ما تفتأ الحداثة تولد أشكالا جديدة للسلطة تختلف عن إطار التصور الماركسي للدولة. فالدولة لا تحتكر السلطة كما هو شائع وكما تقترح النظريات الكلاسيكية للسلطة «توجد علاقات قوة بين كل نقطة في الجسم الاجتماعي: بين الرجل والمرأة بين أفراد الأسرة (...) بين كل من يعرف وكل من لا يعرف.»
إن السلطة هي نتاج لصراع لا يتوقف ولا ينتهي، كما أنها متحركة وليست مستقرة؛ إذ الصراع مستمر ودائم من أجل السلطة وبواسطتها. وامتلاك السلطة تتحكم فيه شروط كثيرة متغيرة، واستراتيجيات متقلبة. لهذا فهي تتحدد كعلاقات متغيرة بين قوى.
إن السلطة بهذا المعنى لا تنضبط بما هو سياسي، بل تتجاوز باستمرار مجال السياسي وتخومه. وهذا يعني أن السلطة غير قابلة للاختزال إلى الدولة - كما ترى الماركسية - لأن الدولة ليست وحدها التي تحتكر السلطة؛ لأن هذه الأخيرة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لا مركز لها، كما أنها متشظية ومبعثرة في كل أنحاء الجسد الاجتماعي. فهي توجد على صعيد الفرد الواحد، والمعرفة، والخطاب، والسلوك، كما توجد على صعيد الأسرة والمدرسة والمستشفى والقيم ... إلخ.
إن هذا الطابع الميكروفيزيائي للسلطة يثبت تهافت التصورات السياسية التي تختزلها في أجهزة الدولة؛ إذ السلطة شبكة
Un raiseau
لا مركز لها، ولا تتجسد في أي جهاز محدد حتى ولو كان ذلك الجهاز هو الدولة نفسها.
لا يعني هذا الكلام أن فوكو يقلل من شأن سلطة الدولة، وإنما يسعى أن يبين الطابع المنتشر للسلطة غير القابل للاختزال. وما ذلك إلا لأن الدولة لا يمكن أن تستنفد كل أشكال علاقات السلطة. ومن جهة أخرى فالدولة لا تستطيع القيام بوظائفها اعتمادا على ذاتها وقدراتها الخاصة؛ إذ هي في حاجة لخدمات الأسرة، والمدرسة، والشارع، والصورة، والمعلومة، والمعرفة، والرمز، ومختلف أشكال الإنتاج التقني والفني.
إن تركيز النظرية الماركسية للسلطة على الدولة عاجز عن تفسير ميكروفيزياء السلطة
Micro-physique du pouvoir ، فلا يمكن تناول هذا المفهوم المجهري للسلطة من منظور جهاز مركزي مجسد في الدولة، يبحث فوكو أيضا عن تشكل وإعادة إنتاج بنيات معقدة للسلطة بالاعتماد على النموذج الاستراتيجي الذي بمقتضاه تفهم العلاقات الاجتماعية للسلطة ضمن سيرورة يتم من خلالها توليد بؤر للسلطة في كل مكان، مثل شبكة في نظام لا مركز له، فالسلطة لا مركز لها، ولا تتجسد في جهاز سياسي، وبالتحديد في جهاز الدولة؛ فهي منتشرة في كل الجسم الاجتماعي، وغير ثابتة ولا مستقرة، وتتحول من مكان لآخر: «لا أزعم أن الدولة لا أهمية لها، ما أريد قوله، هو أن علاقات القوة، وبالتالي التحليل الذي ينبغي أن تخضع له، يتجاوز بالضرورة حدود الدولة. وذلك بمعنيين؛ أولا وقبل كل شيء لأن الدولة، وبالنظر إلى حضور كل أجهزتها، بعيدة كل البعد عن أن تكون قادرة على ملء مجمل علاقات السلطة؛ ثانيا لأن الدولة لا يمكن أن تؤدي وظيفتها سوى بالاعتماد على غيرها؛ أي على علاقات القوة الموجودة. إن الدولة هي بنية فوقية تدخل في علاقة مع كل سلاسل شبكات القوة التي تسكن الجسم، والجنسية والأسرة والمعرفة والتقنية وهلم جرا يعارض فوكو التصورات الاختزالية، والاستاتيكية للسلطة.»
86
Unknown page