان - يدفعني بدقة إلى السؤال اليائس الأخير: لماذا يوجد أي شيء من الأساس؟ ولماذا لا يوجد عدم؟
إنه يظن أن محاولة هيجل لحل مشكلات الفلسفة الحديثة من حيث الكيفية التي بها يتمكن «الإنسان وفاعليته من جعل العالم مفهوما» تخفق في مجابهة التنافر بين الفكر والوجود الذي يمتد إلى صميم محاولاتنا لفهم أنفسنا. وهذا الشعور بالتنافر يقود شيلينج إلى تأملات جديدة عن كيفية اتصال الفلسفة بأشكال التفكير الميثولوجي السابقة على الفلسفة، وعن علاقة الفلسفة بالدين.
هيجل
شكل : جورج فيلهيلم فريدريش هيجل.
2
يشتهر هيجل بدعاوى من قبيل «الواقعي هو العقلاني»، والتي يبدو أنها توحي بعدم وجود أساس فلسفي للشك في مدى تشكل العالم على نحو عقلاني، كما أنها تخالف على نحو صادم التأكيدات المقتبسة توا من شيلينج. وقادت هذه الدعاوى كارل ماركس وآخرين إلى رؤية هيجل على أنه مدافع عن واقع سياسي غير عادل في ألمانيا التي كانت لا تزال إقطاعية. وقد كان شيلينج وهيجل صديقين حتى اختلفا قبيل وقت نشر هيجل لكتابه «فينومنولوجيا العقل/الروح» (حيث يمكن ترجمة الكلمة الألمانية
Geist
على كلا الوجهين بناء على السياق) عام 1807. فكيف اختلفا في تقييماتهما لقدرة الفلسفة على فهم العالم الحديث؟ إحدى الطرق للإجابة عن هذا تكون من خلال السؤال عن «الحدس» وعلاقته بمذهب الشك؛ فبينما يسعى العلم الحديث إلى ترسيخ نفسه، يتضح أن كثيرا جدا من الاعتقادات التقليدية المعتنقة على نحو جازم لا يمكن الدفاع عنها. ولكن ما الذي يضمن ألا يتطرق الشك على نحو متساو إلى الاعتقادات العلمية الجديدة، لا سيما وأن العلم الحديث يحيا على تفنيد نظريات وإحلال أفضل منها محلها؟ يقصد بالاحتكام إلى الحدس العقلي إقامة صلة أساسية بين الفكر والواقع تتفادى مذهب الشك، لكن فيشته وشيلينج يشتركان في مسألة أن فكرة الحدس بطبيعتها لا يمكن التعبير عنها في تصورات؛ فهي إما شيء الأفراد الأحرار فقط هم القادرون عليه (فيشته)، وإما شيء نفهمه من خلال ما يظهره الفن من كيفية ارتباط الذاتي والموضوعي (شيلينج في البداية).
يرى هيجل أنه لا يمكن التسليم جدلا بالحدس العقلي في بداية نظام فلسفي كأساس تبنى عليه البقية، وإنما يمكن الوصول إليه فقط بعد أن تكون الفلسفة قد عايشت الطرق التي يتفاعل فيها الفكر والواقع وعبرت عنها، وهذه الطرق يمكن أن تتراوح بين ردود الأفعال البدائية للكائنات الحية تجاه بيئتها وأعلى أشكال التفكير التصوري، الذي تتأمل فيه الفلسفة في الكيفية التي من خلالها أصبحت هي نفسها ممكنة. ويتمثل العامل الفاصل في تقييم فلسفة هيجل هنا في بيان ما إذا كان هذا ردا كافيا على ما تتضمنه قضية الحدس.
بالنسبة إلى هيجل، فإن فهم «السبب» في أن دعاوى معينة للحقيقة يتبين زيفها أمر يقلب المذهب الشكي ضد نفسه، وهذا لأن المعرفة لا يمكن أبدا أن تبدأ من شيء «مباشر»، بمعنى شيء لا يحتاج أن يرتبط بأي شيء آخر ليكون على ما هو عليه. فتوصيفات النظام الشمسي، على سبيل المثال، لا تبدأ بمعطيات «مباشرة» تفسر بعد ذلك في نظرية، بل تبدأ بتفسير ميثولوجي «متوسط» بالفعل لطبيعة الأجرام السماوية. واكتسب هذا التفسير صبغة أكثر منهجية في علم الفلك البطلمي، ثم تغير مجددا عندما أوضح كوبرنيكوس وجاليليو طبيعة النظام الشمسي المتمركزة حول الشمس. فالنظرية الأكثر معقولية تنشأ عن كشف النقائص في النظرية السابقة، وليس عن الوصول المباشر إلى الحقيقة.
ويسمي هيجل هذه العملية «النفي المعين»؛ فالنظريات المفندة لا تطرح جانبا، بل تسمح بوضع نظريات أفضل. فالفلسفة توضح كيف أن كل فهم معين لشيء ينطوي على قصور يقود إلى وصف أكمل. وفي النهاية، يؤدي إظهار أوجه القصور تلك إلى التعبير في نظام فلسفي عن كل الطرق التي يمكن بها للأشياء أن ترتبط بعضها ببعض. ويبلغ هذا النظام ذروته في «الفكرة المطلقة»؛ أي بيان السبب في أن كل الحقائق الجزئية تعتمد على علاقاتها بحقائق أخرى لتبريرها، ومن ثم لا توجد دعاوى إيجابية حاسمة حتى يتم إظهار أوجه القصور في كل الدعاوى الجزئية.
يتعقب كتاب «فينومنولوجيا العقل/الروح» الهياكل المتضمنة في كيفية «ظهور» العقل. وتتضح طبيعة هذا المنهج من فكرة أن العقل يظهر، لا كونه الشيء الذي يظهر له العالم. ولعل النظر إلى الطريقة التي يمكن بها للذات أن تكون على اتصال حقيقي بالموضوع هو الأسلوب الخطأ لتناول نظرية المعرفة. ويستخدم هيجل مجازا تعلم السباحة؛ فإذا لم يدخل المرء إلى الماء فلا يمكنه تعلم السباحة، وبالطريقة نفسها لا تتسنى للمرء المعرفة دون الانغماس بالفعل فيما ينبغي معرفته. ويعطي كتاب «فينومنولوجيا العقل/الروح» وصفا تتبعيا للعلاقات التاريخية بين الذات والموضوع، الأمر الذي رآه كانط في صورة مقولات سرمدية للفكر؛ فلكي يتطور الفكر من الأساس يتحتم أن يكون شيء ما مفقودا. وحتى على المستوى الغريزي، يكون جوهر علاقة الشيء المفتقد ل «غيره» حاضرا، فالكائنات الحية تحتاج طعاما وتحتاج إلى التكاثر، ودون وجود «الآخر» لا يمكنها الوجود؛ ومن ثم يكون كل شيء في جانب منه هو نفسه وليس نفسه في ذات الوقت: فالطعام الذي تأكله ليس أنت، لكنه يصبح أنت. والتغلب على احتياج ما يعني أن الذات تعتمد على الموضوع، لكن هذا الاعتماد ليس في حد ذاته أساس مزيد من التطور. ولكن، فقط عندما يتطور وعي مستدام بالاعتمادية تنشأ الفكرة في شكل - مثلا - ذكرى ما يلبي الحاجة.
وقد أشار تيري بينكرد إلى تصور هيجل على أنه وصف ل «السلوك الاجتماعي للعقل»؛ إذ يشرح كتاب «فينومنولوجيا العقل/الروح» كيف يسمح الاعتماد بأنواع جديدة من العلاقات بين الناس والأشياء. ومن منطلق الموقف الذي ترى فيه النفس الآخر دوما على أنه تهديد - يقصد هيجل هنا مقولة هوبز «حرب الجميع ضد الجميع» التي تسبق العلاقات القانونية - تنشأ القدرة على افتراض أن الآخر له حقوق كما لي حقوق. وفي الواقع، فمن دون الإقرار المتبادل بين النفس والآخر، لن يكون للحقوق أي وجود ملموس من الأساس. وفي فقرة شهيرة من كتاب «فينومنولوجيا العقل /الروح» عن «السيادة والعبودية»، يستهلك السيد منتجات العبد الذي قد أخضعه لنفسه؛ فالاعتماد الناتج للسيد على العبد يمكن الأخير من تطوير قدرته على معالجة العالم، إلى الحد الذي يمكن أن يكون فيه أقوى من السيد. فالفقرة نموذج للكيفية التي تغير بها علاقات القوة بين الذاتية الناس وعلاقاتهم بالعالم، كما أنها تأمل تاريخي في كيفية تجلي هذا النموذج في زوال الأرستقراطية الإقطاعية في الثورة الفرنسية.
يوضح هذا المزيج من التجريد النظري والإحالة المادية للتاريخ فكرة هيجل في أن الفلسفة هي «تجسيد لفكر عصرها»، وليست تمثيلا حقيقيا خالدا للعالم. لكن ثمة دوافع متصارعة لدى هيجل بين (أ) فكرة أن الفكر تولده تفاعلات تاريخية جزئية بين الناس والعالم، وهي طريقة لقراءة كتابه «فينومنولوجيا العقل/الروح»، و(ب) هدف إعطاء وصف فلسفي حاسم لهياكل كل تلك التفاعلات، وهو ما يقدمه في «علم المنطق» (1812-1816). فالأول ربما يشير إلى «نهاية الفلسفة»؛ لأنها لم تعد تتطلب وصفا للطبيعة النهائية للأشياء، والأخير يصر على ضرورة أن يكون الوصف نفسه المسجل للحقيقة على مدى التاريخ صادقا على نحو لا يخضع للتغير التاريخي. وتعتمد التفسيرات المختلفة لهيجل على الجانب الذي ينظر إليه على أنه جوهري في فلسفته.
غالبا ما ينظر إلى هيجل على أنه مفكر نظري جدا؛ وهو ما أدى إلى تجاهله في معظم الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية حتى وقت قريب، لكن قضية «المباشرية» تعطي صورة مختلفة، فكثير من الفلاسفة التحليليين اعتبروا أن «معطيات الحس» هي أساس المعرفة؛ لأن الدليل الشهودي ضروري للعلم السليم. ومع ذلك، تعد هذه النظرة الفلسفية لمعطيات الحس مثالا على «المباشرية». وفي «فينومنولوجيا العقل/الروح»، يستعين هيجل بالبيانات اليقينية «المباشرة» الأوضح ظاهريا أمام المرء في اللحظة الراهنة، ويتمثل هذا (في حالتي) في هذا الكمبيوتر الموجود هنا الآن، ولكن نظرا لأنه يتعين دوما توسيط إدراكات جزئية معينة عن طريق التصورات العامة التي نستخدمها للتعرف عليها، فلا يوجد شيء مفهوم في البيانات غير المتصورة من الأساس. ويوضح هيجل أن الألفاظ «الدلالية» - «هذا»، «هنا»، «الآن» - هي كليات تتوسط بالفعل لمضمون إدراكي عن طريق تمكيني من التركيز على شيء معين، وتصبح «هنا» هي هذه النافذة إذا نظرت خارجها الآن، بدلا من الكتابة. وتنطوي هذه الدعوى على شكل مختلف من التركيب الأساسي للفكر الهيجلي؛ فكل ورود للألفاظ «هذا» و«هنا» و«الآن» ينفي السابق واللاحق من «هذا» و«هنا» و«الآن»؛ ولذا تفتقر جميعها إلى شيء ما، لكن مجموع مرات ورود «هذا» و«هنا» و«الآن» هو المجموع الإيجابي للمكان والزمان. وتظهر حقيقة الجزئي من خلال توسطها عن طريق تصورات عامة، وإلا فهو غير محدد. وكما هو الحال في فلسفة كانط، لو لم توجد أحداس لكانت التصورات خاوية، ودون التصورات لكانت الأحداس عمياء.
إن «جدلية» هيجل هي العملية التي تتغير فيها مادة علاقاتنا وشكلها بالعالم بالنسبة إلى بعضها ببعض. وبالنسبة لهيجل، فإن «تصور» موضوع ليس (كما هو الحال لدى كانط) مجرد قاعدة لتعريف شيء، بل يشمل بدلا من ذلك كل الطرق التي يفهم بها الشيء عن طريق انخراطنا فيه. ومن ثم لا يوجد «شيء في ذاته»؛ لأن الشيء إنما يصبح شيئا عن طريق كونه بالنسبة لنا. ويرى هيجل أن «الشيء في ذاته» لدى كانط هو نتاج لتجريد الشيء عن كل شيء نعرفه عنه، وهذا يتركنا بلا شيء حقيقي على الإطلاق، فقط فكرة عامة لا متعينة. فالمباشرية الظاهرة للشيء يتم الوصول إليها بالفعل عن طريق التوسط؛ أي نفي ما نعرفه عنه بالفعل.
يستخدم هيجل هذه الأنماط من الفكر لوصف جميع الأبعاد الأساسية للعالم الحديث، من العلم إلى القانون والسياسة، إلى التاريخ، وإلى الفن. فالانتقال من المباشرية اللامتعينة إلى التوسط يعتمد على ربط الأشياء على نحو أكثر توسعا بما ليست عليه. وفي «فلسفة الحق»، على سبيل المثال، يكتسب الفرد «المباشر» هويته المبدئية من خلال الأسرة، لكن مطالب الأسرة جزئية وتحتاج إلى قانون الدولة إذا كان يتعين توفيقها مع مطالب الأسر الأخرى. ومع ذلك، فالمشكلة هنا أن الشرعية التي تأتي بالنسبة لهيجل في المستوى الأعلى يمكن في المواقف الملموسة أن تؤدي إلى كبت المستوى الأدنى على ما يفترض.
إن انتقادات هيجل للاعتماد على المباشرية معقولة في الغالب، وهي تلعب دورا في التحديات المعاصرة لافتراضات كثير من الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية. ولكن، لماذا وجد رد فعل مناهض لهيجل منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر فصاعدا، ومرة أخرى في الفلسفة التحليلية منذ مطلع القرن العشرين حتى وقت قريب جدا؟ أحد الأسباب لرد الفعل الذي حدث في ثلاثينيات القرن التاسع عشر هو اصطدام دعاوى هيجل فيما يتعلق بسلطة العقل مع مفهوم أن القدرات العقلانية التي أحدثت تغيرات كبرى في القرن التاسع عشر يمكنها أن تؤدي إلى أشكال لا عقلانية من التنظيم المجتمعي؛ فإرسال الأطفال إلى المناجم يكاد يؤكد لا عقلانية الواقع. وفيما بعد، سيتعارض عمل هيجل البلاغي، الذي يتعامل مع مصطلحات مثل «عالم الروح»، مع الاهتمام المتنامي بالتفاصيل التجريبية في العلوم الطبيعية، والتي هي وجهة الفلسفة التحليلية.
مع ذلك، يتم غالبا تجاهل حقيقة ظهور منهج بديل لمنهج هيجل الذي ظهر في «الرومانسية الألمانية المبكرة» التي تبدأ في منتصف تسعينيات القرن الثامن عشر، وهو منهج يشارك هيجل بعض أفكاره، لكنه يفارق العناصر الجوهرية للمثالية الألمانية. فالموقف الهيجلي يمكن أن يوضح كيف أن العقلانية تحقق إنجازات يتعذر تحقيقها، من النوع الذي نجده في إدراكات من قبيل أن الرق لا يمكن الدفاع عنه، وأن النساء ينبغي ألا يعاملن على أنهن أدنى منزلة من الرجال. أما الموقف الرومانسي، فلن ينكر بالضرورة أن تلك الإنجازات نهائية، لكنه سيشكك في طبيعة القصة الفلسفية الكبيرة التي يستخدمها مؤيدو الفكر الهيجلي لتفسير ذلك، وذلك على أساس أن قصة وحدوية لتقدم العقل ربما تحجب مصادر أخرى لتوليد المعنى في العالم الحديث.
هوامش
الفصل الرابع
الفلسفة «الرومانسية المبكرة»
التهكم
قد يبدو واضحا أن هدف الفلسفة هو اكتشاف الحقيقة النهائية عن العالم، إلا أن فريدريش شليجل (1772-1829)، الذي يعد مع نوفاليس (جورج فيليب فريدريش فون هاردنبرج) (1772-1801) أهم عضو في المجموعة التي يشار إليها عادة ب «الرومانسية الألمانية المبكرة»، يرى أن هذا الهدف ربما لا يكون واضحا بدرجة كبيرة؛ ففي الحقيقة «إنك ستصاب بالكآبة لو كان على العالم كله - كما تطلب - أن يصبح مفهوما تماما، ولو لمرة واحدة على نحو جدي.» فمن الجوانب الرئيسية للفلسفة الرومانسية الألمانية المبكرة - التي هي نتاج فترة وجيزة في نهاية القرن الثامن عشر في يينا - أنها تطرح أسئلة راديكالية عن المهمة الأساسية للفلسفة. وإذا كنا نفكر في الفلسفة من منظور الإبستمولوجيا، فالمهمة هي اكتشاف كيفية التوصل إلى المعرفة. ولكن، من غير المؤكد ما إذا كان التوصل إلى إجابة نهائية للشكوكية سيشكل أي فارق حقيقي لعلاقة معظم الناس بالعالم. وقد كان هيجل يرى التغلب على الشكوكية معتمدا على ما يسبب الشكوكية؛ أي حقيقة أن الحقائق تنفى باستمرار. ولم يعد منهجه يركز على ما إذا كان تفكيرنا يخفق في الاتصال ب «الواقع»؛ لأن «الواقع» هو - بدقة - عملية نفي يحدثها تفاعل الذات والموضوع، الأمر الذي لا يمكن وصفه من منظور فوق دنيوي. وتنطوي «الرؤية من اللامكان» بالنسبة لهيجل على نفس مشكلة «الشيء في ذاته» لدى كانط؛ فهي تتطلب الفكرة التجريدية لاستبعاد أي شيء نعرفه عن الموضوع.
وفي محاضرة عام 1801، يطرح شليجل بالفعل الفكرة التي تدل على الاتجاه الذي سوف يسميه هيجل «النفي المتعين»؛ إذ «تنشأ الحقيقة عندما تحيد الأخطاء المتعارضة بعضها ببعض». ومنهج شليجل «تهكمي»؛ إذ إنه من المرجح دوما بالنسبة له إبطال التأكيدات المثبتة للحقيقة، بالكيفية التي تبطل بها العبارة التهكمية معناها الحرفي، وجواب هيجل عن هذا النوع من التهكم هو البحث عن الموضع الذي يصير فيه المنفي هو المثبت. وفي المقابل، ترى الفلسفة الرومانسية أنه ربما لا توجد غاية نهائية للتهكم، وقد يؤدي هذا فيما يبدو إلى مشكلة أن الدعاوى المزعومة بشأن نسبية الحقيقة كلها يجب أن تكون هي نفسها مطلقة. ومع ذلك، يدرك شليجل هذا الاعتراض: «إذا كانت الحقيقة كلها نسبية، فقضية أن كل الحقيقة نسبية هي أيضا نسبية.» لذا، كيف إذن يحتفظ المرء بالشعور بالمطلق الذي سيمكنه من تجنب هذه المفارقة؟
إن المشكلة التي كشفتها النظرة الرومانسية هي أن المرء لكي يعرف أنه وصل إلى الحقيقة النهائية ، فالأمر يستلزم أن يكون على دراية سابقة بتلك الحقيقة، وإلا فسيكون مستحيلا إدراك أنها الحقيقة النهائية. وينبغي أن تكون هذه الدراية شيئا مثل الحدس العقلي لدى فيشته، الذي شكك فيه الرومانسيون بالفعل من منتصف تسعينيات القرن الثامن عشر فصاعدا. ويقول نوفاليس: «نحن في كل مكان نبتغي غير المشروط، ودوما لا نجد سوى الأشياء.» ويؤدي عدم الرضا بحدود المعرفة المتناهية إلى شعور باللامتناهي، بدلا من وجود معرفة مثبتة مؤسسة بالطبيعة الجوهرية للامتناهي. ولكن، لا يمكن التخلص من عدم الرضا عن طريق الوصول الفلسفي إلى اللامتناهي. وبالنسبة لنوفاليس، فإن «المطلق الممنوح لنا إنما يمكن معرفته بطريق النفي، عن طريق فعلنا واكتشافنا أنه لا فعل يمكنه الوصول إلى ما نسعى إليه»؛ فما تسعى إليه الفلسفة هو «أساس» مطلق يسمح لها باستكمال نفسها، لكن «إذا لم يمنح هذا، وإذا كان هذا التصور يتضمن استحالة، فإن الدافع للتفلسف سيكون نشاطا لانهائيا». ومن ثم، فالفلسفة نفسها تتخذ مكانة مختلفة، تقترب فيها مما هو قائم في تجربة الفن الحديثة، حيث لا توجد تفسيرات نهائية، بل وجهات نظر جديدة فحسب.
التوسط و«التشوف»
يشترك هيجل والرومانسيون الأوائل في أفكار تتعلق بالوضع الحديث، الذي تبدو فيه كثير من الحقائق عابرة بطبيعتها. لكن اختلافاتهم توحي بانقسام نموذجي في الفلسفة الحديثة، وهو انقسام بين مذاهب تتغلب الذات فيها على الطبيعة المتناقضة للواقع الحديث في الفلسفة، ومذاهب ترتاب في أنه بفعل ذلك فإن الذات لن تجد في العالم سوى ما يعكس صورة نفسه مرة أخرى إليها. وعليه، فإن هدف جعل التفكير شفافا تماما لنفسه - الذي هو أساس تصور المثالية الألمانية لحرية الإرادة - ربما يتبين أنه وهم. وقد اعترض جاكوبي وشلايرماخر بالفعل على فيشته من هذا المنطلق؛ ففي عام 1799، رد جاكوبي في رأي مناهض لفيشته بأن «أصل العقل هو الإصغاء، فالعقل المحض هو إصغاء لا يصغي إلا لنفسه.» ويزعم هيجل أن نظامه نهائي، حتى إن العقل يصبح شفافا لنفسه عن طريق التأمل في علاقاته بالعالم، وهنا أيضا يكون العقل في خطر الإصغاء لنفسه فقط.
إن قوة دعاوى هيجل تكمن - كما أكد معلقون محدثون - في حقيقة أن إنكارها ينطوي على احتكام إلى شيء مباشر. وسوف يزعم نيتشه أن الحافز الحقيقي للفكر هو الدوافع اللاواعية للذات، وليس البحث المحض عن الحقيقة. ومع ذلك، يجب أن يبرر هذا الزعم نفسه، ويتطلب التبرير توسطا. فيكف «نعرف» أن الفكر مستند إلى اللاوعي؟ وإذا اقتبسنا دليلا مثل زلات فرويد التي نستنبط من خلالها أن مصدر قول شخص أو فعله ليس هو الذي يظنه، فنحن بالفعل منخرطون في التوسط. وهذا يدخل القضية فيما يسمى الآن ب «فضاء الأسباب»، عن طريق تفسير آلية الكبت الذي يؤدي إلى الزلات. ويتصل المذهب الهيجلي هنا بحججه عن يقين الحواس، فيجب التشكيك في أشكال الدليل المباشر المفترض عن طريق معايير معرفية مشتركة، وأية محاولة للتحايل على مثل تلك المعايير تتطلب شرعنة تنطوي على احتكام إلى معايير أخرى هي نفسها تتطلب شرعنة.
ويبدو نهج هيجل معقولا جدا، على الرغم مما تطرحه حقيقة كون المعايير الاجتماعية دوما محل نزاع شديد من صعوبة واضحة، ولكن هذه الصعوبة لا تعني أنه ثمة طريق آخر لتبرير شيء ما. وعلى الجانب الآخر، فإن المنهج الرومانسي مهتم بأن الكمال الفلسفي المنهجي - من النوع الذي يرونه لدى فيشته - ربما يقصي الكثير مما هو ضروري لعلاقتنا بالعالم. ولا ينكر شليجل ونوفاليس الحاجة إلى الترابط المنهجي، لكنهما يريانه وكأنه «اللانظام المجلوب إلى نظام». ومثال ذلك ملاحظة نوفاليس أن «كل خرافة وخطأ لدى جميع الأزمنة والشعوب والأفراد تقوم على خلط «الرمز» بالمرموز له - على جعلهما متطابقين - وعلى الاعتقاد في التمثيل الحقيقي التام.» وتكمن جاذبية المذهب الهيجلي فيما يتعلق بالشكوكية في الكيفية التي يتحاشى بها الحاجة إلى دليل تأسيسي يوضح كيف يرتبط العقل والعالم. لكن هيجل يهدف إلى جعل الرمز (النظام) وما يرمز له (الوجود، العالم) متطابقين. فإذا قبل امرؤ عدم الاحتكام إلى دليل تأسيسي في الأمور المعرفية، فإن المذهب الهيجلي يقدم بديلا مقنعا؛ فأي شيء يزعم كونه حقيقيا يجب إخضاعه إلى التوسط، ويبدو من الممكن تحقيق الوصف الفلسفي المنهجي للتراكيب الديناميكية للتوسط، حتى إن لم ينجح هيجل نفسه بالفعل.
