8
أما عن الأبوة فقد كان فيها «لبتاح حتب» آراء حاسمة، ففي ذلك يقول: «إذا كنت رجلا ناجحا وأسست لك بيتا وأنجبت ولدا اكتسب رضا الإله (يقصد الملك)، فإذا عمل صالحا ومال إلى طبعك وسمع نصائحك وكانت خططه ذات نتائج حسنة في بيتك، ومعتنيا بمالك كما يجب، فابحث له عن كل شيء حسن، فهو ابنك الذي ولدته لك «كا» (نفسك)، ولا ينفرن قلبك منه، ولكن إذا جنح إلى السوء وأعرض عن خططك (يعني أوامرك)، ولم يعمل حسب نصائحك وصارت خططه لا خير فيها وتحدى كل ما تقوله ... فعندئذ أقصه عنك؛ لأنه ليس ابنك ولم يولد لك ...»
ومع أن ذلك الوزير المسن كان يقدر تماما قيمة النجاح الدنيوي وإحراز الثروة؛ فإنه كان يرى من الواجب ألا تطغى على روابط الأسرة، فتراه يقول: «لا تكونن شرها في القسمة، وانبذ الطمع حتى في حقك، ولا تطمعن في مال أقاربك؛ فإن الالتماس اللين يجدي أكثر من القوة ... وإن القليل الذي يؤخذ بالخداع يولد العداوة (حتى) عند صاحب الطبع اللين (يعني الحليم).»
ولما كان الطمع من أكبر الصفات الذميمة الداعية لتفكيك روابط الأسرة المتماسكة، تراه يحذر من ذلك فيقول: «إذا أردت أن يكون خلقك محمودا، وأن تحرر نفسك من كل قبيح؛ فاحذر الشراهة فإنها مرض عضال لا يرجى شفاؤه والصداقة معها مستحيلة؛ لأنها تجعل الصديق العذب مرا، وتقصي ذا الثقة من سيده، وتجعل كلا الأبوين كالغرباء، وكذلك تفعل في أخوة الأمهات، وتفصل الزوج من زوجه، فهي حزمة من أنواع الشر، وعيبة بها كل شيء مرذول، والشره لا قبر له.»
وقد شفع «بتاح حتب» هذا البحث الذي ينطق بما للروابط الخاصة بالأسرة من القيمة العظيمة في بيت الإنسان، بوجوب احترام أهل بيوت غيره ولو كانوا من غير ذوي قرباه، فنجده يحذر الزائر تحذيرا شديدا من محاولته الاقتراب من النساء، بل يحتم عليه أن يتباعد عنهن بقدر المستطاع، فيقول في ذلك: «إذا أردت أن تحافظ على الصداقة في بيت تدخله سواء أكنت سيدا أم أخا أم صاحبا، فاحذر القرب من النساء، فإن المكان الذي يكن به ليس بالحسن، ومن الحكمة إذن ألا تحشر نفسك معهن، ومن أجل ذلك يذهب ألف رجل إلى الهلاك بسبب متعة برهة قصيرة تضيع كالحلم، ولا يجني الإنسان من معرفتهن غير الموت.»
على أنه توجد من تلك النصيحة صورة أخرى مستحدثة تصف طريق معاملة النساء بطلاوة أكثر مما سلف، هذا نصها: «وعندما يفتتن الإنسان بأعضائهن البراقة [النص الحرفي: أعضاء من الزجاج] فإنها بعد ذلك تصير مثل حجر «هرست»؛ أي شيئا تافها، والأمر لحظة وجيزة مثل الحلم والموت يأتي بعده في النهاية.» وإننا نعلم أن جريمة الزنا [الخيانة الزوجية] كانت عقوبتها الموت في الأزمان التي تلت ذلك العصر الذي عاش فيه «بتاح حتب»، ولا يبعد أن ذلك العقاب كان متبعا في عهد الدولة القديمة.
ولقد كان رأي ذلك الوزير المسن في الحظيات يمثل عصره طبعا، فقد خصهن بفقرة قصيرة يحض فيها على معاملة الحظية بالرفق، ويضاف إلى ذلك أيضا أن ذلك الوزير قد حض ابنه في تلك المناسبة على ألا يحاول قط إفساد الصبية.
وتسود جميع حكم ذلك الوزير السياسي المسن روح الشفقة الكريمة، وهي تبتدئ في نظره أولا ببيت الرجل وأسرته التي كانت تعد رابطتها على أعظم جانب من الأهمية والمكانة، ثم تمتد إلى من توجد بينه وبينهم أية معاملة أو علاقة رسمية، يبدو لنا ذلك مما يوصي به هذا الحكيم المسن ابنه بأن يتوخى في مسلكه المرح والابتهاج؛ إذ يقول له: «كن باش الوجه ما دمت حيا.» ثم يستمر في كلامه متأثرا بروح تشعر بأنها هي أصل للمثل المشهور لدينا: «لا فائدة من النحيب على لبن مهراق.»
وذلك المرح البالغ البادي من روح تلك الكلمات يتفق مع إلحاح ذلك الوزير المسن في طلبه للراحة والترفيه.
ومن المحتمل أن «بتاح حتب» لا يشير فيما يأتي من كلامه إلى شيء أكثر من الحث على الاهتمام باقتناص الفرص للتمتع بألوان الطعام اللذيذة وتشنيف الأسماع بالموسيقى ومزاولة الرقص والتلهي بلعب الداما، والتلذذ بمشاهدة الحديقة الغناء والرياضة بالصيد في المستنقعات، أو الذهاب إلى ضيعته مستريضا محمولا في محفة فوق أكتاف خدمه، وحوله الذين يتحببون إلى سيدهم في أغانيهم وهم يرددونها على سمعه: «ما أسعد الذين يحملون المحفة! خير لنا أن تكوني مملوءة من أن تكوني خالية.»
Unknown page