الفصل العاشر
انهيار المذهب المادي وأقدم عهد للتخلص من الأوهام
تعد أهرام الجيزة دليلا قويا على السيطرة والثروة اللتين كانتا متجمعتين في أيدي فراعنة الأسرة الرابعة، وبقاء تلك المباني الرائعة مدة تقرب من خمسة آلاف سنة يعتبر دليلا آخر يعزز ذلك؛ إذ إن الفرعون الذي كان في مقدوره أن يجمع كل ثروة رعاياه ومجهودهم وهم عدة ملايين لإقامة ضريح يبلغ ارتفاعه 481 قدما، ومساحته لا تزال تشغل نحو 13 فدانا من المباني الصلبة، لا بد أنه كان قد جمع في يده زمام حكومة قوية مركزة. ولا شك أنه كان يستعمل تلك السلطة دون أن يكترث كثيرا بالآلام التي كانت تعانيها الإنسانية من تسخيره إياها في تلك الأعمال الشاقة. ونحن نعلم الآن أن كبار الموظفين الذين كانوا يديرون دفة تلك الإدارة العظيمة قد أثروا منها تدريجا، وبخاصة من الأراضي التي كان الملك يهبها إياهم، وبذلك أسسوا لأنفسهم ضياعا عظيمة حتى صاروا يعيشون كما يعيش حكام الإقطاعيات في مقاطعاتهم، وبعد انقضاء بضعة قرون وصل أولئك الموظفون إلى درجة عظيمة من الاستقلال؛ أي إن حكومة البلاد التي كانت مركزة في يد الملك، والتي تنطق بها ضخامة المقابر الملكية الشاسعة الأرجاء بالجيزة أخذت تنحدر نحو اللامركزية التامة، ولم يأت عام 2500ق.م حتى صارت الدولة المصرية القديمة مؤلفة من مجموعة من الإقطاعات المفككة الأوصال مهددة بفقد كل رابطة بينها، تكاد تقضي عليها عوامل التمزيق والتفريق.
وبذلك نرى أنه في فترة تقدر بأقل من ألفي سنة قامت أولى المدنيات بدورة التطور كاملة، من توحيد كلمة رؤساء المقاطعات المحليين في عصر ما قبل التاريخ إلى تأليف حكومة متحدة من تلك المقاطعات جميعا عن طريق أقصى درجات تركيز السلطة، ثم عادت ثانية إلى اللامركزية بخطى متوالية إلى أن رجعت سيرتها الأولى، حيث صارت مكونة من مقاطعات محلية مستقلة، فكانت هذه أول دورة في تجارب البشرية. وقد رأينا أنها تركت أثرا بالغا عميقا في عقول رجال الفكر؛ إذ صار في مقدورهم لأول مرة عند نهاية الدولة القديمة أن يرجعوا بأبصارهم إلى ذلك الماضي القديم والتأمل في ذلك المنهج الطويل من تطور النظام البشري. وقد تبين لهم كيف أن أخلافهم، بتأثير سير هذا الموكب العظيم الممثل لأقدم حياة بشرية منظمة في التاريخ، قد نقلوا تدريجا آلهة الطبيعة القدامى إلى مملكة الشئون الاجتماعية، وسنرى الآن تأثير التجارب الاجتماعية النامي على أفكار هؤلاء الحكماء بشأن الإنسان والسلوك البشري وعن الإله.