ولعل السؤال الرئيسي الذي ينبثق من الفلسفة الرومانسية، حتى قبل أن يضع هيجل نظامه، هو: لماذا قد لا يتغلب هذا الوصف لتراكيب العقلانية - الذي ينبغي أن يصالحنا مع ضرورة التناقض والمعاناة - على الشعور الحديث ب «الضياع»؟ ويرى شليجل أنه «إذا وجدت الحقيقة، فعمل الروح سيكتمل وسيتحتم توقفها عن الوجود؛ إذ إنها لا توجد إلا في حالة نشاط.» ونظرا لأن شليجل لا يؤمن بإمكانية بلوغ تلك المرحلة، فإن جوهر التجربة الإنسانية هو ما يسميه «التشوف»، وهو المصطلح الذي وضعه للتنافر المتأصل بين ذواتنا والعالم. ويسبب التشوف كلا من الرغبة في المعرفة والشعور بأن المعرفة لا تساعد دوما في التعامل مع الطبيعة المنقسمة للوجود؛ لذلك ربما نحتاج أشكالا من التعبير لا يمكن فهمها فهما تاما بلغة المعرفة، فقد لا تكفي معرفة الطبيعة ومصدر المشكلة النفسية للتغلب على المشكلة، وربما يتطلب التغلب على المشكلة فاعلية تعبيرية تغير طبيعتها نفسها. وتعد الأهمية المتزايدة للموسيقى بالنسبة للفلسفة في هذا الوقت في ألمانيا مؤشرا لما هو محل نقاش هنا؛ فما يمكن أن تفعله الموسيقى لا يمكن اختزاله فيما نعرفه عما تقوم هي به.
الفلسفة الرومانسية والفن
في كتابه «علم الجمال»، يعلن هيجل «نهاية الفن» باعتباره وسيطا يمكن من خلاله التعبير عن التبصرات العليا للبشرية الحديثة. ومن الواضح أنه لا يمكن أن يوجد بديل في العالم الحديث للطريقة التي ساعدت بها التراجيديا اليونانية في تكوين المجتمع في أثينا. وهيجل مصيب في هذا الصدد؛ فالموارد التي تحدد العالم الحديث هي في المقام الأول علاقات سياسية وقانونية تنظم الفعل الإنساني، وقدرة العلم والتكنولوجيا على حل المشكلات. لكن دعوى هيجل هي أن الفلسفة تتولى عن الدين والفن دور التعبير عن التبصرات العليا، فالعلوم إنما تنتج حقائق معينة، تحتاج إلى أن تربط بعضها ببعض في النظام الفلسفي. ولكن منذ عصر هيجل نادرا ما لعبت الفلسفة الحديثة دورا شديد الأهمية في الأداء الفعلي للعلوم؛ ومن ثم فإن ارتقاء هيجل بالفلسفة ربما ينظر إليه على أنه في الحقيقة إشارة إلى «نهاية الفلسفة». فإذا كانت الفلسفة لا تؤدي دور الحكم النهائي، فإن العوامل التي تحدد في الواقع طبيعة العالم الحديث ربما تجعل الفلسفة ترفا. ويرى هايدجر أن العلوم هي الشكل الذي انتهت إليه الميتافيزيقا التي عرفت منذ أيام اليونانيين (انظر الفصل الثامن)؛ لأن هدف الميتافيزيقا كان تقديم الصورة الحقيقية للعالم؛ ومن ثم يبحث هايدجر عن دور مختلف للفلسفة التي يربطها - مثله في ذلك مثل الرومانسيين - بالفن.
لكن ألا تزال أهمية الفن لهؤلاء المفكرين محل اهتمام في الفلسفة اليوم؟ تتضح المشكلة هنا في حقيقة أن الفن الحديث يشكك باستمرار في وجود نفسه؛ وفقا لما يشير إليه رد الفعل الذي يقابل مرارا تجاه الفن الطليعي بكونه «ليس فنا». ويمكن تناول هذه القضايا بالنظر إلى الشكل الذي تقدم به أحيانا الفلسفة الرومانسية، فإذا لم يكن بالإمكان فصل رسالة الفلسفة عن «وسيطها»، فإنه لا يمكن النظر إلى الفلسفة على أنها مختلفة كلية عن الفن، حيث يكون الشكل عنصرا جوهريا في المعنى. وعلى الرغم من أن شليجل قدم نصوصا فلسفية معززة بالبراهين منهجية نسبيا، فهو - مثل نوفاليس - مشهور بكتابة المقتطفات، والمقتطفات هي مقتطفات وحسب، وليست أجزاء غير متصلة من المادة، إذا كانت أجزاء مقتطعة من كل. ومع ذلك، فالكل هو المفقود في «التشوف»، وليس شيئا من المعروف أنه موجود كهدف الفلسفة. وفي المقتطف رقم 116 من مجموعة المقتطفات المأخوذة من مجلة «أثينيم»، التي كانت تصدر من 1798 إلى 1800، يتحدث شليجل عن الفن الرومانسي باعتباره انعكاسا للعالم الذي «يمكنه باستمرار أن يجعل هذا الانعكاس محتملا، ويضاعفه كما لو كان صفا لا نهائيا من المرايا.» ويذكرنا الفن الرومانسي بأن العالم دوما أكثر مما يمكننا التحدث عنه، وأن الوجود يفوق الإدراك:
اكتملت أشكال أخرى من الأدب [«القصائد» التي تحمل طابع الفن الإبداعي] ويمكن الآن تحليلها تحليلا تاما. ولا يزال الشكل الرومانسي للأدب في عملية تحول؛ وذلك فعلا هو جوهره الحقيقي، فهو في حالة تحول على الدوام، ولن يكتمل أبدا ، ولا يمكن لأية نظرية معالجته معالجة تامة.
وفي حين أن العلوم ربما تهدف إلى معرفة قاطعة بالأشياء، يبحث «الأدب» كيفية أن ربط الأشياء بأشياء أخرى - غالبا بطرق غير متوقعة - ربما تتمخض عنه آراء تنكرها العلوم.
شكل : لوحة «منظر طبيعي مسائي لرجلين»، 1830-1835 تقريبا، بريشة الفنان كاسبار ديفيد فريدريش.
1
وهنا ينشأ صراع مهم بين فكرة أن الهدف هو السيطرة على العالم على نحو أكثر فاعلية، والخوف من أن هذا ربما يجعل العالم أجوف بلا معنى. ومن المنظور الأخير، فإن المهمة الفلسفية هي إضفاء مزيد من المعنى، الأمر الذي ينبغي فعله بأي مصادر متاحة. ويؤكد شليجل أن «الفلسفة يجب أن تبدأ بعدد لا متناه من الافتراضات، بحسب تكوينها (لا بافتراض واحد)»، وأنه في مسحة براجماتية أولية «لا توجد افتراضات أساسية يمكن أن تكون بوجه عام رفيقا مناسبا أو قائدا إلى الحقيقة.» وليس الأمر أن شليجل ونوفاليس ينبذان اكتشافات العلم؛ فنوفاليس كان مهتما بالبحث العلمي، ولكن ما يقدمانه هو تحذير فطن من النظر إلى العلوم باعتبارها مصادر الصحة والثبوت الوحيدة في العالم الحديث.
يعبر عمل الرومانسيين الأوائل عن شيء من الطاقة المكبوتة في الحياة الفكرية الألمانية قرابة الثورة الفرنسية، والتي بسببها حل الإبداع الفلسفي والجمالي محل الثورة السياسية. وكانت التأثيرات المباشرة لعملهم مهملة تماما؛ فقد كان الكثيرون - بما فيهم هيجل - ينظرون إليهم على أنهم يفتقدون الجدية الفلسفية؛ ومن ثم فالمثير في الأمر هو كيف قدم اهتمامهم بالعيش بطريقة إبداعية مع عدم اليقين والتنوع تصورا مسبقا لجوانب التفكير التفكيكي والبراجماتي، التي تلعب دورا في جهود إعادة التقييم المعاصرة للفلسفة. وفي مواجهة التغيرات المحيرة المميزة للحداثة، تفكر الفلسفة الرومانسية مليا فيما يمكن أن يحدث إذا لم يعد المرء يبحث عن حلول نهائية. وهذا موقف يمكن أن يكون سوداويا وتحرريا على السواء، وقد تمضي فترة من الزمن قبل أن يتبنى هذا الموقف مرة أخرى على نطاق واسع؛ فالرغبة في حلول نهائية من النوع الذي يقدمه علم اللاهوت الدوجماتي بالكاد تلاشت كما نعلم.
هوامش
الفصل الخامس
ماركس
نهاية الفلسفة
في النقاشات التي تشكل سياق أعمال كارل ماركس (1818-1883)، يبدأ الناس في الحديث لأول مرة عن «نهاية الفلسفة». لكن ماذا يعني ذلك؟ إن حل المشكلات الجوهرية للفلسفة هو أحد أساليب إنهاء الفلسفة، ويحاول هيجل فعل هذا عن طريق إعطاء إجابة ممنهجة لكيفية التغلب على الانقسامات بين الذات والموضوع. ولكن، ما دور الفلسفة إذا كان رأي هيجل نهائيا؟ فمن الأهمية بمكان أن هيجل كان يرى على أنه الميتافيزيقي المطلق، ومؤخرا أصبح يرى على أنه شخص يقدم مخرجا من الميتافيزيقا التقليدية. وهو يقوم بهذا عن طريق تقديم بديل لفكرة «المنظور الإلهي»، بمعنى أن العقل هو مجرد نتاج للعلاقات الاجتماعية. وفي الحقيقة، يمكن تأويل كلا الوجهين لهيجل على أنهما إنهاء للفلسفة، إما عن طريق فهم الشكل النهائي للميتافيزيقا فهما تاما، وإما عن طريق إظهار أن الميتافيزيقا الراسخة قائمة على سوء فهم لطبيعة علاقة العقل بالعالم.
ثمة طريقة أخرى لإنهاء الفلسفة؛ وهي النظر إلى «نهاية الفلسفة» على أنها هدفها، الأمر الذي ربما يمكن تحقيقه عن طريق تحقيق المنشود في فكرة «الحياة الطيبة»، ويمكن من خلال ذلك تفادي أسباب التساؤل عن معنى الحياة التي تنشأ عن إضعاف الاعتقادات اللاهوتية؛ فإنجازات الحياة الطيبة ستعوض هنا الألم الذي لا يمكن فصله عن الحياة الإنسانية. ومن زاوية أخرى، إذا فكر أحد - كما يفعل كل من ماركس ونيتشه - أن الميتافيزيقا هي في الحقيقة شكل مقنع من علم اللاهوت، فإن الهجوم على علم اللاهوت سيكون هجوما على الفلسفة. والهدف هنا هو فكرة تقديم وصف للعالم يتجاوز مجرد المنظور البشري، وسيظهر منهج ذو صلة بهذا الموضوع في القرن العشرين تحاول فيه الفلسفة التحليلية إظهار أن كثيرا من المشكلات الفلسفية هي «مشكلات زائفة» أحدثتها إخفاقات منطقية في استخدام اللغة. والسبيل إلى إنهاء الفلسفة هنا هو بيان أنها تتكون من أسئلة لا يمكن أن تكون لها أجوبة؛ لأنها غير صحيحة منطقيا.
شكل : كارل ماركس وكتابه «رأس المال».
1
لكن، لماذا ينبغي للأوصاف المقدمة لمعظم هذه الأفكار أن تصبح ملمحا للفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، بدءا من الهجمات على فلسفة هيجل في ثلاثينيات القرن التاسع عشر فصاعدا؟ جزء من الإجابة يتمثل في أن الفلسفة أصبحت الآن مرتبطة ارتباطا واضحا جدا بالسياسة. ولم يكن كانط والمثاليون والرومانسيون الأوائل بمنأى عن السياسة؛ فقد أيدوا جميعا بعض جوانب الثورة الفرنسية على الأقل، وكتبوا في الفلسفة السياسية، لكنهم ربما لم ينقلوا مفهوما صريحا بأن النشاط السياسي يقع بالضرورة في صميم الفلسفة، وذلك بسبب الكبت الذي أخضعت له الرؤى السياسية الراديكالية من قبل الدول الألمانية. ومن الأسباب التي تؤكد على أهمية أن يوجد نوع جديد من الربط بالسياسة، ذلك الوعي الذي استهله هيردر وشليجل وهيجل بأن الفلسفة تخضع للتاريخ بطرق لم توضع موضع تقدير في السابق. وتؤكد التغيرات المربكة التي أحدثتها الثورة العلمية والتصنيع والتمدن، على أن فكرة وجود نظام عالمي مستقر قد وقعت فريسة لضغوط العالم التاريخي. ونظرا للوحشية التي تصاحب الرأسمالية الوليدة، فمن غير المستغرب أن يصبح الشك في الميتافيزيقا مرتبطا بفكرة أن الفلسفة ربما تكون متواطئة مع الظلم الاجتماعي.
ينتقد «الهيجليون الشباب» - وهم مجموعة من المفكرين يغلب عليهم الفكر اليساري، شملت لودفيج فويرباخ (1804-1872) وماركس في بداياته - هيجل، لكنهم لا يرفضون أفكاره رفضا تاما. وينصب تركيزهم المبدئي على الدين، على الرغم من أن هدفهم الرئيسي هو التحول الاجتماعي؛ حيث كان دخول مقاربات جديدة عن التاريخ إلى علم اللاهوت هو أحد التغيرات الحاسمة في علم اللاهوت في القرن التاسع عشر. ويثير هذا الأمر تساؤلات عن الأساس التاريخي للأناجيل، الذي تبين كونه متزعزعا بشدة؛ ومن ثم تصبح الحقيقة الأوسع للدين موضع شك أكبر. وأحد الردود على هذا الأمر هو فكرة أن قيمة الدين ربما لا تكمن في الحقيقة الحرفية للكتب المقدسة؛ إذ يمكن تفسير قيمة الدين على نحو هدام وآخر بناء. فمن جانب كونه وسيلة للسيطرة تعزز من التسلسلات الهرمية التقليدية، تكون قيمة الدين ضربا من «الأيديولوجيا» بالنسبة إلى الطبقات الحاكمة، ولكن من جانب كونه وسيلة لجعل الحياة أكثر احتمالا عندما يبدو التغيير مستحيلا، فإن الدين يبقي على الأمل بين المضطهدين . ولا يعني تعليق ماركس عن الدين باعتباره «أفيون الشعوب» أن الدين شيء يجعلهم مجرد نيام؛ بل إنه يجعل ألمهم محتملا. ولكن دون الدين تفقد كثير من أشكال السلطة ركيزتها مفسحة المجال لتغيرات اجتماعية راديكالية. ولكن، يجب أن يقدم هذا التغيير في الواقع نموذج الأمل الذي كان يقدم سابقا في الخيال.
في فترة ماركس، نشب صراع متزايد الوضوح بين إيمان حركة التنوير بقدرة العقل على حل المشكلات، والشعور الفاجع بأن الحياة الإنسانية عابرة بالضرورة ومؤلمة. وإذا لم يكن أمل للخلاص الفردي دون الدين، فيجب أن يكون الأمل في استطاعة الفرد أن يقدم إسهامات في حياة الجنس البشري، عن طريق صنع مستقبل أفضل للبشرية. ولكن، من غير المؤكد أبدا إن كانت فكرة ذلك المستقبل ستقدم عزاء حقيقيا للفرد في الظروف المؤلمة. وعلاوة على ذلك، ففي القرن التاسع عشر (ومنذ يومئذ)، غالبا ما ينتهي هدف الفرد في التفوق الذاتي إلى التضحية بالذات في سبيل الغايات السياسية للأمة.
إن استراتيجية فويرباخ هي إنقاذ مضمون الدين الذي ترك عندما صارت الاعتقادات «الدوجماتية» واهية. وهو يرى - على نحو سيردده فرويد لاحقا - أن مضمون فكرة الإله هو «إسقاط»، وسوف يكشف الوعي بذلك كيف «اغترب» الجنس البشري عن أفضل صفاته، عن طريق إسقاطها على مصدر خارجي؛ ف «الإله المسيحي هو نفسه مجرد تجريد للحب الإنساني»، و«سر علم اللاهوت هو الأنثروبولوجيا، والوجود البشري من الوجود الإلهي». إن نقد الدين «هو هدم ل «وهم» ... له ... أثر مدمر تماما على الجنس البشري.» ويوظف فويرباخ رأيا معاكسا طرح في جوانب من الفلسفة الرومانسية المبكرة، والذي يوجد أيضا في نقد شيلينج لهيجل، وفي هذا الرأي تجعل المثالية العقل هو «الموضوع» والواقع هو «المحمول». ففي المثالية، يفترض أن الأفكار المجردة الفلسفية هي الواقع الأساسي. (وكون هذا التفسير منصفا لهيجل هو أمر مشكوك فيه، على الرغم من أن الطريقة التي يعرض بها هيجل فلسفته قد تميل إلى تشجيعه.) وتتضح أهمية هذه الفكرة عندما تستخدم أفكار يتوهم نسبتها إلى هيجل - كتلك المتعلقة ب «الدولة» باعتبارها الموضوع الحقيقي، والأفراد باعتبارهم المحمولات له - لإضفاء الشرعية على واقع إقطاعي ظالم. لكن إصرار فويرباخ على الوجود الإنساني الحسي باعتبار أنه الواقع السابق، الذي تولدت منه الأفكار المجردة، يجعلنا نخاطر بالوقوع فريسة لانتقادات هيجل للمباشرية؛ فكما رأينا لا يمكن أن توجد حقوق الفرد دون توسط من خلال الشكل الجمعي للدولة، ومع ذلك فهذه حالة أخرى ربما يعمل فيها النظر إلى القضية من حيثية فلسفية محضة على حجب الأهمية الحقيقية للتصور الفلسفي. وماركس هو أول من اكتشف هذا النوع من الخطر.
الاغتراب
أصبحت فكرة أن الفلسفة تقدم العالم بطريقة معكوسة قضية جوهرية في الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، فأحد ملامح الحداثة هو - بدقة - توليد نظم مجردة لها آثار مرغوبة وكارثية على حد سواء على العالم الواقعي؛ ومن ثم يمكن أن يكون الاهتمام الفلسفي بعكس الموضوع والمحمول تجسيدا لقضايا اجتماعية اقتصادية ملموسة. وعلى غرار الأفكار التي يمكن النظر إليها على أنها «أيديولوجية»، كاعتقاد بعض الأثرياء أن الفقراء كسالى، يمكن إظهار أن الفلسفة تستمد من شيء غير ظاهر في مفهومها لنفسها. ويعد المال من المجالات الواضحة التي يمكن فيها التشكيك في استقلال الفلسفة؛ فالمال تجريد للأشياء الملموسة التي يمكن شراؤها به، وذلك على نحو مشابه للطريقة التي تكون بها الكلمة التي تدل على شيء تجريدا لجزئية الشيء لجعله نموذجا من التصور. وتعتمد الصلة بين المال والشيء، والكلمة والشيء، على التركيب المنهجي للعناصر المتكلم عنها؛ فقيمة الشيء تستمد من كونه مندمجا في نظام من التمييزات، لا من أي شيء متأصل فيه. ومدعاة القلق الأساسي لدى ماركس أن تلك الأفكار المجردة ربما تكون لها توابع مدمرة على الأفراد الحقيقيين، الذين هم جزئيون بالأساس بينما الأنظمة عامة، ويفسح هذا التناقض بين الفرد والنظام المجال للأيديولوجيا، عندما تتجاوز مطالب النظام حاجات الفرد.
إن فكرة ماركس الرئيسية هي أن مجموع الأفعال الإنسانية للفرد يؤدي إلى نتائج منهجية غير مقصودة؛ فعن طريق الانتقال من المقايضة إلى التبادل النقدي، تحولت طبيعة المجتمع بالكامل؛ لأن كل شيء أصبح قابلا للتبادل في مقابل أي شيء آخر. وعلى الفكر الناقد أن يفهم كيف تنشأ تلك النتائج؛ من أجل تغييرها للأفضل، وفي أعمال ماركس الأولى في أربعينيات القرن التاسع عشر، كان ينظر إلى هذه التوابع بمفهوم «الاغتراب». وقد استخدم هيجل هذا المصطلح من قبل للحديث عن طبيعة الحداثة، واستخدم فويرباخ المصطلح ليصف كيف يتم إسقاط الصفات البشرية على الإله. لقد استخدم مصطلح «الاغتراب» غالبا منذ القرن الثامن عشر لمناقشة مشكلات العصر الحديث، من التمدن إلى التصنيع، كما أنه يستخدم للإشارة إلى الشعور بعدم الانتماء إلى العالم. ومع ذلك، وعلى مدار معظم فترات التاريخ كانت الحياة البشرية - وفقا لعبارة هوبز - «بغيضة، ووحشية، وقصيرة»، فلماذا إذن يبدو الاغتراب ظاهرة حديثة على وجه الخصوص؟ أحد الأجوبة هي أنه متصل بزيادات في الحراك الاجتماعي؛ فالناس لا يمكن أن يشعروا بمنعهم عن إدراك حقيقة ذواتهم إلا عندما يوجد احتمال في أن يصيروا شيئا مختلفا. وثمة إجابة أخرى نجدها في العلاقة المتغيرة للجنس البشري بالطبيعة. ومع ذلك فالتغيرات المتضمنة هنا ذات حدين، فالتأثير المباشر للطبيعة أصبح أقل؛ لأنه يمكن معالجتها لصالح الإنسان، لكن الموضعة المطلوبة لهذه المعالجة تخلق نوعا من الفجوة بين الجنس البشري والطبيعة التي أثارت اهتمام الناس بفلسفة كانط.
فما هو إذن المصدر الحاسم للفصام بين العقل والطبيعة؟ يوجد هنا بالفعل صراع نبوئي بين اهتمام «وجودي» بطريقة وجود «مغتربة» أساسية، تجعل الفصام شيئا متأصلا في الحياة البشرية، واهتمام تاريخي بأن النشاط البشري هو ما يؤدي إلى وقوع الفصام، الأمر الذي يوحي بإمكانية المصالحة بين العقل والطبيعة في ظروف أخرى. يتطلب الاهتمام الأول طرقا لتقبل ضرورة لا يمكن في النهاية ردعها، تفضي غالبا إلى رؤية الفن باعتباره وسيلة رمزية للاستجابة للاغتراب، بينما يتطلب الاهتمام الثاني شكلا من الخلاص العلماني، تصبح فيه علاقتنا بالطبيعة مختلفة من خلال التدخل البشري.
إن نظرية الاغتراب المبكرة لدى ماركس في «مخطوطات اقتصادية فلسفية» عام 1844 أكثر تحديدا من التصور الأنثروبولوجي لفويرباخ، فماركس يرى الاغتراب متأصلا في آلية العمل الحديثة، وأحيانا يزعم أن كل «تخارج » لقوة العمل لدى العامل ينطوي على اغتراب؛ ف «الموضوع الذي ينتجه العمل - أي ناتج العمل - يظهر بالمقابلة مع العمل ككائن مغترب، كقوة مستقلة عن المنتج.» ويسير هذا المفهوم في منحى «وجودي» على نحو لا نجده في أهم أعمال ماركس؛ فهل كل من ينتج شيئا لشخص آخر مغترب بالضرورة؟
ومع ذلك، فإن أعمال ماركس المبكرة (التي ظل كثير منها غير معروف حتى مطلع القرن العشرين) تحوي آراء بارزة في الآثار الثقافية لأشكال العمل التاريخية. فكر كيف تختلف ثقافة يعد المصدر السائد للثروة فيها هو تصنيع البضائع المادية عن ثقافة تعد المعلومات فيها هي ذلك المصدر؟ وتسير أعماله المبكرة - بخلاف المتأخرة - على نهج شيلينج؛ فهو يتكلم عن مجتمع مناسب للكائنات البشرية بمفهوم كونه يتضمن «البعث الحقيقي للطبيعة، والطبيعة المتطورة للإنسان، والإنسانية المتطورة للطبيعة». ويوحي هذا بأهمية موازنة استغلال الموارد الطبيعية مع الشعور بضرورة عدم إخضاع العالم الطبيعي للحاجات البشرية فقط. أما في أعمال ماركس المتأخرة، فإن الطبيعة تميل إلى أن تصبح فقط موضوع العمل الإنساني، ولم يسهم هذا المنظور الأخير إلا بالقليل لمنع الدول المفترض أنها ماركسية في القرن العشرين، مثل الاتحاد السوفيتي، من إنتاج كارثة بيئية من النوع المميز أيضا للاقتصاديات الرأسمالية الجشعة، عن طريق التجاهل الكلي للتكامل المستقل للعالم الطبيعي؛ من أجل إشباع الحاجات الإنسانية الغريزية غالبا.
الأيديولوجيا والسلعة
يسعى عمل ماركس الوافي في «رأس المال» (المنشور مجلده الأول عام 1867) إلى تحليل آليات رأسمالية القرن التاسع عشر، التي أدت إلى إفقار الكثيرين في اقتصاديات تنتج المزيد من الغنى والثروات دوما لفئة قليلة. وينطوي هذا التحليل على موقف نقدي تجاه الفلسفة؛ فالأشكال السائدة من الفلسفة من وجهة نظر ماركس لها وظيفة أيديولوجية، والإنتاج الفكري مكبل بملكية وسائل الإنتاج، وكذلك بالتقسيمات الطبقية المميزة للرأسمالية، و«الأفكار الحاكمة» هي - كما صاغها في «الأيديولوجيا الألمانية» عام 1845 - أفكار «الطبقة الحاكمة». ولكن، ليس بالضرورة أن يتضمن هذا خداعا واعيا من قبل أولئك الذي ينشرون الأيديولوجيا التي تبرر مصالحهم، فالأيديولوجيا يمكن أن تؤدي دورها بلا وعي.
