الفاخر لأَِبي طالب المفضّل بن سلمة بن عاصم بسم الله الرحمن الرحيم حدثني أحمد بن عُبيد الله بن أحمد، قال: أملى علينا أبو بكر بن يحيى الصولي ﵀ هذا الكتاب، وكان سبب إملائه إياه علينا أن رجلًا ممن كان يحضر مجلس أبي بكر محمد بن القاسم الأنْباري ﵀، فرأى يومًا في يده كتابًا فأخذه يقرؤه، فوجده مَجْلِسًا من كتاب الزاهر، فقال: هذا منقول من كتاب الفاخر للمفضَّل بن سَلَمة، كما نقل أبو محمد أبو محمد بن قتيبة كتابه في المعارف من كتاب المُحبِّر لابن حبيب. فلما كان المجلس الآخر أخرج كتابه الفاخر فأملى علينا: حدثنا أبو طالب المفضَّل بن سَلَمة بن عاصم قال: هذا كتاب معاني ما يجري على ألْسُن العامة في أمثالهم ومحاوراتهم من كلام العرب وهم لا يَدروُن معنى ما يتكلمون به من ذلك، فبيَّنَّاه من وجوهه على اختلاف العلماء في تفسيره، ليكون مَنْ نظر في هذا الكتاب عالمًا بما يجري من لفظه ويدور في كلامه. وبالله التوفيق. فأول ذلك:

1 / 1

١_قولهم حيَّاك اللهُ وبيَّاك فأما حَيّاك الله فإنه مشتق من التحيّة، والتحيّة تنصرف على ثلاثة معانٍ: فالتحية السلام، ومنه قول الكميت: ألا حُيِّيتِ عَنَّا ياَ مَديِنا ... وَهَلْ بَأْسٌ بِقَولِ مُسلِّمينا فيكون معنى حيَّاك الله سلَّم الله عليك. والتحية أيضًا: المُلْكُ، ومنه قول عمرو بن مَعْدي كَرِب: أَسيِرُ بِهِ إِلى النُّعمانِ حَتَّى ... أُنيِخُ عَلى تَحِيَّتِه بِجُندِي فيكون المعنى مَلّكَك الله. والتحيّة: البقاءُ. ومنه قول زهير بن جَنابٍ الكلبيّ: وَلَكُلُّ مَا نالَ الفَتَى ... قّدْ نِلْتهُ إِلاَّ التَّحِيّهْ أي إلا البقاء. فيكون المعنى أبقاكَ الله. وقولهم في التشهُّد: التَّحِيَّات لله يشتمل على الثلاثة المعاني. فأما بيَّاك فإنه فيما زعم الأصمعيّ أضحكَ. ويروى أن آدم ﵇ لما قَتَلَ أحد ابنيه أخاه مكث سنة لا يضحك، ثم قيل له: حيَّاك الله وبيَّاك، أي أضحكك، وقال الأحمر: أراد بَوَّأَك منزلًا، فقال بيَّاك لإزواج الكلام ليكون تابعًا لحيَّاك، كما قالوا:

1 / 2

جاء بالعشايا والغدايا، يريدون الغَدَوات، وقالوا الغدايا للأزواج. وقال ابن الأعرابي: بيَّاك: قَصَدَك بالتحيّة وأنشد: لَمَّا تَبَيَّيْنَا أَخَا تَمِيمِ ... أَعْطَى عَطَاءَ اللَّحِزِ الَّلئيمِ وأنشد أيضًا: باَتَتْ تَبَيَّا حَوْضَهَا عُكُوفَا ... مِثْلَ الصُّفُوفِ لاَقَتِ الصُّفُوفَا وقال أبو مالك: بيَّاك: قَرَّبَك، وأنشد: بَيَّا لهم إِذْ نَزَلُوا الطَّعَامَا ... الْكبِدَ وَالْمَلحَاءَ وَالسَّنَاما أي قَرَّبَ لهم. ٢_قولهم مَرْحَبًا وأَهْلًا قال الفرَّاء: معناه رحَّب الله بك على الدعاء له، فأخرجه مخرج المصدر فنصبه. ومعنى رحَّب: وَسَّعَ. وقال الأصمعي: أتيتُ رُحبًا أي سعة وأهْلًا كأهلك فاستأنِس. ويقال: الرُّحْبُ والرحْبُ، ومن ذلك الرَّحبَة سُميَّت لِسَعتها. وقال طفيل: وبالسَّهْب مَيْمُون الخَلِيقَة قَوْلُه ... لِمُلْتَمِسِ المَعْرُوف أَهْلٌ وَمَرْحَبُ وذكر ابن الكلبي وغيره أن أول من قال مرحبًا وأهلًا سيف بن ذي يَزَنَ الحِمْيَريّ لعبد المطلب بن هاشم لما وفَد إليه مع قريش ليهنئوه برجوع المُلك إليه،