والأرجح أنه بعد سنة 2500ق.م بقليل انهارت حكومة الدولة القديمة؛ أي الاتحاد الثاني، ومزقت أوصال البلاد شر ممزق، وخلال أوقات الشجار الذي كان قائما بين الأشراف المحليين على أثر ذلك الانهيار ظهر عميد أسرة من حكام الإقطاعات كان يقطن «أهناسية المدينة» الواقعة على مسافة 25 فرسخا جنوبي «منف»، واستولى على السلطة التي كانت لملوك «منف» مدة طويلة، وأقام نفسه فرعونا على البلاد، غير أن هذه الأسرة الأهناسية التي كانت ضعيفة في سياستها لم تترك لنا عنها إلا شيئا ضئيلا من آثارها يحدثنا عن أخبار ذلك العصر، فقد انفصل عنها النصف الجنوبي من الوجه القبلي ونال استقلاله، كما أن المناوشات كانت قائمة أحيانا ضدها على الحدود في مصر الوسطى. ومع أن التأثير العظيم الذي نتج عن هذا الانهيار التام في حكم الاتحاد الثاني بعد أن عمر ألف سنة لم يظهر في أول الأمر ظهورا تاما؛ فإنه كان في ذلك مثله كمثل سقوط «رومة»؛ إذ ترك أثرا قويا على عقول القوم الذين شاهدوه، فقد أقلع رجال الفكر عن التفكير في الأبهة الظاهرة الكاذبة، وتحولوا إلى التأمل العميق في القيم الباطنة. ولا بد أن الحياة المتحضرة في أمهات مدن الدولة القديمة مثل «منف» و«عين شمس»، وهي التي كانت مركزا للقوة والثقافات، كانت لا تزال باقية فيها على ما هي عليه، هذا فضلا عما في «أهناسية» نفسها، فإننا تعلم على الأقل أن أحد ملوكها كان حكيما ذا عقل مفكر راجح، ومما يؤسف عليه أن اسم ذلك الملك مجهول لنا للآن، ولكنه لما قارب حكمه النهاية كتب رسالة في سلوك الملك ليعلم بها ابنه «مريكارع»، وقد سميت هذه الرسالة «تعليم موجه إلى «مريكارع»».
وتلك الوثيقة الهامة مدونة على بردية محفوظة الآن بمتحف «لنينجراد»، وهي تحمل بين سطورها أدلة قاطعة تثبت أنها كتبت في العصر الذي تنسب إليه، ويمكن أن نعتبرها صوتا حقيقيا لملك «أهناسية» المسن الذي كان يرجع بنظره إلى الوراء للاستفادة من ماضي تلك الدولة القديمة؛ وذلك لعظيم احترامه للحكمة التي تمخضت عنها تلك الأزمان؛ إذ نرى ذلك السياسي المحنك يتحدث عن الرجل الحكيم فيقول: «إن الحق (يعني «ماعت») يأتي إليه مختمرا حسبما كان عليه الأجداد، فعليك إذن أن تقتدي بآبائك وأسلافك ... تأمل؛ لأن كلماتهم مدونة في المخطوطات فافتحها لتقرأها واقتد بمعرفتهم، وبتلك الكيفية يصير صاحب الصناعة على علم بها.» ونحن من جانبنا يمكننا أن نلحظ في تلك الكلمات تأثير نصائح «بتاح حتب» الذي عرف في نصائحه الكلام بأنه صناعة، وعرف المتكلم الماهر بأنه محترف. ولا بد أنه كان بين تلك المخطوطات ملف البردي الذي يحتوي على نصائح «بتاح حتب»، والذي كان الملك الأهناسي يأمر ابنه بفتحه وقراءته حتى يمكنه التبصر فيما يحويه من الحكم التي مضى عليها وقتذاك نحو 400 سنة. ويقول ذلك الملك المسن: «كن ممن يحسنون صناعة الكلام لتكون قوي البأس؛ لأن قوة الإنسان هي اللسان، والكلام أعظم بأسا من كل حرب.» وهذا القول أشبه بقولنا: «القلم أشد بأسا من السيف.»
غير أن ذلك السياسي المصري - كما أظهر لنا ذلك «بتاح حتب» - كان يعرف معرفة تامة أن اللسان الذرب يحتاج إلى توجيه حكيم؛ إذ يضيف إلى ما سبق قوله: «إن الرجل الفطن لا يجد من يفحمه، كما أن الذين يعرفون أنه أوتي الحكمة لا يعارضونه، وبذلك لا تحدث مصيبة في زمانه.» وكان من المستحيل بداهة أن يتجاهل الإنسان الصعوبات القائمة في موقف البلاد السياسي إذ ذاك، ولذلك أسديت النصيحة إلى الأمير الصغير بالمحافظة على العلاقات السلمية بينه وبين جنوب الوجه القبلي المستقل في ذاك الوقت. وقد خصص جزء كبير من تلك النصيحة للعناية بحدود البلاد المصرية المكشوفة من جهة آسيا شرقا ولوبيا غربا.
