ثمة سمتان هامتان يتميز بهما الفن الحديث في نهايات القرن ال 19: الأولى هي الدرجة العالية جدا من الوعي الذاتي للفنان بفنه على أنه فن وليس موظفا لخدمة شيء آخر - وتلك هي المرحلة الثالثة من تصنيف بيتر برجر
لتطور الفن الحديث. والسمة الثانية معتمدة على الأولى، وهي أن هذا الوعي الذاتي قد دفع الفنان إلى المزيد من الفردية والذاتية، ومحاولة خلق أسلوب خاص به يميزه عن الفنانين الآخرين، سواء المعاصرون له أو السابقون عليه. من هنا نلاحظ احتفاء هذا العصر بالأسلوب؛ فالتراث الفني أصبح عبئا على الفنان وجزءا من العالم الخارجي يسعى لتحرير نفسه منه، وإنتاج فنه بمعزل عنه. وهكذا يصبح الأسلوب وسيلة لتأكيد الذات مقابل العالم. ويصبح الأسلوب كنتاج للذات أو للجزء الذاتي أو المثالي في الفنان تأكيدا لهذا الجانب مقابل الجانب الموضوعي أو ذلك الذي ينتمي للعالم. هذا التمرد العنيف على العالم قد بلغ أوجه مع مقولة أوسكار وايلد
Oscar Wilde : «إن الطبيعة هي التي تقلد الفنان، لا العكس.»
نستطيع هنا أن نستنتج أن تنامي الاتجاه الرمزي والشكلي في هذه الفترة قد أدى إلى صعوبة لغة الفن وعدم قدرة الكثيرين على فهمه؛ لذا أصبح الفن الحداثي فنا لا يتميز بالشعبية، بل تحول إلى فن الصفوة
L’élitisme
وهي القلة القليلة المختارة التي لديها الثقافة الكافية، والوعي بتاريخ الفن وتطوره.
وإذا عدنا إلى تحديد بودلير من جديد للفن الحداثي بأنه «التقاط الثابت من المتحول» فإننا نلاحظ أن الفن الحداثي لم يتخل عن البحث عن الثبات أبدا. يتضح هذا من تحليل الأعمال الشهيرة التي صدرت آنذاك، فإذا ما كانت «الأرض الخراب»
The Waste Land
نموذجا للتشظي، نجد إليوت
17
Unknown page