Explanation of the Tadmuriyyah - Muhammad bin Khalifa Al-Tamimi
شرح التدمرية - محمد بن خليفة التميمي
Publisher
دار إيلاف الدولية للنشر والتوزيع
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٤٢ هـ - ٢٠٢١ م
Genres
مقدمة الشارح
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ مَنْ يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، ثم أما بعد:
أَوَدُّ قَبل الشروع-بإذن الله تعالى-في شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، أن أُقَدِّم بثلاث مقدمات:
المقدمة الأولى: أهمية طلب العلم.
لا بد أن نُذَكِّر أنفسنا بِعِظَم الأمانة التي نَصَّبنا أنفسنا لها، واستجبنا فيها لنداء الله تعالى، وهي: حمل العلم وتعليمه.
قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢].
فهذه الآية الكريمة قد أشارت إلى أمرين:
الأمر الأول: أمانة التحمل في قوله: ﴿ليتفقهوا﴾.
والأمر الثاني: مسئولية الأداء في قوله: ﴿ولينذروا﴾.
ولا بد من التحمل والفقه أَوَّلًا قبل الأداء والبلاغ والبيان، ونحن نعلم أن هذا الأمر شريف وعظيم، فالله قد امتن على نبيه بتعليمه ما لم يعلم من قبل، فقال جل وعلا: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣].
1 / 3
ونحن طلبة العلم إذ نسلك هذا المَسلك فإننا نزداد من هذا العلم ونتزود منه ولا شك، وكلما ازددنا علمًا كلما ازددنا شرفًا ورفعة في الدنيا والآخرة وقربًا من الله تعالى؛ وذلك لابد فيه من شرطين:
الشرط الأول: الإخلاص.
والشرط الثاني: إتباع العلم العمل.
قال ﷻ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة ١١].
وفي الحديث: «أن نافع بن عبد الحارث لقي عُمر بعُسْفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: مَنْ استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى. قال: ومَن ابن أبزى؟ قال: مَولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنَّه قارئ لكتاب الله ﷿، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أَمَا إنَّ نبيَّكم ﷺ قد قال: «إنَّ اللهَ يَرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويَضع به آخرين» (^١).
وطالب العلم حري أن يكون أخشى الناس لله، وأَتْبَع الخلق لطاعته؛ قال جل وعلا: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: ٢٨]، وتأَمَّل قولَه تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩]؛ لتتبين الفرق بين مَنْ عَلِم وبَين مَنْ لم يَعلم.
وقد قرن الله ﷻ شهادته بشهادة الملائكة الذين هم عباده المكرمون وشهادة أهل العلم له جل وعلا بالألوهية؛ فقال: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ١٨].
والإنسان يجب أن ينظر إلى نفسه قبل سلوك طريق طلب العلم؛ هل حاله بعد
_________
(^١) أخرجه مسلم (٨١٧).
1 / 4
أن قطع فيه مراحل كحاله قبل الطلب!
والطالب الذي وَفَّقَه الله وحَصَّل شيئًا من العلم الشرعي؛ عليه أن يَنظر إلى أقرانه الذين كانوا معه في الدراسة أو في بداية الطلب ونشأ بينهم، ولم يُكملوا السَّير فيه؛ ليعلم أن الله قد اختاره دون غيره من أقرانه؛ لسلوك ذلك السبيل العظيم المُوَصِّل إلى الجنة؛ وليضع نُصب عينيه ما رواه أبو داود والترمذي عن كثير بن قيس، قال: «كنت جالسًا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل، فقال: يا أبا الدرداء: إني جئتك من مدينة الرسول ﷺ لحديثٍ بَلغني أنَّك تُحدثه عن رسول الله ﷺ ما جئت لحاجة، قال: فإني سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «مَنْ سلك طريقًا يَطلب فيه علمًا سَلَك الله به طريقًا مِنْ طُرُق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإنَّ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا دِرهمًا؛ وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر» (^١).
فلا شكَّ أن ميراث المرء يناله في الدنيا أقرب الناس إليه؛ وهذا يدل على أن أهل العلم هم أقرب الناس للنبي ﷺ، والنبي إنما وَرَّث هذا العلم وخَلَّفه؛ وطلاب العلم هم الذين حملوا ميراثه، وهذا فضل عظيم وشرف رفيع.
ففضل العلم معلوم، ومهما بذل طالب العلم مِنْ وقت وجهد فهو في نجاح وفلاح، وهو في طريق عليه أن يلزمه ولا يحيد عنه أبدًا؛ فإن نهايته إلى جنة الله ورضوانه، وقد بَشَّره النبيُّ ﷺ بقوله: «مَنْ يُرِد الله به خيرًا يُفقهه في الدين، وإنما أنا
_________
(^١) أخرجه أبو داود (٣٦٤١) والترمذي (٢٦٨٢) من حديث أبي هريرة ﵁، وصححه الألباني في «المشكاة» (٢١٢).