ولقد برزت فطنة ذلك السياسي المسن بوجه خاص في سياسة البلاد الداخلية؛ إذ نجده يعترف اعترافا صريحا بقوة الأسر الشريفة العظيمة؛ ولذلك فإنه يوصي بمعاملتها بتلك السياسة التي اتبعها كثير من ملوك أوروبا فيما بعد؛ وهي سياسة المهادنة والتعاون. كما أبدى فطنة عظيمة في الوقت نفسه لتقديره ضرورة البحث عن الكفايات المغمورة في الأوساط الدنيا، وتكوين رجال جدد يمكن استخدامهم ضد رجال الإقطاع القدامى؛ ولذلك نراه يقول: «أعل من شأن الجيل الجديد ليحبك أهل الحاضرة ... إن مدينتك ملأى بالشباب المدرب الذين هم في سن العشرين. ضاعف الأجيال الجديدة من أتباعك، على أن يكونوا مزودين بالأملاك، وقد منحت لهم الحقول وجعلت في حيازتهم قطعان الماشية. وإياك أن ترفع من شأن ابن العظيم على ابن الوضيع، بل اتخذ لنفسك الرجل من أجل كفايته.» ومع ذلك فإنه ليس من الفطنة أن تهمل الأسر الشريفة العريقة؛ ولذلك يقول: «عظم من شأن أشرافك لينفذوا قوانينك؛ لأنهم إذا لم يكونوا أهل يسار فإنهم لا يقيمون العدل في إدارتهم للأمور. إن الرجل الغني في بيته لا يتحيز (يعني في حكمه)؛ لأنه صاحب عقار وليس محتاجا، ولكن الرجل الفقير (وهو في وظيفته) لا يتكلم حسب العدالة (يعني ماعت)؛ لأن الرجل الذي يقول: «ليت لي» لن يكون محايدا، بل ينحاز إلى الشخص الذي يحمل في يده العطية
reward ، فالعظيم من كانت أشرافه عظماء، والملك الخطير من كانت له حاشية، والرفيع من كان حوله أشراف كثيرون. وإذا تكلمت الصدق (يعني ماعت) في بيتك فإن الأشراف المتسلطين على الأرض سيهابونك. والملك ذو العقل المحايد يفلح حاله؛ لأن داخل (القصر) هو الذي يبعث الاحترام في الخارج.»
وفضلا عن المسئولية فيما يختص بالعدالة الدنيوية يؤكد الملك المسن لابنه بأنه على الملك واجبات هامة في المعبد، وأنه محتم عليه أن يوجه كل عنايته لإقامة جميع الشعائر المقدسة مما يظهر بكل جلاء اعتماده التام على العطف الإلهي. على أن فضيلة الملك على أية حال لا تظهر بإقامة أمثال هذه الشعائر الخارجية الظاهرة وحدها، كما أنها ليست ضمانا كافيا لرضى الإله؛ فإن أخلاق المعطي أعظم خطرا من الهبة التي يبذلها؛ ولذلك نجد الملك المسن يأتي في وصيته بما يعد من أنبل ما جاء به التفكير الخلقي بمصر القديمة؛ إذ يأمر ابنه بأن يحفظ في ذهنه: «أن فضيلة الرجل المستقيم أحب (يعني عند الإله) من ثور (أي الذي يقدم قربانا) الرجل الظالم.» فلا بد إذن لذلك الشاب عندما يتربع فوق العرش أن يحكم طبقا للصفات الخلقية الباطنة؛ ولذلك يقول له والده: «أقم العدل لتوطد به مكانتك فوق الأرض، وواس الحزين ولا تسئ إلى الأرملة، ولا تحرمن رجلا من ميراث والده، ولا تضرن الأشراف في مراكزهم، ولا تقم بالعقاب (يعني بنفسك) فإن ذلك لا يفيدك، بل عاقب بواسطة الجلادين ومن غير إسراف، وبذلك تستتب لك الأرض ... والله عليم بالرجل الثائر، والله يجازي عسفه بالدم ... ولا تقتلن رجلا تعرف قدره وتكون قد جودت معه الكتابة (يعني في المدرسة بطبيعة الحال).»
Unknown page