Fahm Fahm
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
Genres
بمقدور المرء من جهة أخرى أن يحول بؤرة انتباهه الطبيعية إلى بؤرة تأملية (انعكاسية) فينومينولوجية، فيجعل وعيه الحالي المتدفق، وبالتالي يجعل الظواهر المتعددة الأشكال بلا نهاية، محط ملاحظاته وأوصافه واستقصاءاته النظرية، تلك الاستقصاءات التي نسميها باختصار «فينومينولوجية». (24)
إلا أنه عند هذه النقطة تبرز أسئلة يمكن في الموقف الراهن أن نسميها الأسئلة الأشد حسما: أليس هذا الذي وصفناه لتونا بأنه تأمل محايث، هو هو الخبرة السيكولوجية الداخلية؟ ألا يكون علم النفس هو المكان الصحيح لدراسة الوعي بجميع ظواهره؟ ومهما يكن من تعاميه عن جميع المشكلات الجذرية المتعلقة بالأوضاع التي تجري في الوعي المحايث، أليس من الواضح أن مثل هذه البحوث ينبغي أن تنتمي إلى علم النفس بل أن تكون أساسية فيه؟ (25)
ولكي نبدأ فإننا نطرح هذه القضية: الفينومينولوجيا الخالصة هي علم الوعي الخالص (الشعور المحض)، وهذا يعني أن الفينومينولوجيا الخالصة تعتمد على التأمل الخالص وحده، والتأمل الخالص يستبعد، بوصفه تأملا خالصا، كل نوع من الخبرة الخارجية، ومن ثم فهو يحظر إدخال أي موضوعات غريبة على الوعي، أما علم النفس فهو علم «الطبيعة» النفسية، وهو من ثم علم الوعي بوصفه «طبيعة» أو بوصفه حدثا واقعيا يجري في العالم المكاني الزماني، ينصب علم النفس على عملية الخبرة النفسية، وهي عملية إدراك ذاتي تصل التأمل المحايث (المباطن/الجواني/الداخلي) بالخبرة الخارجية، البرانية، كما أنه في الخبرة السيكولوجية يكون الحدث النفسي معطى بوصفه حدثا داخل لحمة الطبيعة، يتميز علم النفس بأنه، بوصفه علما طبيعيا بالحياة النفسية ، يعتبر عمليات الوعي عمليات واعية لكائن حي، أي أنه ينظر إليها كملحقات سببية حقيقية لأجسام حية، وعلى عالم السيكولوجيا أن يلجأ إلى التأمل لكي يضع يده على العمليات الواعية المعطاة خبرويا، غير أن هذا التأمل لا يظل ملتزما بالتأمل الخالص؛ لأنه ما دام منتميا فعليا للجسم الحي المعني فهو موصول بتجربة الأشياء الخارجية، ومن ثم فإن الوعي بالخبرة السيكولوجية لا يعود وعيا خالصا، فحين نؤوله موضوعيا بهذه الطريقة يصبح الوعي نفسه شيئا مفارقا (برانيا)، يصبح حدثا في العالم المكاني الذي يبدو، بفضل الوعي، شيئا مفارقا. (26)
الحقيقة الجوهرية هي أن هناك صنفا من الحدس (العيان) هو - بعكس الخبرة السيكولوجية - يبقى داخل التأمل الخالص: فالتأمل الخالص يستبعد كل ما هو معطى في الموقف الطبيعي، ويستبعد من ثم كل ما هو «طبيعة». (27)
نتجه إذن إلى الوعي كما هو في صميمه وبمكوناته الداخلية الخاصة، ولا ندخل في بحثنا أي شيء يتجاوز الوعي. (28)
لن ندخل في بحثنا إلا ما هو معطى للتأمل الخالص، بكل دقائقه الجوهرية المحايثة تماما كما هي معطاة للتأمل الخالص. (29)
منذ زمن بعيد اقترب ديكارت من اكتشاف المجال الفينومينولوجي المحض، وذلك في تأمله الشهير والأساسي (والذي لم يؤت ثمارا تذكر رغم ذلك) الذي أفضى إلى عبارته المأثورة «أنا أفكر، أنا موجود.» وبمقدورنا أن نتوصل إلى ما يسمى «الرد الفينومينولوجي»
بتحوير منهج ديكارت، وذلك باقتفائه بدقة واستبصار بنتائجه، مع إغفال كل ما كان يهدف إليه ديكارت من هذا المنهج.
الرد الفينومينولوجي هو المنهج الكفيل بتنقية المجال الفينومينولوجي للوعي تنقية تامة من كل تطفل من جانب الوقائع الموضوعية وإبقائه خالصا منها، تأمل ما يلي: الطبيعة (العالم الموضوعي المكاني الزماني) معطاة لنا بصفة دائمة، فهي في الموقف الطبيعي تشكل مجال بحثنا في العلوم الطبيعية ومجال أغراضنا العلمية، ومع ذلك فليس هناك ما يمنعنا من أن نوقف - إن صح التعبير - أي اعتقاد في واقعيتها، رغم أن هذا الاعتقاد دائم الحدوث طوال الوقت في عملياتنا الذهنية. فليس هناك اعتقاد على أية حال ولا اقتناع، مهما بلغ من وضوح، يستبعد بطبيعته إمكانية تحييدها بشكل ما أو تجريدها من سطوتها، يمكننا أن ندرك ذلك حين نتأمل أي حالة نقوم فيها بتمحيص رأي من آرائنا، لنرد على الاعتراضات الموجهة إليه مثلا أو لنعيد البرهنة عليه على أساس جديد، في هذه الحالة قد نكون في الحقيقة على يقين تام من هذا الاعتقاد ولا تساورنا فيه أي شكوك، غير أننا طوال مسار البحث نقوم بتغيير مسلكنا تجاه هذا الاعتقاد، وبدون أدنى تخل عن هذا الاعتقاد فنحن نتوقف عن الأخذ به وننكر على أنفسنا قبول ما ينص ببساطة على أنه حقيقة، وفيما البحث ماض في سبيله فإن هذه الحقيقة تظل موضع بحث، موضع نظر، تظل معلقة. (30)
في حالتنا هذه، حالة التأمل الفينومينولوجي الخالص، ليست غايتنا هي بحث أو اختبار اعتقادنا في وقائع غريبة عن الوعي، غير أن بإمكاننا القيام بتحييد ذلك الوعي بالواقع الذي يجعلنا نرى الطبيعة موجودة ومعطاة لنا، وبإمكاننا أن نفعل ذلك وفق مشيئتنا تماما، إن غايتنا الوحيدة هي بلوغ ميدان الوعي الخالص وإبقائه خالصا، وفي سبيل هذه الغاية فنحن نتعهد بعدم قبول اعتقادات تتعلق بالخبرة الموضوعية، ونتعهد أيضا بالامتناع عن استخدام أي استنتاج مستمد من الخبرة الموضوعية. (31)
Unknown page