122

Durub Ma Bacd Hadatha

دروب ما بعد الحداثة

Genres

يتفرع عن هذه النقطة، نقطة أخرى تتعلق بنظرة ما بعد الحداثيين لمعايير الحكم الجمالي باعتبارها معايير سلطوية؛ فهم يرفضون عملية التقييم للعمل الفني، ويرون أنها ليست من مهام الناقد الأدبي المعاصر، مهمة الناقد الكشف عن مستويات مختلفة للقراءة، أما عملية التقييم فهي ممارسة للسلطة: «أنا لا أستطيع أن أسمح لنفسي بالقول: إن هذا لجيد، وإن هذا لرديء؛ إذ ليس ثمة قائمة للجوائز، كما أنه ليس ثمة نقد. فالنقد يتطلب دائما هدفا تكتيكيا، واستخداما اجتماعيا، كما يتطلب دائما نمطا خياليا، وأنا ليس في مقدوري توقع أو تصور النص كاملا، حتى يتسنى له الدخول في لعبة الإسناد المعياري.»

122

إن هذا الفهم لعملية الكتابة ودور المؤلف والقارئ عضده دريدا في استراتيجيته التفكيكية. فحين تصدى جاك دريدا للكشف عن نقاط التناقض والضعف في شرح فرديناند دي سوسير للطريقة التي تعمل بها اللغة وتؤدي وظائفها، قدم مفهوما أو تصورا للغة ترتب عليه القول بأن المعنى لا يتحقق أبدا بصورة كاملة. فنظرية سوسير في علم اللغة تعتمد على فكرة أن اللغة تعمل كنظام قائم بذاته، ونسق مستقل يتكون من مجموعة من الدوال، وأن هذا النسق هو الذي يحدد هوية ووظيفة عناصره الفردية. لقد عارض سوسير مفهوم اللغة كظاهرة يتحكم فيها التاريخ ويحكم مسار تطورها، وتتكون من إجمال العناصر والقواعد التي اكتسبت المعنى على مر الزمن، وقدم في مقابل هذا المفهوم القديم للغة مفهوما جديدا يرى في اللغة نظاما مستقلا بذاته. ويقصد بالاستقلال هنا أن اللغة تعمل باستقلال تام عن الإطار التاريخي الذي نشأت فيه. ويعتمد هذا المفهوم الجديد بصورة رئيسة على التمييز بين الجانبين اللذين يتكون منهما أي نظام لغوي وهما: الكلام

واللغة

Langue . واللغة وفق سوسير تفصح عن نفسها دائما في صورة الكلام؛ أي في صورة استخدام محدد خاص لعناصر معينة. لكن هذا الاستخدام يعتمد بدوره دائما على اللغة؛ أي على مجموعة القواعد والعلاقات التي تشكل النظام اللغوي. والتي ينطوي عليها أي استخدام لأي عنصر من عناصر اللغة. وفي إطار تلك العلاقة بين الكلام واللغة يعيد سوسير مراجعة المفهوم التقليدي لبناء العلامة، الذي كان ينظر للعامة على أنها تتكون من جانبين: الدال والمدلول، وعن طريق اتحاد الدال والمدلول تتكون العلامة وتظهر كوحدة دال. غير أن سوسير في مراجعته لهذا المعنى ذهب إلى أن العلاقة بين أي دال ومدلوله غير مرهونة بصلاحية كل منهما للآخر، بل ينتجها النظام اللغوي ببنيته المستقلة المكتفية بذاتها.

