284

Fajr Damir

فجر الضمير

Genres

وفي اعتقادي أن تصورنا الجديد للأدب العبراني، مما أثبت التاريخ صحته، لا يحط من شأن ذلك الأدب، بل على العكس يرفع من قدره؛ إذ إنه يكشف لنا في الواقع عن صورة جديدة للمصادر الكبرى التي نبعت منها تلك المؤثرات الإنسانية التي ضربت بأعراقها في مادة المدنية الغربية. وكثيرا ما نسمع عما يسمى «النزعة الإنسانية الجديدة»؛ فهذه النزعة تتجلى روحها في البحث الحديث الذي يجري في التربة التي غرست فيها أول حبة خلقية فنمت وآتت أكلها. وقد كشفت لنا الأبحاث الشرقية عن حقيقة واضحة؛ هي أن التربة التي أخرجت أجمل زهرة من المثل العليا الاجتماعية هي الحياة البشرية ، ومتى اقتنعنا، عن هذا الطريق، أن تصور الإنسان للأخلاق البشرية المثلى أقدم بكثير من «عصر الأنبياء»، فإننا نكون قد وصلنا إلى أساس جديد عريض للثقة ببني الإنسان. (4) الماضي الجديد كمؤثر خلقي جديد

لقد أصاب اللورد «أكتون» كبد الحقيقة حين قال: «إن إماطة اللثام عن العالم القديم يعد بعد كشف الدنيا الجديدة، الحادث الثاني الذي يفصل بيننا وبين القرون الوسطى ويميز الانتقال إلى الحياة الحديثة.» ونجد في رأي هذا المؤرخ الفذ أن العاملين العظيمين اللذين أخرجا الناس من العصور الوسطى إلى الحياة الجديدة ينحصران في الرؤية التي تنظر إلى الأمام وإلى الوراء معا، وهي التي لم تفطن فقط إلى المجال الذي لا حد له أمام مستقبل العالم الجديد بعد سنة 1492م، بل استمدت كذلك أعمق الإلهام من الماضي الذي كشف عنه حديثا بصورته التي تعرفها الناس من مدوناته التي وصلت إلينا، ومن الأعمال العامة الأخرى التي قام بها أعاظم رجاله. فماذا كان ذلك «العالم القديم»؛ أي الماضي الذي أشار إليه اللورد «أكتون»؟

الواقع أنه لم يكشف لأوائل أهل العصر الحديث عن أقل إشارة تدل على ذلك «الانتقال العظيم» الذي نحن بصدده؛ إذ إن كل ما كان يعرفه أولئك الذين برزوا من العصور الوسطى عن الماضي هو كما نعلم كلنا قصة «كتاب العهد القديم»، ومن بعدها تاريخ اليونان والرومان. لكننا الآن نعرف أن الجهد الذي بدأ عند فجر عصر النهضة لتعرف أخبار العالم القديم، لم ينقطع حبله في عصر النهضة، بل إنه - كما رأينا - قد استمر متواصلا في خلال جميع القرون التي مضت منذ ذلك الوقت، وسائرا بخطى سريعة، وبخاصة في خلال الجيلين الأخيرين. فنحن الآن لا نصغي فقط إلى صوت «أشعيا» و«داود» و«سقراط» و«شيشرون» كما كان يصغي إليهم وحدهم رجال عصر النهضة، بل إننا نصغي كذلك إلى أصوات ملوك الشرق العظام في قصصهم التي يفاخرون فيها بفتوحاتهم في البحر الأبيض المتوسط، وإلى أصوات الحكماء المصريين وهم يبشرون بحلول العصر الذهبي للعدالة الاجتماعية، وإلى صوت «خوفو» الذي ينطق مبناه الهائل المنبئ عن انتصارات أول دولة عظيمة منظمة، وإلى صوت أقدم سباك للمعادن يغني في رنات سندانه الحديدي الساذج نشيد تغلب الإنسان المقبل على أنحاء الأرض، وإلى صوت أولئك الأجيال من الناس الذين تقادمت عليهم العهود فصاروا نسيا منسيا فلا تسمع أصواتهم الآن إلا عن طريق رسالة تلك الآلات الحجرية المنقطعة النظير في دقة صنعها، وإلى أصوات أهل العهود الجيولوجية الذين كانوا يهمهمون بحناجرهم الخشنة بتلك الكلمات البشرية الساذجة التي يخيل إلينا أننا نسمع رنينها يدوي في أنحاء الغابات التي يرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ، مرددا صدى أول كلام واضح لتلك المخلوقات التي يصعب تمييزهم وهم على وشك أن يصيروا بشرا بالمعنى الذي نعرفه.

