وفي خطبة وعظ ألقاها حديثا واعظ من أقدر الوعاظ الأمريكان، أجد أن اللمحة الآتية تتطلع إلى وقت إذا تصفح فيه مؤرخو المستقبل أخبار عصرنا رحبوا به «كعصر خطير» أشرقت فيه شمس العدالة بالشفاء من جناحيها.
11
وهذه الاستعارة المتداولة مأخوذة بلا شك من الأدب العبراني، ولكن كما سنرى قد استعارها العبرانيون من مصر حيث أشرقت «شمس العدالة» قبل أن تشرق على فلسطين بأكثر من ألفي سنة. وإذا قدر لهذه الشمس أن تشرق ثانية على جيلنا الحالي فإنها ستكون القمة لنهج الرقي البشري الذي ظل يرقى بحياة الإنسان منذ آلاف السنين قبل عصر «الأنبياء» المعترف به من زمن بعيد عند رجال اللاهوت.
وسنرى الآن ماذا يكشف لنا «الماضي الجديد» كما أظهرته لنا أحدث البحوث الجديدة عما يختص بالخبرة الإنسانية القديمة التي وصلت بالإنسان لأول مرة إلى الشعور بأعلى القيم، حتى انتهت مغامرته بانبثاق فجر الضمير وفتح عصر الأخلاق.
الفصل الثاني
آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني
إله الشمس
مما هو جدير بالاهتمام أن نلاحظ ما صار إليه الجنس البشري في مصر التي كانت تعتبر «جزيرة المنعمين» في مدة خمسة آلاف سنة، وأن نقتفي - كما هو في صدورنا الآن - آثاره وهو متطور خلال بضعة أجيال كان يستعمل فيها الآلات والأسلحة الحجرية العتيقة إلى استعمال الأزميل النحاسي، وبلوغه تلك الدقة البنائية العجيبة التي تتجلى لنا في بناء الأهرام مع ضخامتها المدهشة، وارتقائه من سكنى الكوخ المصنوع من غصون الشجر إلى إقامة القصور الفاخرة الزاهية المجملة بالقيشاني والمؤثثة بالرياش الفاخر والذهب المرصع، ثم بعد ذلك نأخذ في تفصيل تلك الخيوط الذهبية التي حيكت منها حياته المتعددة النواحي التي صارت في النهاية تؤلف نسيجا متينا فخما من المدنية. وإننا نحاول هنا اقتفاء أثر خيط واحد فقط من تلك الخيوط التي حيك منها هذا النسيج؛ وذلك لأنه يتعرج هنا وهناك بالتواءاته الدقيقة المعقدة في كل جهاته.
والواقع أنه لا توجد قوة أثرت في حياة الإنسان القديم مثل قوة «الدين»؛ لأن تأثيرها يشاهد واضحا في كل نواحي نشاطه، ولم يكن أثر هذه القوة في أقدم مراحلها الأولى إلا محاولة بسيطة ساذجة يتعرف بها الإنسان ما حوله في العالم، ويخضعه بما فيه الآلهة لسيطرته، فصار وازع الدين هو المسيطر الأول عليه في كل حين، فما يولده الدين من مخاوف هي شغله الشاغل، وما يوحي به من آمال هي ناصحه الدائم، وما أوجده من أعياد هي تقويمه السنوي، وشعائره - برمتها - هي المربية له والدافعة له على تنميته الفنون والآداب والعلوم.
على أن الدين لم يمس حياته في جميع نواحيها فحسب، بل الواقع أن الحياة والفكر والدين امتزجت عنده بعضها ببعض امتزاجا لا انفصام له يتكون منها كتلة واحدة تتداخل بعضها في بعض مؤلفة من المؤثرات الخارجية والقوى الإنسانية الباطنة. ولذلك كان طبعيا ألا يقف الدين جامدا من غير أن يتمشى مع هذه العوامل الدائمة التطور من مرحلة إلى مرحلة. هكذا كان الحال منذ أقدم العصور التي وصل إليها علمنا، وكل الأسباب تحملنا على الاعتقاد بأن الحال ستستمر كذلك: تطور وارتقاء. وسنرى الآن شيئا من هذا التطور الذي ظل فيه الكفاح قائما بين العالم الظاهري المحيط بالإنسان، والعالم الباطني الكامن في نفسه، حتى تكون الدين وتحدد وأفضى بالتدريج في نهاية الأمر إلى ظهور المبادئ الأخلاقية عند أقدم مجتمع بشري عظيم في خلال مدة تربو على ثلاثة آلاف سنة.
Unknown page