1 / 5
قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يَضُرهم مَنْ خالفهم، حتى يأتي أمر الله» (^٢)، فالله قد أراد بطالب العلم الخير وأراده له.
ولينظر طالب العلم إلى حاله وحال عَوَامِّ الناس وجُهَّالهم؛ ليعلم أنه في منزلة رفيعة وشأن عظيم قد اختاره الله له ويَسَّره وهَيَّأه له، لذا يقول ﷻ: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [القصص: ٦٨].
وهذا الشرف الذي جاءت به النصوص لا شك أنه عظيم، وفضل من الله جليل، حقه أن يُرعى، وأن يُحرص على نَيله وتحصيله، وقد قَسَّم النبيُّ ﷺ الناس إلى ثلاثة أصناف؛ فقال: «مَثَلُ ما بَعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نقيَّة، قَبِلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس؛ فشَربوا وسَقُوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قِيعان لا تُمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مَثَلُ مَنْ فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم وعَلَّم، ومَثَل مَنْ لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يَقبل هدى الله الذي أرسلت به» (^١)؛ فقسم النبيُّ ﷺ السامعين لهذا العلم والهدى إلى ثلاثة أصناف:
الأول: (الأرض الطيبة)، وهم مَنْ أعطاهم الله ذكاء وزكاء؛ فأعطاهم ذكاء استطاعوا به أن يحفظوا العلم وأن يحصلوه ويدركوا به مسائله. وأعطاهم زكاء حملهم على العمل بالعلم والدعوة إليه وتبليغه.
والثاني: (أجادب، أمسكت الماء)، وهم الذين أُوتوا ذكاء ولم يُؤتوا زكاء؛ فاستطاعوا بذكائهم أن يحفظوا العلم، وأن يدركوا مسائله، لكنهم لم يستفيدوا به في
_________
(^١) أخرجه البخاري (٧١) ومسلم (١٠٣٧) من حديث معاوية ﵁.
(^٢) أخرجه البخاري (٧٩) ومسلم (٢٢٨٢) من حديث أبي موسى الأشعري ﵁.
1 / 6
ذات أنفسهم، وإنما حفظوه ليستفاد منه غيره؛ كما قال ﷺ: «نَضَّر الله امرءًا سمع منا حديثًا، فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه» (^١).
والثالث: (قيعان)، وهم مَنْ حرموا الذكاء والزكاء، فلم يُحَصِّلوا العلم وبالتالي لم يعملوا به.
لذلك لا بد أن يحرص طالب العلم على أن يكون من الصنف الأول.
وأما أفضل طريقة لتحصيل العلم والاستفادة منه: هي كما قال ابن القيم: «وللعلم سِتُّ مَرَاتِب:
أولها: حُسْن السُّؤَال.
الثَّانِيَة: حُسْن الإنصات.
الثَّالِثَة: الاستماع.
الرَّابِعَة: حُسْن الفَهم.
الْخَامِسَة: الحِفْظ.
السَّادِسَة: التَّعْلِيم، وَهِي ثَمَرَته، وَهِي الْعَمَل بِهِ ومراعاة حُدُوده.
فَمن النَّاس مَنْ يُحرمه لعدم حُسْن سُؤَاله، إمَّا لأنه لَا يَسأل بِحَال أَوْ يسأل عَنْ شَيْء وَغَيره أهم إليه مِنْهُ؛ كمن يَسْأَل عَنْ فضوله الَّتِي لَا يَضر جَهلُه بهَا ويدع مَالا غِنى لَهُ عَنْ مَعْرفَته. وَهَذِه حَال كثير من الْجُهَّال المُتعلمين.
وَمن النَّاس مَنْ يُحرمه لِسُوء إنصاته؛ فَيكون الْكَلَام والممارات آثرَ عِنْده وَأحبَّ إليه من الإنصات، وَهَذِه آفَة كامنة فِي أكثر النُّفُوس الطالبة للْعلم، وَهِي تمنعهم علمًا
_________
(^١) أخرجه أبو داود (٣٦٦٠) والترمذي (٢٦٥٦) من حديث زيد بن ثابت ﵁.
1 / 7
كثيرًا» (^١).
فإذا طبق طالب العلم هذه المراتب فهو أهل لِنَيْل العِلم.
فأولًا: حُسن الإنصات، وهذا يُستفاد من قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: ٣٧]، فليحرص طالب العلم جيدًا على أن يسمع قبل أن يتكلم.
ثانيًا: حُسن السؤال، فعَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ أَصَبْتَ هذا العِلمَ؟ قال: «بِلِسَانٍ سَؤُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ» (^٢).
وقالت عائشة ﵂: «نِعم النساءُ نِساءُ الأنصار؛ لم يَمنعهن الحياء أن يَتفقهن في الدِّين» (^٣).