ولو أن ماركس نظر إلى نقده للأيديولوجيا على أنه مسألة فلسفية محضة، لكان عليه تفسير الرؤى الفلسفية برمتها من حيث علاقات القوى وأشكال الإنتاج. ويبدو ماركس أحيانا متحركا في هذا الاتجاه، ويوحي هذا بمشكلة مهمة؛ ف «رأس المال» يعرض نفسه أحيانا كوصف علمي للرأسمالية، وماركس ميال إلى تبني فكرة أن معرفة الحقيقة العلمية للرأسمالية هي الطريق المباشر لتحقيق الهدف السياسي العملي لتغييرها. ومن ثم، لا يتعارض هذا مع القول بأن المجتمع والتاريخ يخضعان للقوانين الطبيعية والانطلاق إلى محاولة تبرير أي أفعال يرى أنها ضرورية للوصول إلى شكل أفضل للمجتمع باعتبارها ضرورة طبيعية. ولا شك أن العوامل الاقتصادية تخلق ضرورات لا يمكن تجنبها؛ فكما يوضح ماركس، يتم تبني أي شكل جديد من التكنولوجيا بوجه عام بمجرد أن يجعل هذا الشكل الطريقة السابقة لفعل الأشياء باهظة التكلفة وغير فعالة. والمسافة بين هذه الحقيقة التاريخية والطرق الفعلية التي تؤثر بها التكنولوجيا على المجتمع - والتي لها أبعاد أخلاقية وسياسية - مهمة، وأحيانا يتجاهلها ماركس. وهو يقدم مقاربته الرئيسية لهذه القضايا من خلال نموذج «القاعدة» الاقتصادية، الذي يحدث تغيرات في «البنية» الاجتماعية، ويمكن توضيح المقاربة عن طريق آثار الانتقال من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي، الذي ساعد في إنهاء النظام الإقطاعي. وتتضح الأهمية الفلسفية الخاصة لهذه القضية في وصفه ل «شكل السلعة».
يحاول ماركس التوصل إلى مقياس موضوعي للقيمة يسمح له بادعاء مكانة علمية لنظريته، لكن مفتاح نظريته عن القيمة يقوض بالفعل هذه المكانة، ويفتتح ما سيكون أحد مفاهيمه الأكثر تأثيرا في الفلسفة الألمانية اللاحقة. وفي مقدمة «نقد الاقتصاد السياسي» عام 1859، يؤكد ماركس على أنه «ليس وعي الناس هو الذي يقيد وجودهم، بل على العكس وجودهم الاجتماعي هو الذي يقيد وعيهم.» ويتضح الصراع في لفظة «يقيد»، والتي تعني «يحدد»، بمعنى أنه يتم تحديد الظاهرة الطبيعية على نحو سببي من خلال قانون علمي، ولكن إذا ترجمت الكلمة بمعنى «يقيد» فيمكن أن تعني شيئا مثل «يؤثر على»؛ وهذا يوحي بأن لدينا درجة من الاستقلال الذاتي، حتى ونحن متأثرون بالضرورة بنوع المجتمع الذي نعيش فيه. ويتحدث ماركس في هذا الصدد عن اللغة باعتبارها «وعيا عمليا»؛ فاللغة تقيد وعينا (الأمر الذي يعني أنها يمكن أن تعمل كأيديولوجيا)، وتمكننا من أن نصبح بقدر ما أصحاب إرادة حرة. والعامل الآخر الذي يحدد/يقيد وعينا هو شكل السلعة، الذي - مثله مثل اللغة - يختزل الخاص في العام.
في الرأسمالية، لا يمكن قياس قيمة الشيء من حيث أهميته الحقيقية، وهذا ما يسميه ماركس في أخرياته: «قيمة الاستخدام»؛ فالكمبيوتر المحمول الذي أستخدمه له قيمة استخدام تتمثل في أنه يمكنني من كتابة هذا الكتاب في أي مكان أستطيع العمل فيه، وتتضح «قيمته التبادلية» في كم المبلغ الذي دفعته لشرائه، أو كم المبلغ المتحقق في حال بيعه، «وكما تختلف السلع ذات قيم الاستخدام من حيث النوعية، تختلف أيضا القيم التبادلية من حيث الكمية»؛ فالقيمة الأخيرة علائقية، وتجعل قيمة الكمبيوتر مساوية لأي شيء آخر له نفس السعر. ويبحث ماركس عن الأساس الحقيقي للقيمة في متوسط «وقت العمل الضروري من الناحية الاجتماعية» المطلوب لإنتاج شيء. وإذا كان المالك لوسائل إنتاج شيء ما يحقق ربحا، فإن وقت العمل المستغرق لإنتاج الشيء يزيد عما يدفع للعامل من قبل المالك الذي يحصل من ثم على «قيمة فائضة» غير مدفوعة. ومع ذلك، فهذه النظرية لم تكن ناجحة كأداة اقتصادية، وهي دعوى أخلاقية قابلة للأخذ والرد عن التوزيع غير العادل للثروة.
وما يجعل نظرية السلعة ملحة جدا للفلاسفة اللاحقين، مثل هايدجر وأدورنو والماركسي المجري جورج لوكاتش، هو صلتها بمصير الميتافيزيقا في العالم الحديث. فإذا كان هدف الميتافيزيقا هو نظام يمكن أن يدمج كل شيء في شروطه، فمن الممكن النظر إلى سوق السلعة على أنه تحقيق لذلك النظام؛ فأي موضوع يمكن فهمه من حيث قيمته التبادلية. ويتيح النظام التكوين السريع للثروة والإبداع التقني عن طريق تسهيل تبادل البضائع ونقلها، كما أن له آثارا محل تساؤل على الثقافة؛ فهو مثل كلبية أوسكار وايلد «يعرف ثمن كل شيء ولا يعرف قيمة أي شيء.» وهو يجسد السبب الذي جعل جاكوبي يرى مذهب إسبينوزا على أنه عدمية؛ أعني النحو الذي تكون به الأشياء في العالم الحديث على ما هي عليه فحسب بالنسبة إلى «قيودها». ويهتم ماركس بالقوة الهائلة للرأسمالية على تحويل العالم؛ إذ يرى الرأسمالية مرحلة ضرورية من تطور الإنتاج البشري، وليس هناك شيء يجب النظر إليه على أنه تهديدي. كما أنه يهتم بالحاجة إلى التفكير فيما وراء شكل السلعة. وقد بحث جاكوبي عن أساس لاهوتي للقيمة يتجاوز عالم «الشروط المقيدة»، بينما يتناول ماركس الانتقال إلى ما وراء هذا العالم بمفهوم الثورة السياسية والاجتماعية التي تمحو فيها طبقة العمال الكادحين (البروليتاريا) النظام الذي يظلمهم. ويعتمد ما سيصاحب ذلك من محو للفلسفة أو عدمه على الكيفية التي يفسر بها المرء هدف الفلسفة. وفي الفصل التالي، سوف ندرس نيتشه؛ فاختلاف تفسير نيتشه لإخضاع الفلسفة عن تفسير ماركس هو إشارة إلى الصراعات التاريخية التي ستهيئ الأجواء للفلسفة في القرن العشرين.
هوامش
الفصل السادس
نيتشه وشوبنهاور و«موت الإله»
عودة التراجيديا
تتأكد الطبيعة الازدواجية للحداثة عند الشك في أن ما رآه كانط والمثاليون الألمان على أنه حرية إرادة ليس سوى الغريزة المقنعة للحفاظ على الذات. وهنا، يحل نوع مختلف من «الطبيعية» - يعتبر الصراع من أجل الوجود جوهر الطبيعة والقوة الدافعة الخفية للعقل - محل إعادة التقييم الإيجابية للطبيعة لدى شيلينج وماركس في بداياته. وقد أجريت دراسات أبلغ تأثيرا عن تداعيات هذا التشكيك في حرية الإرادة في أعمال آرثر شوبنهاور (1788-1860) وفريدريك نيتشه (1844-1900).
لم يكن لعمل شوبنهاور الرئيسي «العالم كإرادة وتمثيل» (نشر للمرة الأولى عام 1818، ثم في نسخة مزيدة عام 1844)، أي تأثير فعليا عندما ظهر للمرة الأولى. وكان دفاع ريتشارد فاجنر الحماسي عن الكتاب وظهور كتاب دارون عن أصل الأنواع عام 1859، بتداعياته المدمرة للصورة الذاتية للبشرية، هو ما ساعد في أن يصبح هذا الكتاب لشوبنهاور في الغالب العمل الفلسفي الأعظم أثرا من الناحية الثقافية في القرن التاسع عشر. وفي الواقع، فقد كان له أيضا على الأرجح الأثر الأكبر على الثقافة في مطلع القرن العشرين، حيث أثر على توماس مان وجوستاف مايلر وآخرين. وعلى نحو قابل للجدل، فإن رائعة شوبنهاور ليست عملا فلسفيا مقنعا للغاية، لكن الإشارة إلى عيوب في الحجج الفلسفية غالبا ما يخفق - كما رأينا - في الكشف عما يضفي أهمية على عمل الفيلسوف. والحقيقة الأوضح عن الكتاب أنه عمل من الإلحاد والتشاؤم التام، أدخل سمة تراجيدية جديدة في الفلسفة الحديثة.
مما لا يمكن إنكاره أنه لا مجال للتفكير في المثالية الألمانية أو تصورها دون التراجيديا اليونانية، بيد أنه في المثالية الألمانية أصبحت الضرورة التراجيدية أمرا محتملا من خلال النظر في ضرورة التغيير. فربما يكون التاريخ مسلخا، لكن العقل يبلغ مراحل أعلى من التطور من خلال إراقة الدماء. وتعد نهاية «أوريستيا» لأسخليوس - التي ينبثق فيها نظام جديد للعدالة من وطيس الرعب الذي يسبقه - نموذجا استدلاليا هنا. وعلى النقيض من ذلك، لا يحمل التأويل اللامثالي للتراجيديا - الموجود لدى شيلينج في أخرياته وشوبنهاور ونيتشه - جانبا خلاصيا؛ حيث يطغى «الآخر» على الأشكال البشرية للنظام، ومثال ذلك عقدة أوديب الذي يصبح عن غير قصد قاتلا لأبيه وزوجا لأمه، أو دمار المدينة بقوى من خارجها في «الباخوسيات». إن البديل التراجيدي المتشائم للنظرة المثالية مضمن في شرح شوبنهاور لكانط؛ إذ تتطلب نظم القرابة، وهي أبسط شكل من أشكال النظام البشري، نوعا من الهويات يعد جوهريا بالنسبة إلى المعرفة. ويرى كانط أن المادة الإدراكية المتلقاة من العالم لا تصير مفهومة إلا من خلال تصنيفها ضمن مقولات وتصورات في أحكام تتيح التعرف عليها بواسطة المادة الأخرى. وفي التراجيديا اليونانية، تكون الأشكال البشرية للتعرف مهددة بالانهيار لكون العالم يتجاوز ما يمكننا معرفته عنه، ومن ثم يمكن النظر إلى هذا على أنه أسلوب آخر لتفسير «الشيء في ذاته» عند كانط؛ حيث يؤدي «تجاوز» العالم لمعرفتنا إلى مواقف تراجيدية، يتم فيها تخطي نظام القرابة بما يؤدي إلى سفاح المحارم وقتل الأم وقتل الأب وقتل الأخ أو الأخت ... إلى غير ذلك. ولا يفصل فكرة «التجاوز» عن نظرية اللاوعي لفرويد، التي تأثرت بشوبنهاور، سوى جزئية صغيرة؛ فبالنسبة لشوبنهاور، ما هو ظاهر - كأفكار الأنا لدى فرويد - يهدم على أساس من اللاوعي، وبذلك تصبح تفرقة كانط بين «المظاهر» و«الأشياء في ذواتها» تفرقة بين العالم ك «تمثيل» والعالم ك «إرادة».
وبينما يرى كانط أنه لا يوجد وصول إلى العالم في حد ذاته، فإننا نحظى بإمكانية وصول إلى العالم كإرادة من خلال تجارب نملك القليل من السيطرة عليها، مثل الجوع والدوافع الجنسية. والتمثيلات هي موضعة ل «الإرادة» اللاظاهرة، التي هي أساسها؛ «فالأسنان والمريء والأمعاء هي جوع مموضع، والأعضاء التناسلية هي الدافع الجنسي المموضع»، ويطلق شوبنهاور على هذا الأساس مسمى «الإرادة» لأنها - مثل الأساس «المعقول» لحرية الإرادة الأخلاقية الكانطية - ليست جزءا من العالم الزمكاني، لكن لا توجد أخلاقية في الإرادة؛ فهي دافع أعمى يعارض نفسه بنفسه باستمرار عن طريق التخلي عن الأشكال الموضوعية وهدمها. والوصول إلى الإرادة لا يمكن أن يكون معرفيا؛ لأن ما نعرفه هو عالم «التمثيل»، ومن ثم فهذه حالة أخرى من «الحدس»، وهي تطرح مجددا السؤال عن الكيفية التي يمكن من خلالها شرعنة الدعاوى المتعلقة بالحدس. فكيف «عرف» شوبنهاور أن صورته هي الصورة الميتافيزيقية الحقة للكون؟ ولكن مرة أخرى حتى إذا لم يتسن إثبات وجهة النظر الفلسفية، فإن رؤيته تكشف شيئا عن الطريقة التي يرتبط من خلالها الجنس البشري الحديث بالعالم. وعلى الرغم من أنه من الخطأ اختزال الفلسفة في التاريخ، فمن المذهل رغم ذلك الكيفية التي انتشرت بها رؤى عن الطبيعة الجوهرية المعادية للواقع - من شوبنهاور إلى دارون إلى نيتشه - في وقت تنتج فيه الرأسمالية الحديثة عالما اجتماعيا سياسيا متزايد العداء، يتحرك صوب الحروب العالمية والهولوكوست.
ولعله من المفاجئ أن يقترح شوبنهاور رؤية أفلاطونية عن الجوهر اللازماني لموضوعات العالم الطبيعي العابرة المتنافسة، ومع ذلك فالجوهر المؤثر لرؤية شوبنهاور يكمن حقا في معارضته لأي إحساس بالغائية الطبيعية أو الإنسانية؛ فالتاريخ هو «علم الحيوان» بالنسبة لجنس الإنسان العاقل، وليس شيئا يمضي باتجاه هدف. وثمة طريقة واحدة فقط يمكن بها للجنس البشري أن يفر من عالم يأكل فيه أو يؤكل، وهذه الطريقة هي إدراك أن وعينا بالعذاب المتأصل في الإرادة إنما ينبع من كوننا كائنات متفردة. ونحن على دراية بضعفنا وفنائنا لأن الوعي بالذات يفصلنا عن بقية الواقع؛ ومن ثم ينبغي أن يقودنا هذا الوعي إلى البحث عن وسائل للفرار من التفردية. ويعد شوبنهاور من أوائل الناس في أوروبا الذين أخذوا الفلسفات غير الغربية مأخذ الجد؛ فهو يستعين بفكرة النرفانا البوذية لاقتراح طريقة الفرار من السجن في عالم تسوقه الإرادة.
ويعتبر شوبنهاور التأمل الجمالي هو الطريقة المثلى للفرار - وإن كانت مؤقتة - من الطبيعة الحقيقية للوجود، والموسيقى هي الفن الذي يتيح هذا الفرار على النحو الأمثل؛ لأنها لا تمثيلية بدرجة كبيرة. فالموسيقى هي تجسيد مباشر لحركة الإرادة، ونموذجه هو ابتعاد اللحن عن القرار الموسيقي وعودته إليه؛ فتلك الموسيقى تعكس كيف تتحرك الإرادة من الإشباع إلى السخط، ثم عودا. وتستخدم الموسيقى مصدر سخطنا لإعطائنا فترة راحة منه؛ فهي «لا تتحدث عن الأشياء، بل عن لا شيء سوى العافية والمحنة، اللتين هما الحقيقتان الوحيدتان للإرادة.» وهذه هي الرؤية التي أثرت على فاجنر، ولا سيما في «تريستان وإيزولده» والأجزاء اللاحقة من «حلقة النيبلنغين». وتقدم هذه الأعمال الأوبرالية رؤى العبثية المطلقة للتطلعات الإنسانية الاجتماعية التي تتعارض مع التعلق المبكر لفاجنر في أربعينيات القرن التاسع عشر بفكرة الثورة المخلصة القائمة على الحب، والتي استمدها من فويرباخ.
أبولو وديونيسوس
استهوى تشاؤم فاجنر الأوبرالي نيتشه في صغره، ورأى أن الموسيقى تعكس عرض التراجيديا لأسوأ الأشياء في شكل مظهر جمالي، ومع ذلك فإن عمله ككل يمثل ازدواجية في تقويض الحداثة لعلم اللاهوت؛ فهو ينتقل من تشاؤم كتشاؤم شوبنهاور أو تشاؤم فاجنر في أعماله الأخيرة، إلى فكرة أن الرؤية المتشائمة للحياة هي نفسها بقية اعتقادات لاهوتية وميتافيزيقية مخيبة للآمال؛ ففكرة النظر إلى العالم على أنه مكان مريع لا يكون لها معنى إلا إذا كان المرء يظن في وجود عالم حقيقي غير مريع، يمكن من خلاله الحكم على هذا العالم، وإذا كانت فكرة هذا العالم الحقيقي وهما، فينبغي للمرء أن يقر بالعالم الذي نحيا فيه بالفعل. والبديل هو ما يعنيه نيتشه ب «العدمية»، التي هي نتيجة لفقدان الاعتقادات الميتافيزيقية والإخفاق في قبول النتائج؛ فالإخفاق في قبول أنه لا توجد مدعاة للجوانب المريعة من الواقع يولد «الاستياء»، وهو الرغبة في إلقاء اللوم على شيء خارجي بسبب موقف المرء، والاستياء هو سمة مميزة لما يسميه «أخلاق العبد» المسيحية، التي تبغي الخلاص من المعاناة عن طريق إظهار أن للمعاناة غاية.
يعتمد أول عمل بارز لنيتشه «مولد التراجيديا من روح الموسيقى» (1871) على ميتافيزيقا شوبنهاور، التي يترجمها إلى حبكة مستمدة من الميثولوجيا اليونانية التي استخدمها بالفعل كل من فريدريش شليجل وشيلينج للرمز إلى طبيعة الوجود الإنساني المنقسمة. يرمز «أبولو» إلى عالم «التمثيل»، وإلى أي شيء يمكن أن يكون له شكل يمكن التعرف عليه، أما «ديونيسوس» فيمثل الإرادة التي تتلاشى فيها التفردية «ويفقد المرء نفسه». وتتطلب التراجيديا التفاعل بين أبولو وديونيسوس، مع موسيقى تعبر عن العنصر الديونيسوسي الذي لا يمكن للكلمات نقله؛ فالعنصر الديونيسوسي يؤدي إلى مظاهر متغيرة باستمرار، بينما لا يظهر هو نفسه، وليس لديه هدف. ومع ذلك، فقد ألمح إلى رفض نيتشه اللاحق لشوبنهاور في حقيقة أن الفن التراجيدي ليس وسيلة للفرار من وجود تدفعه الإرادة بقدر ما هو تجسيد للإبداع الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش، على الرغم من أنه في النهاية بلا معنى؛ «لأن الوجود والعالم يتم تبريره دوما كظاهرة جمالية فحسب.» ومن الملاحظ أن هذه الذروة متصلة بتقييم تراجيدي غير لاهوتي من الأساس لمعنى الوجود الإنساني.
وقد أشار جاكوبي إلى أن رؤية العالم ككل من منظور علمي، من خلال «مبدأ السبب الكافي» - أي أن «لكل شيء سببا/علة/أساسا» - قاد إلى «الهاوية»؛ لأنه يولد تسلسلا لا نهائيا من أسباب الأسباب. ويتبنى نيتشه رؤية جاكوبي كطريقة للتشكيك في التفاؤل العلمي الذي كان ملمحا للنصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان لدى أولئك الذين يتشاركون هذا التفاؤل «اعتقاد لا يتزعزع بأن التفكير إنما يصل إلى أعمق هاويات الوجود، من خلال خيط السببية الاستدلالي». وبينما يستخدم جاكوبي الإيمان بالإله كطريقة للفرار من التسلسل الذي يولده هذا الخيط، يظن نيتشه أن التراجيديا هي الإقرار بأنه لا شيء يقدم سببا عقلانيا للوجود؛ فقد زعم نيتشه زعما غريبا في ظاهره، أنه لا يمكن تبرير الوجود أو احتماله من دون «ضرب أو آخر من ضروب الفن، كالدين والعلم على وجه الخصوص»، وهذا معناه أن جميع أشكال الإنتاج العقلي هي «فن»؛ لأنها تضفي شكلا على ما لا يمكن تشكيله دونها.
وبالطبع، فإن إطلاق مسمى «فن» على العلم استفزاز متعمد؛ ففي الفلسفة الألمانية من منتصف القرن التاسع عشر فصاعدا، يميل الفلاسفة إما إلى اعتبار الإنسانيات أدنى منزلة من العلوم الطبيعية، وإما إلى البحث عن منهج للعلوم الإنسانية يجعلها على القدر نفسه من الدقة التي يفترض أن تكون عليها العلوم الطبيعية (انظر الفصل السابع). ويحاول نيتشه إبطال التفرقة بين العلم والفن برفض إعطاء أولوية لأي تصور للعالم؛ فهي كلها مجرد طرق بشرية للتعامل مع الوجود. ومن ثم، فجميع التصورات الإنسانية هي نوع من الخرافة، ويعكس إحياء فاجنر للخرافة في مسرحياته الموسيقية قبولا تراجيديا جديدا لحدود القدرة على السيطرة على الوجود، والنتيجة أن براعة الموسيقى ربما تماثل براعة الفلسفة في تقديم تبصرات في طبيعة الوجود. وينطوي العالم المعاصر على معركة - كما يزعم نيتشه - بين «المعرفة المتفائلة على نحو لا يمكن إشباعه، والحاجة التراجيدية للفن»، وما يهم هو معرفة إن كانت أعمال المرء تجعل وجوده ذا معنى، حتى وهو يواجه المخاوف التي من المحتمل دائما أن ينطوي عليها. ولأن الموسيقى تتصل بالجوانب السلبية من الوجود - حيث يروى عن شوبرت أنه قال ذات مرة إنه لم توجد حقا موسيقى سعيدة - فإن للموسيقى مصدر التراجيديا نفسه، لكن يمكنها أيضا أن تكون حافزا يعاش عليه.
هدم الفلسفة
لا يتخلى نيتشه عن ارتباطه بفكرة ديونيسوس؛ فبوصفه الإله الممزق والمعاد صنعه، ديونيسوس هو رمز الحاجة للهدم من أجل صنع شيء جديد، ولكن بعد «مولد التراجيديا» يبدأ نيتشه بالتشكيك في أهداف وفرضيات الفلسفة نفسها، الأمر الذي يقوده إلى محاولاته للهدم والتجديد. وهو ينتقل مبدئيا في أعمال مثل «إنساني مفرط في إنسانيته» (1878) إلى موقف أكثر اتساقا مع التفاؤل «الوضعي» في القرن التاسع عشر بشأن قدرة العلم على الإجابة عن الأسئلة الميتافيزيقية، وأصبحت مثل هذه التحولات الراديكالية في الموقف أمرا نمطيا؛ حيث نجده في «مولد التراجيديا» يرى العلم كنوع آخر من الخرافة، وهو يحدث أحيانا تلك التحولات داخل النص نفسه. ويطرح عزوف نيتشه عن أن يكون متسقا تساؤلا عما إن كان الاتساق المنطقي هو الفضيلة الفلسفية القصوى، أو إن كان هدف الفلسفة ينبغي أن يكون أثرا «أدائيا»، يؤثر على توجه القارئ في الحياة بطرق ملموسة. وخلال ثمانينيات القرن التاسع عشر، أصبح تشككه أكثر راديكالية، وأخرج أهم أعماله مثل: «العلم الجذل» (نشر عام 1882، ثم في نسخة مزيدة عام 1887) و«ما وراء الخير والشر» (1886) و«أصل الأخلاق وفصلها» (1887) و«المسيح الدجال» (نشر للمرة الأولى عام 1894). ثم يهوي إلى حافة الجنون عام 1889، ويبقى السبب الدقيق لهذا الجنون مثار جدل.
إن استخدام فرضيات الفلسفة الأكاديمية السائدة لتقييم نيتشه يمكن أن يخطئ مقصد ما يقوم به، إلا أنه من الصعب أيضا كما يشاع طرح أسئلة راديكالية عن أهداف الفلسفة التي تمارس على طريقة نيتشه، دون الافتراض مقدما برغبة المرء في معارضته؛ ففي النقاشات الحديثة عن «النظرية» في الإنسانيات - على سبيل المثال - غالبا ما يوصم «أنصار ما بعد الحداثة» المتأثرون بنيتشه بأنهم «ينكرون الحقيقة»، فهم يرون ما يعتقد أنه حق - بما في ذلك نظريات العلوم الطبيعية المؤكدة تماما - على أنه نتاج علاقات القوة في المجتمع. ومن السهل إذن التساؤل عن إن كان من الصواب الزعم بأن علاقات القوة هي التي تحدد ما يعتقد أنه حق. ويتجه أنصار ما بعد الحداثة إلى تقويض أنفسهم أو مناقضتها؛ لأن تأكيداتهم بشأن الحقيقة ستكون وليدة الرغبة في القوة (الأمر الذي لا يبطل بالضرورة تأكيداتهم). ويمكن لهذا الطرح الذي يستوجب افتراض الحقيقة مقدما أثناء فعل التأكيد نفسه أن يبطل المقاربات رديئة الصياغة في قضايا الحق والقوة. لكن، على الرغم من أن نيتشه نفسه يمكن أن يجادل بطريقة مشكوك فيها - عندما أطلق على سبيل المثال مزاعم إيجابية من قبيل أن «الحقيقة هي في الواقع شيء مبهم»، مثل «جيش متحرك من المجازات اللغوية» التي نجدها مفيدة للسيطرة على العالم (وهل هذه الدعوى نفسها هي مجرد مجاز لغوي آخر؟) - فلا يزال من الممكن أن يكون تشككه موحيا.
