وأما في بلاد فلسطين التي احتلها العبرانيون فيما بعد، فإن الكنعانيين، الذين كانوا يسكنون هذه البلاد قبل العبرانيين، كانوا قد اجتازوا مرحلة من النمو المتحضر تبلغ أكثر من ألف سنة حينما غزا العبرانيون البلاد.
وقد عرفنا من النقوش التاريخية البابلية والمصرية القديمة، وكذلك من الحفائر الأثرية، شيئا كثيرا عن هذه المدنية الفلسطينية الراقية النامية السابقة لعهد العبرانيين، كما أنه كان للثقافة البابلية - كما ذكرنا - من قبل أثر هام خالد في فلسطين الكنعانية، وعن طريق الكنعانيين - بوجه خاص - وصل أثر البابليين في الفن والأدب والدين إلى العبرانيين. يضاف إلى ذلك أن هذا الإقليم كان منذ زمن بعيد واقعا تحت نفوذ الحضارة المصرية القديمة؛ فقد بدأ المصريون يبسطون سيطرتهم على الساحل الفينيقي قبل أن يطأ العبرانيون فلسطين بأكثر من ألفي سنة؛ إذ اقتحمت الجيوش المصرية فلسطين قبل سنة 2500ق.م، ولما فتح الفراعنة المصريون آسيا الغربية ووصلوا في فتحهم إلى نهر الفرات في خلال القرن السادس عشر ق.م، بقيت فلسطين مستعمرة في أيديهم أكثر من أربعة قرون. والواقع أنهم حكموا فلسطين مدة قرنين بعد دخول العبرانيين فيها، وبذلك بلغت المدنية الكنعانية مرتبة سامية في القرون التي احتلتها فيها مصر، فلما غزاها العبرانيون كانت قد صبغت مرارا وتكرارا بالعناصر المصرية.
وكان من نتائج ذلك أن العبرانيين حيثما دخلوا فلسطين صاروا على اتصال مباشر بتلك الحضارة الكنعانية المركبة، التي أنشئ معظمها من العناصر البابلية والمصرية القديمة معا، هذا فضلا عن أن تلك المدنية الكنعانية، بمرورها في تجاريب اجتماعية طويلة، كسبت كذلك عناصر ثقافية كثيرة من صنع الكنعانيين أنفسهم. والواقع الذي لا شك فيه أن اللغة التي وجدها العبرانيون الفاتحون، وهي اللغة الكنعانية لغة البلاد وقتئذ، قد اتخذها العبرانيون أنفسهم لغة لهم، وهي التي انحدرت إلينا فيما بعد في ثوب اللغة العبرانية التي كتبت بها التوراة. ومما يؤسف له أننا لا نعرف شيئا يذكر عن التاريخ الخلقي لذلك الشعب قبل الغزو الإسرائيلي.
وبتلخيصنا لموقف فلسطين من نواحيه المختلفة، نرى أن تلك البلاد من الوجهة الجغرافية تقع على جسر طبيعي ضيق بين البحر الأبيض المتوسط من جهة والصحراء العربية من جهة أخرى، وهو جسر يقع بين قارتين طالما اتخذ طريقا عاما لربط أفريقيا بآسيا منذ عهد ما قبل التاريخ.
أما من الوجهة السياسية فإن فلسطين كانت قديما كما هي الآن: كرة قدم دولية.
وأما من الناحية الثقافية فإنها - كما أوضحنا الآن - كانت داخلة ضمن الإقليم التجاري الذي طالما كانت المعاملات البابلية تسيطر عليه، كما كانت في الوقت نفسه تقع مباشرة في ظل صرح المدنية المصرية العظيمة، فالقوم الذين استقروا في أرض فلسطين لم يجدوا أنفسهم في وسط حضارة قديمة تكونت بالإقليم نفسه ومصبوغة إلى حد كبير بالصبغة المصرية القديمة فحسب، بل كانوا يطلون أيضا على مدنيات أعرق منها بكثير على كلا الجانبين في آسيا وأفريقيا، فمن هذه البيئة الدولية البعيدة الأثر بالشرق الأدنى الذي كان يضم فلسطين بين جوانحه نشأت تلك الأفكار الخلقية التي غذت العالم الغربي في النهاية بالآراء الخلقية السائدة فيه الآن؛ إذ وصلت إلينا عن طريق بقايا الأدب العبراني، وهو الذي كانت محتوياته الخلقية كما أسلفنا بعيدة كل البعد عن أن تكون من أصل عبراني محض.