وقال مجاهد: «لا يتعلم العلمَ مُستحي ولا مستكبرٌ» (^٤).
وكما جاء في الحديث: «شِفَاءُ العِيِّ السُّؤال» (^٥).
ثالثًا: حُسن الفهم، ويستفاد من قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: ٣٧]؛ فلا بد من حسن الفهم ومعرفة المسائل والأقوال والأدلة.
رابعًا: الحفظ والكتابة، فعن أنس بن مالك ﵁، قال: قال النَّبِيُّ ﷺ: «قَيِّدُوا
_________
(^١) «مفتاح دار السعادة» لابن القيم، بتصرف يسير (١/ ١٦٩).
(^٢) أخرجه الإمام أحمد في «فضائل الصحابة» (٢/ ٩٧٠).
(^٣) أخرجه البخاري (١/ ٣٨) تعليقًا، ومسلم موصولًا (٣٣٢).
(^٤) أخرجه البخاري (١/ ٣٨) تعليقًا.
(^٥) أخرجه أبو داود (٣٣٦) والدارمي (٧٧٩) وابن ماجه (٥٧٢) من حديث أبي هريرة ﵁، وصححه الألباني في «صحيح ابن ماجه» (٤٦٤).
1 / 8
العِلْمَ بِالْكِتَابِ» (^١).
وكما روي عن الإمام الشافعي ﵀ أنه قال:
العِلمُ صَيدٌ والكِتابةُ قَيدُهُ … قَيِّدْ صيودكَ بالحِبالِ الواثِقَه
فَمِنْ الحَماقَةِ أَنْ تَصيدَ غَزالَةً … وتَرُدَّها بَينَ الخَلائقِ طالِقه
وكما قال الخليل بن أحمد: «ما سمعت شيئًا إلا كتبتُه، ولا كتبت شيئًا إلا حفظته، ولا حفظت شيئًا إلا انتفعتُ به» (^٢).
خامسًا: السعي لتعليمه، فإذا أرادت طالب العلم أن يبقى ما تعَلَّمه، فعليه أن يبذله، كما قال عليٌّ ﵁: «العلم يزكو على الإنفاق» (^٣).
فالشيخ والمُعَلِّم هو الطالب الأول، وهو أول مُستفيد من العلم الذي يشرحه ويَنشره.
ومن نظر إلى من اشتغل عن العلم بوظيفة ودنيا يرى أنه ينسى العلم سريعًا، ويرجع إلى الحال التي كان عليها قبل الطلب.
سادسًا: العمل به، كما قال عليُّ بن أبي طالب ﵁: «هتف العلم بالعمل؛ فإن أجابه، وإلَّا ارتحل» (^٤).
فإذا حرص طالب العلم على تطبيقه والعمل به، فهذا أدعى لبقائه؛ فقدر العلم ومنزلته وطلبه يرتقي بهها المرتبة.
_________
(^١) أخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (١١/ ٢٣٤)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (٢٠٢٦).
(^٢) أخرجه الخطيب البغدادي في «تقييد العلم» (ص ١١٤).
(^٣) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (١/ ٨٠)، والخطيبُ البغدادي في «الفقيه والمتفقه» (١/ ١٨٢ - ١٨٣) برقم (١٧٦)، والمزي في «تهذيب الكمال» (٢٤/ ٢٢٠).
(^٤) «اقتضاء العلم العمل» (ص ٣٥).
1 / 9
وضد هذه المراتب الست موانع تصد عن تحصيل العلم وتصرف عن طلبه أو بقائه.
ولا بد لطالب العلم من آداب حتى يتأدب بأخلاق أهل العلم، وأهمها:
أولها: الإخلاص، وهو عزيز، وعلى الإنسان أن يجاهد أن يكون نفسه في تحصيله؛ ليكون كل عمله لوجه الله، وخاصة طلبه للعلم وبذله، والأمر- كما قال عن سفيان الثوري-: «ما عالجتُ شيئًا أشدَّ عليَّ مِنْ نيتي؛ لأنَّها تَنقلب عليَّ». وعن يوسف بن أسباط، قال: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد» (^١).
ويُشترط في العبادات- حتى يَقبلها الله ﷿، ويُثيب عليها العبد- شرطان:
الشرط الأول: الإخلاص لله ﷿؛ قال تعالى: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء﴾ [البينة: ٥]، ومعنى الإخلاص هو: أن يكون مراد العبد بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا﴾ [الإنسان: ٩]، وعن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﵁ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» (^٢).
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قَالَ اللَّهُ ﵎: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» (^٣).
الشرط الثاني: مُوافقة العمل للشرع الذي جاء به النبيُّ ﷺ؛ فقد جاء في الحديث
_________
(^١) انظر: «جامع العلوم والحكم» لابن رجب (١/ ٧٠).
(^٢) أخرجه البخاري (بدء الوحي/ ١).
(^٣) أخرجه مسلم برقم (٢٩٨٥).
