قلت: نعم، إن المجد الأدبي مجد عظيم وشريف ولكنه لا يصل بك إلى الغاية التي تريدها، إن الأدباء والحكماء، والمصلحين والمفكرين، هم عظماء هذا العالم وساداته، وهم الكواكب النيرة التي تطلع في سمائه الداجية المدلهمة فتنير أرجاءها، وتبدد ظلماتها، وهم الأشعة الباهرة التي تنفذ إلى أعماق القلوب المظلمة القاتمة فتذيب جهالاتها وضلالتها، وتطير بأوهامها وأحلامها، وهم المنائر العالية التي يهتدي بها الحائر، ويستنير بها الضال، ويعرف بها المدرج الساري أي شعب يسلك، وأيه غاية من الغايات يريد؟ وهم الأطباء الماهرون يتولون القلوب الكسيرة اليائسة فيعالجون همومها وآلامها، ويملئون فضاءها رجاء وأملا، إلا أن سبيلهم إلى ذلك من أوعر السبل وأخشنها؛ لأنهم أنصار الخير، وللشر أنصار أشد منهم قوة وأكثر عدة وعددا، وهم دائما هدف لغضب الملوك؛ لأنهم يثيرون ثائرة الشعوب عليهم، وغضب النبلاء؛ لأنهم يحتقرون نبلهم، ويزدرون مجدهم وعظمتهم، وغضب الكهنة؛ لأنهم ينعون عليهم رياءهم، وكذبهم، وغضب العامة لأنهم يصادرون أهواءهم وشهواتهم؛ أي إن العالم كله حرب عليهم من أقصاه إلى أقصاه، وقلما تنتهي حياتهم إلا بما انتهت به حياة سقراط الحكيم، وهومير الشاعر، وأفلاطون الفيلسوف، وفيثاغورث الرحيم، من قتل، أو صلب، أو إلقاء في السجن، أو تشريد في الأرض، ولا ذنب لهم إلا أنهم أحبوا البشر وعطفوا عليه، وتألموا لألمه وبكوا لبكائه، فنقم البشر منهم هذه العاطفة الطيبة الكريمة، وانتقم لنفسه منهم بإرهاق أرواحهم، أو تعذيب أجسامهم، أو تقطيع أوصالهم، ولم يقنع في أمرهم بذلك حتى شوه وجه تاريخهم وسود صفحاته بما شاء من الوصمات والعيوب، ولم تستطع شمس الحقيقة أن تبدد تلك الظلمات المحيطة بهم وبتاريخ حياتهم إلا بعد عدة قرون وأجيال.
قال: لولا فرجيني ما أسفت على شيء في الحياة، ولا بكيت على فائت منها.
قلت: إن فرجيني باقية على عهدها لم تتغير، فاحذر أن تخسرها من حيث تريد أن تكسبها، واعلم أنها ما قطعت رسائلها عنك إلا لأنها عازمة على الرجوع في عهد قريب، فانتظر رجوعها بعد قليل من الأيام، وأعد نفسك لحياة مستقبلة سعيدة يستغفر لك الدهر فيها عن جميع سيئاته إليك. فأضاءت حول ثغره ابتسامة لم تضئه من عهد بعيد، وقال: أأنت على ثقة مما تقول؟ قلت: نعم، فكأنما قد نزل عليه بهذه الكلمة وحي من السماء ، فما أصبح الصباح حتى رأيته مشمرا عن ساعديه، يجول في أكناف «حديقة فرجيني» يشذب أشجارها، ويشق أنهارها، ويحول مياهها، ويسقي ما ذبل من أغراسها، وقد لبس بردا قشيبا من الجد والنشاط لا عهد له بمثله منذ أعوام ثلاثة.
الفصل الثاني والعشرون
السفينة
وفي عصر يوم 24 ديسمبر سنة 1744 رأى بول العلم الأبيض يخفق على قمة جبل الاستكشاف، فعلم أن سفينة قادمة إلى الجزيرة، فطمع أن تكون السفينة التي تحمل فرجيني، فانحدر إلى شاطئ البحر فيمن انحدر إليه من سكان الجزيرة ليتعرف شأنها، فعرف أن دليل المرفأ قد ركب زورقه إليها منذ ساعات، وأنه لم يعد حتى الساعة، فجلس في انتظاره حتى عاد وحده، فأخبر أن السفينة اسمها «سان جيران» وربانها اسمه المسيو «أوبن»، وأن الريح لا تساعدها على دخول المرفأ الليلة، ولا يمكنها الوصول إليه إلا في الغد، وكان يحمل في يده عدة رسائل لبعض سكان الجزيرة، بعضها آت من فرنسا، وبعضها مرسل من ركاب السفينة أنفسهم.