1 / 3

وذلك أن عبد المطلب استأذنه في الكلام. فقال له سيف: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذِنَّا لك. فقال عبد المطلب بعد أن دعا له وقَرَّظَه وهنَّأه: نحن أهل حَرَمِ الله وسَدَنَة بيته، أشخَصنا إليك الذي أبهَجَنا لك، فنحن وفد التهنئة لا وفد المَرْزِئَة. فقال: وأيُّهم أنت؟ قال: أنا عبد المطلب. فقال سيف: مرحبًا وأهلًا ورَحْلًا، ومُناخًا سَهْلًا، ومَلكًا رِبَحْلًا، يُعِطى عطاءً جَزْلًا. ٣_قولهم لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ قال الفرَّاء: معنى لبيَّك إجابةً لك. قال: ومنه التلبية بالحجّ إنما هو إجابة لأمرك بالحج، وثنّى يريد إجابةً بعد إجابة. ونصبَهُ على المصدر. وقال الأحمر: معناه إلْبابٌ بك أي إقامة ولُزوم لك، وهو مأخوذ من قولك: لّبَّ بالمكان وأَلَبَّ إذا أقام به. قال الراجز: لَبَّ بأرْضٍ مَا تَخَطَّاها الغَنَم ومنه قول طُفَيلٍ الغَنَوِي: رَدَدْنَ حُصَيْنًَا مِنْ عَدِيٍّ وَرَهْطِهِ ... وَتَيْمٌ تُلَبىِّ في العُروُجِ وتَحْلُب أي تلازمها وتقيم بها. قال: وكان أصله لبيَّيْك فاستثقلوا ثلاث باءات فقلبوا إحداهنّ ياء، كما قالوا: تَظَنَّيْتُ، يريدون تَظَنَّنْتُ، فلما كثرت النونات قلبوا

1 / 4

إحداهنّ باء. وكذلك دينار أصله دِنَّار فاستثقلوا نونين فقلبوا الأولى ياء، فإذا جمعوا قالوا: دنانير فرجعت النون لما فرَّقوا بينهما، ومنه قول العَجَّاج: تَقَضَّى البازِي إذا البازِي كَسَر أراد تَقَضُّضَ البازِي قاستثقل الضادات فقلب إحداهنّ ياء. وقال الراجز: إِنِّي وَإِنْ كَانَ صَغيِرًا سِنِّي ... وَكَاَنَ فِي العَيْن نُبُوٌّ عَنِّي فَإِنَّ شَيْطَانِي أَمِيرُ الجِنِّ ... يَذْهَبُ بي فِي الشِّعْرِ كُلَّ فَنّ حَتَّى يُزيلَ عَنِّيَ التَّظَنِّي يريد التَّظَنُّن. وقد حكى أبو عبيد عن الخليل أنه قال: أصلها من أَلْبَبْتُ بالمكان، فإذا دعا الرجل صاحبه قال: لَبَّيْك فكأنه قال: أنا مقيم عندك، ثم وكَّد ذلك بلبَّيْك أي إقامة بعد إقامة. وحكى عن الخليلي أيضًا أنه قال: هو مأخوذ من قولهم أُمٌّ لَبَّةٌ أي مُحِبّة عاطِفة. فإن كان كذلك فمعناه: إقبال إليك ومحبة لك. قال: وأنشد الطُّوسِيّ: وَكُنْتُمْ كَأُمٍّ لَبَّةٍ ظَعَنَ ابْنُهَا ... إِلَيْهَا فَمَا دَرَّتْ إِلَيْهِ بساعِدِ ويُقال: إنه مأخوذ من قولهم: داري تَلَبُّ دارَك. فيكون معناه اتِّجاهي إليك وإقبالي على أمرك. وسَعْدَيك: معناه أُسْعِدُك إسعادًا بعد إسعاد. قال الفرَّاء: ولم نسمع لشيء من هذا بواحد، وهو في الكلام بمعنى قولهم: حَنانَيْك أي حنانًا بعد حنانٍ. والحنان: الرحمة وقال طَرَفَة: أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْك بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ

1 / 5