1 / 10
عن النبي ﷺ: «مَنْ عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ» (^١).
قال الإمام ابن رجب ﵀: «هذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث: «إنما الأعمال بالنيات» ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يُراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كلُّ عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل مَنْ أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء» (^٢).
وقال الإمام ابن القيم ﵀: «فإن الله جعل الإخلاص والمتابعة سَبَبَا لقبول الأعمال، فإذا فقد لم تُقبل الأعمال» (^٣).
فاحرص- يا طالب العلم- على الإخلاص وإصلاح الطوية وترك المعاصي؛ فقد قال الإمام الشافعي ﵀:
شَكَوْتُ إلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي … فَأرْشَدَنِي إلَى تَرْكِ المعَاصي
وَأخْبَرَنِي بأَنَّ العِلْمَ نُورٌ … ونورُ الله لا يُهدى لعاصي
فلا يمكن أن يجتمع النور والظلمة معًا.
فليس من الحكمة أن يقوم الغارس ببذر الأرض قبل حرثها وإصلاح بيئتها؛ لذا مَنْ طلب العلم فعليه أن يُصلح نيته ويَعمل على تهذيب نفسه؛ لكي يُحَصِّل العلم ويعود عليه بالنفع.
وليس طالب العلم بمعصوم، ولكن حياة القلب كحياة البدن، فالبدن لا يقوم إلا بالغذاء النافع (الطعام والشراب) وحميته مما يضرُّه، واستفراغ الفاسد منه؛ كالبول
_________
(^١) أخرجه مسلم (١٧١٨) من حديث عائشة ﵂.
(^٢) «جامع العلوم والحكم» (ص ٥٩).
(^٣) «الروح» (ص ١٣٥).
1 / 11
والبراز والعرق. وهذا ما يحرص عليه أطباء البدن.
ويقابل إصلاح البدن إصلاح الرُّوح والنفس، وهو ما يقوم به العلم النافع والعمل الصالح.
فالله قد أودع في الإنسان قُوَّتين: قوة في النظر وقوة في الإرادة، والشيطان لا يَدخل على الإنسان إلا منهما؛ أي: من باب الشبهة التي تتسلط على نظره، ومن باب الشهوة في الحرام التي تتسلط على إرادته.
والشبهات المُضللة تُدفع بالعلم النافع، والشهوات المحرمة تدفع بالعمل الصالح.
فالدواء النافع هو في طلب العلم ولزوم الطاعة والحرص عليها.
والأمر ليس هينًا في البداية، ولكنه يحتاج إلى مجاهدة حتى تألفه النفس؛ وساعتها لن تبغي به بديلًا.
فإذا صحت النفس واستقامت على العلم النافع والعمل الصالح لن تبغي به بديلًا.
فهذا سبيل طالب العلم الذي يجب عليه أن يجاهد في مدارسته، وأن يثني الركب في مجالس العلماء من أجل تحصيله.
فإذا انشغل المسلم بطلب العلم فلن يكون عنده وقت لتفكير فاسد في شبهة أو انشغال بشهوة محرمة.
فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، ولذلك قال ﷺ: «أصدق الأسماء: حارثٌ وهَمَّامٌ» (^١)؛ لأن الإنسان في فكر دائم وعمل دائب.
_________
(^١) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (٨١٤)، وأحمد في «المسند» (١٩٠٣٢)، وأبو داود في «سننه» (٤٩٥٠)، وحسنه الألباني في «الصحيحة» (١٠٤٠).
1 / 12
ثم لا بد من استفراغ الفاسد؛ لأن الإنسان من طبعه التقصير، والخطأ يلازمه في كثير من أحواله، فيستفرغ ما دخل على النفوس من أمور لا يرضاها الله تعالى- بالتوبة والاستغفار، فعن أبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ ﵁، عن النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ؛ لِيَتُوب مُسيءُ النَّهَارِ، وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مغْرِبِها» (^١). فباب التوبة مفتوح على مدار الوقت، وليس بين العبد وبين ربه واسطة، وهو جل وعلا ينادي على عباده كل ليلة ليسألوه ويستغفروه؛ فعن أبي هريرة ﵁: أن رسول الله ﷺ قال: «يَنزل ربُّنا- ﵎ كُلَّ ليلة إلى السماء الدُّنيا حِين يَبقى ثُلُثُ الليل الآخر يقول: مَنْ يَدعوني، فأستجيبَ له؟ مَنْ يسألني فأعطيَه؟ مَنْ يَستغفرني فأغفرَ له؟» (^٢).
فالله غفور رحيم؛ يغفر الذنوب، بل يُبدلها حسنات كرمًا منه سبحانه، كما قال: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٦٨ - ٧٠].
فطالب العلم بحاجة بعد الإخلاص إلى تطهير النفس وتهيئتها لتَقَبُّل العلم.
