Fahm Fahm
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
Genres
يعوزنا فوات لندرك
وغياب لنرى.
إذا غاب الشيء برز حجمه، وتجلت قيمته، مما يجعل الطرح أيسر طريقة لقياس قدر الأشياء، اخلع هذا الشيء من مستقره وانظر حجم الفجوة التي كان يملؤها، امح، في الخاطر، عمل هذا الفنان أو ذاك، وانظر كم يعاني التراث الفني بافتقاده ، اطرح هذا الشخص في الظن أو في الحقيقة، وانظر كم يعتري المجلس في غيابه من وهن الفاقة أو من ذبول الشوق.
من الأهمية بمكان أن نلتفت إلى أن مصطلح «العالم» عند «هيدجر» لا يعني البيئة التي نعيش فيها بالمعنى الموضوع للبيئة، أي العالم كما يبدو للنظرة العلمية، بل هو أقرب إلى ما يمكن أن نسميه عالمنا الشخصي، فالعالم عند «هيدجر» ليس جملة جميع الموجودات بل تلك الجملة من الموجودات التي يجد الكائن الإنساني نفسه دائما مغمورا بها منغمسا فيها من الأصل ومحاطا بظاهرها كما ينكشف خلال فهم مسبق دائما وشامل ومحيط.
إن تصور العالم كشيء منفصل عن النفس، لهو تصور مناقض تماما لتصور «هيدجر»؛ لأن مثل هذا التصور يسلم منذ البداية بذلك الانفصال عينه بين الذات/الموضوع الذي ينشأ هو نفسه داخل السياق العلائقي المسمى بالعالم، إن العالم سابق على أي انفصال بين النفس والعالم بالمعنى الموضوعي، إنه سابق على كل «موضوعية»، كل تنظير، وهو من ثم سابق أيضا على الذاتية ما دام كل من الموضوعية والذاتية متصورا داخل مخطط الذات/الموضوع.
من المحال أن نصف العالم عن طريق تعداد الكائنات بداخله، فمن شأن هذه العملية أن تجعل العالم يفلت منا، ذلك أن العالم هو بالضبط ذلك الذي نفترضه مسبقا في كل فعل من أفعال معرفة الكائنات، فكل كيان (كائن) في العالم إنما يفهم بوصفه كيانا في ضوء «عالم»، عالم هو دائما هناك بالفعل، هناك من الأصل، والكيانات التي تشكل العالم المادي للإنسان ليست عالما بحد ذاتها بل في عالم. «وحده الإنسان من لديه عالم.» والعالم هو شيء شامل محيط وقريب لصيق بالإنسان في الوقت نفسه بحيث يند عن الملاحظة، إنه غير مرئي بحد ذاته، غير أن المرء لا يمكن أن يرى أي شيء حق رؤيته بدونه! فالعالم حاضر على الدوام، إنه محيط خفي يسلم به المرء ويفترضه مسبقا في كل أمر، غير أنه «شفاف» يفلت من كل محاولة لفهمه كموضوع أو شيء.
هكذا يكون مجال، عالم، جديد قد انفتح للاستكشاف، إن مقاربته لن تكون سهلة، فلا الوصف الإمبيريقي للكيانات بداخله ولا حتى التفسير الأنطولوجي لوجودها الفردي بحد ذاته سوف يقابل ظاهرة العالم، العالم هو شيء يحس بجانب الكائنات التي تظهر في العالم، غير أن الفهم يجب أن يكون خلال العالم، فالعالم أساس كل فهم، العالم والفهم أجزاء لا انفصام لها من البنية الأنطولوجية لوجود الآنية (الدازاين).
ويناظر شفافية العالم شفافية أشياء معينة في العالم يرتبط بها وجود المرء في حياته اليومية، فالأدوات التي يستعملها كل يوم، وحركات جسمه التي يؤديها دون تفكير، كل هذه تغدو شفافة لا يتلفت إليها المرء ولا يلحظها إلا إذا حدث تصدع ما أو تعطل. عند نقطة التعطل يمكننا أن نلاحظ حقيقة هامة: هي أن ««معنى» هذه الأشياء يكمن في علاقتها ببناء كلي من المعاني والمقاصد المتعالقة.» إبان التعطل، وللحظة وجيزة فقط، يضاء معنى الأشياء ويبزغ من العالم بشكل مباشر.
إن الفرق كبير والبون جد بعيد بين مثل هذا الفهم لشيء من الأشياء وبين الفهم الذهني المجرد! ويضرب «هيدجر» في «الوجود والزمان» مثلا قريبا وهو المطرقة (الشاكوش)، فالمطرقة الموجودة التي لا تتحلى بأكثر من الحضور هي شيء يمكن وزنه وتمكن كتابة بيان بخصائصه، وتمكن مقارنته بغيره من المطارق، إلا أن المطرقة المكسورة هي التي تكشف للتو واللحظة ماذا تكونه المطرقة، وإن هذه الخبرة لتومئ إلى مبدأ هرمنيوطيقي: هو أن وجود شيء من الأشياء ينكشف لا للنظرة التحليلية التأملية بل في اللحظة التي يميط فيها اللثام عن نفسه فجأة في السياق الوظيفي الكامل للعالم، وبنفس الطريقة فإن طبيعة الفهم يمكن إدراكها على أفضل نحو، لا من خلال بيان تحليلي بمواصفاته ولا في فورة أدائه الوظيفي الصحيح، بل حين يتعطل ويصطدم بحائط منيع، «ربما عند افتقاد الشيء يتعين على الفهم أن يحوزه».
ويضرب «هيدجر» مثالا آخر وهو يقدم لنا في هذا المثال تحليلا لأداة معينة هي العلامة (مثل علامات المرور أو لافتات الطرق أو الأعلام ... إلخ)، وأهم ما يميز العلامة هو أنها توضح النسق الكلي للأداة توضيحا تاما، فعلامة المرور مثلا توضح النسق الكلي الذي يربط سلوك المارة وراكبي السيارات وعساكر المرور ... إلخ، فإذا كانت الأداة العادية (كالقلم مثلا) غير لافتة للأنظار، نتيجة انصراف الكاتب مثلا إلى الغرض الذي يستخدم القلم من أجله لا إلى طبيعة هذا القلم كأداة، فإن «أداة العلامة» على العكس من ذلك تشد الانتباه إلى طابع الإحالة الذي توضحه أشد التوضيح، إن العلامات المحددة تحيل إلى «العالم المحيط» الذي تنتمي إليه وتيسر الانفتاح عليه، وأهم خاصية تحدد الأداة هي صلاحيتها أو قابليتها للاستخدام، والعلامة تجسد هذا الاستخدام بتوضيح السياق (أو النسق الكلي المترابط) الذي توجد فيه العلامة، بل إنها لتزيد على هذا فتوضح العالم المحيط الذي يوجد به النسق أو السياق الأداتي المترابط.
Unknown page