49

Explanation of Sahih al-Bukhari by Al-Huwaini

شرح صحيح البخاري للحويني

Genres

بالإسناد نعرف الذين يكذبون في الحديث لقد كان العلماء لعنايتهم بالأسانيد يكتشفون الذين يكذبون في الأسانيد، ولله در عبد الله بن المبارك ﵀! فقد قال: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. فلولا أننا نحقق ونسأل كل إنسان عن مستنده؛ لقال من شاء ما شاء. وهنا أذكر شيئًا اسميه: محنة جسيمة في الواقع، لكن لا يشعر بها أكثر الناس، وهي: ضياع فن التراجم في هذا العصر. لو أن إنسانًا سئل عن شيوخه فادعى جماعة من الشيوخ، وقال مثلًا: شيوخي مائة: ثلاثون في الحديث، وثلاثون في الفقه، وعشرة في القراءات، وعشرة في النحو، وعشرة في الصرف فهل تستطيع أن تكذبه؟ حتى لو قلت له: إذًا سم لي شيوخك في الحديث مثلًا؟ فسيقول: علي، إبراهيم إلخ، وهل تقدر أن تأتي بهم؟ وهل تعرف أين هم في الكرة الأرضية؟! فلما كان هناك عناية بفن التراجم لم يستطيع أحد أن يكذب لأنه إذا قال أحد: أنا قرأت العلم الفلاني على فلان، ينظر في كتب العلماء الذين ترجموا لأهل ذلك العصر: هل هذا الرجل له وجود أصلًا أم لا؟ هل هذا الرجل كان متينًا في مادته أم لا؟ أما في وقتنا فإنه يستطيع أي إنسان أن يدعي لنفسه ما يشاء ولا يستطيع أحد أن يكذبه. وبعض الناس الآن قد يكونون أئمة بعد ثلاثمائة عام، فمثلًا: لو أني قلت: حدثني أبو لمعة،فالكل يعرف أن أبا لمعة هو أستاذ الكذب في العصر الحديث، ولأنه لم يؤرخ أحد لـ أبي لمعة، ولم يقل أحد أنه كذاب، فقد يكون أبو لمعة هذا إمامًا بعد خمسمائة سنة؛ لأنه لا حس ولا خبر عنه. فهذا الفن -فن التراجم- فيه صيانة لعلم العلماء، وقطع للمدعين، وقد كان قديمًا إذا ألف أحد سندًا من الأسانيد يكتشف مباشرةً. يذكر العلماء قصة حدثت لـ يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، والقصة معروفة، وإن كان قد طعن فيها بعض العلماء كـ ابن الجوزي -كما أظن- يقولون: إن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين دخلا مسجدًا من مساجد الكوفة، فإذا رجل من الفسطاط يحدث عن الأسماء اللامعة، يقول: حدثنا أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، قالا: حدثنا فلان عن فلان عن فلان. وساق سندًا من الأسانيد، أن النبي ﷺ قال: (من قال: لا إله إلا الله؛ خلق الله له بكل كلمة طائرًا، كل طائر له سبعون ألف رأس، كل رأس فيه سبعون ألف منقار، كل منقار فيه سبعون ألف لسان، كل لسان يستغفر الله لهذا الرجل بسبعين ألف لغة)، ترتيبة عجيبة! وكان يحيى بن معين يصلي في ناحية المسجد، فسمع هذا الكلام فما صبر، فذهب إلى الرجل، وبعد أن أكمل هذا القاص هذه الحكاية رمى له كل واحد من الحاضرين بدرهم أو أي شيء، فناداه يحيى بن معين، فجاء الرجل متوهمًا لنوال -أي: لعطاء، ظن أنه سيعطيه شيئًا- فقال له يحيى: اجلس، فجلس، فقال: من حدثك بهذا؟ قال: حدثني يحيى بن معين وأحمد بن حنبل. فقال له: أنا يحيى بن معين وهذا أحمد بن حنبل، ما سمعنا بهذا قط. وكان الرجل ذكيًا، فقال له: قد كنت أسمع أن يحيى بن معين أحمق، فما تحققته إلا الساعة -عرفت أنه أحمق في هذا الوقت- أو تظنان أن ليس في الدنيا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين غيركما؟ لقد حدثت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل، وسبعة عشر يحيى بن معين. يخلق الله من الشبه سبعة عشر! نحن عندنا يخلق الله من الشبه أربعين بحكم العصر، فكلما نتقدم ونقترب من الساعة يزداد العدد. فوضع أحمد فمه في كمه، يكتم الضحك، وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزئ بهما. فهذا إذًا رجل يعرف أن الإسناد له شأن عند الجماهير، فأتى بسندٍ من الأسانيد، لكن كان هناك من العلماء من يقوم لأمثال هؤلاء.

4 / 5