لمن أتكلم اليوم؟ فإن الذي كان يظن أنه يثير الغضب بأخلاقه الشريرة، يسر منه الناس جميعا رغم أن خطيئته فظيعة
لمن أتكلم اليوم؟ فإن الناس يسرقون، وكل إنسان يغتصب متاع جاره
لمن أتكلم اليوم؟ فإن الخائن صار أمينا، ولكن الأخ الذي يأتي بها (يعني الأمانة) يصير عدوا
لمن أتكلم اليوم؟ لا يوجد رجل عادل
وقد تركت الأرض لأولئك الذي يرتكبون الظلم.
لقد تنحت روح ذلك المتألم عن الموت، ثم أخذت تقترح عليه أن يعيش عيشة اللهو والملاذ كطريق للخلاص مثل الذي جاء في أنشودة الضارب على العود، ولما أحس ذلك التعس من أعماق قلبه بفظاعة الموت وأخذ يفهم عدم فائدة العتاد المادي المحض لدفع غائلة الموت، نكص على عقبيه مدة قصيرة ثم عاد يتأمل الحياة. والقصيدتان اللتان دونهما هنا تصوران لنا ماذا رأى عندما رجع لبحث الحياة، أما ما يلي فهو وثبة منطقية، بعد العلم بأنه ليس هناك أي بصيص من الأمل في الحياة، إلى الاقتناع التام بأن الموت هو الخلاص الوحيد من ذلك البؤس الذي انغمر فيه.
فالقصيدة الثالثة إذن أنشودة قصيرة في مدح الموت، غير أنها ليست بحثا ساميا في مزايا الموت مثل الذي نطق به «أفلاطون» بعد 1500 سنة في قصة موت «سقراط»، كما أنه لا يمكن مقارنتها بالتشاؤم الفلسفي السامي الذي نراه في سفر ابتلاء «أيوب» النبي صلوات الله عليه. ولكنها تعد أقدم صيغة وصلت إلينا عبر بها الفرد عما أصابه من العذاب ظلما، وأول صرخة من متألم بريء وصل إلينا صداها من عصور ذلك العالم القديم، وهي تعد بحق ذات فائدة فريدة، ولا تخلو من جمال بما احتوته من حرارة نفسية خلابة.
ومما يلفت النظر أنها لا تحتوي على أية فكرة عن الإله، بل تتناول فقط موضوع التخلص السار من آلام الماضي التي لا تحتمل، دون أن تتطلع للمستقبل. وقد كان من خصائص العصر والجو الذي نظمت فيه تلك القصيدة أن يصور ذلك الخلاص السار في شكل صور محسوسة مأخوذة من الحياة اليومية لسكان وادي النيل الأقدمين، وهاك ما قاله في ذلك:
الموت خلاص سار
إن الموت أمامي اليوم، كالمريض الذي أشرف على الشفاء، وكالذهاب إلى حديقة بعد المرض
Unknown page