عندما تفقد السلطة التقليدية شرعيتها، فإن قضية الأيديولوجيا تصبح أمرا لا مفر منه؛ لأنه على الناس محاولة إرساء أشكال جديدة من القوة لإضفاء شرعية على أفعالهم، وهذا يعني أن النزاعات حول الحقيقة والقيمة دائما ما تتصل في السياقات الاجتماعية الملموسة بتلك المحاولات في إضفاء الشرعية، حتى على الرغم من أنه لا يمكن اختزال مضمون المزاعم بشأن الحقيقة والقيمة في محفزات تلك المزاعم. ولعل الادعاء الأكثر تمييزا لنيتشه هو أن التصورات الأخلاقية ما هي إلا تعبيرات عن علاقات القوة المتغيرة في المجتمع، وهو يقترح إمكانية إبطال المحاولات الفلسفية التقليدية لتمييز جوهر الخير والشر، عن طريق إظهار مدى الاختلاف الذي تطبق به المصطلحات في السياقات التاريخية والاجتماعية المختلفة. لكن مزاعمه أنه يدشن ل «إعادة تقييم جميع القيم» عن طريق هذا النهج هي محل شك كبير؛ فالقيم المسيحية التي يسعى لتقويضها تبدو - من وجهة نظر التاريخ اللاحق - أكثر قابلية للدفاع عنها مقارنة بالبدائل التي قدمها.
إن مقاربات نيتشه فيما يخص قضايا الحقيقة والقيمة أحيانا ما تؤدي إلى الشعور بأنه لا شيء أقرب إلى منظور الحقيقة من ممارسة القوة على «الآخر»، سواء كان ذلك الآخر هو الطبيعة أم الآخرون. وبوصفها دعوى فلسفية صريحة، فلا يمكن الدفاع عن هذا الزعم، إلا أن نيتشه - كما رأينا - لا يقدم بالضرورة مجرد دعاوى فلسفية؛ ففي فترات لاحقة، ساعد ميشيل فوكو في إحداث ثورة في تاريخ العلم عندما أظهر - في أبحاث تاريخية مفصلة - أن القضية الرئيسية هي في الأغلب «لماذا» يعتقد الناس في صحة الأفكار، وليس ما يعتقد في صحته بالفعل. وأوضح التاريخ أن الأخير غالبا ما يكون له عمر افتراضي محدود، حتى في العلوم الطبيعية.
إن أبحاث فوكو هي تطور لأحد الاهتمامات الجوهرية لنيتشه، وهي «قيمة» الحقيقة. ويوحي الجانب المتجهم من الوجود الإنساني بسبب أهمية السؤال عن قيمة الحقيقة؛ فعلى سبيل المثال، هل تريد حقا أن تعرف حقيقة ما إذا كان لديك مرض عضال لا يرجى شفاؤه؟ قد يبدو شغف الفلسفة الحديثة بالإبستمولوجيا والرد على المتشككين محل شك؛ لأنه يهمل الطرق التي لا تكون المعرفة فيها دوما الطريقة الأكثر فاعلية للتجاوب مع العالم. لكن ما الجديد على وجه الخصوص بشأن التشكك في القيمة السابقة للحقيقة؟ في التراجيديا اليونانية، يمكن لمعرفة الحقيقة أن تولد الكارثة بالفعل بدلا من تجنبها، ويمكن الاستدلال على ذلك بأوديب. وتشير الأفكار التي تبناها نيتشه في بداياته عن إحياء التراجيديا إلى سبب تبنيه هذا الرأي؛ فهو من البداية كان يناهض الآراء الخلاصية الأفلاطونية والمسيحية تجاه الميتافيزيقا والحقيقة، التي ترى أن المعاناة في هذه الحياة ستحقق مقصدها في السماء، وأن التمثيل الحقيقي للعالم هو الهدف الأقصى للمعرفة.
إن مقاربة نيتشه اللاحقة لهذه القضايا ملخصة ببراعة في جزء من «أفول الأصنام» (المنشور عام 1889)، ولا يفضل أن ننظر لهذا الجزء باعتباره حجة تنتقل من مقدمات إلى نتائج بشأن «العالم الحقيقي»؛ فهو مهم من حيث «صياغته» الأدبية بقدر ما هو مهم في «مضمونه» الفلسفي:
كيف غدا «العالم الحقيقي» خرافة
تاريخ خطأ (1) العالم الحقيقي: الذي يسهل بلوغه على الإنسان الحكيم، الورع، الفاضل، يحيا فيه، إنه هذا العالم. (أقدم شكل للفكرة، أنها فطنة نسبيا، ساذجة، مقنعة نسبيا. تفسير العبارة: «أنا، أفلاطون هو الحقيقة».) (2) العالم الحقيقي: المنيع الآن، لكنه الموعود به الإنسان الحكيم، الورع، الفاضل («المذنب الذي يتوب»). (تطور الفكرة: تترقى، تمسي أكثر استهواء، أكثر انفلاتا؛ تصبح امرأة، تصبح مسيحية ...) (3) العالم الحقيقي: المنيع، الذي لا يمكن إدراكه، ولا إقامة الدليل عليه، ولا الوعد به، لكن الذي يكون مجرد التفكير فيه عزاء، التزاما، أمرا قطعيا. (الشمس القديمة في القعر لكن المخترقة للضباب والشكوكية: الفكرة وقد أضحت رائعة، شفافة، شمالية، كونيجسبرجية.) (4) العالم الحقيقي: منيع، غير مدرك بعد على أية حال. وبما أنه غير مدرك، فهو مجهول، لا يمثل عزاء ولا خلاصا ولا التزاما: فيم سنلزم من طرف شيء نجهله؟! (فجر رمادي، أول تثاؤب للعقل، صيحة ديك الوضعية.) (5) «العالم الحقيقي»: فكرة لم تعد صالحة لأي شيء، لم تعد تدعو لأي شيء؛ فكرة غير نافعة، غير مجدية، إذن فكرة مرفوضة: لنبطلها! (طلع النهار، فطور، عودة الحس السليم والمرح، حمرة خجل تعلو جبين أفلاطون، كل العقول الحرة تحدث ضجيجا فظيعا.) (6) لقد أبطلنا العالم الحقيقي: أي عالم تبقى؟ لعله العالم الظاهر؟! لكن لا! لقد أبطلنا عالم المظاهر مع العالم الحقيقي في الآن ذاته! (الظهيرة، لحظة الظل الأقصر، نهاية أطول خطأ، ذروة البشرية، مستهل زرادشت.) [زرادشت هو الشخصية التي وظفها نيتشه لنقل فكرة «السوبرمان» الذي يتفوق على الميتافيزيقا المسيحية.]
ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي، أفريقيا الشرق، 1996
إن إعطاء تعليق مفصل على تلك الفقرة أمر أشبه قليلا بشرح مزحة؛ إذ يمكن أن يحجب آثار الصياغة بمحاولة شرح المضمون. ويوضح نيتشه الانتقال من وجهة نظر أفلاطون في أن حقيقة العالم تكمن في الأشكال الخالدة للأشياء، وليس في الطريقة التي تظهر بها، إلى الترجمة المسيحية لرؤية أفلاطون إلى فكرة السماء والحياة الآخرة كتعويضات عن نقائص هذه الحياة، إلى وضع كانط للأخلاق في العالم المعقول الخالد، إلى هجمات الوضعيين في القرن التاسع عشر على المزاعم الميتافيزيقية باسم العلم «الوضعي» الذي يمكن التحقق منه، إلى إدراك أن الفلسفة وقفت حجر عثرة في سبيل العيش في الحاضر، إلى نهاية الميتافيزيقا كبحث عن عالم حقيقي واحد. ومع ذلك، فهل من الضروري أو المستحب أن تهجر تماما طرق فهم الحقيقة التي يقوضها نيتشه بسخرية هنا؟ ثمة تفسيران أساسيان لكيفية مقاربة مواقف نيتشه اللاحقة.
يقترح أحد التفسيرات أن نيتشه يعرض تحولا أبوكاليبتيكيا مروعا للفرضيات المتعلقة بالفلسفة والعالم، والذي سيغير العالم جذريا، وهو غالبا ما يعطي ثقلا لهذا التفسير ببلاغته المفرطة، وسياساته الرجعية، التي تفضل القوي على الضعيف. ومن منظور الحقبة التاريخية اللاحقة، من الحروب العالمية إلى الهولوكوست، يدفع هذا التفسير المرء إلى السؤال عن إن كان عمل نيتشه هو عامل سببي في هذه الأحداث المتلاطمة. من الصعب إيجاد صلة متسقة بين الأحداث التاريخية ورغبته في «إعادة تقييم جميع القيم» وفي «السوبرمان» الذي يمحو «أخلاق العبد» في المسيحية. ومع ذلك، ثمة أوقات يجب أن يتوقف فيها عند حقيقة أن النازيين استخدموا أجزاء من عمله لأغراضهم؛ فالمرء لا يملك أمام «انتصار الإرادة» إلا أن يتذكر نيتشه.
أما التفسير الآخر، فينظر إلى نيتشه من حيث الحاجة إلى تجاوز الفلسفة للتمكن من تقييم «المعهود» - مرحلة سطوع النهار وتجلي «ماهية العالم الحقيقي». وسوف يظهر فيما بعد موقف ذو صلة في فكرة فيتجنشتاين أن المهمة هي علاج النفس من المخاوف الفلسفية، بدلا من السعي إلى حلول للمشكلات الفلسفية. وتعد «المنظورية» عنصرا أساسيا في تفسيرات نيتشه التي تعارض فكرة نهاية العالم، وهي تعني نبذ فكرة «الرؤية من اللامكان» التي تقودنا إلى الموضوعية الخالصة. لكن الزعم بأنه لا توجد في الواقع رؤية من لا مكان يفترض مكانا ينكر المرء في الوقت نفسه وجوده. ويمكن بيان موقف نيتشه بطريقة أخرى من خلال التشكيك في نظرية أن الحقيقة هي «توافق» الفكر أو العبارة مع «الوضع القائم» أو «الحقيقة» أو «الموضوع» أو ما إلى ذلك. لكن رفض هذه النظرية (بدلا من اقتراح أنها ربما تكون غير متسقة أو غير معقولة) يستلزم المطالبة بنظرية بديلة، ويثير هذا مشكلة البحث فيما سيثبت صحة النظرية البديلة للحقيقة، فأية نظرية في الحقيقة تدور على ما يبدو في حلقة مفرغة؛ ولذا يجب انتهاج استراتيجية مختلفة في صياغة نموذج مقنع مما يحتمل أن يكون نيتشه بصدد عرضه.
وثمة أسلوب أكثر معقولية في تناول هذا الأمر، وهو السؤال عما تتوافق معه نظرية الحقيقة تحديدا؟ إذا قلنا: «الواقع»، فهذا بمفرده لا يحتوي على معرفة؛ إننا نريد أن نعرف شيئا عن مضمون ما يتوافق معه، لكن هذا المضمون ينطوي فيما يبدو على فكرة التوافق نفسها. وقد أدخلت فكرة «التوافق» غير المفهومة على نحو مثير للجدل في شيء مفهوم تماما، أعني الشعور اليومي بالحقيقة؛ فنحن جميعا على دراية بما تعنيه «الحقيقة»، حتى إن كنا لا نتفق على «ما» هو حقيقي؛ فلو لم نكن على دراية بمعنى «الحقيقي»، ما وصلنا إلى نقطة الاختلاف. والدراية موضع النقاش هنا هي حالة أخرى من «الحدس»؛ فمحاولة استثمار هذه الدراية وتحويلها إلى دعوى معرفية دائما ما تفترض فهما سابقا لا يمكن تحليله على نحو قاطع، وستكون هذه النقطة حاسمة لدى هايدجر، ولا يبدو دائما أن نيتشه قد فهمها. والقضية الأساسية هنا هو كيفية الاستجابة لما يبدو أنه خارج حدود ما يمكن للفلسفة أو العلم تفسيره. وبالطبع، فإن الحالة الأوضح لهذه القضية في الحداثة هي علم اللاهوت.
بعد الإله؟
يضع نيتشه يده على جوهر العلاقة بين علم اللاهوت والحداثة في هذا المقطع الصغير المحكم من «العلم الجذل»: «صراعات جديدة»:
بعد أن مات بوذا استمروا في إظهار ظله لقرون في كهف - ظل ضخم مخيفا. مات الإله، لكن نظرا للطريقة التي جبل عليها البشر ربما ستظل توجد كهوف لآلاف السنين يعرض فيها ظله، وعلينا نحن أيضا الانتصار على ظله!
إن التغلب على ما كان ولا يزال يعنيه «الإله» لن يتأتى على سبيل المثال من خلال حجة فلسفية قاطعة، ولا من خلال تقدم العلم؛ ف «ظل الإله» لا يمكن أن يكون حاضرا بسهولة إلا في «علموية» إلحادية غير ناقدة، يمكن أن يختزل فيها في النهاية الوصف الحقيقي لكل شيء في العالم - بما فيه الفن والأخلاق - في قوانين علمية، على غرار ما في علم اللاهوت التقليدي. والفرضية في كلتا الحالتين أنه ثمة منظور مطلق يمكننا من الفرار من المصادفة والمحدودية.
أخفق نيتشه مرارا وتكرارا حتى في مرحلة نضجه الفكري في إيصال فكرته هنا؛ ففكرته عن «إرادة القوة»، التي ترى أنه لا توجد ذات حرة الإرادة، وإنما هي مجرد تجسيدات للطريقة التي يسيطر بها كم من القوة على كم آخر في جزء من الطبيعة، هي في الحقيقة مجرد رؤية ميتافيزيقية قريبة الصلة بالإرادة لدى شوبنهاور. وينطبق الأمر نفسه على فكرته عن «التكرار الأبدي»، التي تقترح أن العالم سيظل يتكرر على المنوال نفسه تماما في المستقبل - والفكرة أنه يتعين على المرء إقرار الحياة كما هي عن طريق ابتغاء هذا التكرار. وتنطوي تلك النظريات على رغبة في التوصل إلى معرفة قاطعة لما يمكن أن تفهم عليه ماهية الجنس البشري والعالم. وتحجب هذه الرغبة احتمالية أن يكون ما نحن عليه هو أيضا ما يمكن أن نصير عليه، الأمر الذي يتركنا عرضة للمصادفة على النحوين الإيجابي والسلبي. وتعد استجابات نيتشه المبتكرة للمصادفة في مواضع أخرى في أعماله أحد الأسباب التي تعلل لماذا قد يعتاد شخص على سبيل المثال في الفلسفة الحديثة - ربما كان في بعض الأوقات رجعيا وكارها للنساء ومعاديا للديمقراطية - أن يؤيد ثقافة ديمقراطية لخلق الذات، وأن يشكك فيما إذا كان لدى الناس هوية جنسية أساسية. وعليه، فإن الأزمة الفلسفية الأساسية المشار إليها في عمل نيتشه هي أن محاولة الإعراب في نظرية فلسفية عما كان سيبدو عليه العالم لو خرجنا في النهاية من ظل الإله، يمكن أن يعني في ذاته الوقوع مجددا تحت ذلك الظل، وسوف يتكرر وقوع هذه الأزمة في الفلسفة الألمانية في القرن العشرين.
شكل : نيتشه على فراش المرض عام 1899 تقريبا، بريشة هانز أولد.
1
هوامش
الفصل السابع
الكانطية الجديدة والفلسفة التحليلية وفلسفة
الظواهر
الفلسفة الأكاديمية
لا وجود في القرن التاسع عشر للانقسام القائم في الفلسفة المعاصرة بين الفلسفة «الأوروبية/القارية» والفلسفة «التحليلية»، ولكن طبيعة هذا الانقسام غير واضحة على الإطلاق، باستثناء ما نجده من إخفاق بعض الفلاسفة - وليس كل الفلاسفة - من كلا «الجانبين» في مناقشة المفكرين من «الجانب» الآخر. ولعل أفضل أسلوب لدراسة هذا الانقسام هو النظر إليه باعتباره سلسلة من المناهج المتعارضة في تناول الأسئلة الفلسفية الحديثة، وليس مجرد قضية واحدة، ويتضح هذا التعارض في مشهد الفلسفة الأكاديمية الألمانية من زمن نيتشه تقريبا حتى الاحتلال النازي عام 1933. وتتباين العلاقة بالفلسفة الجامعية للمفكرين الذين درسناهم حتى الآن؛ فبعضهم كالرومانسية المبكرة وماركس ونيتشه في أخرياته، لم يتقلد مناصب جامعية، وآخرون مثل شيلينج وهيجل تقلدوا. وخلال أواخر القرن التاسع عشر، أصبح البحث الجامعي - ولا سيما في العلوم الطبيعية - أكثر تنظيما وتخصصا من الناحية المنهجية، واضطر الفلاسفة على نحو متزايد إلى الرد على أسئلة تتعلق بمكانة الفلسفة كفرع من فروع العلم. هل الفلسفة هي مفتاح العلوم الطبيعية، أم العكس؟ هل الفن أم العلم هو المحط الأساسي للرؤية الفلسفية؟ وأدت الردود المتضاربة على هذه الأسئلة إلى نوع من الانقسامات التي تميز الآن الانقسام الأوروبي/التحليلي المعاصر.
إن الأشكال الأساسية للفلسفة الجامعية الألمانية في الفترة التي نحن بصددها هي الكانطية الجديدة وبدايات الفلسفة التحليلية وفلسفة الظواهر. وكل هذه الأشكال تسعى بطرق مختلفة من الناحية التعليمية إلى ترسيخ دور الفلسفة بالنسبة إلى العلوم الطبيعية؛ فلماذا يمثل هذا محور تركيزهم الرئيسي؟ لقد انطوى عمل هيجل على صراع بين رؤية الفلسفة على أنها «تجسيد لفكر عصرها»، ورؤيتها على أنها الوصف المنهجي النهائي لعلاقة العقل بالعالم. تثير الرؤية الأولى قضية النسبية وأن ما هو حقيقي ليس سوى إجماع ثقافة معينة؛ إذا كان هذا هو الوضع، فإنه يمكن أن يضع مكانة الفلسفة موضع شك. أما الرؤية الثانية، فتنطوي على دعوى ميتافيزيقية قوية ستبقي على صدارة الفلسفة في علاقتها بالعلوم، لكن يبدو أنه لا يمكن الدفاع عن هذه الدعوى على نحو كبير في مواجهة النجاح المتزايد للمناهج التجريبية في العلوم الطبيعية، وقد كان من ملامح التأمل الفلسفي في هذه الفترة للعلماء الطبيعيين، أمثال هيرمان فون هيلمهولتز (1821-1894)، أنهم رفضوا الفلسفة النظرية لشيلينج وهيجل.
وعلى ضوء النجاح البين للعلوم، ربما يبدو أن ثمة سببا محدودا للمبالغة في الاهتمام بالمعضلات الإبستمولوجية؛ وهنا يتضح أحد مصادر الانقسام في التعاليم. يشترك نيتشه والبراجماتية الأمريكية في فكرة أن التساؤلات عن قيمة الحقيقة ينبغي في الغالب أن تتخطى الهموم الإبستمولوجية. ويقترح ويليام جيمس أن الحقيقة هي «المسمى الذي نطلقه على كل ما نؤمن أنه يثبت صحة نفسه بنفسه.» وسيختلف معيار ما يثبت صحته حسب الظروف الثقافية المتباينة، وهذا ينحو بملاحظة جيمس منحى النسبية. ومع ذلك، فإن إجماع الآراء على الحقيقة غالبا ما يثبت خطؤه، وهذا الإجماع نادرا ما يكون على أية حال عالميا. ففي السياق الجامعي الألماني، صار كثير من الفلاسفة ينظرون إلى الافتقار لوصف فلسفي نهائي للحقيقة العلمية على أنه يشير إلى «أزمة أسس» في العلوم، فإذا أمكن إظهار أن العلوم تحتاج إلى إجازة فلسفية، فإن المكانة المعرفية للفلسفة ستكون بالطبع مصونة، لكن ثمة غموض هنا، وهي مسألة لها عواقب هائلة فيما يتعلق بالانقسام الأوروبي/التحليلي. هل المشكلة في الواقع هي التعزيز الفلسفي لحقيقة العلوم من حيث مقولات كانط أو «منطق الكشف العلمي» على سبيل المثال، أم هي بالأحرى علاقة العلمي بالاستجابات الأخرى للواقع؟ الأولى هي أزمة أسس إبستمولوجية، والثانية هي أزمة أسس أهداف الحياة الحديثة. وفي الواقع، العلاقة بين هاتين الأزمتين ليست واضحة في ذاتها.
الكانطية الجديدة
تظهر ازدواجية الأزمة في كيفية إحياء شخصية كانط في «الكانطية الجديدة»، ويصبح سؤال الإبستمولوجيا هو محور التركيز الأساسي لمفكرين أمثال هيرمان كوهين (1842-1918) وبول ناتورب (1854-1924) وأرنست كاسيرر (1874-1945)، الذين غالبا ما يطلق عليهم مسمى «مدرسة ماربورج»، وكان همهم الأساسي هو إعادة تفسير العلاقة بين رؤية كانط الفلسفية والعلوم الطبيعية في ضوء الاكتشافات العلمية الجديدة، مثل نظرية النسبية لأينشتاين، على الرغم من أن كاسيرر على وجه الخصوص سوف يتناول في النهاية قضايا أوسع، في أعمال مثل «فلسفة الأشكال الرمزية» (1923-1929). وقد اهتم أيضا بالإبستمولوجيا الممثلون الأساسيون للكانطية الجديدة في «الجنوب الغربي»، وهم فيلهيلم فيندلباند (1848-1915) وهاينريش ريكرت (1863-1936) وإيميل لاسك (1875-1915)، لكنهم رأوا مقولات كانط من حيث كونها «المعايير» الحاكمة لصحة الدعاوى المعرفية وغيرها. وتظهر المشكلة الأكثر بروزا لأهمية الكانطية الجديدة في تفرقة فيندلبولد بين البحث التفسيري «الناموسي» في الظواهر المحكومة بالقوانين، والبحث «الإيديوجرافي» في فهم الظواهر التاريخية الفردية التي لا يمكن إدراجها تحت القوانين العامة.
إذا كان يمكن للفلسفة حقا أن تقدم وصفا لشروط إمكان المعرفة، فستكون فرعا معرفيا متصدرا المرتبة الأولى، بينما ستكون العلوم الجزئية فروعا معرفية في المرتبة الثانية. ومن ثم، تحاول الكانطية الجديدة إرساء مكانة الفلسفة عن طريق التأمل في قضية «شروط الإمكان». ومفهوم أن التفكير يعمل بالضرورة بمفاهيم سابقة ليس استثنائيا، لكن هل هذه الهياكل اللازمنية تخص جميع الكائنات العاقلة، أم هي تقييمات مولدة اجتماعيا؟ وإذا كانت الثانية، فهل تظل ثابتة، أم تتغير بتغير الظروف؟ وكيف يتصل الفكر الذي يحدد الشروط المسبقة بالشروط المسبقة نفسها، دون إطلاق دعاوى دوجماتية ودون الانتهاء إلى تسلسل من الشروط المسبقة؟ ولماذا، على الرغم من ذلك، لا نسقط النظريات الفلسفية البالية ونعتمد على علم يمكن تبريره؟ هذه الأسئلة كانت ستحظى بجواب لو كان ثمة أساس يحدد مكانة الفلسفة، سواء كان هذا الأساس هو الذات المتعالية أم حقائق العلم المؤكدة على أفضل وجه. (يقود التساؤل الأخير بعض المفكرين إلى الفكرة المختلف عليها كثيرا في ضرورة اكتشاف شروط المعرفة عن طريق علم النفس.) ويبدأ أحد جوانب هذا الانفصام بالذات كأساس، في حين يبدأ الآخر بالموضوع. ويعكس هذا الموقف الذي أدى بهيجل إلى محاولة تفادي أي أساس ذاتي أو موضوعي «مباشر»، ولسبب ما اتجه فيندلباند في حياته المهنية فيما بعد نحو الهيجلية التي كان يزدريها سابقا.