ونحن الآن ننظر إلى الوراء من خلال تلك الآباد والعصور، من تاريخية وسابقة للتاريخ، ونصغي إلى الأصداء التي تأتي إلينا من مشاهد تلك الأزمان، وقد تمثلت هذه الرؤية أمام الشاعر الإنجليزي «تنيسون» وهو ينظر في مهد بكر أولاده، حيث يقول: «من الأعماق يا ولدي.» ومثل هذه الصورة لهذا «الماضي الجديد» إنما أخذت تشرق الآن فقط على عقول رجال هذا العصر الحديث، ولها من القيم ما لم نبرهن بعد على شيء منه. وإن من يدرك هذه الرؤية على حقيقتها فإنه يكون قد بدأ يقرأ قصة «أوديسى» بني البشر الجليلة، وهي التي تظهر لنا الإنسان وهو خارج من ظلام الأبديات، مندفعا بجبهة مرفوعة إلى شمس حياة جديدة سامية تفوق أحلامه؛ أعني بذلك مغامرته السامية على مدى العصور.

وأحيانا كانت تأخذني الحيرة فيما إذا كانت الرؤيا التي قد تشرق على الروح الإنسانية في الفن والأدب وتكون باعثا لها على التعبير عن نفسية صاحبها، يمكن موازنتها بما تحقق من الإمكانيات الإنسانية كما رأيناها في ذلك الانتقال في الحياة البشرية الذي حاولنا تتبعه في هذا الكتاب.

وليس هناك من شك في أن ما رآه «إمرسون» في نفس الموضوع الذي ذكرناه هنا في شكل تطور مؤيد بالأدلة التاريخية لم يكن إلا مجرد حدس محض، وفيما عدا ذلك فإن الروح البشرية لم تعبر عن ذلك قط، اللهم إلا ما يحتمل حصوله في الموسيقى؛ فإنني حينما أستمع إلى القوة الهائلة التي يفتتح بها مطلع سيمفونية «بتهوفن» الخامسة، ثم أتتبع انتقاله إلى انتصاره الهادئ في آخر حركة في هذا الإيقاع، فإنه يخيل إلي أن «بتهوفن» مثل «إمرسون» قد أشعرته الإلهامات النبيلة التي أشرقت على روحه السامية بالحقيقة العميقة الأساسية التي يقوم عليها الأمل الإنساني، وهو ما يجعلنا نتوقع للأخلاق من تأثير بالغ نبتت أصوله من أعماق كون غير ممكن لنا سبر غوره.

على أننا حينما ننظر إلى الوراء في ماضي تلك الجهود البشرية الهائلة، فإننا لا نجد لها قيمة أو أهمية إلا حينما نراها تنهض نهوضا باهرا نحو «الانتقال العظيم»، ونحو العثور على القيم البشرية المثلى في عصر الأخلاق.

والواقع أن عدم تكامل «الانتقال العظيم» هو الذي يجعلنا ننتظر من وراء رحلة بني الإنسان الطويلة عاملا خلقيا فعالا، على ألا يكون ذلك عن طريق استيعاب الإنسان لمحتويات أي دين من الأديان القديمة بحيث تصير جزءا من كيانه، بل يجب أن يكون ذلك عن تصور ما للمحجة العليا التي لا تخرج مثل هذه الأديان عن كونها علامات مرشدة إلى الطريق التي تؤدي إليها؛ إذ من السهل أن يسيء الإنسان فهم قيمة تجاريب الشرق القديم من ناحية الدين والأخلاق.

وإنه لمن المناظر الشائعة والباعثة على أشد الأسف، وبخاصة في أمريكا وإنجلترا، ما نشاهده الآن من بعض تلك الأنوثة المخبولة وهي يتأملن الحقائق السامية، معتقدات في بلاهة، أنها منحصرة في دين ما من أديان الشرق القديم دون سواه، ناسيات بذلك كل ما قدمته عصور التجاريب الإنسانية لإنماء ورفعة وإغناء كل ما وصل إلينا من الديانات التي ترجع إلى أصل قديم.

على أن تجاهل القرون الأخيرة وما أحدثته من تقدم مشرف، والرجوع إلى الوراء والتعلق بالمراحل الأولى الأصلية لدين ما دون تغيير، يكون مثله كمثل إنسان اشتد به الظمأ في يوم شديد القيظ، فالتمس ما يشفي به غلته في الرقود تحت شجرة من البلوط، ثم حاول إطفاء عطشه ببذرة من البطيخ.

Unknown page