ومع أنه لم يصل إلينا شيء يذكر من الوثائق التي تكشف عن كيفية سير نظام الحكومة المصرية في ذلك العهد، فإننا نجد من جهة أخرى أن النقوش الجنازية التي دونت على مقابر حكام المقاطعات والموظفين في ذلك العهد الإقطاعي قد كشفت لنا من عقائدهم الاجتماعية. وإن السائحين الذين صعدوا في النيل في وقتنا هذا ليذكرون زيارتهم لتلك المقابر؛ إذ كانت تحملهم البواخر النيلية لمقابر «بني حسن»، ومن الجائز أن قبر «أميني»، ذلك الأمير الإقطاعي ورئيس الحكومة الإقطاعية في تلك الجهة، لم يترك إلا أثرا بسيطا في أذهان أمثال أولئك السائحين. ولكن الواقع أن ذلك القبر يعد أثرا جليل القدر في التاريخ الاجتماعي لذلك العهد ؛ إذ نجد فيه على الأقل مثلا يثبت أن الرجال الذين قاموا بالحملة الاجتماعية المقدسة قد كان لحملتهم بعض التأثير على جيل الموظفين الجدد؛ إذ يقص علينا «أميني» هذا في نقش كتب على باب مزار قبره ما يأتي:
لا توجد بنت مواطن قد عبثت بها، ولا أرملة عذبتها، ولا فلاح طردته، ولا راع أقصيته، ولا رئيس خمسة سلبته رجاله مقابل ضرائب (يعني لم تسدد)، ولا يوجد بائس بين عشيرتي، ولا جائع في زمني. وعندما كانت تحل بالبلاد سنون مجدبة كنت أحرث كل حقول مقاطعة «الغزال» (يعني مقاطعته) إلى حدودها الجنوبية وإلى حدودها الشمالية، محافظا بذلك على حياة أهلها ومقدما لهم الطعام، حتى إنه لم يوجد بها جائع قط. وقد أعطيت الأرملة مثل ذات البعل، وإني لم أرفع الرجل العظيم فوق الرجل الحقير في أي شيء أعطيته. ثم أقبل بعد ذلك الفيضان العظيم بالغلال الغنية والخيرات الكثيرة، ولكني مع ذلك لم أجمع المتأخر على الحقول (يعني من الضرائب).
ويخيل إلينا أننا نسمع في ذلك السجل صدى الأوامر التي صدرت إلى الوزير الأعظم عند تنصيبه، وبخاصة في العبارة التي يقول فيها «أميني»:
3 «إني لم أرفع الرجل العظيم فوق الرجل الحقير في أي شيء أعطيته.»
وإنه لمن السهل علينا أن نعتقد أن أميرا كذلك الأمير كان حاضرا بالبلاط الملكي وسمع الفرعون وهو يلقي تلك الأوامر على رئيس وزرائه عند تنصيبه. وإذا كانت إدارة «أميني» لمقاطعته قد وصلت إلى أي حد مما يدعيه فيما كتبه فإنه يجب علينا أن نستخلص من ذلك أن تلك التعاليم الاجتماعية التي فاه بها الحكماء أمام البلاط الملكي كانت معروفة لدى العظماء في طول البلاد وعرضها، وإذا وصل بنا الاستنتاج إلى أن ما كتبه «أميني» مغالى فيه حتى جعل حكمه يبلغ درجة عظيمة من المثالية، فإنه لا يزال أمامنا المغزى الذي نستخلصه من رغبته في إحداث مثل ذلك التأثير مما نقرؤه في ترجمة حياته.
وهذه الحالة تنطبق على سجلات بعض حكام المقاطعات الأخرى في نفس ذلك العصر، كالتي نجدها منقوشة فوق محاجر المرمر في «حتنوب»، وهي تحتوي على عدة تأكيدات من ذلك الصنف، تقص علينا أن الشريف كان رجلا «أنقذ الأرملة وواسى المتألم، ودفن المسن، وأطعم الطفل، وعال كل مدينته في زمن الجدب، وهو الذي أطعمها في وقت القحط، وهو الذي زودها بسخاء بلا تمييز، فكان عظماؤها في ذلك مثل أصاغرها.»
كذلك ذكرنا فيما تقدم أنه في عهد «سنوسرت
4
الأول» بن «أمنمحات الأول» قد افتخر شريفان في ترجمة حياتهما الجنازية بأنهما كانا قاضيين يقومان بتأدية وظيفتهما بالعدالة وبدون محاباة أو تفكير في أية مكافأة (يعني رشوة) يأخذانها، وقد قصا علينا افتخارهما ذاك بنفس لغة النصائح الموجهة إلى «مريكارع»، فدلا بذلك على أن المثل العليا الاجتماعية التي فاه بها ذلك الحكيم الملكي الأهناسي القديم كانت لا تزال ذات نفوذ، بعد قرون مضت على التفوه بها، في ذلك العصر الإقطاعي. فمن البديهي إذن أن المثل العليا للعدالة الاجتماعية التي تشغل مكانا بارزا جدا في أدب ذلك العصر لم يقتصر تأثيرها على الملك فحسب، بل أحدثت كذلك تأثيرا عميقا بين طبقة الحكام في كل مكان.
ولا شك أننا نجد في ذلك انقلابا عظيما؛ فالتشاؤم الذي كان ينظر به رجال العصر الإقطاعي الأول إلى الحياة الآخرة، أو يتأملون به مصير الجبانات المخربة التي يرجع تاريخها إلى عصر الأهرام، أو اليأس الذي كان ينظر به بعضهم إلى الحياة الدنيوية، كل ذلك قد قوبل بتيار مضاد في إنجيل من الحق والعدالة الاجتماعية أخرج للناس في نصائح ملؤها الأمل على لسان أولئك المفكرين الاجتماعيين الأكثر تفاؤلا، وهم رجال رأوا الأمل في القيام بجهود إيجابية توصل إلى الأحوال المرضية.
Unknown page