والذي يفسد على طلاب العلم أمر التحصيل: أمراض النفوس وعللها التي تحمل على الكسل، ومصاحبة رفقاء السوء، والوقوع في المعاصي.
ولا نجاة لنا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بصلاح النفوس؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٧ - ٨٩]؛
_________
(^١) أخرجه مسلم (٢٧٥٩).
(^٢) أخرجه البخاري (١١٤٥) ومسلم (٧٥٨).
1 / 13
والقلب لا يكون سليما إلا بالسلامة من الشرك والشبهة والحسد والغل والمعاصي.
ومن حفظ طالب العلم لنفسه وعمله على صلاحها: ألا يصاحب إلا الأخيار الذين يعينونه على الطلب؛ لقوله ﷺ: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» (^١).
وأما ما يفعله طلاب العلم من الجلوس مع أقرانهم؛ ليتدارسوا مسائل العلم، دون الذهاب إلى مجالس العلماء؛ فهذه آفة يجب التنبه لها؛ لأنهم جميعًا صغار أَغْرار في بداية الطلب؛ فيُضيعون الأوقات، ولا يُحْكِمون ما يتدارسونه، وقد يكون فهم أحدهم أسوأ من فهم الآخر، فلا يزدادون إلا سوء فهم وبُعد عن الطلب الصحيح، وقد يكون هذا سببًا في انحرافهم عن الفهم المستقيم.
وكذلك لا بد أن يكون لطالب العلم أن يكون كسبه طيبًا حلالًا، فإن هذا مما يعينه على الطلب والتحصيل؛ فعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسولُ الله ﷺ: «إنَّ الله تعالى طَيِّبٌ لا يَقبل إلا طيبًا، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المُرسلين؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ [المؤمنون: ٥١]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: ١٧٢]، ثم ذكر الرجلَ يُطيل السفر، أشعث، أغبر، يَمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومَطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنَّى يُستجاب له؟!» (^٢).
ثم على طالب العلم بعد حفظ نفسه من فتنة الشبهات والشهوات: أن يحفظ وقته؛ فلا يضيعه فيما لا يفيد، ولا يضيع لحظة بدون فائدة، وليحذر فضول الطعام والشراب والنوم، وليأخذ نفسه بالمجاهدة حتى تألف الطاعة وحفظ الوقت؛ كما قيل:
_________
(^١) أخرجه أحمد في «مسنده» (٨٣٩٨)، والترمذي (٢٣٧٨)، وأبو داود (٤٨٣٣)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (٣٥٤٥)، و«الصَّحيحة» (٩٢٧).
(^٢) أخرجه مسلم (١٠١٥).
1 / 14
والنفس كالطفل إن تهمله شَبَّ على … حُبِّ الرضاع وإن تَفطمه ينفطم
وجاهد النفس والشيطان واعصهما … وإن هما مَحَضَّاك النصح فاتَّهِم
فعليك بتنظيم الوقت، فأول النهار بعد الفجر للحفظ والاستذكار. ووسط النهار للكتابة والتصنيف.
إلى جملة آداب يجدها طالب العلم مبسوطة في كتب أهل العلم التي ذكرت آداب طلب العلم والسبيل إلى تحصيله.
هذا، والعلم يحتاج إلى الصبر وحبس النفس عليه وتحمل المشقة على سبيل تحصيله؛ ليكون ما يطلبه معينًا له على فهم هذا الدين؛ وقد قال ابن القيم عن الصبر: «إنَّه يُورث صاحبه درجة الإمامة؛ سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- قَدَّس الله رُوحه- يقول: بِالصَّبر واليقين تُنال الإمامة في الدِّينِ. ثم تلا قوله تعالى: ﴿وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون﴾ [السجدة: ٢٤]» (^١).
فالأمر جِدٌّ لا هزل فيه، على حَدِّ قول الشاعر:
قد هَيَّئوك لأمرٍ لو فَطنت له … فأربأ بنفسك أن تَرعى مع الهَمَلِ
وعن إبراهيم بن عيسى، عن عبد الله بن مسعود أنه قال لأصحابه: «كُونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سُرُج الليل، جُدُد القلوب، خُلْقان الثياب؛ تُعرفون في السماء وتَخفون على أهل الأرض» (^٢).
لذا نجد طالب العلم من أحسن الناس، وقلبه من أطهر القلوب ونفسه من أنقى النفوس؛ لأنه دائمًا متجدد في إيمانه يسمع ويدرس ويذاكر كلام الله وكلام رسوله ﷺ.
وهناك أنواع لا يَصلحون لحمل العلم:
_________
(^١) «مدارج السالكين» لابن القيم (٢/ ١٥٣).
(^٢) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (١/ ٥٠٧).
1 / 15
النوع الأول: مَنْ جعل هذا العلم مطيَّة لدنياه.
النوع الثاني: رجل مُنقاد لشهوته.