ولأن العلوم الفيزيائية تقدم مزيدا من الإجابات القابلة للاختبار لما كانت ولا تزال أسئلة فلسفية، فإن العلوم الإنسانية «الإيديوجرافية» قد تبدو فاقدة للدقة «العلمية»؛ ومن ثم يطالب فيلهيلم دلتاي (1833-1911) ب «نقد العقل التاريخي»، الذي سيؤسس مناهج لإنصاف تفرد الظواهر الثقافية. ومع ذلك، ذهب آخرون إلى رؤية الحقيقة فقط من حيث ما يمكن إثبات صحته تجريبيا في العلوم، مستثنين علم الأخلاق وعلم الجمال من عالم الحقيقة بالكلية، وغالبا ما يسمى هذا الموقف في السياق الألماني ب «الوضعية». ويوحي تزامن هذه الرؤية المتطرفة مع القدرة التدميرية الهائلة لتطبيق العلوم، التي تجلت أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها؛ بالسبب في أن بعض الفلاسفة الألمان سوف يرون الوضعية باعتبارها مرتبطة على نحو خطير بالجانب المظلم من الحداثة. لذلك، فإن الفجوة بين ما يمكن أن تفعله العلوم وقدرة البشر على استخدامها للصالح العام، هو أمر ضروري لفهم الصراعات التي شابت الفلسفة الألمانية خلال القرن العشرين. «المنحى اللغوي» الثاني
إن النقاط التي سوف نستعرضها هنا في عجالة تمثل التطورات الفلسفية المهمة في ألمانيا في أواخر القرنين التاسع عشر والعشرين، وذلك من منظور جانب كبير من أنصار الفلسفة الأنجلو-أمريكية في القرن العشرين. ولكن، ثمة أسباب للتشكك في المنظور الأنجلو-أمريكي تشير إليها دعوى الفيلسوف النمساوي موريتس شليك عام 1932 أن:
مصير «المشكلات الفلسفية» كالآتي: بعضها سوف يختفي ببيان كونه أخطاء وسوء فهم للغتنا، والآخر سوف يختفي ببيان كونه أسئلة علمية عادية متخفية، وهذه الملاحظات - على ما أعتقد - تحدد مستقبل الفلسفة ككل.
إن هذه الملاحظة يمكن على نحو لا ينكر أن يكون نيتشه قد أبداها في «إنساني مفرط في إنسانيته»، والفارق هو أن شليك جزء من حركة مدفوعة أيديولوجيا افتقرت إلى الإدراك المشتت على نحو لا ينكر لدى نيتشه في أخرياته؛ لكون المرء ربما لا يزال يفكر في «ظل الإله» عن طريق محاولة الإتيان بطرق نهائية لتفادي «المشكلات الفلسفية». وحتى الآن لم يفعل «مستقبل الفلسفة ككل» شيئا سوى تأكيد نبوءة شليك؛ فبعض الفلاسفة التحليليين المعاصرين، على سبيل المثال، يحاولون مجددا تقديم أجوبة للمشكلات الميتافيزيقية. فما الذي غير مجريات الأمور إذن؟
يبدو أن الأهداف المعادية للميتافيزيقا لدى كثير من مؤسسي الفلسفة التحليلية المتحدثين باللغة الألمانية قد وضعتهم في معسكر نيتشه نفسه، كما أن بعض معاصري شليك، من أمثال أوتو نيورات، كانوا متأثرين بنيتشه (وماركس). وقبيل عشرينيات القرن العشرين، كان من المفهوم تماما الشعور بالحاجة إلى الفلسفة التي تستخدم العلم القابل للاختبار للرد على الأفكار اللاعقلانية التي كانت مميزة للفاشية. ومع ذلك، لا داعي للربط بين جوهر الفكرة التحليلية التي ترى أن مشكلات الفلسفة يجب أن تدرس من حيث التحليل اللغوي، والموقف العلمي المعادي للميتافيزيقا. وعلاوة على ذلك، فقد كانت الفكرة الأساسية في أن فهم اللغة محوري للفلسفة المطروحة بالفعل من قبل هامان وهيردر، وهنا تبرز قضية حيوية؛ لأن مفكري «المنحى اللغوي» الأول لديهم رؤية مختلفة جدا عن ماهية اللغة؛ فاللغة بالنسبة إلى هامان وهيردر هي شكل التعبير عن كل ما يفترض أن يكون إنسانيا، الأمر الذي يعني أن التعبيرات الجمالية على سبيل المثال يمكن أن تكون في أهمية الإفادات الواقعية. ويتضح اختلاف مقاربتهم عن المقاربة التحليلية إذا نظر المرء إلى ما سيصبح هو الفكرة الحاسمة عن اللغة في الفلسفة التحليلية.
عبر عن هذه الفكرة للمرة الأولى الفيلسوف التشيكي برنارد بولزانو (1781-1848)، ويظهر في دعواه أن «التمثيل الموضوعي الذي تدل عليه أية «كلمة» يكون مفردا ما دامت هذه الكلمة غير غامضة»، ولا يمكن أن تكون الأحداث العقلية الجزئية بطبيعتها لأي فرد تجريبي هي أساس وصف لفكر ومعنى؛ لأنه لا يمكن التعبير عن المعاني دون اللغة، التي هي الوسيط العام لمشاركة الأفكار بين الأفراد؛ ومن ثم يجب أن تكون المعاني موجودة بطريقة ما «في العالم». والسؤال الأهم هو: كيف سيفهم ذلك؟ ففكرة أن المعاني موجودة في العالم قد تجعل المعاني موضوع نظرية مماثلة للنظرية العلمية، ومن هنا تأتي فكرة بولزانو أن المعاني هي «تمثيلات موضوعية» تدل عليها الكلمات، وليست شكلا عارضا وذاتيا.
إن مصير هذا المنهج «الدلالي»، والذي يشكل لب ما يمكن تسميته بدقة الفلسفة التحليلية، مرهون بشرط «ما دامت هذه الكلمة ليست غامضة». فكيف يعرف المرء أن الكلمة غير غامضة؟ من المفترض أن هذا الأمر يجب إثباته عن طريق تعريف المعنى الحرفي للكلمة، ومع ذلك فمن الجائز قول: إن كثيرا من تاريخ الفلسفة التحليلية يتضمن سلسلة من الإخفاقات في تحقيق ذلك. وإذا حدد شخص المعنى عن طريق استخدام كلمات أخرى، فيجب تعريف هذه الكلمات بدورها باستخدام كلمات أخرى، الأمر الذي ينذر بتسلسل من الكلمات المعرفة لكلمات. وقد أشار كانط بالفعل إلى هيكل المشكلة هنا عندما ذكر أن الحكم لا يمكن أن يعتمد فقط على تطبيق القواعد، وإذا أراد شخص أن «يميز إن كان شيء ما يندرج تحت القاعدة أم لا، فهذا لا يتأتى إلا من خلال قاعدة أخرى»، الأمر الذي يؤدي إلى تسلسل من قواعد القواعد. وعلاوة على ذلك، إذا كانت القاعدة الأولى مطلوبة لمعرفة ماهية المعاني، فسوف يتعين على الأطفال - كما أوضح شلايرماخر منذ أمد طويل - أن يكونوا قادرين على تعلم القواعد حتى قبل أن يعرفوا أي كلمات ، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الأطفال يتعلمون اللغة بسهولة ملحوظة، فإن فكرة أن المعنى يمكن تحديده عن طريق تعلم قواعد لا يمكن أن تكون صحيحة؛ وهذا يقودنا نحو «براجماتية» اللغة، فكرة أننا نتعلم كيف نستخدم الضجيج لتحقيق أهدافنا، بدلا من تعلم قواعد المعنى.
الحل المفترض الآخر للمشكلة الدلالية هو أن تكون لديك فئة من الكلمات أو الألفاظ التي يكون معناها «محددا» إلى حد ما بطبيعتها. ومثال ذلك الكلمات التي لها مرادفات متطابقة، والعبارات التي تشير بصورة مباشرة إلى ما تدل عليه في العالم. وكما رأينا في الفصل الثاني، فالأولى هي ما هو مضمن في الجمل «التحليلية»، مثل: «الأعزب هو رجل غير متزوج»، المتميزة عن الجمل التجريبية «المركبة». وكما اقترح شلايرماخر سابقا، وطرحه كواين مرة ثانية في خمسينيات القرن العشرين، إذا كان لا يمكن الدفاع عن المكانة المنطقية الخاصة المنسوبة للجمل التحليلية، فإن المشروع التحليلي المبكر القائم على إرساء نظرية للمعنى تستند فقط إلى الحقائق المنطقية والعبارات العلمية التجريبية؛ محكوم عليه بالفشل. ومن ثم، يجب أن يكون استخدام اللغة كليا حتى تكتسب الكلمات معانيها عن طريق علاقاتها بالممارسات الإنسانية، وعن طريق تحويل العلاقات إلى كلمات أخرى. ويلخص شليك البديل التحليلي الثاني: «يجب أن نربط الكلمات ربطا مباشرا بالتجربة في شكل إشارات، ويقبع المعنى كله في النهاية في المعطى.» ولكن هذا الأمر لا يجدي، وذلك للسبب الذي أشارت إليه فكرة «التأمل» لدى هيردر؛ فاللغة تمكننا من رؤية الشيء كعدد غير محدد من الأشياء. ومجرد الإشارة إلى شيء لا يوصل المعنى الذي يقصده الشخص القائم بالإشارة.
لا تلعب الفلسفة التحليلية الدور الرئيسي في الفلسفة الألمانية للقرن العشرين، إلا أن جوتلوب فريجه (1848-1925) كان له إسهام جوهري في تطورها؛ فقد حقق فريجه إنجازات رائدة في المنطق عن طريق تحوله عن الأشكال الأرسطية لمنطق الموضوع- المحمول، إلى منطق «قضوي» (حسب القضايا). فالأول يبدو عاجزا عن التعامل مع عبارات من قبيل: «أحاديو القرن لا وجود لهم»؛ لأن هذه العبارات يجب أن تحلل حتى لا ينتمي الوجود المحمول إلى «أحادي القرن» الموضوع. وفي هذه الحالة، «ما» هو الذي ليس له محمول، إذا أخذنا في الاعتبار أنه غير موجود؟ أما منهج فريجه القضوي، فيعيد صياغة هذا بلغة «يوجد «س» بحيث إن «س» هو/ليس هو أحادي القرن». فبدلا من البحث عن أحادي القرن للنظر فيما إذا كان يمكن إعطاؤه المحمول «الوجود»، ينظر المرء - كما قد اقترح أرنست توجندهات - إلى الأشياء الموجودة ليرى إن كان الوصف «أحادي القرن» يمكن أن ينطبق عليها. وتكمن قيمة هذا المنهج في قدرته على بيان التغيرات في المعرفة، عندما - على سبيل المثال - يتوقع ما يحرق عن كونه فلوجيستون، ويصبح أكسجينا. ويقدم فريجه أيضا تفرقة لا تزال موضع نزاع بين «المعنى» و«المرجعية» والتي يوضحها عن طريق مثال كوكب الزهرة؛ فبالنسبة للأقدمين كان هذا الكوكب نجمين، نجم النهار ونجم الليل، ومرجعية هذين اللفظين واحدة، لكن معنيهما مختلفان. وتكمن المشكلة هنا في توضيح فكرة «المعنى» التي يجب أن تتغلب على المشكلة التي رأيناها مع «التمثيل الموضوعي» لدى بولزانو، والتي هي مكافئة له بدرجة كبيرة؛ فقد ووجهت محاولة تعريف المعنى بمشكلة التسلسل المشار إليها آنفا، الأمر الذي أدى إلى الرغبة في فئة خاصة من الكلمات يكون معناها غير غامض.
يظهر التطور الآخر للفلسفة التحليلية في النصف الأول من القرن العشرين في الغالب في بريطانيا والنمسا، ولا سيما في عمل برتراند راسل وجي إي مور ولودفيج فيتجنشتاين و«حلقة فيينا» - وهي مجموعة من الفلاسفة والعلماء الطبيعيين الذين بدءوا الاجتماع في فيينا في عشرينيات القرن العشرين، وثمة حلقة مماثلة في برلين سيصبح بعض أعضائها، أمثال هانز رايشنباخ، ذوي شأن في الولايات المتحدة، وقد أصبحت أفكارهم في النهاية سائدة في كثير من أنحاء العالم. ويعزى هذا في جانب منه إلى أن كثيرا من أعضاء الحلقة نفاهم النازيون، بينما يعزى في جانب آخر إلى افتراضهم أن الفلسفة ينبغي أن تكون توافقات علمية؛ نظرا للهيمنة المتزايدة للعلوم في العالم الأكاديمي. ومع ذلك، فلم يعد الآن مشروع حلقة فيينا لمزاوجة الفلسفة والعلم الطبيعي من خلال نظرية المعنى هو محور التركيز الأكبر للنقاش في الفلسفة الأنجلو-أمريكية. (حالة فيتجنشتاين معقدة، ولم يلعب عمله دورا كبيرا في الفلسفة الألمانية على وجه التحديد حتى سبعينيات القرن العشرين.) ولم تصبح المناهج التحليلية مهمة في الحياة الفلسفية الألمانية إلا من خلال عمل أرنست توجندهات وكارل أوتو أبل في ألمانيا منذ سبعينيات القرن العشرين. وحتى ذلك الوقت، كانت فلسفة الظواهر هي التي تشكل مع الكانطية الجديدة محور التركيز الرئيسي للفلسفة الأكاديمية.
هوسرل وفلسفة الظواهر
تكمن أهمية فلسفة الظواهر في تحدياتها لفرضية أن التفسير السببي في العلوم الطبيعية لن يترك شيئا للفلسفة في النهاية لتقوم به، ولا شك أن المناهج التحليلية تحد من نطاق تركيز الفلسفة وتستبعد كثيرا من تعقيد خبرتنا بالعالم. فعلى سبيل المثال، ربما تسعى نظريات الزمن في الفلسفة إلى شرح الطبيعة الجوهرية للزمن أو شرح كيفية ارتباطه بالمكان، لكن هذه التفسيرات لن تكون بالضرورة ملائمة للطرق التي نعايش بها الزمن. ويؤسس إدموند هوسرل (1859-1938) عمله على فكرة أن الفلسفة لم تعبر بطريقة ملائمة عن الطرق التي يقدم بها العالم نفسه إلينا، فهذه الطرق تتطلب منهجا يوضح الكيفية التي نعايش بها الوقت، ليس كتتابع من «الآنات» المنفصلة، بل كبنية من التوقعات والخبرات المحفوظة التي تشكل «معنى» الوقت بالنسبة لنا.
عمل هوسرل في فترة كان فيها «المذهب الحيوي» - فكرة أن الحياة إما تفوق التصورات التي نستخدمها لفهمها، وإما هي مقاومة بطبعها للتصور - يلعب دورا مهما في الحياة الثقافية، وهذا لأسباب أهمها أحداث من قبيل الحرب العالمية الأولى، التي تظهر طبيعتها الكارثية على ما يبدو إخفاق الفكر في فهم طبيعة الواقع الحديث. ويكمن جوهر المذهب الحيوي في مسألة الحدس لدى شوبنهاور ونيتشه، وتظهر ملامح من الفكرة لدى دلتاي، ولدى مفكرين أمثال لودفيج كلاجيز (1872-1956). ومن الأهمية بمكان أن انتقادات الأخير للعقلانية والتكنولوجيا الحديثة من حيث تأثيراتهما السلبية على «الحياة» تصاحبها نفس الانتماءات السياسية المشكوك فيها. وتسعى فلسفة الظواهر لدى هوسرل - على عكس الكثير من مقاربات المذهب الحيوي لعدد من القضايا نفسها - إلى إيجاد طرق جديدة لوصف الخبرة في فلسفة يمكن تبريرها عقلانيا، ثم يدرك الأهمية الثقافية الأوسع نطاقا لمنهجه في مقابل التطور الكارثي المتزايد للتاريخ الأوروبي في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.
وثمة صراع بالغ لدى هوسرل بين المقاربة المتعالية للأشكال الأساسية للخبرة والمقاربة الوصفية التي تصير على نحو متزايد تاريخية التوجه في عمله اللاحق. ويبدأ الصراع في الظهور عندما يقتنع هوسرل بأن محاولاته المبدئية لاستقاء المنطق والرياضيات من القوانين الحاكمة لعمل العقل تنطوي على «سكلجية» - أي الخلط بين ما هو راسخ في فرع علم تجريبي والشروط المنطقية لقابلية أي علم للفهم، بما في ذلك علم النفس ذاته. ويقربه رفض السكلجية من فريجه وأفكار الفلسفة التحليلية، لكن لا بد من وجود قوانين منطقية نهائية لكي تكون الاعتراضات على السكلجية لا لبس فيها، وهو أمر توحي حجج شلايرماخر وكواين بشأن القضايا التحليلية أنه يمكن التشكيك فيه. ويزداد تعقيد منهج هوسرل باعتماده على فكرة «الموقف الطبيعي»، الذي ينطوي على خبرات «بديهية»، أو «ممنوحة بالأصل»، والتي دونها ستكون الخلافات الهادفة مستحيلة؛ لأن هذه يمكن أن تبدو منتمية إلى عالم علم النفس.
لكي يتحقق استقلال الفلسفة عن العلم الطبيعي، كان يتعين على هوسرل أن يستبعد من الفلسفة كل ما يمكن شرحه بألفاظ محكومة بالقانون، ومن ثم عنوان عمله الذي ربما كان الأكثر تأثيرا «أفكار تجاه علم ظواهر خالص وفلسفة ظواهرية» (1913). ونقطة انطلاقه هي «القصدية»؛ أي «دوران» الفكر، الذي يحلله بطرق جديدة مؤثرة. وهو يرى أننا يجب أن «نعلق» (فيما أسماه «الإبوخيه»؛ أي التوقف عن الحكم وتعليقه) ما نعرفه عن موضوع البحث من أجل أن نصف البنى المحضة للوعي المتضمنة في ذلك الموضوع. وكما أوضح كثيرون - من جاك دريدا على الجانب الأوروبي إلى مايكل دوميت وأرنست توجندهات على الجانب التحليلي - تواجه هذه الفكرة مشكلة خطيرة باعتبارها وصفا للجوانب الداخلية المحضة من الوعي، فلكي تكون الفكرة معقولة، يتعين إيصالها بلغة بين ذاتية لا داخل الذات.
لكن تلك الانتقادات أخفت أحيانا جوانب هوسرل الأكثر رسوخا، التي أثرت في هايدجر وسارتر وغيرهما كثير، وليس فقط في الفلسفة. وأحد الجوانب الحيوية هو ما قدمه من بديل للتجريبية التي هيمنت على كثير من الفلسفة التحليلية حتى وقت قريب، والتي تمثل «معطيات الحس» بالنسبة لها «المعطى» الأساسي، ومنها يفترض أن تبنى المعرفة. وتؤكد أوصاف هوسرل للإدراك (لا يوجد نموذج واحد نهائي) حقيقة أن الخبرة يجب أن تفهم من حيث معانيها؛ فكل نوع من الوعي ينطوي على علاقة بين نمط أو أنماط من الانتباه، ومادة من العالم. والثاني لا يمكن اختزاله في الأول، لكن دون الأول لا توجد طريقة لتفسير كيف نحيا في عالم له دلالات مباشرة، بدلا من العالم كما ينظر إليه في العلوم الطبيعية؛ فالرؤية تنطوي في الواقع على فوتونات تسقط على الشبكية، الأمر الذي يمكن تفسيره بلغة القوانين العلمية، لكن لا يمكن تفسير خبرة رؤية شيء بتلك اللغة، وهي سابقة على التفسير العلمي وضرورية له. وتعني رؤية شيء أن ما يرى يقدم نفسه كشيء له دلالة؛ لأننا ندرك سبب حاجتنا إليه أو ما يذكرنا به وهكذا، ولا شيء من ذلك يمنح في شكل فوتونات وشبكيات.
تتضح أهمية استقراء هوسرل فيما يتعلق بحقيقة أن المعنى لا يمكن فصله عن الإدراك في عمله «أزمة العلوم الأوروبية وعلم الظواهر المتعالي» عام 1936؛ ففي هذا النص المتأثر بتلميذه هايدجر، ينتقل هوسرل مما كان مقاربة إبتسمولوجية في الأغلب لأزمة الأسس العلمية إلى مقاربة ترى الأزمة على أنها تتضمن أهداف الحياة الحديثة. وتنعكس الأزمة في العلوم في إخفاق الفلسفة في معالجة «أسئلة عن معنى أو لا معنى هذا الوجود البشري ككل»، ويؤدي هذا الإخفاق إلى تضييق نطاق التركيز في الفلسفة الذي يظهر في جوانب من نزوع الفلسفة التحليلية نحو العلمية.
وهنا تتضح الجذور المهمة للانقسامات المعاصرة بين المناهج التحليلية والأوروبية. ويوسع هوسرل نطاق فكرة «الموقف الطبيعي» ليشمل فكرة «عالم الحياة قبل وبعد العلمي»، وعالم الحياة «يضم في داخله كل الحياة الواقعية، بما في ذلك حياة الفكر العلمي»، ولم يكن من الممكن للموقف النظري الذي يميز العلم الحديث أن يتطور دون «ما هو طبيعي ... الذي يفترضه كل تفكير، وكل نشاط من أنشطة الحياة في جميع أغراضها ومنجزاتها». و«الممارسة النظرية» للعلم هي شكل من الممارسة «متأخر تاريخيا». وتكمن الأزمة في حقيقة أن هذه الممارسة أصبحت تهيمن على كل ما عداها؛ فالحداثة تنطوي على «ترييض الكون»، الأمر الذي يراه هوسرل قائما على تغيرات في مكانة الهندسة، فمن فرع معرفة عملي يستخدم لأغراض تقنية في عالم الحياة ينشأ فرع علم مهتم ب «عالم منغلق على ذاته من الموضوعيات المثالية». ويغير هذا العالم بدوره التكنولوجيا التي أحدثته عن طريق جعل الدقة الرياضية الطريقة المهيمنة للاستجابة للموضوعات في الطبيعة التي كان ينظر إليها سابقا من حيثية أكثر نوعية؛ وهكذا تصبح الطبيعة «رياضيات تطبق على نحو مخالف للعادة»، وتؤدي «حسبنة الهندسة» إلى «تفريغها من معناها». والمعنى المفرغ ليس هو المعنى كما يفهم في المشروع الدلالي للفلسفة التحليلية، بل هو الطريقة التي نسجت بها ممارسة الهندسة في عالم الحياة المعقد الذي يسكنه الناس. وهنا يمكن للمرء الوقوف على المضمون المهم لانقسام الفلسفة التحليلية/الأوروبية؛ فالأخيرة ترى المشروع الدلالي على أنه مجرد جزء صغير من علاقة الفلسفة السليمة بالثقافة الحديثة. ولا يزال هوسرل نفسه يحاول أن يعطي وصفا متعاليا لعالم الحياة (أي وصفا للبنى الضرورية له لكي يتشكل على النحو الذي هو عليه)، من النوع الذي قدمه فيما يتعلق بالموقف الطبيعي، لكنه يزداد إدراكا لحقيقة أن الوصف النظري الخالص الذي يبغيه يهدده الحدوث التاريخي، وأن هايدجر هو الذي يكشف التبعات الكاملة لمحاولة الحفاظ على الفلسفة بالنسبة إلى العلوم الجزئية، بينما يتصدى لآثار التاريخ الحديث على توصيفنا لأنفسنا وللعالم.
الفصل الثامن
هايدجر
مسألة «الوجود»
إن فكرة الأزمة في العلوم الحديثة غالبا ما يشكك فيها على أساس أنه على الرغم من أن هيروشيما ومعسكر أوشفيتز وغيرهما من الكوارث التي ولدتها التكنولوجيا ما كانت لتحدث دون العلم الحديث؛ فهي نتاج تطبيق العلم وليست نتاج «العلم نفسه»، وعادة ما يصاحب هذه الدعوى المحاجة بأن «القيم» - أي معايير الفعل - لا يمكن أن تكون مستمدة من «حقائق». وترجع أهمية وصف هوسرل فيما يتعلق بترييض الكون إلى ما يقترحه من طرق لتجاوز البديل المجرد الناتج لشيء «خاطئ»، سواء بالعلم أو بتطبيقه، حيث يؤدي الدفاع الحصري عن أي من البديلين إلى وصف غير معقول لمكان العلم في العالم الحديث. والفكرة هي أن العلوم ممارسات متصلة على نحو معقد بأنواع أخرى من الممارسة، والتي تتطلب جميعها تقييما لما «يستحق» القيام به، وهذا يعني - كما ذكر ماكس فيبر - أن العلوم لا يمكن أن تكون مشرعنة لذاتها؛ لأنها لا تقدم معايير موضوعية لتطبيقها، ومن ثم فالتبرئة غير المتأملة ل «العلم» ربما تكون استجابة غير ملائمة لفهم دور العلم الحديث. وفكرة أن العلوم لها قيمة لأنها تتيح ما لا يمكن لغيرها أن يتيحه هي أمر لا يرقى إليه الشك، لكن ما تتيحه العلوم يمكن أيضا أن يكون ضارا ومدمرا. وبدلا من الافتراض ببساطة أن القيمة الأساسية للعلوم هي أنها تقدم «رؤية من لا مكان»، وهو وصف نظري موضوعي بحت، فإن السؤال الأولى هو: لماذا يجب النظر إلى تلك الرؤية على أنها الهدف الجوهري للعلوم؟ وكما يرى هوسرل، فإن هيمنة نموذج الموضوعية الخالصة القائم على الرياضيات هو ظاهرة تاريخية حديثة.
شكل : مارتن هايدجر.
1
شكل : معسكر أوشفيتز.
2
إن انتقال هوسرل من عمله الأكثر تخصصا عن المنطق والإدراك إلى تساؤلاته عن طبيعة العلم والثقافة الحديثة هو في المقام الأول نتيجة لتأثير أفكار تلميذه مارتن هايدجر (1889-1976)، وما كان هايدجر بدوره ليصل إلى أفكاره من دون هوسرل، لكنه يحول الأفكار التي يتبناها بأساليب مهمة ومثيرة للجدل. ويتضح تعقد علاقة الفلسفة بالحداثة على نحو أكبر في حالة هايدجر؛ فقد انضم هايدجر إلى الحزب النازي عام 1933، حيث كان ينظر إليه على أنه يقدم نهجا جديدة في تناول تحديات العالم المعاصر لألمانيا، وتركه عام 1945، ولم يعتذر صراحة قط لا عن عضويته ولا عن بعض ما قام به في فترة الحكم النازي، مثل الإبلاغ عن زملائه للسلطات. وعلى الرغم من ذلك، فإن عمله يقدم في الوقت نفسه وسائل نقدية مهمة لفهم كيفية ارتباط الفظائع التي ارتكبها النازيون بدور التكنولوجيا في الحداثة.