ويخلص دي سوسير من تأملاته اللغوية إلى نتيجتين رئيستين فيما يتعلق بنشاط اللغة ونظام عملها؛ أولا: إذا كان الرابط بين الدال والمدلول هو نتاج لما تقوم به الأبنية اللغوية التقليدية المكتفية بذاتها، سيكون ما تشير إليه العلامة (المشار إليه) لا دور له في إنتاج المعنى؛ فاللغة كنظام مستقل لا تعتمد في تأدية وظائفها على أي شيء خارجها. ثانيا: أن اللغة سابقة على التفكير، وشرط لوجوده، وبالتالي شرط لأي معرفة بالأشياء التي يمكن أن تشير إليها. إن القول بأن الصلة بين الدال والمدلول تحددها العلاقة الاعتباطية التي تشكل النظام اللغوي، يعني منطقيا أن قدرة الدال على الارتباط بمدلول معين تعتمد في كل لحظة على علاقة الدال بكل العناصر الأخرى التي يتكون منها النظام اللغوي. ومعنى هذا في مجال الممارسة أن قراءة أي دال وتفسيره تتضمن بالضرورة إقصاء لكل أنواع القراءات واحتمالات التفسير الأخرى التي تشتمل عليها بنية اللغة. ويترتب على هذا أن المعنى لا يتحقق نتيجة لطبيعة الدال وتكوينه، أو لقيمة أو خاصية إيجابية يمتلكها في ذاته، بل فقط من خلال نشاط مجموعة من الاختلافات التي تشكل بنية لغوية معينة.

وقد ذهب دريدا في نقده لسوسير إلى أن تصوره للدال في علاقته بالمدلول يشوبه نقص خطير يتمثل في أنه حين ذهب إلى أن الدال ينشط كحامل للمعنى من خلال اختلافه عن الدوال الأخرى، ثم يؤكد على الرغم من ذلك أن هذا الاختلاف يمكن الدال من الارتباط بمدلول معين، فإنه يقع في التناقض إذ يفترض وجود عالم من المدلولات وبالتالي من المعاني، التي توجد في انفصال عن نشاط الدوال. ويرى سوسير أن لعبة الاختلاف

difference

التي ينشط من خلالها الدال لا يمكن أن تتمخض عن حضور المعنى إلا بالدخول في عالم المدلولات. وهذا العالم كما سبق وأشرنا لا بد أن يسبق وجود اللغة ويقع خارج حدودها؛ ذلك أن كلا من الدال والمدلول لا يمكن أن يوجد في استقلال عن الآخر. والنتيجة أن مجموعة التقابلات والتعارضات التي تكسب العلامة معناها في نظام سوسير لا تستطيع وحدها أن تحقق حضور المعنى.

على أن نقد دريدا لسوسير كان هدفه الرئيس التشكيك في إمكانية تحديد المعنى من الأساس. فإذا كانت قدرة الدال على إقامة علاقة مع المدلول لا تعتمد - وفق تصور سوسير للغة - على تعريف الدال إيجابا (أي تحديد هويته)، بل على تعريفه سلبا (أي تحديد ما ليس هو)، فإن عملية إنتاج الدلالة تغدو برمتها عملية تتحقق من خلال الغياب (غياب الدال واختلافه عن غيره من الدوال) بدلا من الحضور (أي حضور الدال)، ذلك أن الدال لا يقوم بوظيفته إلا بالرجوع إلى كل إمكانيات التفسير واحتمالاته التي يشتمل عليها النظام اللغوي والتي يتحدد معناه في اختلافه عنها. ويترتب على ذلك أن الدال إذا انقطعت صلته بأي مدلول مستقل، وفي الصلة التي توحد بين المعنى ونشاط الدوال بحيث لا يمكن الفصل أو التمييز بينهما، فإن المعنى بدوره يخضع في هذه الحالة لعمليات الاختلاف ذاتها التي تسمح للدال القيام بوظيفته، وهذا على سبيل المفارقة. وهكذا يصبح تحديد المعنى يعتمد على تعريفه سلبا (أي على تحديد ما لا يكونه) بدلا من تعريفه إيجابا برصد ما يعنيه. والنتيجة المترتبة على قيام المدلول بوظيفة الدال بصورة دائمة تتمثل في أن العلامة لا يمكنها أن تصبح مماثلة لمعناها أو أن تمتلك المعنى بصورة كاملة، وهذا لأن في سعيها لاقتناص المعنى تقع دائما في سلسلة لا نهائية من العلاقات والإحالات المتبادلة بين الدوال، ما يجعل عملية تحديد المعنى بصورة نهائية حاسمة أمرا مستحيلا.

Unknown page