النوع الثالث: رجل ذو هِمَّة وَضِيعة.
النوع الرابع: ورجل همه كسب المال وجمعه؛ فهو يريد أن يكون صاحب دنيا؛ كتاجر ونحو ذلك.
فإذا أراد أحد هذه الأصناف أن يطلب العلم؛ فليعلم أنه سيكون في واد والعلم في واد آخر.
وهناك أربعة أصناف ضد أهل العلم؛ يقول ابن القيم ﵀: «قال محمدُ بن الفضل: ذهابُ الإسلام على يدي أربعة أصنافٍ من الناس: صنفٍ لا يعملون بما يعلمون. وصنفٍ يَعملون بما لا يعلمون. وصنفٍ لا يتعلَّمون ولا يعملون. وصنفٍ يمنعونَ الناسَ من التعلُّم» (^١).
قلتُ- أي: القيم-: الصنفُ الأول: مَنْ له علمٌ بلا عمل؛ فهو أضرُّ شيءٍ على العامَّة، فإنه حجَّةٌ لهم في كلِّ نقيصةٍ ومَبْخَسَة
والصنفُ الثاني: العابدُ الجاهل؛ فإنَّ الناسَ يُحسنون الظنَّ به؛ لعبادته وصلاحه، فيقتدون به على جهله.
وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعضُ السَّلف في قوله: «احذروا فتنةَ العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإنَّ فتنتهما فتنةٌ لكل مفتون» (^٢)؛ فإنَّ الناسَ إنما يقتدون
_________
(^١) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (١٠/ ٢٣٣)، والبيهقي في «الشُّعب» (٤/ ٤٣٠).
(^٢) أخرجه نعيم بن حماد في زوائده على «الزهد» لابن المبارك (٧٥)، وأحمد في «العلل» (٣/ ١١٨ - رواية عبد الله)، وابن أبي حاتم في «تقدمة الجرح والتعديل» (٨٨)، وغيرهم عن سفيان الثوري قال: «كان يُقال …»، فذكره.
وأخرجه البيهقي في "المدخل" (٤٤٣) عن الشعبي.
1 / 16
بعلمائهم وعبَّادهم، فإذا كان العلماءُ فَجَرةً والعبَّادُ جَهَلةً عمَّت المصيبةُ بهما وعَظُمَت الفتنةُ على الخاصَّة والعامَّة.
والصنفُ الثالث: الذين لا علمَ لهم ولا عمل؛ وإنما هم كالأنعام السائمة.
والصنفُ الرابع: نُوَّابُ إبليس في الأرض؛ وهم الذين يثبِّطون الناسَ عن طلب العلم والتفقُّه في الدين، فهؤلاء أضرُّ عليهم من شياطين الجنِّ، فإنهم يحُولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه.
فهؤلاء الأربعةُ أصنافٍ الذين ذكرهم- رحمةُ الله عليه- كلُّهم على شفا جُرفٍ هار، وعلى سبيلِ هَلَكة، وما يَلقى العالِمُ الداعي إلى الله ورسوله ما يلقاه من الأذى والمحاربة إلا على أيديهم، والله يَستعملُ من يشاءُ في سخطه كما يستعملُ مَنْ يحبُّ في مرضاته؛ إنه بعباده خبيرٌ بصير.
ولا ينكشفُ سرُّ الطوائف المنحرفة وطريقتُهم إلا بالعلم؛ فعاد الخيرُ بحذافيره إلى العلم ومُوجَبه، والشرُّ بحذافيره إلى الجهل ومُوجَبه» (^١).
وقال عمر ﵁: «إنَّ أخوف ما أخاف عليكم ثلاثة: منافق يَقرأ القرآن لا يخطئ فيه واوًا ولا ألفًا؛ يجادل الناس أنه أعلم منهم؛ ليضلهم عن الهدى. وزَلَّة عالم. وأئمة مُضلون» (^٢).
وقال ابن المبارك:
وهلْ أفسدَ الدينَ إلا الملوكُ … وَأحبارُ سُوءٍ وَرُهبانها
فباعُوا النفوسَ ولمْ يربحَوا … ولمْ تغلُ في البيعِ أثمانها
لقد وقع القوم في جيفةٍ … يَبين لذي اللُّبِّ إنتانُها
_________
(^١) «مفتاح دار السعادة» لابن القيم (١/ ٤٥٥، ٤٥٦)، بتصرف واختصار.
(^٢) أخرجه الفريابي في «صفة النفاق وذم المنافقين» (ص ٧١).
1 / 17
لذلك كان هم السلف الصالح هو قيام الدِّين.
فالعبرة بقيام هذا الدين وإرجاع الناس إليه، وليس العبرة بتكثير الأتباع والاغترار بهم؛ لأن الله يقول: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: ١٠٣].
فلا ينبغي أن نجمع الناس كيفما اتفق، وإنما الواجب أن نعمل أن يهتدي الناس للدين الحق القائم على التمسك بالكتاب والسنة.