ومن الحقائق المدهشة أن يكون ذلك الإرث الخلقي العظيم قد وصل إلى المدنية الغربية من شعب خامل الذكر سياسيا منزو في الركن الجنوبي الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط، فإن هذا الشعب لم يقم له نظام قومي خاص به إلا منذ العشر أو العشرين سنة السابقة لعام 1000ق.م، ولم يبق أمة موحدة إلا نحو قرن واحد على أكبر تقدير، وعلى إثر انحلال تلك الدولة الصغيرة نجد أن الجزأين اللذين قاما على تراثها ظلا يكافحان البقاء، فاستمر أحدهما مدة قرنين تقريبا، وأما الجزء الآخر فإنه بعد أن مكث مدة قرن وربع قرن من سقوط الجزء الأول قضاها في حياة قلقة شبه مستقلة، تداولته فيها أيدي ممالك الشرق العظيمة قديما، قد حاق به كذلك الفناء التام بعد سنة 600ق.م بزمن قليل. بذلك تكون حياة العبرانيين القدامى القومية المستقلة - أو حياة جزء منهم - التي بدأت لأقل من ثلاثين سنة قبل عام 1000ق.م، قد مكثت حوالي أربعة قرون وربع قرن، وختمت في باكورة القرن السادس ق.م؛ أي إن هذا العهد من الحياة العبرانية القومية قد وقع بأكمله تقريبا في النصف الأول من ألف السنة الأخيرة قبل الميلاد المسيحي. وفي تلك الفترة كان تقدم الثقافة في مصر وفي بابل قد نضب معينه، وصار يعد خبرا من أخبار التاريخ القديم.
وإنه لمن المستحيل علينا طبعا أن نضمن هذا الكتاب المحدود الحجم التاريخ الديني والخلقي للعبرانيين القدامى حتى ولو بطريق التلخيص، على أن مهمتنا في هذا الكتاب تضطرنا إلى الكشف عن العوامل الأجنبية الهامة التي عملت في التطور الخلقي عندهم. ولكي نتمكن من القيام بذلك يجب أن نعيد إلى ذاكرتنا بعض الحقائق البارزة في التاريخ العبراني، إذا كنا نريد حقا معرفة العناصر الأجنبية في التطور الخلقي العبراني.
كان ظهور العبرانيين لأول مرة في ميدان التاريخ في خطابات «تل العمارنة» التي يرجع تاريخ أقدمها إلى ما بعد سنة 1400ق.م بقليل؛ أي في عهد يسبق بكثير أي أدب عبراني وصل إلينا.
وهذه الخطابات المسمارية تكشف لنا عن وجود جماعات من العبرانيين الرحل كانوا ينزحون إلى فلسطين، التي كانت وقتئذ تحت سيطرة مصر، حيث كانوا يدخلون هناك في سلك الجنود المرتزقة، ولا نعرف من شأنهم بعد ذلك شيئا مدة قرنين من الزمان، إلى أن كان وقت ذلك الأثر المصري الذي أقامه في «طيبة» (الأقصر) «مرنبتاح» بن «رعمسيس الثاني» قبل سنة 1200ق.م بنحو عشر سنين أو عشرين سنة، فقد حفظت لنا فيه أنشودة نصر نجد فيها ذلك الملك يفتخر بقوله: «وإسرائيل قد دمرت وبذرتها محيت.»
Unknown page