لماذا إذن لا تزال فلسفة هايدجر تحظى بهذه الدرجة من الأهمية رغم السقوط الأخلاقي والسياسي الفج لواضعها؟ قضى هايدجر جانبا كبيرا من حياته متسائلا عما يعنيه «الوجود»، ولم يتمكن من إعطاء إجابة فاصلة، ويرجع هذا الأمر في جزء منه إلى عدم وضوح الكيفية التي سيفهم بها السؤال، وصعوبة إيضاح السؤال جزء من مغزاه. فالأسئلة عن معنى الوجود
Sinn des Seins
يجب أن تجيب أولا على حقيقة أن معاني الألفاظ في تلك الأسئلة ليست بديهية أو واضحة في ذاتها؛ فكلمة
Sinn
يمكن أن تدل على «معنى» كما في «معنى الحياة»، والذي يحمل دلالة «التوجه» أو «الهدف» أو «الغرض»، أو يمكن أن تدل فقط على ما نشير إليه عندما نشير إلى معنى كلمة. و
Sein
في عنوان كتاب هايدجر الأقوى تأثيرا «الوجود والزمن»
Sein und Zeit
عام 1927، يمكن أن تكون اسما وفعلا على حد سواء. وعلاوة على ذلك، فإن معاني «الوجود» ليست مباشرة؛ فعلى سبيل المثال: القول بأنه «توجد حياة على الأرض» ينطوي على معنى مختلف للوجود عن ذلك الذي ينطوي عليه القول بأن محمولا يخص شيئا، كما في: «هذا الكتاب أزرق»، أو القول بأن شيئا ما هو نفسه شيء آخر، كما في: «نجم الصباح هو نجم الليل»، فهل هذه المعاني بينها قاسم مشترك يمكن إدراجه تحت العنوان الوحدوي «الوجود»، أم ينبغي أن يفهم الوجود بدقة على أنه متشعب بطبيعته؟
تأثرت استكشافات هايدجر بفكرة أن «الوجود» يعني شيئا من قبيل «كونه معقولا»، ويمكن أن تكون الأشياء معقولة بطرق كثيرة. ونحن لا ننشأ في عالم خال من المعنى نخلع عليه فيما بعد معنى، فالعالم الذي نعيش فيه هو دوما ذو معنى بمفهوم هايدجر، وذلك لأسباب أهمها أننا علينا أن نتوافق معه لنظل على قيد الحياة. ولا يمكن لأسئلة فلسفية من قبيل سؤال لايبنتز: «لماذا يوجد شيء بدلا من لا شيء؟» والتي كان شيلينج قد بدأ يطورها إلى الفكرة الوجودية بحدوث جميع الوجود؛ أن تنشأ إلا في حالة وجود شيء من الفهم لما ينبغي أن يكون عليه العالم. ومن ثم، فالمهمة المبدئية هي تحديد ملامح ذلك الفهم، الذي يظن هايدجر أن الفلسفة الغربية قد نسيته. وتتضح أهمية فعل ذلك إذا أمعن المرء النظر في مثال للأساليب المتعارضة التي نرى بها ماهية الأشياء؛ فعندما نعجب بالسماء الزرقاء في يوم صيف صحو، سوف يختلف إدراكنا لزرقة السماء عن إدراك الفيزيائي الذي يشرح السبب في ظهور السماء زرقاء، ويمكن أن يبدو تفسير الفيزيائي على أنه الأساس الواقعي لما ندركه، وهو كذلك بالفعل، إذا كان هدفنا هو فهم الطبيعة باعتبارها نظاما من القوانين التفسيرية. لكن يتضح من الحقيقة البسيطة، التي مفادها أن الناس عاشوا لألف سنة دون معرفة مبررة لسبب زرقة السماء، أن فهم الوجود الذي يقدم تفسيرا ليس هو النوع الوحيد من الفهم؛ فلماذا مثلا لا يمكننا أن نقر بجمال السماء الزرقاء، أو نترجم تجاوبنا معها في لوحة تسعى إلى تسجيل زرقتها، وهي زرقة لا يتضمنها اللون كحقيقة موضوعية، بل بالأحرى في موضع الزرقة من عالم الدلالات؟ تتجلى تداعيات تلك المواقف المتغايرة عندما يحذر المفكرون الرومانسيون من تداعيات اختزال الطبيعة في كونها مجرد موضوع يشرحه العلم الحديث. وعلى غرار ما ذهب إليه هوسرل في «أزمة العلوم الأوروبية»، يرى هايدجر دورا فارقا للفلسفة في فحص الافتراضات والممارسات العامة التي دونها ستكون محاولات الموضعة التي تجلبها العلوم مستحيلة، ولا أحد منها يتبنى موقفا «مضادا للعلم»، فهي إنما تحاول تفسير العلوم على أنها تقدم أسلوبا واحدا لفهم الوجود، الأمر الذي لا يعد بالضرورة الأساس النهائي لجميع أنواع الفهم الأخرى. وهذه المقاربة هي التي مكنت هايدجر من ابتكار أسئلة حيوية بشأن الحداثة، حتى وهو يسيء الحكم على نحو كارثي على بعض تجسيداتها الأكثر هدما.
مفهوم «الكائن هنا» والتفسير
تنطوي فكرة أشكال الفهم الأساسية التي يجب أن تسبق التفسير العلمي على نوع آخر من «الحدس». وتوضح فكرة هوسرل عن «الحدس المقولي» من عمله «أبحاث منطقية» (1900-1901) لماذا يلعب الحدس دورا مهما في هذا السياق، فما كنا لنستطيع بحث الموضوعات في العالم لو لم نفهم طرق الوجود التي لا يمكن فهمها كإدراكات للموضوعات، فالمرء لا يميز الفرق بين (أ) و(ب)، بل يميز (أ) ثم (ب). في «الحدس الحسي» يرى الورق الأبيض، و(أ) و(ب)، وفي «الحدس المقولي» يفهم المرء الورق «على أنه» أبيض، ويستوعب العلاقة أو «الوضع» «(أ) و(ب)». ولا يمكن إدراك ما تنقله كلمات من قبيل «واحد» و«ال» و«و» و«أو» و«لو» و«ثم» و«هكذا» و«جميع» و«لا شيء»، إلا أننا دونها لا نستطيع فهم ما ندركه. وينطبق الشيء نفسه على «الوجود» الذي «ليس شيئا في الموضوع، وليس جزءا منه»؛ فهو «قطعا ليس شيئا يمكن إدراكه». ولا يمكن تأويل وصف هوسرل على أنه تأمل متعال في شروط إمكان معرفة الموضوعات، الأمر الذي يؤكد على الذات كما في حالة كانط وفيشته. وعلى الرغم من ذلك، فإن هدفه هو الهروب من فكرة عقل يشكل عالما إلى وصف للكيفية التي تحدد معقولية الأشياء ومفهوميتها من الأساس؛ واللغة ضرورية لهذا الهدف.
يتفق هايدجر مع أهداف هوسرل، لكنه يرى أن منهج هوسرل لا يزال ينطوي على الفصل بين العقل والعالم الذي يؤدي بالإبستمولوجيا إلى الانشغال بمحاولة التغلب على الشكوكية. ويعد كتاب «الوجود والزمن» جدلا صريحا ضد الشكوكية، لكن دافع الكتاب أنه استجابة لضغط الظروف التاريخية أكثر منه تمرسا في الإبستمولوجيا؛ فالتخلص من الأوهام التي جلبتها الحرب الصناعية، والانحلال الاقتصادي والاجتماعي أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، يتطلب نوعا جديدا من الفلسفة. وليس الأمر أن الفلسفة الآن ابتكرت حججا أفضل ضد الميتافيزيقا، بقدر ما أن التاريخ يزيد من قابلية التشكيك في الميتافيزيقا التي تقدم فكرة الصورة الحقيقية اللازمنية للعالم؛ ومن ثم يسعى هايدجر إلى طرق جديدة لوصف الكيفية التي عليها الأشياء، ولفعل هذا فإنه يحاول تجنب استخدام مفردات فلسفية متلقاة؛ لأنه يعتبرها شديدة التداخل مع فرضيات يريد التشكيك فيها، وهو بذلك يؤسس لجانب من الانقسام بين الفلسفة الأوروبية/التحليلية، من النوع الذي رأيناه لدى هامان؛ فلغة «الوجود والزمن » غير منفصلة عن مضمونه، على نحو ما سيكون عليه الوضع لدى جاك دريدا وغيره ممن يسعون إلى التشكيك في الأهداف السائدة للفلسفة الغربية.
إن أفضل مقاربة لكتاب «الوجود والزمن» هي تناوله من خلال مصطلحه الرئيسي «الكائن هنا» الذي يعني حرفيا «الكينونة» بمعنى «الوجود هناك/هنا». فمفهوم «الكائن هنا» يعني ما نحن عليه، لكن إذا افترض المرء أن المصطلح يعني «الإنسان»، فعلى المرء إذن أن يعرف الإنسان، وهو أمر يثير أسئلة أنثروبولوجية خلافية ثانوية بالنسبة للأسئلة الفلسفية الحقيقية. وباستبعاد الفرضيات المسلم بها بشأن الإنسان، يصل هايدجر إلى توصيف تقليصي على نحو بارع، وهو أن الكائن هنا «معني في وجوده» ب «هذا الوجود».
وبدلا من البداية بذات واعية تواجه عالما من الموضوعات - مما يثير أسئلة إبستمولوجية تتعلق بكيفية ارتباط الاثنين - يشير هايدجر إلى «الوجود في العالم» بوصفه نمطا لوجود «الكائن هنا». واهتمامنا يكون بالأشياء التي في عالمنا وندرك من خلالها مشاريعنا؛ فعندما أكتب هذه الجملة على الكمبيوتر، أفكر في الكمبيوتر على نحو موضوعي بقدر ما أستخدمه فقط كمثال لتفسير منهج هايدجر، وليس كشيء أستخدمه لكتابة هذه الجملة. وينطوي الاهتمام العملي الأخير على وقتية خاصة؛ لأنه يحمل توجها إلى المستقبل، ولا داعي إذن أن يكون ارتباطنا بالأشياء قائما في الأساس على فكرة ما عليه الأشياء في جوهرها، بل على ما نهدف نحن إلى أن نفعله بها. ويستخدم هايدجر مثال المطرقة، فعندما نستخدم مطرقة فهي تنتمي إلى عالم عملي نضع فيه أرففا، ونحو ذلك. ولا نفهم المطرقة من حيثية مموضعة، بدلا من مجرد استخدامها بلا روية، إلا عندما تنكسر المطرقة أو تكون المطرقة غير المناسبة لإنجاز المهمة. وعندما نموضعها، فإننا ندرك ما سيكون عليه انتماء المطرقة في سياقات غالبا ما لا تتضح إلا عند تعطلها؛ وبألفاظ هايدجر تنتقل المطرقة من كونها «جاهزة للاستخدام»
zuhanden
إلى كونها «حاضرة على نحو موضوعي»
vorhanden . وهذا النوع من التحول له علاقة بالكيفية التي نضع بها النهج المموضع للعالم المطلوب للبحث العلمي.
وبإعطاء «أنطولوجيا ظواهرية» ل «الحياة اليومية المتوسطة » يبين هايدجر كيف تستمد أشكال الفكر النظرية من طرق عملية للوجود في العالم، فيما يسميه «هيرمونيطيقا الكائن هنا». وطريقتنا في الوجود تفسيرية؛ فبمجرد أن نتعامل مع شيء في العالم بطريقة معينة، نوظف «هيكل الفهم». ويشكك هذا الهيكل في فكرة أن الأشياء لها ماهيات حاضرة دائما عندما يكون الشيء حاضرا، فما تظهر عليه الأشياء إنما يعتمد على السياقات والممارسات المتغيرة التي تقع فيها. والقضية الأساسية هي الأولوية النسبية المعطاة لأنواع الفهم المختلفة. ويتعامل هايدجر مع هذه القضية بلغة الفرق بين «الوجود»
Sein
و«الكينونات»
Seiendes ، والذي يشير إليه على أنه «الفارق الأنطولوجي»، ويمكن لمفهوم «الكائن هنا» ككينونة أن يكون موضوع بحث أنثروبولوجي وبيولوجي وتاريخي وغير ذلك من أنواع بحث أخرى «حقيقية الوجود»، لكن هذه التوصيفات كلها مستمدة من حقيقة «أنطولوجية» مفادها أن وجود «الكائن هنا» يجب أن يكون محل شك بالفعل، فدون تحول «الكائن هنا» إلى قضية في ذاته في المقام الأول، ما كانت لتظهر فكرة أن علم الوراثة - بوصفه مثالا شائعا حاليا - ينبغي أن يكون المصدر الأساسي لفهم ذواتنا. ولا يقصد من البحث الأنطولوجي إبطال نتائج العلوم، بل اكتشاف «شروط إمكانيتها» العملية وغيرها.
ويبدو «الوجود والزمن» أقل إقناعا عندما يسعى إلى إعطاء تصانيف نهائية لطرق وجود «الكائن هنا»، مثل «الخوف» و«الوجود من أجل الموت». وهنا يخفق هايدجر في إيلاء اهتمام كاف للتنوعات في الاستجابات الثقافية والتاريخية للوجود والفناء البشري، ويتبنى مواقف يمكن النظر إليها على أنها خاصة بجمهورية فايمار المضطربة، لا على أنها طرق كلية للوجود. ويقدم «الوجود والزمن» موارد أكثر إنتاجية من خلال استكشافاته لكيفية ارتباط فهم الوجود بالزمن، وتتعلق أفكاره الفلسفية الأشد خلافية هنا بمفهوم الحقيقة. فهل تستلزم الحقيقة، التي تظهر في وقت معين عن شيء ما، أن ما يرى الآن على أنه حقيقي كان دوما حقيقيا، حتى على الرغم من أن الوصول إليه لم يكن ممكنا في السابق؟ وبقدر ما أن «الحقيقي» بالمعنى الدلالي لا يعني «حقيقي للآن، لكن لم يكن حقيقيا قبل الآن، وربما يراجع لاحقا»، فمن غير المعقول القول بأن قوانين نيوتن لم تكن حقيقية قبل اكتشافها، لكن إصرار هايدجر أن الحقيقة تحدث في الزمن من خلال تفاعلاتنا مع العالم، ومن ثم لا يمكن افتراض كونها شيئا لازمانيا تتوافق عباراتنا معه في النهاية، يثير قضايا حيوية تتعلق بكيفية «وقوع» الحقيقة بالفعل في العالم. وكما يقترح الفيلسوف الألماني المعاصر ألبريشت فيلمر، فالحقيقة فيما يبدو تستكشف (مما يدل على أنها كانت موجودة بالفعل) وتنتج (مما يدل على أنها لا يمكن أن توجد حتى تنتج). وتخاطر المحاولة الفلسفية لحل هذا التضارب وحسمه نهائيا بالسماح للفلسفة بحجب استحالة اختزال مفاهيم الحقيقة في عالم يتغير بسرعة إلى منظور دلالي محض. ويكمن مغزى هذا السؤال عن الوجود في فكرة أن الدعاوى الخاصة بالحقيقة التي يمكن أن تكون موافقة ممنوحة أو مجحودة لا يكون لها معنى إلا فيما يتعلق بخلفية سابقة من الممارسات اللغوية وغيرها، والتي «تكشف» جوانب العالم. ودون تصانيف مولدة اجتماعيا من الاستجابات التي تنشأ حول الاعتبارات التي يتعلق بها «الكائن هنا» بصورة ملموسة، تبقى الممارسة الجزئية لعرض الأسباب وتقييمها تجريدية فحسب. «التحول» عن مفهوم «الكائن هنا»
مبدئيا إن أفضل مقاربة للكيفية التي وضع بها هايدجر فلسفته بعد «الوجود والزمن» إنما تكون من خلال مقال «أصل العمل الفني» عام 1935. يعنى المقال أساسا بالحقيقة من حيث علاقتها بالفن، وليس بالعلم، وهو أمر يوضح سبب الانقسام المعمق بين هذا النوع من مناهج تناول الفلسفة وما كان يحدث حينذاك في الموروث التحليلي؛ ففي «الوجود والزمن» استمد «كشف العالم» في الأغلب من طرق «الكائن هنا» للتوافق مع العالم، أما في مقال الفن، فإن العمل الفني نفسه هو الذي يجسد الأشياء؛ فبدلا من تمثيل العالم، يضفي الفن معقولية على الأشياء بطرق جديدة، ولنأخذ مثالا على ذلك بالكيفية التي يمكن بها للرسوم الانطباعية أن تغير الطريقة التي يرى بها المرء الانعكاسات في الماء، أو الكيفية التي تضيف بها رواية بروست أبعادا جديدة إلى طريقة تعايش المرء مع الزمن. وإذا فكر المرء في فكرة تجسيد الفن للأشياء من حيث علاقتها باللغة، فستبدأ معالم الموقف الأخير لهايدجر في الوضوح.
يجيب هايدجر عن السؤال الحديث المألوف حول كيفية التأسيس لكون الشيء فنا أو لا، بأن الفن «يقع» عندما يكشف عمل ما عن عالم أو جانب من عالم. ويستخدم هايدجر مثال المعبد اليوناني الذي يعطي معنى لعالم المجتمع الذي يقع فيه؛ فالمعبد يؤسس لعالم الحقيقة عن طريق تركيز أنشطة المجتمع على نحو يسمو على أي نوايا فردية لبنائيه. وعلى نحو مماثل، يرى هايدجر اللغة على أنها «بيت الوجود»؛ فلا بد أن تؤوي اللغة الأشياء وتعطيها مكانا في العالم، وهو ما يسمح لها أن تكون ظاهرة في حقيقتها. لكن ما الذي يميز كشف الحقيقة عن الإخفاق في كشف الحقيقة، في ضوء الطرق المتغايرة الكثيرة التي يمكننا بها التحدث عن الكيفية التي عليها الأشياء؟ ويتضح مكمن الخطر هنا في ملاحظته أن «العلم ليس وقوعا أصيلا للحقيقة، بل إنه في كل حالة امتداد لعالم الحقيقة المكشوف بالفعل.» والسؤال هو: كيف نفسر فكرة عالم الحقيقة؟
تظهر الفكرة المبدئية لهايدجر في إصرار شلايرماخر أن العلم لا يكون ممكنا إلا على أساس الفهم السابق على العلم للغة الطبيعة. لكن هل اللغة التي تكشف عالم الحقيقة تشكل أفقا ثابتا للممكنات، أم هي شيء يمكن أن تغيره الممارسات البشرية والتقييمات النقدية؟ ويتحدث هايدجر في أخرياته عن تاريخ كبار الفلاسفة من أفلاطون إلى نيتشه على أنهم يوظفون «كلمات الوجود»، بالمعنى الثنائي للكلمات التي تكشف الوجود والكلمات التي تنشأ من الوجود نفسه. وليست النوايا العارضة (التي لا يمكن غالبا الوصول إليها الآن) لهؤلاء الفلاسفة هي التي تشكل الحقيقة الفلسفية للنصوص، بل الطريقة التي يوضحون بها الكيفية التي يفسر بها العالم في عصر ما. كما أنه ينظر إلى عمل بعض الشعراء الرئيسيين، أمثال فريدريش هولدرلين صديق هيجل، على أنهم يتكلمون بكلمات الوجود. وينطوي عمل هايدجر اللاحق على «تحول» من «الكائن هنا» كمحل لقابلية العالم للفهم إلى اللغة بالمعنى المناقش هنا باعتبارها ذلك المحل، وبقدر ما أننا لا نخترع اللغة - التي «تقع» لنا ونحن نخرج إلى العالم - يستطيع المرء أن يعرف ما قد يقصده. ويتحدث هايدجر أيضا عن «الانفراج» - بمعنى الفرجة أو الممر في الغابة - لينقل فكرة أن العالم يجب أن يكون مكشوفا لنا على نحو يفوق سيطرتنا قبل أن نتمكن من التفكير فيه ومن موضعته. وبالرجوع إلى المشكلة التي رأيناها في الفصل الثاني من أن أية محاولة لفهم اللغة فهما كاملا في الفلسفة ستتطلب منظورا مستحيلا خارج نطاق اللغة، يتضح أيضا السبب في أن يضع هايدجر منهجا لا تكون فيه العلاقات الجوهرية بالعالم في نطاق قدرة الذات، والمشكلة هي أن فكرته في «وقوع» اللغة باعتبارها كلمات الوجود تميل إلى أن تصبح ذات طبيعة موحدة - فهي تساوي تاريخ الفلسفة بالتاريخ بوجه عام - ويبدو أن الواسطة البشرية لا تلعب دورا جوهريا فيها. ويشتهر هايدجر بأنه لم يتحدث عن الأخلاق إلا قليلا، وأحيانا يصعب درء الشك في أن موقفه الأخير ربما يكون طريقة لإبعاد اللوم عن إخفاقاته الأخلاقية والسياسية.
لكن من الخطأ أن نشطب عمل هايدجر المتأخر، رغم أوجه قصوره الواضحة؛ لأنه يطرح أسئلة جادة عن اتجاه الفلسفة الحديثة. وقد تحدثنا عن فكرة «نهاية الفلسفة» عند الحديث عن ماركس. ويطور هايدجر الفكرة على نحو يربط الكثير من موضوعات الفصول السابقة. والأساس مرة أخرى هو العلاقة بين الفلسفة والعلوم؛ «فتطور العلوم يعني في الوقت نفسه فصلها عن الفلسفة وتأسيس استقلالها. وتخص هذه العملية نهاية/كمال الفلسفة»، والطريقة التي تؤدي بها الأسئلة المتعلقة بالميتافيزيقا إلى هذه الاتجاهات المتعارضة تماما هي أحد الجوانب البارزة للفلسفة الألمانية في القرن العشرين؛ فبالنسبة لدائرة فيينا يكشف تقدم التفسير العلمي عن تفاهة الميتافيزيقا وخلوها من المعنى، الأمر الذي يتفق مع ملاحظات موريتس شليك الوارد ذكرها في الفصل السابع، التي يرى فيها العلم على أنه يمحو في النهاية الميتافيزيقا. وبالنسبة لهايدجر، فالعلم الحديث هو نفسه ذروة الميتافيزيقا الغربية، وللميتافيزيقا من ثم المعنى المقابل بالضبط. فكيف يستطيع المرء أن يخرج بمعنى من ذلك الاختلاف؟
إن هدف الميتافيزيقا في فلسفة هايدجر هو تفسير الوجود، ويتحقق هذا الهدف في الحداثة عن طريق العلوم، فكيف يؤثر هذا على مكانة الفلسفة إذن؟ تتضمن الإجابة عنصرا آخر في فلسفة هايدجر يتصل بموضوع آخر تكرر ذكره في الفصول السابقة؛ وهو التضارب في تفسير الذاتية، والذي كان واضحا بالفعل لدى كانط وفيشته، بين الذات باعتبارها فانية ومفتقرة لغيرها، والذات باعتبارها الشرط المطلق لكون العالم قابلا للفهم من الأساس. يرى هايدجر تاريخ الميتافيزيقا في الحداثة على أنه الهيمنة المتزايدة على الوجود عن طريق الذات، ومن هنا جاءت فكرة أن السيطرة التكنولوجية المتزايدة للعلم الحديث في الطبيعة هي ذروة الميتافيزيقا، والنتيجة هي أنه يظن أن ما يقدمه لم يعد يمكن أن يكون فلسفة؛ نظرا لما كشفته الفلسفة عن نفسها باعتبارها ما «يموضع الوجود». وبينما يمكن فهم الفلسفة السابقة على أنها محاولة لإيجاد أساس للذاتية (وهذا ما يشير إليه نيتشه مثلا ب «إرادة القوة»)، يبحث هايدجر عن بديل لا ينطوي على محاولة للهيمنة على الوجود.
إن بديل هايدجر غير معين إلى حد ما، حيث يعتمد غالبا على رؤية متكلفة لاحتمالات اللغة الشعرية اللاذرائعية من أجل كشف فهم جديد للوجود «يتيح للأشياء أن توجد» عن طريق «الاستماع» إليها، بدلا من تحديدها على نحو مفاهيمي، لكنه يمكن أيضا أن يكون توضيحيا كاشفا. ويلخص عنوان المقال «نهاية الفلسفة ومهمة التفكير» (1969) الكيفية التي يرى بها هايدجر البديل؛ فإذا كانت الميتافيزيقا والفلسفة قد صارتا علما حديثا، فما هو نوع التفكير الذي يمكن أن يفهم ما لا تستطيع العلوم تفسيره؛ لأنه يفوق ما تسمح به مناهجها؟ إن العالم الذي تنتجه العلوم من خلال تطبيق التكنولوجيا (التي يصفها هايدجر بأنها «تؤطر» الوجود) هو نتاج تخصص دائم التزايد. ويعني هذا أنه من المستحيل فهم ما ستكون عليه الآثار المتراكمة للتخصص؛ أي مهمة «التفكير» التي ربما تكون مستحيلة. ويؤكد هايدجر على نحو جدلي أن «العلم لا يفكر»، وهو يعني بهذا أن الفيزياء - على سبيل المثال - لا يمكنها في النهاية أن تخبرنا بماهية الفيزياء؛ فالفيزياء تعتمد على فهم جزئي للوجود، لا يمكنه شرعنة نفسه بمصطلحاته هو ، حيث توجد طرق كثيرة أخرى للارتباط بالطبيعة. وإزاء الأزمة البيئية المتزايدة وإدراك حدود موارد الأرض، يبدو هذا المنظور أقل قابلية للشك، وهو يجبرنا على رؤية الكيفية التي تتفاعل بها الفهوم المختلفة للوجود لإنتاج شيء لا يمكن لنوع واحد من الفهم إدراكه. وحتى إذا كان هايدجر يقدم القليل من الدلالات العملية للكيفية التي يمكن بها تغيير الأشياء للأفضل، فإنه يقدم بدائل لنوع الفلسفة المدين بشدة للعلوم لدرجة أنه لم يعد يطرح أسئلة عن حدود الفهم العلمي للوجود.