وكما يقول عليٌّ ﵁: «النَّاس ثلاثة: فعالم ربَّانيٌّ. ومتعلِّم على سبيل نجاة. وهمج رعاع أتباع كلِّ ناعق؛ لم يَستضيئوا بنور العلم، ولم يَلجؤوا إلى ركن وثيق …» (^١).
فالعالم الرباني: هو الذي عَلِم وعمل ودعا وعَلَّم.
والمتعلم على سبيل نجاة: هو الذي في طريق أن يكون في طريق العلماء الرَّبانيين.
وهمج رعاع: هم كَذُباب القُرى، حمقى لا عقول لهم؛ لذا فهم أتباع كل ناعق لا يُميزون بين الحق والباطل.
وبالمجمل فإن طلب العلم لا شك أنه عظيم، ومع ذلك فمسئوليته كبيرة فإذا لم يعطه الطالب حقه من الرعاية تَحَمُّلًا؛ فكيف في المستقبل يكون أهلًا لأدائه؟! إذ فاقد الشيء لا يعطيه، وكل إناء بالذي فيه يَنضح.
فهذه مقدمة أردت أن أُقَدِّم بها بين يدي شرح هذا الكتاب؛ لتكون حافزًا لإخواني على طلب العلم، والمثابرة عليه والجد في تحصيله، والله الموفق والهادي على سواء السبيل.
_________
(^١) أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (١/ ٧٩)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٥٠/ ٢٥٥).
1 / 18
المقدمة الثانية: مناهج الناس في مسائل العقيدة.
فلابد من إعطاء نبذة عن المناهج التي انقسم إليها الناس عند الخوض في هذه المسائل: فحقيقة الخلاف والنزاع قائم بين منهجين لا ثالث لهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية موضحًا هذه الأقسام: "الْفِرَقِ بَيْنَ الْمِنْهَاجِ النَّبَوِيِّ الْإِيمَانِيِّ الْعِلْمِيِّ الصلاحي وَالْمِنْهَاجِ الصَّابِئِ الْفَلْسَفِيِّ (^١) وَمَا تَشَعَّبَ عَنْهُ مِنْ الْمِنْهَاجِ الْكَلَامِيِّ
_________
(^١) هناك نوعان من الفلاسفة:
١ - الفلسفة اليونانية
٢ - الفلسفة الهندية
فالفلسفة اليونانية: قامت على جانب العلم، فهي تنبني على أمور علمية، ويقسمون العلوم إلى ثلاثة أقسام: (علوم إلهية، وعلوم رياضية، وعلوم طبيعية)
فالعلوم الطبيعية: كطبيعة الأرض وطبيعة الإنسان، وتسمى حديثًا: (علوم الفيزياء)، والعلوم الرياضية: كالحساب والهندسة، والعلوم الإلهية هي ما يتعلق بالله تعالى وشريعته،
وهذه القسمة لا إشكال فيها، ولكن الإشكال في أنهم يقولون: إن العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية علوم صادقة، وأما العلوم الإلهية فإنها علوم كاذبة.
وهذا يرجع إلى مبدأين عندهم:
المبدأ الأول:
وهو أن العلم إنما يطلق على المحسوس المشاهد فقط (والذي يسمى اليوم بالعلم التجريبي) وهذا معناه إلغاء (عالم الغيب).
المبدأ الثاني:
أن مصدر العلم هو الإنسان ذاته، وهذا معناه (إبطال الوحي).
هذان هما الأساسان اللذان تقوم عليهما فلسفة اليونان، والتي تأثر بها أهل البدع والضلال.
وإذا تكلم هؤلاء الفلاسفة في الإلهيات فإنما يتكلمون على طريقة الفرضيات، أي على سبيل التوهم، لا على الحقيقة، لأن هذه الأمور ليس لها وجود في الخارج، فإذن هي غير موجودة عندهم.
لأن مراتب الوجود أربعة: الوجود الذهني والوجود العيني والوجود اللفظي والوجود الخطي) فالشيء الموجود في الذهن فقط، وليس له وجود في الخارج يسمى وجوده بالوجود الذهني، وإذا كان هذا الشيء موجودًا في الخارج يسمى وجوده بالوجود العيني، وعندما تتكلم به يسمى وجوده بالوجود اللفظي، وعندما تكتبه يسمى وجوده بالوجود الخطي.
وعند هؤلاء الفلاسفة أنه لا وجود حقيقي لله، والكلام عنه إنما هو في الأذهان فقط، وكل من تأثر بفلاسفة اليونان لن يخرج عن هذا الفكر، ولذلك تجد أن أعظم مسألتين طال الكلام فيهما في العقيدة (صفة الكلام وصفة العلو)، وذلك لتأثر منكري هاتين الصفتين بفلاسفة اليونان.
