23

Explanation of Sahih al-Bukhari by Al-Huwaini

شرح صحيح البخاري للحويني

Genres

معرفة الله ﷿ وصلة الرحم من ثمرات العلم فقوله ﵊: (إنما الدنيا -فيه إشارة إلى هذا المعنى الذي جليناه- لأربعة نفر) فكلنا واحد من هؤلاء الأربعة، وليس هناك واحد منا يخرج أبدًا عن هؤلاء الأربعة. الأول: رجل آتاه الله العلم والمال، فثمرة العلم أنه يعرف لله فيه حقه، ويصل به رحمه، فالعلم هو الذي عمل هذا كله، بدليل أن الرجل الثاني الذي عنده مال فقط وهو جاهل قال عنه ﵊: (فهو يخبط بماله لا يرعى لله فيه حقه) . فالرجل الذي عنده العلم والمال استطاع أن يوظف المال بالعلم، وهذا معنى قول النبي ﷺ: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن أو الحكمة أو العلم فهو يعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق) لا حسد، الحسد هنا: الغبطة، أن تتمنى لنفسك ما لأخيك، بغير أن تتمنى زوال النعمة عن أخيك؛ لأن العبد إذا حسد الحسد المذموم فإن الضرر يعود إليه، إذ: ﴿لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر:٤٣] . فمعنى لا حسد: أي لا غبطة، وإن كان القصد لا حسد أي: الحسد المذموم. (رجل آتاه الله علمًا أو قرآنًا فهو يعلمه الناس، ورجل آتاه الله مالًا -فجعل المال تابعًا للعلم- فسلطه على هلكته في الحق) وانظر هنا إلى تعبير الحديث، سلط المال على هلكته، يعني أهلك المال بسرعة، وليس ينفق ببطء، وإنما يهلك المال، ووضع القيد وهو أنه لا يكون إلا بالعلم، يعني لو أنك جئت في رمضان فعملت موائد إفطار، وتقول: أنا شرطي أن هؤلاء الجماعة يأكلون مثل أكلي أنا في البيت، وتشرف على هذه الموائد، وتتأكد أنها على ما يرام، وتهلك مالك في هذا الشرط، والله طيب لا يقبل إلا طيبًا. فهذا الخير لا يكون إلا بفضل العلم، فالرجل الأول آتاه الله علمًا ومالًا، فعرف كيف يوظف ماله بالعلم الذي عنده، والرجل الثاني: آتاه الله علمًا ولم يؤته مالًا فهو يقول: لو أن لي مثل فلان، فأعانه العلم على تصحيح نيته، والرجل الثالث: آتاه الله مالًا، ولم يؤته علمًا فهو يخبط فيه خبط عشواء، فهذا لم يستطع أن يوظف ماله؛ لأنه جاهل، والرجل الرابع: جاهل ولا مال له، فهذا خسر الدنيا والآخرة بنيته الخبيثة. وهذه قصة فيها أن الجاهل لا يميز بين الطيب والخبيث: أن رجلًا -مثل الذي يسمع الكلمة ويأخذ بشرها- جاء إلى راعي غنم، وقال: يا راعي الغنم أعطني شاة، فقال صاحب الغنم لهذا الرجل: انزل وخُذْ لك أسمن شاه فدخل فأخذ بأذن كلب الغنم وقال: هذه أسمن شاة. فقال ﵊: (فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله فهو ونيته) هو ونيته: معناه قول النبي ﵊: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) . فهو ونيته: إن كانت لله ورسوله فهي لله ولرسوله، وإن كانت للدنيا فهي للدنيا،. (فهما في الأجر سواء) إذًا: كيف يكونان في الأجر سواءً، ولم يستويا في العطاء؟ فالرجل الأول تعدى خيره بخصلتين: عنده علم وعنده مال، والرجل الثاني تعدى خيره إلى الناس بخصلة واحدة، وهي نيته، فكيف يستويان؟ قال العلماء: قوله ﵊: (فهما في الأجر سواء) يعني قريبًا من السواء، أتينا بمثال تقريبي لهذا الحديث، فهذا أبو حاتم الرازي ﵀ قال له ابنه: إنك تقول على الراوي مرة: ثقة، وتقول مرة: لا بأس به، فقال له: من قلت فيه: لا بأس به فهو ثقة، إذًاَ ما هو الفرق، لماذا لا تقول: ثقة فقط؟ يعني مثلًا في التقديرات الجامعية عندنا الامتياز، عندنا جيد جدًا، وجيد، ومقبول، وضعيف، وعندنا راسب، فالمائة بالمائة امتياز، والتسعين بالمائة امتياز وهل يستويان؟ لا يستويان، لكنهما في نفس التقدير، فهذا القول الأول. والقول الثاني وهو الأصح: هما في الأجر سواء، والرجل الثاني ما امتنع عن الإنفاق باختياره حتى يؤاخذه الله ﷿ بما كسبت يمينه، هو فقير، وهذا ليس باختياره، والله يعامل هذه الأمة بالفضل، وليس بالعدل، فمناسب لتمام فضله وكرمه وتفضله على عباده أن يرفع الرجل بغير كسب منه، تفضلًا منه على عبده. والإمام البخاري ﵀ التقط هذا المعنى في باب من أبواب الصحيح سماه: باب من أدرك من العصر ركعة، أي: قبل أن تغرب الشمس، وروى فيه حديث أبي هريرة الصريح في المسألة: (من أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة) ثم ذكر بعد ذلك حديثًا لـ أبي موسى الأشعري، وحديثًا لـ عبد الله بن عمر والحديثان فحواهما واحدة، يقول الحديث: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس) . مثال ذلك: رجل صاحب عمل استأجر أجراء يعملون له من أول النهار إلى آخر النهار بمبلغ معين، كأن يعملوا من الصبح إلى المغرب بعشرين جنيهًا فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا وقالوا: لا حاجة لنا في هذه الأجرة، فقال لهم: يا جماعة أنا اشترطت في البداية أن تعملوا من الصبح إلى الليل، وإذا أكملتم أعطيتكم الأجر، قالوا: لا حاجة لنا في هذه الأجرة، فقال: ننظر آخرين! فاستأجر أجراء فقالوا لهم: تعملون من الظهر إلى المغرب بعشرين جنيهًا، فعملوا من الظهر إلى العصر وعجزوا، فاستأجر أجراء من العصر إلى المغرب وقال لهم: بأربعين جنيهًا، فلما قال لهم: بأربعين جنيهًا، اعترض العمال السابقون وقالوا له: ماذا تصنع؟ نحن كنا أكثر عملًا منهم، وهم أكثر أجرًا منا! فقال كما في الرواية الثانية من حديث ابن عمر قال: (أعطاهم قيراطًا قيراطًا وأعطانا قيراطين قيراطين) وفي رواية أخرى قال: (فعجزوا وقالوا: لا حاجة لنا في هذه) . والجمع بين الحديثين: أنهم لما عجزوا وقالوا: لا حاجة لنا في أجرك، أمر الله ﷿ بإعطاء أهل التوراة أجرهم قيراطًا، وأعطى أهل الإنجيل أجرهم قيراطًا، وأعطى المسلمين أجرهم قيراطين، فضل الله يؤتيه من يشاء. وبهذا نكون قد جمعنا بين الحديثين ولا تناقض، ففي الحديث الأول أعطاهم قيراطًا قيراطًا، والحديث الثاني قال: فعجزوا وقالوا: لا حاجة لنا في أجرك. المهم فلما أخذ كل واحد منهم أجره، جاء السابقون فقالوا: (أي ربنا! نحن أكثر عملًا منهم وهم أكثر أجرًا منا! قال: هل ظلمتكم من أجوركم شيئًا؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء) مالي أعطيه من أشاء من عبيدي وأنا ما ظلمتكم. فلماذا وضع الإمام البخاري هذين الحديثين، وما علاقة هذين الحديثين بباب من أدرك ركعة من العصر؟ فلو أن هناك شخصًا يصلي العصر ولم يبق على أذان المغرب إلا دقيقة واحدة، فأدرك ركعة من العصر وأذن المغرب بعد أن أتمَّ ركعة واحدة، إذًا سيصلي ثلاث ركعات في غير الوقت، فالعدل أن يثاب على ركعة، وثلاث يذهبن عليه، لكن الله عامله بالفضل، فوهب له الثلاث التي وقعت في غير الوقت بركعة وقعت في الوقت، إذًا عامله بالفضل أم لا؟ نعم. عامله بالفضل، فـ البخاري ﵀ بعد أن ذكر دليل المسألة، ذكر الحديثين من باب التعليل. أن الله إنما عاملنا بفضله ﵎ قال: (فذلك فضلي أوتيه من أشاء) . وفي هذا دليل على أن الإنسان يسعى في الشر بسرعة الريح كما في الحديث: (فهو يخبط في ماله لا يرعى لله فيه حقه، ولا يصل به رحمه)، فهذا بأخبث المنازل، فالذين لم يستضيئوا بنور العلم كما قال القائل: لم يحصل على دنيا ولا على آخرة.

2 / 8