مراكز الحياة العقلية
نلاحظ أن الدين والفن والعلم والأدب تنبع دائما من المدن، وتزهر فيها، كان ذلك في القديم، وهو كذلك في الحديث؛ فأنت الآن ترى الأفكار الجديدة وآراء المصلحين إنما تنشأ في المدن أولا؛ وكذلك معاهد العلم والأدب والفن من مدارس وجامعات ومكتبات وصحف ومتاحف، إنما تعظم وتكثر في المدن لا في القرى، ولذلك أسباب أهمها: أن المدن أكثر ناسا وأوفر عمرانا، وقد نشأت كثرة الناس والعمران من وفرة المؤن، إما لسبب مباشر كخصب الأرض وجودتها وكثرة غلاتها، أو غير مباشر كأن تتبادل المدينة مصنوعاتها مع أمة أخرى خصبة الأرض كثيرة الغلات أو نحو ذلك؛ وكثرة السكان على هذا النحو تستتبع نوعا من الغنى يستطيع معه أهله أن يجدوا زمنا يصرفونه في غير كسب القوت، كما يستتبع نوعا من الرقي السياسي يستطيع الناس معه أن يتبادلوا الآراء والأفكار، وينظروا إلى الحياة غير هذا النظر المادي الوضيع، فينشأ الرأي، وينشأ العلم، ويزهو الأدب
1 .
كذلك تختلف المدن في نوع ما تمتاز به من العلوم، فقد تمتاز مدينة بعلم، وأخرى بعلم آخر، وثالثة بفن أو أدب؛ وهكذا، فأنت إذا رأيت الحديث مثلا ونوعا من التاريخ الإسلامي كان يكثر في الحجاز في ذلك العصر، وأن المذاهب الدينية نبع أكثرها في العراق، وأن النحو نبع في البصرة، فلا تظن أن ذلك كان مجرد اتفاق، بل الواقع أن هناك أسبابا اجتماعية أنتجت ذلك، ولم يكن في الإمكان أن يكون غير ما كان، واختلاف المدن في الشهرة العلمية ونوع العلم الذي تمتاز به يرجع إلى أسباب، أهمها بالنظر إلى العصر الذي نبحث فيه: تكون المدنية الإسلامية على أطلال مدنيات قديمة طبعت البلاد بطابع خاص كالذي كان في مدن العراق والشام، فلما فتحها المسلمون لم تتجرد من طابعها وعقليتها القديمة؛ ولكن أثر فيها الإسلام أثرا جديدا، فكانت العقلية الجديدة نتيجة العاملين معا؛ ومنها أن العلماء الأولين من الصحابة ومن يلحق بهم، مع اختلاف شخصياتهم العلمية التي بينا، نزلوا في البلاد المختلفة، وكونوا فيها مدارس ومذاهب تبعا لمزاجهم العقلي، فتأثرت البلاد التي نزلوا فيها بشخصياتهم، ونهجوا في العلم مناهجهم! ومنها ظهور أحداث سياسية وغير سياسية، كان لها أثر كبير في امتياز بعض المدن بنوع من العلم ونمط من التفكير! فظهور رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في مكة وهجرته إلى المدينة جعل لمكة والمدينة صبغة علمية خاصة؛ وكثرة الأحداث السياسية في العراق وتلاحق الفتن فيه كان له الأثر الكبير في نشوء المذاهب الدينية به، وقرار الخلافة الأموية في دمشق لم يخل من أثر في تكييف الحياة العلمية فيها؛ وهكذا مما سنعرض لبيانه بعد، وعلى الجملة فقد كانت أهم المراكز العقلية في ذلك العصر مكة والمدينة في الحجاز، والبصرة والكوفة في العراق، ودمشق في الشام، والفسطاط في مصر.
الحجاز: قطر فقير خلا من الأنهار، وكسيت أرضه غالبا بالصخور والرمال، واشتدت حرارته فلم تسمح للنبات أن ينمو إلا في وديان بعثرت هنا وهناك، يعيش أكثر أهله عيشة بدوية، لم يتصلوا بالعالم الذي حولهم إلا بالقدر الذي أبناه - من قبل - ولم تتعاقب عليهم مدنيات مختلفة تورثهم حضارة وعلما، ولم يصل إليهم من العالم المتحضر إلا أثارة من اليهودية والنصرانية وقليل من الحكمة والفلسفة من طريق غير معبد؛ ومع هذا فإنهم وإن لم يرثوا مدنية وعلما عن أمم حكموهم وتعاقبوا عليهم، فقد أورثهم استقلالهم أنفة وعزة واعتدادا بالنفس وحرية جاوزت الحد، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين.
جاء الإسلام فكان لمدينتي الحجاز - أعني مكة والمدينة - شأن علمي كبير، ولكنه العلم الديني المطبوع بالطبع العربي؛ فأما مكة فلأنها كانت منبع الإسلام وبها كانت نشأة محمد
صلى الله عليه وسلم ، وبها كانت الأحداث الأولى من دعوة قريش إلى الإسلام ومناهضتهم الدعوة، وبها كان التشريع المكي، وهو لا يفهم فهما حقا حتى يفهم ما كان يحيط به من ظروف مكية، وبعض هذا التشريع الإسلامي إنما هو إقرار لما كان يفعل في مكة قبل الإسلام ككثير من مناسك الحج.
وأما المدينة فمهاجر النبي
Unknown page