هوامش
الفصل التاسع
النظرية النقدية
الكلية
يوضح الانهيار الاقتصادي 2008-2009 على نحو بارز قضية أساسية في النظرية الماركسية في القرن العشرين، وهي قضية محورية فيما يعرف باسم «النظرية النقدية»؛ فقد أوضح الانهيار أنه كان بإمكان الأفراد أو الجماعات أن تعتبر أفعالها مبررة وعقلانية تماما، في حين أن النتائج الجمعية الفعلية لأفعالها كانت كارثية. ولم يستغرق الأمر كثيرا للشك في أن فكرة شراء المزيد والمزيد من الدين ربما تصطدم في نقطة ما بالحاجة إلى أن يكون للائتمان (وبالطبع «للاعتقاد» بصحته) أساس من الأصول الملموسة، فلماذا أدرك القليل جدا من الناس ما كان يحدث؟ وكانت الحرب العالمية الأولى وما أعقبها هي الحدث المماثل الذي كان حاسما في نشوء النظرية النقدية؛ فقد لاقت الحرب في البداية ترحيبا من بعض المفكرين، أمثال عالم الاجتماع والفيلسوف صاحب الموهبة الفذة جورج سيمل (1858-1918)، وغيره كثير، باعتبارها مخرجا مستحسنا من المجتمع المتفسخ حسب ما يسمى، لكنها أنتجت أهوال الخنادق والانهيار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المصاحب.
وقد رأينا في الفصل الثامن كيف كان هايدجر متأثرا في «الوجود والزمن» بالطريقة التي جعل بها الواقع التاريخي كثيرا من المقاربات الأكاديمية للفلسفة تبدو إسهابا لا طائل منه. ومن المرجح أن هايدجر كان على معرفة بكتاب «التاريخ والوعي الطبقي» (1923) للفيلسوف المجري جورج لوكاتش (1885-1971)؛ ففي هذا الكتاب، عالج لوكاتش الفجوة بين الكيفية التي يفكر بها الناس في الواقع وما كان يحدث حقا للأزمات الإبستمولوجية للعلاقة بين الذات والموضوع، وسعى لوكاتش إلى فهم الكيفية التي تؤدي بها الرأسمالية الحديثة نفسها إلى انفصام الذات/الموضوع، وذلك من خلال دمجه بين جوانب التساؤل لدى هيجل عن ثنائية الذات والموضوع ونظرية السلعة لدى ماركس.
ويفترض أنه من الواضح بالفعل - كما هو الأمر بالنسبة لهايدجر - أن نوع المشكلة التشككية المتعلقة بواقع «العالم الخارجي»، المألوفة من ديكارت والتي لا تزال تدرس في فصول الفلسفة اليوم، ليس بالأساس موضع النقاش هنا؛ فلماذا إذن يربط لوكاتش ما يقوم به بالموروث الإبستمولوجي بالأساس؟ (يعتبر الكتاب كلا من كانط والمثالية الألمانية أساسا لاهتماماته.) وبألفاظ لوكاتش، فالسؤال المهم هو: لماذا يظهر الاهتمام الحديث بالشكوكية مع الرأسمالية الناشئة؟ ويتمثل الاعتراض الأساسي هنا في أن المرء يخاطر باختزال القضية الفلسفية في العوامل التاريخية في نشأتها، لكن التغير في العلاقات الاجتماعية المرتبطة بظهور التفردية الحديثة والأفكار الجديدة عن الاستقلال البشري يجعل علاقة الناس بالعالم والآخرين أكثر تعقيدا والتواء على نحو واضح؛ لأنها تعتمد بدرجة أقل على السلطة المتلقاة كإطار مستقر للحكم. فمثلا، تهتم مسرحيات شكسبير في الغالب بشبهات المتشككين التي تقود الناس إلى كارثة، حيث تتلاشى ثقتهم في العالم والآخرين. وفي ضوء حقيقة أن المشكلات المتعلقة بموثوقية المعرفة لم تصبح مرتبطة على نطاق واسع بالأسئلة الناشئة فيما يتعلق بالوعي الذاتي إلا في القرن السابع عشر، فإنه يتضح - كما سيذكر المنظرون النقديون - عدم إمكانية الفصل بين التاريخ والفلسفة بدقة.
إن المصطلحات الرئيسية الفاصلة في هذا السياق في نشأة النظرية النقدية هي «التشيؤ»؛ أي تحويل العلاقات بين البشر إلى علاقات بين الأشياء، وفكرة «الكلية». وبالنسبة للوكاتش، فإن الحل لكيفية تجنب حدث مثل الحرب في المستقبل هو تجاوز الموقف الذي تنتج فيه أفعال الناس الفردية شيئا لا سبيل لهم إلى فهمه. وتتمثل فكرته - على غرار ما ذهب إليه ماركس - في أن الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية مهد السبيل إلى اندماج ما كان سابقا جوانب غير متصلة من الحياة الاجتماعية والسياسية في كلية واحدة، ويحدث هذا الأمر من خلال هيكل السلعة الذي من المحتمل أن يحيل - كما رأينا في الفصل السادس - جميع الأشياء إلى قيم تبادلية متطابقة. وتؤدي الكلية محل النقاش هنا إلى التشيؤ، الأمر الذي يجعل الناس لا يستوعبون أثر ما يفعلون على من سواهم من البشر. ويرى لوكاتش أن مفتاح فهم الكلية هو البروليتاريا (الطبقة العاملة)، وهي الطبقة التي لديها أقل سبب للانخداع بالنظام الذي تعيش فيه نظرا لما تعانيه من حرمان. وعن طريق الانخراط في الممارسة الثورية، يكون لدى البروليتاريا القدرة على التغلب على الظروف التي تضر بالجوانب النوعية لعلاقاتها بالعالم، ومن ثم إيجاد ظروف أكثر إنسانية، ولكن في ضوء ما أعقب ذلك من أحداث تاريخية لاحقة، يتضح أنه ربما لا يوجد حل سهل للمعضلات التي يسعى لوكاتش إلى حلها، على الرغم من حقيقة ما قاله بأن البروليتاريا تحتاج إلى مساعدة الحزب الشيوعي كي تصل إلى قرارها في حل انفصام الذات/الموضوع.
إنقاذ الفكر الراديكالي
تطورت النظرية النقدية إزاء إخفاق نوع الاستجابة الثورية لكوارث الرأسمالية الحديثة الذي اقترحه لوكاتش، وقد سعى «معهد البحوث الاجتماعية» الذي أسسه رجل الأعمال الماركسي فيلكس فايل في فرانكفورت عام 1923 في ذروة الأزمة الاقتصادية الألمانية بعد الحرب، والذي غالبا ما يسمى «مدرسة فرانكفورت»؛ إلى تشجيع البحث الاجتماعي الراديكالي. ومع ما أحدثته التطورات في الاتحاد السوفيتي وظهور النازية من هدم للآمال في تغيير ثوري، أصبحت الحاجة أكثر إلحاحا للإبقاء على جذوة الأفكار التقدمية مشتعلة، وإن كانت أكثر صعوبة. وتبنى تيودور أدورنو (1903-1969) وماكس هوكايمر (1895-1973) - وهما أهم ممثلي هذه المدرسة الفلسفية - كثيرا من التحليل المأخوذ من وصف لوكاتش للسلعة والتشيؤ حول الكيفية التي تؤثر بها الرأسمالية على طبيعة الفكر الإنساني، ولكنهما اضطرا - على الرغم من ذلك - إلى إيجاد طرق لتفسير السبب في احتمال أن تزيد المحاولات الراديكالية للتحول السياسي الأشياء سوءا. ولفعل هذا، فقد تبنيا أفكارا من فرويد لتفسير قابلية الناس للتأثر بالشمولية، ومن ماكس فيبر لفهم الآلية التي يعمل بها العالم الحديث من منظور عقلنة الممارسات التقليدية في أشكال بيروقراطية وتكنولوجية معيارية، ومن نيتشه لنقد قصور الفلسفة التقليدية. ويتمثل الأثر الرئيسي الآخر على أدورنو - حيث كان هوكايمر أقرب إلى التشككية - في عمل صديقه فالتر بنيامين (1892-1940).
يعد عمل بنيامين من الأعمال التي يستعصي تلخيصها مقارنة بعمل أية شخصية أخرى قابلناها حتى الآن، فعمله يعتمد - من بين مصادر كثيرة أخرى - على أفكار من هامان والفلسفة الرومانسية المبكرة والصوفية اليهودية والماركسية، وهو غزير العلم على نحو مبهر. وقد شكل عمله موضوعان رئيسيان متصلان: طبيعة اللغة في الحداثة ومشكلة الوقتية الحديثة؛ فلديه شعور راديكالي بكل من اعتباطية اللغة في العالم الحديث وعرضية الوجود الحديث، ولكنه في الوقت نفسه كان يبحث عما يمكنه تخليص كل من اللغة والزمن. وفي مستهل عمله وحتى تبنيه لعناصر ماركسية لوكاتش وبريشت وغيرهما في نهاية عشرينيات القرن العشرين، تمثل أمله في إيجاد طريقة للتوافق مع «التحرر من الأوهام» الذي يراه ماكس فيبر جوهر الحداثة. وسيحدث هذا من خلال مقاربة للغة تستعيد قدرتها على الاتصال بالحقيقة الجزئية للأشياء (والتي يفكر فيها بنيامين بلغة لاهوتية متروكة). ويتردد صدى أفكاره في جوانب من كتاب مثل هوفمانستال وريلكه، وفي رؤية هايدجر في أخرياته للغة الشعر على أنها تسمح لأشياء جزئية أن توجد في حقيقتها، بدلا من تصنيفها كأمثلة لتصورات عامة.
شكل : تيودور أدورنو، عام 1960.
1
أدى الربط الذي أقامه بنيامين بين نظام السلعة وما فسره هو - في «أصل مسرحية الحداد الألمانية» (1928) - على أنه «سقوط» اللغة في الحداثة إلى إمكانية انتقاله من رؤيته السابقة للغة إلى رؤية تغذيها الماركسية. فاللغة في العالم الحديث ليست لها أية علاقة جوهرية بالأشياء التي تدل عليها، تماما كما تجرد القيمة التبادلية من الخصوصية الفريدة للأشياء. وفي عمله في ثلاثينيات القرن العشرين عن شاعر القرن التاسع عشر الفرنسي شارل بودلير، يقول بنيامين: إن «الخفض المميز لقيمة عالم الأشياء الموجود في السلعة هو أساس القصد المجازي لدى بودلير.» فالمجاز هو التجسيد الحديث لانسحاب اللغة بعيدا عن العالم، وهو ينعكس في الطريقة التي يخلق بها عالم السلع «سلسلة الأوهام» - يرى بنيامين هذا متمثلا في الأروقة التجارية المبنية في باريس في القرن التاسع عشر - التي تخفي الواقع الوحشي المؤسس لذلك العالم. وربما يكون حكمه متطرفا ، لكن التطور اللاحق لعالم السلع، الذي يعتمد على إيجاد طلب دائم التجدد عن طريق ربط صور خيالية بأبسط الموضوعات المنتجة في ظروف غير إنسانية غالبا، لم يفعل سوى القليل لدمغ ما ذهب إليه بنيامين في انتقاداته.
شكل : قراء يختارون الكتب التي لا تزال سليمة بين الأخشاب المحترقة لمكتبة هولاند هاوس بلندن عام 1940.
2
ينطوي اهتمام بنيامين بالزمن والتاريخ على استبيان الكيفية التي ربما لا يكون بها الماضي مجرد سلة مهملات يفقد فيها كل شيء ويصبح بلا معنى. وتظهر أفكاره عن هذا الصدد على نحو مركز في كتابه الأخير عن مفهوم التاريخ (1939)، والكتاب متأثر بمحاولات فرويد العلاجية لتمكين ضحايا الأحداث الصادمة من تخليص الماضي الذي يدمر قدراتهم على العيش في الحاضر. لكن بنيامين يرغب في نقل نموذجه من مستوى الفرد إلى مستوى الجماعة المضطهدة؛ فالتأريخ التقليدي بالنسبة لبنيامين هو تاريخ المنتصرين، الأمر الذي يمكنه فقط تعزيز عبثية الماضي للضحايا. ولا يستطيع المرء أن يلمح كيف يمكن لجوانب الماضي تخليص الحاضر إلا عن طريق مقاربة مختلفة للزمن التاريخي تتبنى أشكالا جديدة لعرض التاريخ، كالمونتاج الذي يتم لمادة تاريخية تبدو متفاوتة وتافهة، من النوع الذي جمعه بنيامين في مشروعه عن أروقة باريس. إن التاريخ - كما يؤكد بنيامين - هو كارثة متراكمة، نوع من الكابوس لا يفيق منه الجنس البشري إلا بتغير علاقته بالظلم والاضطهاد الماضيين، وبتغيير طبيعة المجتمع على نحو جذري. ويقوده هذا الموقف إلى نبذ أي شعور خطي بالتطور التاريخي باعتباره يضيف إلى الكارثة، الأمر الذي لا يمكن تأويله إلا عن طريق فهم بدائل مكبوتة من الماضي وربطها بصراعات ثورية في الحاضر. ويعد هذا البحث اليائس عن مصادر أمل جديدة مفهوما تماما في ضوء الأوقات الكئيبة التي يكتب فيها، لكن الاعتماد على فكرة التحول الثوري الشامل للتاريخ يميل في ظروف أخرى إلى حجب طرق أكثر اعتدالا، يمكن بها تحقيق التقدم الاجتماعي رغم كل شيء. وأوضح الموت التراجيدي لبنيامين، أثناء هروبه من النازيين، أنه لم يستطع قط أن يصل إلى نقطة تطوير استراتيجية سياسية قابلة للتنفيذ استنادا إلى أفكاره.
جدلية التنوير والجدلية السلبية
مات بنيامين قبل أن تنتهي الكارثة التاريخية الأسوأ في أوروبا، وحمل أدورنو وهوكايمر عبء محاولة إنتاج ردود فلسفية للشمولية والحرب العالمية الثانية والهولوكوست. فقبيل انتهاء الحرب، في المنفى بالولايات المتحدة، كتب الاثنان «جدلية التنوير» المنشور عام 1947، وكانت المهمة التي نصبا أنفسهما لها هي «مجرد اكتشاف السبب في انغماس الجنس البشري في نوع جديد من البربرية بدلا من الدخول في حالة إنسانية حقيقية». وأيا ما كانت أخطاؤه، فالموروث الفلسفي - من كانط وهيجل إلى نيتشه - الذي أدى إلى النظرية النقدية قد جعل تلك الأسئلة هي المهمة الجوهرية للفلسفة الحديثة، بدلا من الأسئلة الفنية المحدودة لكثير من الموروث التحليلي.
من أفكار بنيامين الرئيسية أن الثقافة والبربرية تسيران معا، وأن أحدث التطورات التكنولوجية يمكن بالفعل أن تكون مظهرا من مظاهر «التاريخ البدائي»، فالسؤال هو: كيف تستخدم تلك الأفكار فيما يتعلق بالأحداث الحقيقية؟ وإحدى المعضلات في التعامل مع أسوأ كوارث التاريخ الحديث هي أن الأساليب المعروفة للتفسير الأخلاقي أو الاجتماعي تبدو ببساطة غير ملائمة. وعلى الرغم من مخاطر التقليل من مدى ما كان عليه الإنسان من سوء، تشير عبارة حنا آرنت المثيرة للجدل عن «تفاهة الشر» فيما يتعلق بأودولف آيشمان، إلى أن الإدانة الأخلاقية المبررة للإنسان لا تستقصي الأحداث التي وقعت من خلال أفعاله؛ فالظروف التي مكنت من الإبادة الجماعية النازية تتضمن كثيرا من العناصر، كالقواعد البيروقراطية أو الأمور التكنولوجية كأنظمة النقل، التي يمكن أن تبدو محايدة أخلاقيا للمنخرطين فيها. ويحاول كتاب «جدلية التنوير» أن يبين أن «التنوير» - الذي هو مصدر القوة التكنولوجية والتنظيمية التي مكنت الجنس البشري من السيطرة على جانب كبير جدا من العالم الاجتماعي والطبيعي - يتحول بطبيعة الحال إلى ضده؛ أي الميثولوجيا. فالتنوير - الذي لا يمثل من ثم مجرد الظاهرة التاريخية الخاصة التي بدأت من القرن السابع عشر أو الثامن عشر؛ بل عنصرا ضروريا للثقافة البشرية كلها - هو محاولة الجنس البشري للتغلب على التهديد الذي تفرضه الطبيعة للحفاظ على نفسها؛ ومن ثم فهو ضرورة لا محيد عنها، وهو أيضا مصدر تهديدات أعظم لهدف الحفاظ على النفس. وتمثل هذه الحالة الجدلية للتنوير التناقض الفلسفي الذي يتصدى له الكتاب؛ إذ يكشف كيفية استخدام المرء العقل لتقييم حقيقة أن العقل يمكن أن يكون مصدر الاضطهادات التي يحاول المرء التغلب عليها. وفي نواح معينة، يردد الكتاب وصف هايدجر للحداثة على أنها إضفاء طابع الذاتية على الوجود، عندما يتكلم عن «إخضاع كل شيء طبيعي للذات المتغطرسة». ولكن لا يبدو هذا الحكم الفلسفي ملائما للتعقيد الذي عليه القضايا التاريخية.
شكل : ألبرت شبير ونموذج مجسم لمدينة برلين.
3
ينظر كتاب «جدلية التنوير» وعمل أدورنو اللاحق إلى العالم الحديث، في ضوء إخفاق زيادة المعرفة وسيطرة التكنولوجيا في تقليل تهديد البربرية، على أنه «سياق عالمي من الخداع». وهذا يطرح السؤال: كيف لهذا الوصف نفسه - إذا كان الخداع عالميا - ألا يكون هو نفسه مضللا؟ ولا يسعى أدورنو إلى تجنب هذا التناقض: على الأرجح يمكن لليقين بأن تحليل المرء الفلسفي ليس مضللا أن يؤدي إلى الخداع. وتتمثل الفكرة الرئيسية في وجوب التشكيك في التحليل الفلسفي نفسه؛ لأنه يمكن ربط التصوير المجرد بآثار تجريد هيكل السلعة من الواقع المحدد للأشياء، ويعني هذا أن كل ما يستطيع المرء فعله هو الانخراط في تحليل نقدي خاص لنطاقات مهمة من المجتمع والثقافة.
إن المهم بالنسبة إلى أدورنو هو إبراز مدى تناقض الخبرة الحديثة، وتأملاته عن كيفية فهم الحرية في محاضراته في الفترة 1964-1965 عن التاريخ والحرية تمثل بأفضل حال هذا النهج. والهدف ليس الخروج بحكم فلسفي بين الإرادة الحرة والحتمية؛ بل بيان السبب في أن قضية الحرية لا يمكن اختزالها في إجابة لسؤال فلسفي بنعم/لا. لكن هذا الموقف النقدي الذاتي، الذي أسماه أدورنو «الجدلية السلبية» (ونشر عنه كتابا عام 1966) - لأنه على النقيض من جدلية هيجل لا يقدم حكما نهائيا - لا يمكن إقراره دوما على نحو ثابت. فعلى سبيل المثال، يبحث كتاب «جدلية التنوير» في تحليله المميز لكتاب «صناعة الثقافة»، الذي يحمل العنوان الفرعي «التنوير كخداع للجماهير»، في الكيفية التي يمكن بها أن يكون الإبداع في الفنون مخنوقا بضغوط السوق. وفيما يخص القدر الكبير من الثقافة الحديثة التي أنتجت من أجل أن تروج بكميات كبيرة قدر الإمكان، فإن التحليل على الأرجح أكثر صلاحية الآن عما كان عليه عندما كتب، لكن دعوى أن تلك «الثقافة الجماهيرية» خداعة بطبيعتها تحتاج إلى أن يدعمها بحث تجريبي مفصل. وعندما تطبق الفكرة على موسيقى الجاز، مثلا، فإنها تكون مخطئة بوضوح، فلا جدال في أن موسيقى الجاز - مثلها مثل أشكال الفن الحديث الأخرى - دمرتها في الغالب الاعتبارات التجارية، لكن قدرتها على مناهضة العادات الثقافية السائدة لا تزال غير منقوصة حتى اليوم.
يبدو أن أدورنو نفسه قد وقع في جوانب معينة فريسة لفكرة الكلية التي يراها مصدرا لكثير من أمراض الحداثة. وتتضح بذلك أهمية الهدف من فهم الكيفية التي تكون بها الهياكل الأساسية للحياة الحديثة - التي تقلل من خصوصية الأشياء والأشخاص من أجل إحكام السيطرة عليهما - مصدر كل من الخدمات العامة المقدمة بسلاسة وإمكانية القتل الجماعي الفعال في معسكرات الإبادة. ولكن يمكن فقدان الكثير جدا عندما يختزل هذا النهج في فكرة أن العالم يهيمن عليه «تفكير الهوية» الذي له جذوره في تعادلات أوجدها هيكل السلعة. ويعد موقفه المتطرف فيما يتعلق بأسئلة الهوية هو ما قاد أدورنو إلى تضخيمه اللامعقول للأهمية الفلسفية لأنواع معينة من الفن الحديث. وتوضح أفضل تأملات أدورنو في «نظرية علم الجمال» (1970) مدى الأهمية التي تمثلها مقاومة الفن للاختزال في شيء يمكن أن يكون معروفا بطريقة قاطعة بالنسبة للفلسفة الحديثة. وفي الوقت نفسه، فإن إصراره على أن الحداثة الراديكالية وحدها التي أوجزها له شونبرج وبيكيت وكافكا تتجنب شراك صناعة الثقافة وتخبر الحقيقة عن الحداثة؛ يمكن أن يكون مختزلا تماما كالذي يعارضه.
اللغة والعقلانية
أتاحت «المعجزة الاقتصادية» التي أدركت أن ألمانيا الغربية تتعافى من الدمار الأخلاقي والسياسي والاقتصادي أثناء خمسينيات القرن العشرين قدرا كبيرا من كبت الماضي، وحتى الانتقادات التي وجهتها الحركة الطلابية قبيل نهاية ستينيات القرن العشرين لأوجه الترابط بين فترة النازية والجمهورية الفيدرالية، لم يكن الإصرار العنيد لأدورنو على الحاجة للمصالحة مع الماضي النازي هو القاعدة بأية حال. ومع ذلك، بدا أن الموقف الفلسفي المتصلب لأدورنو لم يفرد مساحة كافية لكيفية التفكير بطريقة ملموسة في الإصلاحات الاجتماعية والسياسية الضرورية في عالم غير مهدد بكارثة وشيكة؛ ولذلك سعى تلميذه يورجن هابرماس (المولود عام 1929)، وهو الفيلسوف الألماني والمنظر الاجتماعي الأعظم أثرا بعد الحرب، إلى وضع تصور أكثر إيجابية عن العقلانية مما تتيحه فيما يبدو افتراضات «جدلية التنوير». وكانت دعواه أن كتاب «جدلية التنوير» يتناول تصورا ترى فيه العقلانية على أنها شيء ذرائعي بحت، الأمر الذي يستبعد أساسها التواصلي. وفي حقيقة الأمر، يريد هابرماس أن يبين أن تصور نيتشه للعقلانية - بناء على دافع الذات للهيمنة على الموضوع - لا مجال فيه لحقيقة أن التواصل بين الأشخاص يمكن أن ينطوي على نكران القوة، عندما تصطدم ذات ب «قوة الحجة الفضلى التي تفرض نفسها من دون إكراه»، والتي يسوقها المحاور.
شكل : يورجن هابرماس وجوزيف راتزينجر، يناير 2004.
4
يحاول هابرماس أن يستعين بفهم جديد ل «الفعل التواصلي» لإعطاء الفلسفة دورا في محركات المجتمعات الديمقراطية. وللقيام بهذا، فإنه يتبنى - على الرغم من انشغاله بالفلسفة التحليلية - جوانب من البراجماتية الأمريكية، التي لا تستهدف وصف طبيعة تمثيل الفكر للواقع، بل وصف الفعل البشري كطريقة أساسية للاتصال بالعالم، ويستعرض ما يسميه «براجماتية متعالية» سيرا على منوال زميله كارل أوتو أبل (المولود عام 1922)؛ ف «شروط الإمكان» البراجماتية ليست أشكالا للفكر، بل هي «هياكل للخبرة والفعل». وتطرح الحجج بشأن صحة جميع أنواع الخبرة والفعل، المعرفية والأخلاقية والجمالية، في الحياة الاجتماعية من خلال هذه الهياكل، ودونها لا تتضح الكيفية التي قد تنشأ بها نزاعات بشأن صحة تلك الأنواع إطلاقا. فالهياكل لا تعطي أولوية للعلوم الطبيعية؛ لأنه فيما عدا التواصل بشأن الموضوعات لا يوجد شكل مميز من أشكال الوصول إلى موضوعات المعرفة العلمية التي يمكن إثبات صحتها؛ ومن ثم فإن عملية النقاش المجتمعية هي العامل الفاصل في جميع دعاوى الصحة.