فسمع بول فيما سمع من الأسماء اسم مدام دي لاتور «هيلين»، فاختطف الرسالة من يد الرجل اختطافا، وقرأ عنوانها فإذا هو بخط فرجيني، فطار بها فرحا وسرورا، وأخذ يعدو إلى المزرعة عدو الظليم، فرأى على البعد أفراد الأسرة واقفين على رأس هضبة عالية ينتظرونه، فرفع يده بالرسالة وصار يلوح بها في الجو كأنما يحمل راية بيضاء، حتى بلغ مكانهم، فقدم الرسالة إلى هيلين ففضت غلافها وأمرت عليها نظرها فعلمت أن ابنتها قادمة على هذه السفينة نفسها، وأن السبب في عودتها من فرنسا أن عمتها حاولت كثيرا أن تغير من طباعها وأخلاقها، وتذهب بها في حياتها مذهبا غير مذهبها الأول فعجزت عن ذلك، وأنها عرضت عليها أن تزوجها من عظيم من عظماء البلاط فرفضت، فنقمت عليها نقمة عظيمة، وأصبحت تحتقرها وتزدريها، وتنظر إليها بالعين التي تنظر بها إلى فتاة مخبولة العقل، فاسدة الذهن، أسيرة الأوهام والأحلام، ثم ما لبثت أن حرمتها من ميراثها، وسلبتها كل ما كانت تسبغه عليها من النعم، ولم يبق إلا أن تطردها من منزلها طردا، فلم تجد بدا من الرجوع، فركبت أول سفينة علمت أنها ذاهبة إلى إفريقيا، ثم ختمت رسالتها بقولها: إنني أكتب لك هذه الرسالة وأنا على ظهر السفينة «سان جيران» وبيننا وبين الشاطئ أربعة فراسخ، ولا نستطيع الدخول إلى المرفأ إلا في الغد كما أخبرنا بذلك الدليل، وفي الغد نلتقي إن شاء الله تعالى.
وما إن انتهوا من قراءة الرسالة حتى استطيروا فرحا وسرورا، وأخذ الزنجيان يرقصان ويقفزان ويهتفان بصوت عال: قد عادت فرجيني! لقد عادت فرجيني، وكان أول ما مر بخاطر بول في هذه الساعة أن يذهب إلي في كوخي ويبشرني برجوع فرجيني، ويشكر لي نبوءتي التي تنبأت له بها في أمرها، وكانت قد مضت هدأة من الليل، فأستأذن أمه في ذلك فأذنته، فمشى ومشى أمامه دومينج يحمل مشعلا كبيرا حتى وصل إلي بعد ساعتين، وكنت قد أويت إلى مضجعي، فأيقظني من نومي وألقى إلي ببشراه، فلم يكن سروري بها بأقل من سروره، وقال: هيا بنا نذهب إلى الشاطئ لننتظر فرجيني فإن السفينة تصل في الصباح.
فقمت إلى ثيابي فأسبلتها علي وذهبت معه، وكانت الليلة حالكة مدلهمة قد احتجبت كواكبها وراء قطع الغمام الكثيفة الآخذ بعضها بأعناق بعض كأنها القافلة السائرة في الصحراء، فمشينا لا نهتدي بشيء سوى غريزتنا التي تقود خطواتنا دائما في مفاوز الأرض ومجاهلها، وكنا نسمع من حين إلى حين قرقعة هائلة آتية من ناحية البحر تشبه دمدمة الرعد وليست بها، فلا نفهم منها شيئا.
فإنا لسائرون إذ لمحنا زنجيا ضخم الجثة يمر بجانبنا، فاستوقفته وسألته من أين أقبل، فقال إني مرسل من شاطئ جزيرة الذهب إلى الحاكم لأبلغه أن سفينة قد ألقى بها التيار إلى ما وراء جزيرة العنبر تطلق مدافعها من حين إلى حين؛ أي إنها في خطر، وأنها في حاجة إلى المعونة، فسألته هل يعرف اسمها؟ فأجاب أن لا، وانطلق لسبيله، فالتفت إلى بول وقلت له: أخاف أن تكون سفينة «سان جيران»، وخير لنا أن ننحدر إلى الشاطئ المقابل لجزيرة الذهب لنقف على الحقيقة، فمشى معي صامتا لا يقول شيئا حتى أشرفنا بعد قطع ثلاث مراحل على ذلك الشاطئ، وكانت الطلقات قد انقطعت فراعني سكوتها أكثر مما راعني دويها، ثم ظهر القمر في كبد السماء محاطا بثلاث دوائر سوداء، كأنه متمنطق بنطاق الحداد، فرأينا على نوره الضعيف الباهت منظر البحر وهو ثائر مهتاج تموج ظلماته بعضها في بعض، وترتطم أمواجه بصخور الشاطئ وهضابه، فينبعث لها صوت أجش كأنه أنين الثكلى، أو حشرجة المحتضر، وقد يتطاير منها أحيانا شرر لامع كذلك الشرر الذي يتطاير من أجنحة الحباحب، ورأينا الصيادين مكبين على زوارقهم ينقلونها من الماء إلى اليبس ويطرحونها فوق الرمال خوفا عليها من الهلاك، ولمحنا على مقربة منا جماعة من الناس مجتمعين حول نار عظيمة يستدفئون بها، فقصدنا إليهم، وجلسنا على مقربة منهم، وسمعناهم يتحدثون أن السفينة قد جار بها التيار عن طريقها ودفعها إلى شاطئ جزيرة العنبر حيث الخطر عظيم لا حيلة فيه، وأنها إن لم تبادر بدخول المضيق الذي بين جزيرة العنبر وجزيرة «سان لوي»، فمصيرها الهلاك ما من ذلك بد، وكان بول يسمع هذا كله وهو صامت مطرق كأنه لا يفهم منه شيئا.
Unknown page