وأما الفلسفة الهندية: فإنها قامت على العمل بدون العلم، وممن تأثر بهم الصوفية أصحاب البدع ممن لا علم عندهم، ولهذا تجدهم يعظمون المشاهد والقبور، وغير ذلك من الأعمال التي تهدم جناب التوحيد.
وأما أهل السنة فقد جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح.
1 / 19
وَالْعِبَادِيِّ الْمُخَالِفِ لِسَبِيلِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ ﵈ دَعَوْا النَّاسَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ أَوَّلًا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعِبَادَتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ. فَأَصْلُ عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ: هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَالْعَمَلُ لِلَّهِ (^١) ".
فالمنهج الأول: المنهاج النبوي الإيماني
وهو منهج الأنبياء والرسل من أولهم إلى أخرهم القائم على العلم والعمل معًا وهذا ما عناه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ ﵈ دَعَوْا النَّاسَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ أَوَّلًا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعِبَادَتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ. فَأَصْلُ عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ: هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَالْعَمَلُ لِلَّهِ".
وهؤلاء هم أهلُ السنَّة الذين اعتنوا بالعلمٌ والعمل معًا.
_________
(^١) مجموع الفتاوى: ٢/ ١٦.
1 / 20
والمنهج الثاني: المنهج الصابئ الفلسفي.
وهذا المنهج مخالف لمنهج الأنبياء والرسل وهو منقسم إلى قسمين: وهو ما عناه شيخ الإسلام بقوله: "وَمَا تَشَعَّبَ عَنْهُ مِنْ الْمِنْهَاجِ الْكَلَامِيِّ وَالْعِبَادِيِّ".
ويفهم منه أن المنهاج الفلسفي منقسم إلى قسمين:
القسم الأول: المنهج الكلامي. وهم أهل الكلام ومن وافقهم.
وهؤلاء قومٌ اعتنوا بالعلم دونَ العمل وإن كان علمهم لم ينبنِ على الكتابِ والسنَّة:
وهم أهلُ الكلام الذين بنوا علمهم على الرأيِ والقياس وعلى الفلسفة وخلا علمهم من العمل، إذ لا يوجد عندهم منهج عمل.
القسم الثاني: المنهج العبادي. وهؤلاء هم المتصوفة.
وقومٌ اعتنوا بالعمل دون العلم: وهم المتصوفة وأشباههم فهؤلاءِ عملٌ بلا علم.
وهؤلاء وقعوا في مفسدتين:
فالمتكلم لم يبنِ علمه على الكتابِ والسنَّة، ثم إنه تركَ العمل.
والمتصوِّف لم يبنِ عمله على الكتابِ والسنَّة، ثم إنه تركَ العلم فبالتالي ضلوا وأضلوا.
وأما أهل السنَّة فإن منهجهم يقومُ على العلمِ والعمل معًا، وهذا العلمُ والعمل مبنيٌ على كتابِ الله ﷿ وسنَّةِ نبيه ﷺ وعلى ما كان عليه السلفُ الصالح.
قال ابن تيمية: "وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: كَانُوا يَقُولُونَ مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى. وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ يَقُولُ: "احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ
1 / 21
مَفْتُونٍ".
فَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَشْبَهَ الْيَهُودَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.
وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ بَلْ بِالْغُلُوِّ وَالشِّرْكِ أَشْبَهَ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾.
فَالْأَوَّلُ مِنْ الْغَاوِينَ، وَالثَّانِي مِنْ الضَّالِّينَ. " (^١)
ولذلك كان منهج السلف في التوحيد يقوم على أمرين؛ هما:
١ - العلم بالله.
٢ - والعمل لله.
فجمعوا بذلك بين التصديق العِلمي والعَمل الحُبِّي، وبذلك تميز منهج أهل السنة والجماعة (السلف) عن المناهج الأخرى.
حيث حققوا كِلا الأمرين؛ من القول التصديقي المعتمد على معرفة أسماء الله وصفاته وأفعاله الواردة في الكتاب والسنة. والعمل الإرادي، وذلك باتباع الأوامر واجتناب النواهي وفق ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ.
ولذلك كان كلامهم وعملهم باطنًا وظاهرًا بعلم، وكان كل واحد من قولهم وعملهم مقرونًا بالآخر، وهؤلاء هم المسلمون حقًّا؛ الذين سَلِموا من آفات منحرفة المتكلمة والمتصوفة.
فوقعت كل طائفة من هاتين الطائفتين المنحرفتين في مفسدتين:
إحداهما: القول بلا علم إن كان متكلمًا، والعمل بلا علم إن كان متصوفًا.
والمفسدة الثانية: فوت المتكلم العمل، وفوت المتصوف القول والكلام (^٢).
_________
(^١) مجموع الفتاوى ١/ ١٩٦ - ١٩٧.
(^٢) «مجموع الفتاوى» (٢/ ٤١) بتصرف.
1 / 22