وأشهر من خرجته مدرسة البصرة في عهد الأمويين الحسن البصري وابن سيرين، وكلاهما من أبناء الموالي من سبي ميسان، وكلاهما أتاه العلم عن طريق الولاء فأبو الحسن البصري كان مولي لزيد بن ثابت، وهو من أشهر علماء الصحابة؛ وسيرين أبو محمد كان مولى لأنس بن مالك، وهو من علمت صحبة وحديثا، وكلاهما كانت له شخصية ظاهرة في البصرة، فالحسن البصري اشتهر بمتانة خلقه وصلاحه وعلمه وفصاحته؛ فأما متانة خلقه فتظهر في أنه لم يكن يخشى أحدا في إبداء رأيه، سئل عن ولاية يزيد بن معاوية فلم يستصوبها، على حين أن الشعبي وابن سيرين لم يجرءوا على إبداء رأيهما، وقد رأيت قبل، أن سائلا سأله عن الدخول في الفتن فكان لا يرى الدخول فيها، فسأله: ولا مع أمير المؤمنين؟ فقال: ولا مع أمير المؤمنين! وكان يقارن بالحجاج في فصاحته، وفوق ذلك كان ورعا تقيا يعده الصوفية أحدهم، ويتمثلون بحكمه وجمله؛ ويعده المعتزلة رأسهم؛ لأنه تكلم في القضاء والقدر، وكان يذهب إلى أن الإنسان حر الإرادة، كان فقيها يستفتى فيما يعرض من الحوادث فيفتي بعلم؛ وكان قصاصا يعد من سادة القصاص وأصدقهم، لذلك كان الحسن شخصية ممتازة في كل ناحية من النواحي التي ذكرناها، ويروي ابن خلكان أنه لما مات (سنة 110ه) تبع أهل البصرة كلهم جنازته، حتى لم يبق بالمسجد من يصلي العصر.
وأما ابن سيرين فقد تعلم على زيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وشريح وغيرهم، وكان محدثا ثقة وفقيها يفتي فيما يعرض عليه من الشئون، وكان معاصرا للحسن البصري، وكانا صديقين حينا، وبينهما وحشة حينا ، وسبب الوحشة على ما يظهر اختلاف طباعهما، فقد كان الحسن صريحا شديدا حزينا غضوبا، لا يخشى أن يقول ما يعتقد حتى في المسائل السياسية الخطرة؛ وكان ابن سيرين حليما ضحوكا، يتحرج أن يقول ما يؤخذ عليه
23 ، وقد اشتهر فيما بعد بتفسير الأحلام وزيف عليه كتاب في ذلك، وقد ذكره ابن النديم في الفهرست ونسبه إليه، ولكنا لا نجد أثرا لشهرته في تعبير الرؤيا في كتب المتقدمين أمثال طبقات ابن سعد، ومات سنة 110ه، وكان الحسن وابن سيرين يعدان سيدي أهل البصرة. •••
وكان في العراق حركة غير الحركة الدينية، تعد كأنها امتداد للحياة العقلية الجاهلية، مصبوغة بالصبغة الإسلامية، فقد كان للقبائل العربية النازلة بالبصرة والكوفة رؤساء، وكان هؤلاء الرؤساء أشبه شيء برؤساء القبائل في الجاهلية في السيادة على قبائلهم، والتفاف الناس حولهم، والخضوع لإشارتهم في السلم والحرب، ووقوف الشعراء ببابهم يتغنون بمدحهم، وينشرون مفاخرهم، ويهجون أعداءهم، ويتغنى هؤلاء السادة بالسيادة والمروءة وبذل المال وما إلى ذلك، كالأحنف بن قيس سيد تميم البصرة، والحكم بن المنذر بن الجارود سيد عبد القيس البصرة، ومالك بن مسمع سيد بكر البصرة، وقتيبة بن مسلم سيد قيس البصرة، ومحمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة سيد تميم الكوفة، وحسان بن المنذر من ضبة الكوفة، وحجر بن عدي ومحمد بن الأشعث سيدي كندة الكوفة وغيرهم، وهؤلاء وأمثالهم كانوا مصدرا لحياة أدبية قوية، من شعر يشبه الشعر الجاهلي، وحكم تشبه التي تروى عن أكثم بن صيفي؛ وليس هذا موضوع شرح هذه الحركة الأدبية، ولكن لا بأس من تصوير شخصية من هذه الشخصيات الكبيرة ليتبين لنا منحاها في الحياة وتأثيرها في الأدب، ولتكن شخصية الأحنف بن قيس.