وكان من بين من أثروا بصورة أساسية على هابرماس هانز جورج جادامر، تلميذ هايدجر الذي استهدف في كتابه «الحقيقة والمنهج» (1960) «البحث عن خبرة الحقيقة التي تتجاوز عالم سيطرة المنهج العلمي ... واستجوابها فيما يتعلق بشرعنتها.» وانطوى هذا الرأي على توسيع لرؤية هايدجر للهيرمونيطيقا، التي يكون فيها طريقنا الرئيسي للوجود تفسيريا، لا معرفيا. ويعتقد جادامر أن على المرء إحياء فكرة «الحكم المسبق»؛ لأنه دون «الأحكام المسبقة» - التي تمثلها كل من اللغة وجميع الطرق التي نتأثر فيها دوما دون وعي بالعالم ونتعامل معه - ما كنا لنتمكن من الوصول إلى مستوى التأمل المموضع في العلوم. وعلى نهج الموروث الرومانسي وآراء هايدجر الأخيرة، يعطي جادامر للفن دورا رئيسيا للتشكيك في هيمنة مناهج العلوم الطبيعية. فالعمل الفني ليس شيئا تحدده التصورات، بل شيء «يحدث» من خلال استقباله في سياقات اجتماعية واقعية؛ «فالفهم ليس أبدا علاقة ذاتية تجاه «موضوع» معطى، بل ينتمي إلى التاريخ الفعلي، وهذا يعني: إلى وجود ما هو مفهوم.» ولأننا لا يمكننا أبدا في النهاية الخروج عن «الموروثات» بالمعنى المتناقل عبر الزمن - الذي نوجد فيه - يرى جادامر الهدف الميتافيزيقي لفكرة «الرؤية من لا مكان» على أنه وهم مشكوك فيه ويمكن أن تكون له توابع مدمرة على الثقافة. فالفكرة ليست أن المناهج العلمية خاطئة - فهو يرى أن العلوم تنطوي على ديناميكية لا تقبل التوقف ولا يمكن أن توقفها الاعتراضات الفلسفية أو غيرها - لكن:
هذا لا يعني أن الناس ستتمكن من حل المشكلات التي تواجهنا - التعايش السلمي للشعوب والحفاظ على توازن الطبيعة - باستخدام العلم في حد ذاته؛ فمن الواضح أن أساس الحضارة الإنسانية هو الطبيعة اللغوية للناس وليست الرياضيات.
شكل : هانز جورج جادامر.
5
يرفض جادامر الدعاوى الميتافيزيقية الوضعية باسم حتمية الحوار في التعامل مع قضايا الحقيقة والصحة، وفي ضوء مزاعم جادامر يتخلى هابرماس عن آماله المبدئية في نظرية تبين بصورة قاطعة كيف يمكن للقوة أن تشوه التواصل وتؤدي إلى «وعي زائف»، فلا يمكننا أبدا أن نتوصل إلى وجهة نظر موضوعية تماما عن الممارسات الثقافية وأشكال التواصل؛ لأننا دوما واقعون داخل أحكام مسبقة لثقافة ما، وهذا لا يعني أن ينكر المرء فكرة وضع نظرية نقدية لنسبية ضعيفة التمييز، لكن يجب أن توضع النظرية الآن في صورة حوار «بعد ميتافيزيقي» بين الثقافات.
إن المشكلة الأساسية التي قادت هابرماس في عمل أحدث إلى الاهتمام بالقانون الدولي هي الكيفية التي نصل بها - في عالم عالمي الطابع - إلى معايير قانونية عالمية وغيرها، بينما نوفي المعايير الثقافية الموضوعة محليا حقها. فهو يبحث مبدئيا عن كليات في أشكال التواصل، كما أوحت فكرته عن «موقف الخطاب المثالي». وتنطوي حقيقة الجدل القائم حول الصحة على «غائية الاتفاق»، وإلا فستكون مجرد ممارسة للقوة على المحاور. وعلى الرغم من أن التواصل الحقيقي دائما ما ينطوي على بعض الممارسة الاستراتيجية للقوة، توحي فكرة سماح المرء لنفسه بالاقتناع بالحجة الفضلى بأنه يمكننا تخيل شروط مثالية للتواصل. ولكن هابرماس ينأى بنفسه عن هذه الفكرة لأنها في جوهرها مجردة، فلا يمكن للمرء أبدا معرفة إن كان منخرطا في الشروط المثالية للتواصل أم لا؛ لأن هذه المعرفة تتطلب - كما تضمنت حجج جادامر - موضعا خارج الممارسة الواقعية للتواصل. وعلى الرغم من ذلك، فإنه لم يعزف عن محاولة الإبقاء على تصور قوي للعقلانية قائم على أشكال الصحة المتأصلة في التواصل اليومي في عالم الحياة.
والسؤال هو: ما الدور الذي ينبغي للفلسفة أن تلعبه، بالنظر إلى ما افترضه هابرماس من ضرورة التخلي عن الأهداف الميتافيزيقية الأكثر تأكيدا للفلسفة الحديثة في ضوء الإخفاقات الماضية؟ فهو يقترح - متبنيا تقسيم كانط لمجالات العلم الحديثة والقانون والأخلاق والفن - أن الفلسفة الآن ربما «تساعد على الأقل في إطلاق العنان مرة أخرى للتفاعل المجمد بين المعرفي-الذرائعي والأخلاقي-العملي والجمالي- التعبيري، الأمر الذي يشبه الهاتف المحمول الذي أصبح معقدا بدرجة مستعصية.» وقد أخضع كل جانب من تصور هابرماس لنقد فلسفي مبرر غالبا، لكن صمود رؤيته يكمن في ملاءمة ردها الديمقراطي على كوابيس الماضي الألماني. وعلى الرغم من كل الأخطاء التي وقعت فيها ألمانيا، فهي الآن إحدى الديمقراطيات الأكثر انفتاحا في العالم، وكان لهابرماس الإسهام الأساسي في إمكانية حدوث ذلك.
التنازع بشأن التراث الفلسفي
انطوى المشهد الفلسفي الألماني بعد الحرب على نماذج لجميع الاتجاهات في الفلسفة التي تناولناها في الفصول السابقة. ويستند التأكيد هنا على النظرية النقدية وهيرمونيطيقا جادامر إلى حقيقة أن النقاشات التي أثارتاها كانت مهمة للغاية بالنسبة لقضايا اجتماعية وسياسية أوسع في العالم الحديث. وقد كان على الفلاسفة الألمان عموما أن يواجهوا صراعا بين توسيع الموروث وتقييمه نقديا من كانط فصاعدا، ومعرفة الكيفية التي يمكن بها استخدام الفلسفة لمعالجة أمور اجتماعية وسياسية ملحة. فالأولى لديها نزعة لأن تؤدي إلى اهتمام سكولاستي بتفاصيل النصوص التاريخية، والثانية تواجه دوما بأحداث عارضة متضمنة في التعامل مع وقائع اجتماعية وتاريخية معقدة. وعلى نحو غريب إلى حد ما، لم تشهد الفترة السابقة على التغيرات الكبرى عام 1989 واللاحقة لها ردودا كثيرة من جانب الفلاسفة الألمان.
وباستثناء الشخصيات الأكبر سنا المعروفة، أمثال هابرماس وديتر هنريش (المولود عام 1927) - الذي يتميز بمزجه بين المعرفة المرموقة واهتمام الفلسفة بمعالجة القضايا المعاصرة الحيوية - مال الفلاسفة الألمان إلى الانسحاب من «الاندماج» السياسي. وعلاوة على ذلك، ففي اللحظة نفسها التي كان فيها كثير من الفلاسفة الرواد في الولايات المتحدة أمثال: ريتشارد رورتي وجون ماكدول وروبرت براندوم، يقترحون أن الموروث التحليلي كان في حاجة إلى موارد من كانط وهيجل وهايدجر، إذا كان عليه أن يأتي بردود جديدة على القضايا الفلسفية الرئيسية ويلعب دورا أوسع في السياسات الثقافية؛ كان بعض الفلاسفة الألمان الأصغر سنا ينبذون الموروث الألماني بدعوى أنه نماذج ضيقة ومتخصصة غالبا من الفلسفة التحليلية.
وكما أوضح الموروث الألماني مرارا وتكرارا، فإن فهم الحركات الفلسفية ليس بالضرورة أمرا داخليا محضا في الفلسفة؛ فالحالة التي حدثت من فقدان التوجه السياسي والاجتماعي في ألمانيا في أعقاب عام 1989، وإدراك أن الرفاهية المتزايدة التي ارتبطت بنشأة التفكير الراديكالي من أواخر ستينيات القرن العشرين فصاعدا ربما تكون أمرا عفا عليه الزمن، كان له علاقة بانزواء كثير من الفلاسفة الألمان الأصغر سنا في التخصص، إلا أن ماهية هذه العلاقة لم تتضح بدقة بعد. وفي الوقت نفسه، يقدم الموروث الذي ينظرون إليه الآن بعين الريبة احتمالات قابلناها لدى شيلينج وهايدجر وأدورنو وهابرماس وآخرين للرد على كثير من تحديات المستقبل العالمية. ولا يزال من الممكن الاستعانة بموارد الفلسفة الألمانية لتوضيح علاقة الجنس البشري بالبيئة الطبيعية، التي أصبح من الواضح جدا الآن أنها متناهية ومحدودة، وعلاقته أيضا بالعالم الاجتماعي الذي يتواصل بسرعة متزايدة بينما يولد مزيدا من الصراعات فيما يخص مضمون ذلك التواصل.
هوامش
المراجع
المقدمة
K. Marx and F. Engels,
Werke,
Vol. 4 (Berlin: Dietz, 1956).
الفصل الأول
Quotations from I. Kant are according to the standard A B pagination from the Akademie Edition, given in most editions:
Critique of Pure Reason,
B p. 132;
Foundation of the Metaphysics of Morals,
BA p. 17, BA p. 7;
Critique of Judgement,
B p. 193, A p. 190.
الفصل الثاني
K. Reinhold, cited in M. Bauer and D. Dahlstrom,
The Emergence of German Idealism (Washington, DC: Catholic University of America Press, 1999), p. 62.
J. G. Herder,
Über die neuere deutsche Literatur: Fragmente (Berlin: Aufbau, 1985), p. 373.
J. G. Hamann,
Schriften zur Sprache,
ed. Josef Simon (Frankfurt: Suhrkamp, 1967), p. 224, p. 109;
Sämtliche Werke,
6 vols. (Vienna: Herder, 1950), Vol. 2, p. 74; Vol. 3, p. 284.
J. G. Herder,
Sprachphilosophische Schriften (Hamburg: Meiner, 1964), p. 153.
F. D. E. Schleiermacher,
Dialektik,
ed. L. Jonas (Berlin: Reimer, 1839), p. 563.
الفصل الثالث
F. H. Jacobi, in H. Scholz (ed.),
Die Hauptschriften zum Pantheismusstreit zwischen Jacobi und Mendelssohn (Berlin: Reuther and Reichard, 1916), p. 51.
J. G. Fichte,
Werke I (Berlin: de Gruyter, 1971), p. 463;
Werke II,
p. 239.
F. W. J. Schelling,
Sämmtliche Werke,
ed. K. F. A. Schelling, I Abtheilung Vols. 1-10, II Abtheilung Bde. 1-4 (Stuttgart: Cotta, 1856-61), I/2 p. 53, I/3 p. 341, II/3 p. 7.
الفصل الرابع
F. Schlegel,
Kritische Schriften und Fragmente,
Studienausgabe Vols. 1-6, ed. Ernst Behler and Hans Eichner (Paderborn, Munich, Vienna, Zürich: Schöningh, 1988), Vol. 2, p. 240, p. 115; Vol. 5, p. 12;
Transcendentalphilosophie,
ed. Michael Elsässer (Hamburg: Meiner, 1991), pp. 92-3, p. 95, p. 93.
Novalis,
Werke (Munich: Beck, 1981), p. 226, p. 181, p. 637.
F. H. Jacobi,
Jacobi an Fichte (Hamburg: Friedrich Perthes, 1799), p. 14.
F. Schlegel,
Lehrjahre (1796-1828) (
Kritische Friedrich Schlegel Ausgabe , Vol. 18) (Munich, Paderborn, Vienna: Ferdinand Schöningh, 1963), p. 518.
الفصل الخامس
L. Feuerbach,
Das Wesen des Christentums (Stuttgart: Reclam, 1969), p. 400, p. 406.
K. Marx,
Ökonomisch-philosophische Manuskripte (Leipzig: Reclam, 1970), p. 151, p. 186.
K. Marx and F. Engels,
Werke,
Vol. 13 (Berlin: Dietz, 1956 ff), pp. 8-9.
K. Marx,
Das Kapital,
Vol. 1 (Berlin: Dietz, 1975), p. 52.
الفصل السادس
A. Schopenhauer,
Die Welt als Wille und Vorstellung,
in
Sämtliche Werke , Vol. I, ed. Wolfgang Frhr. von Löhneysen (Frankfurt: Suhrkamp, 1986), p. 168; Vol. V, p. 507.
F. Nietzsche,
Sämtliche Werke. Kritische Studienausgabe
in 15 Bänden, ed. Giorgio Colli and Mazzino Montinari (Munich, Berlin, New York: de Gruyter, 1980), Vol. 1, p. 47, p. 99, p. 100, p. 880; Vol. 6, pp. 80-1; Vol. 3, p. 467.
الفصل السابع
M. Schlick, in R. Rorty (ed.),
The Linguistic Turn (Chicago: University of Chicago
Reconsidering Logical Positivism (Cambridge: Cambridge University Press, 1999), p. 29.
B. Bolzano,
Grundlegung der Logik (Hamburg: Meiner, 1963), p. 66.
I. Kant,
Critique of Pure Reason,
B p. 172, A p. 133.
E. Husserl,
Gesammelte Schriften,
9 vols. (Hamburg: Meiner, 1992), Vol. 8, p. 4, p. 60, p. 115, p. 36, p. 23, p. 44.
الفصل الثامن
E. Husserl,
Gesammelte Schriften,
9 vols. (Hamburg: Meiner, 1992), Vol. 4, p. 666.
M. Heidegger,
Sein und Zeit (Tübingen: Niemeyer, 1979), p. 12, p. 38; M. Heidegger,
Ursprung des Kunstwerks (Stuttgart: Reclam, 1960), p. 62; M. Heidegger,
Zur Sache des Denkens (Tübingen: Niemeyer, 1969), p. 63.
الفصل التاسع
W. Benjamin,
Gesammelte Schriften (Frankfurt: Suhrkamp, 1980), Vol. I/3, p. 1151.
M. Horkheimer and T. Adorno,
Dialektik der Aufklärung (Frankfurt: Fischer, 1971), p. 1, p. 5.
H.-G. Gadamer,
Wahrheit und Methode (Tübingen: J. C. B. Mohr, 1975), p. XXVII; H.-G. Gadamer,
Ästhetik und Poetik I. Kunst als Aussage (Tübingen: J. C. B. Mohr, 1993), p. 342.
J. Habermas,
MoralbewuBtsein und kommunikatives Handeln (Frankfurt: Suhrkamp, 1983), p. 26.
قراءات إضافية
Only English-language secondary literature on German philosophy is cited here. The basic primary texts are those discussed in each chapter: a general list would be too extensive to be useful.
مراجع عامة
A. Bowie,
From Romanticism to Critical Theory: The Philosophy of German Literary Theory (London: Routledge, 1997). Presentation of ideas concerning literature and truth from Kant and the Romantics to the Frankfurt School.
A. Bowie,
Aesthetics and Subjectivity: From Kant to Nietzsche,
2nd edn. (Manchester: Manchester University Press, 2003). Considers the central role of aesthetics in the development of German philosophy.
A. Bowie,
Introduction to German
(Cambridge: Polity, 2003). More extensive account of the issues covered in this book.
Twentieth Century German Philosophy (Oxford: Oxford University Press, 2000). Examination of Husserl, Heidegger, Gadamer, Habermas, and Apel.
J. Habermas,
The Philosophical Discourse of Modernity (Cambridge: Polity, 1987). Critical overview of modern philosophy by leading German philosopher.
A. O’Hear (ed.),
German
(Cambridge: Cambridge University Press, 1999). Essays on individual philosophers and on central themes in German philosophy.
T. Pinkard,
German Philosophy 1760-1860: The Legacy of Idealism (Cambridge: Cambridge University Press, 2002). Account of connections between philosophy and history in the period in question.
H. Schnädelbach,
Germany 1831-1933 (Cambridge: Cambridge University
which includes much material on lesser-known academic philosophers.
الفصل الأول
H. E. Allison,
Kant’s Transcendental Idealism (New Haven, CT: Yale University Press, 1983). Defence of Kant’s contentions in the
Critique of Pure Reason .
K. Ameriks,
Interpreting Kant’s Critiques (Oxford: Clarendon Press, 2003). Essays on new approaches to the interpretation of Kant.
E. Cassirer,
Kant’s Life and Thought (New Haven, CT: Yale University Press, 1982). Biographical and philosophical account of Kant by neo-Kantian philosopher.
S. Gardner,
Routledge Philosophy Guidebook to Kant and the Critique of Pure Reason (London: Routledge, 1999). Detailed introductory account of the first Critique.
R. Scruton,
Kant: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2001). General introduction to Kant.
The Bounds of Sense: An Essay on Kant’s Critique of Pure Reason (London: Routledge, 1966). Influential analytical account of Kant, which is not reliable in its interpretations of some key issues.
الفصل الثاني
H. Adler and W. Koepke,
A Companion to the Works of Johann Gottfried Herder (Columbia, SC: Camden House, 2009). Essays on the main aspects of Herder’s work.
I. Berlin,
The Magus of the North: J. G. Hamann and the Origins of Modern Irrationalism (London: John Murray, 1993). Readable, but unreliable, interpretation of Hamann.
T. German,
Hamann on Language and Religion (Oxford: Oxford University Press, 1981). Account by Hamann scholar.
J. H. Zammito,
Kant, Herder, and the Birth of Anthropology (Chicago, IL: Chicago University Press, 2001). Contextualization of the thought of Kant and Herder in relation to often ignored issues.
الفصل الثالث
K. Ameriks (ed.),
The Cambridge Companion to German Idealism (Cambridge: Cambridge University Press, 2000). Essays on the main themes and figures in German Idealism.
F. C. Beiser,
Hegel (London: Routledge, 2005). Accessible and scholarly introduction.
F. C. Beiser,
The Fate of Reason: German Philosophy from Kant to Fichte (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1987). Study of the immediate reactions to Kant, dealing with many unjustly ignored philosophers.
A. Bowie,
Schelling and Modern European Philosophy (London: Routledge, 1993). Schelling considered as a major thinker in his own right, rather than as a prelude to Hegel.
F. Neuhouser,
Fichte’s Theory of Subjectivity (Cambridge: Cambridge University Press, 1989). Lucid analytical account of Fichte’s arguments.
R. B. Pippin,
Idealism as Modernism: Hegelian Variations (Cambridge: Cambridge University Press, 1997). Philosophical essays based on the most productive contemporary interpretation of Hegel.
C. Taylor,
Hegel (Cambridge: Cambridge University Press, 1975). Influential traditional account of Hegel’s philosophy.
S. Žižek,
The Indivisible Remainder: On Schelling and Related Matters (London: Verso, 2007). Relates Schelling to Žižek’s concerns deriving from Hegel and Lacan.
الفصل الرابع
F. C. Beiser,
The Romantic Imperative: The Concept of Early German Romanticism (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2006). Scholarly but interpretatively questionable account of Romantic philosophy.
M. Frank,
The Philosophical Foundations of Early German Romanticism (Albany, NY: SUNY
Romantic philosophy.
N. Saul,
Cambridge Companion to German Romanticism (Cambridge: Cambridge University
dimensions of German Romanticism.
الفصل الخامس
W. Breckman,
Marx, the Young Hegelians, and the Origins of Radical Social Theory (Cambridge: Cambridge University Press, 1999). Historical reinterpretation of the thought of the Young Hegelians.
T. Eagleton,
Marx (London: Routledge, 1999). Assessment of Marx’s philosophy from a contemporary perspective.
J. Elster,
An Introduction to Karl Marx (Cambridge: Cambridge University Press, 1986). Analytical account of Marx.
J. Habermas,
Knowledge and Human Interests (Cambridge: Polity, 1986). Situates Marx in a wider context of critical social theory.
K. Korsch,
Marxism and
(London: Pluto, 1970). Influential text by leading Marxist which helped change the image of Marx’s philosophy in the 1920s.
A. Schmidt,
The Concept of Nature in Marx (New York: Schocken, 1978). Account of Marx’s approaches to the question of nature.
الفصل السادس
A. Bowie,
Music, Philosophy, and Modernity (Cambridge: Cambridge University Press, 2007). Examines the importance of music for Nietzsche and other modern philosophers.
M. Clark,
Nietzsche on Truth and
(Cambridge: Cambridge University Press, 1991). Analytical account of Nietzsche.
G. Deleuze,
Nietzsche and
(London: Athlone, 1985). Study by major French philosopher.
C. Janaway,
Schopenhauer: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2002). Accessible historical and philosophical account of Schopenhauer.
W. Kaufmann,
Nietzsche:
(Princeton:
presentation of Nietzsche’s ideas.
B. Magnus and K. M. Higgins (eds.),
The Cambridge Companion to Nietzsche (Cambridge: Cambridge University Press, 1996). Collection of essays on major themes.
A. Nehamas,
Nietzsche: Life as Literature (Cambridge: Cambridge University Press, 1987). Reinterpretation of the significance of Nietzsche.
R. Schacht,
Nietzsche (London: Routledge, 1985). Reliable work on major themes in Nietzsche.
الفصل السابع
D. Bell,
Husserl (London: Routledge, 1990). Analytical account of Husserl.
J. A. Coffa,
The Semantic Tradition from Kant to Carnap (Cambridge: Cambridge University Press, 1991). Historical account of the sources and early development of analytical philosophy.
M. Friedman,
Reconsidering Logical Positivism (Cambridge: Cambridge University
Circle.
M. Friedman,
A Parting of the Ways: Carnap, Cassirer, and Heidegger (Chicago, IL: Open Court, 2000). Philosophical and historical account of the contrasting analytical, neo-Kantian, and phenomenological tendencies of German philosophy.
H. Sluga,
Gottlob Frege (London: Routledge, 1980). Historically informed study of the work of Frege.
B. Smith and D. Woodruff Smith (eds.),
The Cambridge Companion to Husserl (Cambridge: Cambridge University Press, 1995). Volume of essays on many aspects of Husserl’s work.
الفصل الثامن
H. L. Dreyfus,
Being-in-the-World: A Commentary on Heidegger’s “Being and Time,” Division I (Cambridge, MA: MIT Press, 1991). Commentary on Heidegger’s most influential work.
M. Inwood,
Heidegger: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2000). The best initial point of access to Heidegger.
C. Lafont,
Heidegger, Language, and World-Disclosure (Cambridge: Cambridge University
language.
S. Mulhall,
Routledge Philosophy Guidebook to Heidegger and Being and Time (London: Routledge, 1996). Detailed introduction to
Being and Time .
R. Safranski,
Martin Heidegger: Between Good and Evil (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1998). Intellectual and philosophical biography of Heidegger.
الفصل التاسع
S. Benhabib,
Critique, Norm and Utopia: A Study of the Foundations of Critical Theory (New York: Columbia University Press, 1986).
R. Bernstein (ed.),
Habermas and Modernity (Cambridge, MA: MIT Press, 1985). Collection of critical essays.
The Tragedy of Enlightenment: An Essay on the Frankfurt School (Cambridge: Cambridge University Press, 1980). Study of core ideas in Critical Theory.
Habermas: A Critical Reader (Oxford: Blackwell, 1999). Collection of critical essays that approach Habermas from less familiar angles.
D. Ferris,
The Cambridge Companion to Walter Benjamin (Cambridge: Cambridge University Press, 2004). Essays on aspects of Benjamin’s thought.
R. Geuss,
The Idea of a Critical Theory (Cambridge: Cambridge University Press, 1981). Examination of the possibility of a 'Critical Theory’.
D. Held,
Introduction to Critical Theory: Horkheimer to Habermas (Berkeley, CA: University of California Press, 1980). Historical and theoretical account of Critical Theory.
R. Holub,
Jürgen Habermas (London: Routledge, 1991). Study of Habermas as social critic.
M. Jay,
The Dialectical Imagination: A History of the Frankfurt School and the Institute of Social Research, 1923-1950 (Boston, MA: Little, Brown, 1973). Historical study of the development of the Frankfurt School.
G. Rose,
The Melancholy Science: An Introduction to the Thought of Theodor W. Adorno (London: Macmillan, 1978). Study of Adorno’s work.
G. Warnke,
Gadamer: Hermeneutics, Tradition and Reason (Stanford, CA: Stanford University Press, 1987). Account of the major aspects of Gadamer’s work.
Unknown page