ومن الممكن أن نورد هنا ما لا حصر له من الأمثلة التي تبين كيف تمر الأجيال، ألف السنة تلو الأخرى، وكل جيل يجمع تجاريبه الخاصة به، ومع ذلك يعيد ويكرر الكثير مما أوحت به تجاريب العصور التي جاءت قبل عصره، وهكذا دواليك في جميع الأزمان. (3) الانتقال العظيم
بصفته تعبيرا عن تجاريب البشرية
مهما يكن من بطء تجمع التجاريب الإنسانية فمن المهم جدا أن نعترف بالحقيقة التاريخية التي تنطق بأن الانتقال العظيم الذي كنا نناقشه أخيرا هو ثمرة التجاريب البشرية ونتيجتها، وأن القوة المحركة للتقدم الإنساني منذ ذلك الوقت كانت هي الخبرة البشرية، وأن خبرة الإنسان نفسه كانت وستبقى دائما أعظم معلم له.
فإن سن قانون التعديل الثامن عشر إنما كان محاولة من أهل الولايات المتحدة الأمريكية للقيام بتجربة جديدة، ولكن الخبرة الاجتماعية أثبتت أن محاولة السيطرة على العادات الاجتماعية كان نصيبها الفشل؛ فالخبرة الاجتماعية إذن هي المعلم الذي لا تلين قناته لغامز.
حقا إنه ليس من عالم مفكر من علماء الأدب العبراني الذي نسميه «العهد القديم» إلا ويشعر بقوة ذلك الكتاب، ويقدر الدور الأساسي الهام الذي لعبه في تقدم المدنية الغربية. غير أنه يجب علينا أن نعترف أيضا بأن «كتاب العهد القديم» كجزء من الأدب العبراني القديم لا يخرج كذلك عن كونه سجلا للتجاريب البشرية القديمة؛ فقد كنا في الصفحات السابقة نربط الحياة السامية في عالم مدنيتنا الغربية الحديثة بمصادرها الأصلية الأولى من حياة الإنسان في الشرق القديم في زمن يرجع عهده إلى ما قبل بداية التاريخ العبري بأكثر من ألفي سنة، وبعملنا على هذا النهج لم نعثر على أصول الشعور الخلقي فحسب، بل عثرنا كذلك على فصول بحذافيرها من التاريخ الاجتماعي، ونقصد بذلك قصة حياة أمة عظيمة كما تجلت أمامنا في مدة تقرب من ثلاثة آلاف من السنين، أنتجت في خلالها أقدم التصورات الخلقية العميقة وتمخضت تجاريبها عن المبادئ الخلقية الناضجة التي عبر عنها فيما خلفته من الأدب الضخم. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل رأينا ذلك التقدم يسير في طريقه حتى أنتج ذلك الأدب قبل بداية ما يسميه علماء اللاهوت القدامى «بعصر الأنبياء» بعدة قرون، وقد برهنا بالأدلة التاريخية على أن ذلك الأدب لم يبق فقط إلى العهد المسمى بعصر الأنبياء، بل كان له أيضا تأثير عميق في التطور الخلقي والديني عند العبرانيين، وهم الذين ورثنا عنهم تراثنا الخلقي العظيم.
على أن مصادر تراثنا الخلقي كانت تمتد إلى مسافة بعيدة جدا وراء الحدود الفلسطينية؛ إذ كانت تشمل كل أنحاء الشرق الأدنى القديم؛ وبخاصة مصر التي ظهرت فيها أقدم التصورات الروحية السامية في المثل العليا الاجتماعية. ولم يكن في مقدورنا قط من قبل أن ندرك تلك المصادر الكبرى التي أخذنا عنها ذلك التراث الخلقي المنعدم المثيل؛ لأن السبيل الذي وصل منه إلى العالم الغربي هو الأدب العبراني وحده، بل إننا لم نكن نعرف من قبل ذلك الأصل العالمي المركب الذي تألف منه ذلك الأدب.
وإن الفكرة المنبوذة الآن التي تفترض وحيا مميزا منحصرا في شعب واحد دون سواه، نمت في وقت كانت فيه المدنية الغربية تجهل تمام الجهل قصة نهوض الإنسان وتاريخ المدنيات البائدة التي سبقت عهد العبرانيين. وعلى ذلك نعيد هنا ما قلناه من قبل من أن مثل ذلك التصور الذي يقصر الوحي على شعب واحد ما كان ليظهر قط لو لم تكن لغات الشرق القديم قد فقدت ولم تعد سجلاتها مفهومة لأي إنسان، مما أدى إلى اختفاء الأدب الأخلاقي والديني لتلك المدنيات العظيمة التي يزيد عمرها على عمر العبرانيين بضعة آلاف من السنين.
ولعل أجل خدمة خدمتها لنا الحفائر الأثرية هي إماطتها اللثام عن التقدم الاجتماعي والخلقي الذي أحرزته تلك الجماعات الشرقية القديمة قبل نهوض الأدب العبراني وقيامه بزمن طويل.
وإن هذا الكشف الذي وصل إليه العلم الحديث يعد من أهم الكشوف العميقة البعيدة المدى؛ فلقد أبان لنا أننا كنا الوارثين لحياة الإنسان المبكرة على وجه عام، وبخاصة تلك الحياة التي سارت في مدارج التقدم حول الطرف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط.
ومن الظاهر بالطبع أنه لا يدخل في دائرة أبحاثنا هنا تلك الزيادات النفيسة التي أضيفت إلى ذلك التراث نتيجة للتفكير الخلقي في أوروبا القديمة والحديثة.
Unknown page