كان الأحنف - كما ذكرت - سيد بني تميم في البصرة، وكان كما يقولون إذا غضب غضب لغضبته مائة ألف سيف لا يدرون فيم غضب، يدخل بنو تميم الحرب مع من أحب الأحنف، ويكفون إذا كف؛ وعرف معاوية منزلته في قومه وسيادته فقربه وأكرمه، وأوصى ولاته بذلك، حتى كان يعزل الوالي إذا غضب عليه الأحنف، ويحتمل منه معاوية الكلمة القارصة ويداريه، قال له معاوية يوما: والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي (لأن الأحنف كان مع علي)، فقال الأحنف: والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادنا، وإن تدن من الحرب فترا ندن منها شبرا، وإن تمش إليها نهرول لها! وكان له فضل في التأليف بين كثير من القبائل المتعادية في البصرة؛ وكان مثلا في علو النفس والاحتفاظ بالكرامة والمروءة، ولما مات قيل: «مات سر العرب»، وأبنته امرأة فقالت: «لقد كنت في الحي مسودا، وإلى الخليفة موفدا، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متبعين»، وله من الأقوال المأثورة والحكم ما ملأ كتب الأدب، مثل: «لا خير في لذة تعقب ندما»، «لن يفتقر من زهد»، «أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك»، «ما أقبح القطيعة بعد الصلة»، «أنفق في حق ولا تكن خازنا لغيرك»، «لا راحة لحسود، ولا مروءة لكذوب» ... إلخ. •••
أما الحركة الفلسفية في العراق فسنشير إليها عند الكلام على المذاهب الدينية، وقد أينعت في الدولة العباسية حتى نبغ من الكوفة كثيرون من الفلاسفة، ونبغ من البصرة جماعة «إخوان الصفا».
الشام: قطر غني، خصب الأرض، كثير المياه، معتدل الجو، كان مبعثا لكثير من الأنبياء، فنشروا فيه تعاليمهم الدينية
24 ، وتعاقبت عليه المدنيات المختلفة فأورثته علمها وحضارتها؛ ففينيقيون وكلدانيون ومصريون وعبريون ويونانيون ورومانيون، كل هؤلاء كانت لهم مدنية، وكان لهم علم، وانتشر علمهم في البلاد، وكان من أهل الشام أنفسهم من شارك في العلم ونبغ فيه، وبارى علماء الأمم المستعمرة، واشتهر في الشام كثير من المدن، كان مركزا للعلم والحركة العقلية، كصور وأنطاكية وصيدا وبيروت ودمشق وحمص؛ أورثها الفينيقيون حروف الكتابة، والعبريون التعاليم الإلهية، واليونان المذاهب الفلسفية، والرومان النظريات الفقهية، فكان لذلك كله الأثر الكبير في عقلية الشاميين، وقد ذكرنا قبل ذلك طرفا مما كان للسريانيين من حركة علمية في هذه البقاع وما حولها.
وقد عرف العرب في جاهليتهم هذه البلاد، فزحفوا إليها طمعا في خيراتها، وأنشئوا ولايات بها في حمص وبطرة من أول القرن الثاني قبل الميلاد؛ ثم كانت في القرن الخامس الميلادي إمارة الغساسنة وقد سبق ذكرها، وقد تأقلموا بإقليمها؛ واعتنقوا النصرانية بعد انتشارها في ربوع الشام، وتمدنوا بشيء من مدنيتها، وتكلموا بلغة هي خليط من الآرامية والعربية، وعدوا أنفسهم سوريين يرتبطون بسوريا أكثر مما يرتبطون بجزيرة العرب.
فتح الإسلام هذه البلاد ونشر لغته وتعاليمه بها، فأخذ عرب الشام يتعلمون لغة قريش، وبدأ أهل الشام أنفسهم يتعلمونها، ويتكلمون بها مع لغتهم الآرامية أو اليونانية؛ كذلك أخذ الإسلام يحل فيها محل النصرانية واليهودية، ودخل كثير من الشاميين في الإسلام، وبعث عمر إليهم من يعلمهم الدين الجديد، شأنه مع كل الممالك التي فتحت في عهده.
Unknown page