ذيل وفيات الأعيان المسمى «درّة الحجال فى أسماء الرّجال»
المؤلف: أبو العبّاس أحمد بن محمّد المكناسى الشّهير بابن القاضى (٩٦٠ - ١٠٢٥ هـ)
المحقق: الدكتور محمد الأحمدى أبو النور
الناشر: دار التراث (القاهرة) - المكتبة العتيقة (تونس)
الطبعة: الأولى، ١٣٩١ هـ - ١٩٧١ م
عدد الأجزاء: ٣
Unknown page
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم تعنى الأمم بدراسة تاريخ عظمائها، وذوى الرأى فيها ممن لهم تأثير فى تطوير المجتمع، وتغيير مسيرة التاريخ.
ولعل أمة من الأمم لم تبلغ عنايتها بالتاريخ ما بلغت الأمة الإسلامية.
ولقد تجلى ذلك فى أمرين:
الأول: فى تلك الشروط التى لا بد منها فى توثيق الرواية وقبول الأخبار والتى كان لعلماء الحديث القدح المعلّى فى ضبط أصولها، وتحديد قواعدها.
والثانى: فى تلك الاتجاهات التاريخية المتخصصة والتى يقصد فيها كل مؤرّخ أن يقصر جهده على نوع بعينه؛ تمييزا له عن غيره، واستيعابا لمادته، وجمعا للأشباه والنظائر؛ حتى تتكامل الصور التى يكون بصددها، ويتيسر للباحث أن يفيد من هذه الدراسة المتخصصة والمستوعبة ما يهمه أن يفيد منه فى دراسته وأبحاثه، دون تشتيت للجهد، أو تضييع للوقت.
... ولكلّ وجهة هو مولّيها، ومنهج هو متبعه. .
فمن المؤرخين من عنى بالتاريخ للسنوات والعصور، ومنهم من عنى بالتراجم والأعلام. .
والذين عنوا بالعصور وتطوراتها، والسنوات وأحداثها: منهم من
المقدمة / 3
يؤرخ للفترة السابقة عليه ويضم إليها الفترة التى عاشها، والوقائع التى عاصرها. كما فعل الطبرى فى «تاريخ الأمم والملوك» وابن كثير فى «البداية والنهاية».
ومنهم من يؤرخ لحقبة زمنية معينة كما صنع ابن حجر فى «الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة»، والسخاوى فى «الضوء اللامع، فى أعيان القرن التاسع».
والذين يؤرخون للأعلام منهم من يعنى بأعيان قطر معين كما فعل الحميدى فى «جذوة المقتبس، فى ذكر ولاة الأندلس» والخطيب البغدادى فى «تاريخ بغداد» وابن عساكر فى «تاريخ دمشق».
ومنهم من يعنى بالتاريخ لطبقة خاصة كما فعل ابن الأثير فى «أسد الغابة فى تمييز الصحابة» وابن حبان فى «الثقات» من التابعين وأتباع التابعين، والسّلمى فى «طبقات الصوفية» وعياض فى «المدارك» وابن السبكى فى «طبقات الشافعية»، والذهبى فى «طبقات القراء»، والسيوطى فى «بغية الوعاة، فى طبقات اللغويين والنحاة».
ومن المؤرخين من يعنى بالعظماء والمصلحين. أو القادة الفاتحين. أو العلماء النابهين.
... ولقد ترك لنا المؤرخون من أولئك وهؤلاء آثارا حفيلة، وتراثا ضخما ومادة علمية خصيبة غنيت بالمثل العليا، والصور الحية، والمثلات الناطقة، والدروس المستفادة.
كم حدثونا عن دول نالت من القوة، وبلغت من العظمة، وطغت وبغت، ثم دالت وهوت؟ !
وكم أثاروا أشجاننا معهم فى أسباب تداعى هذه الدولة أو تلك، بعد
المقدمة / 4
تماسكها، وضعفها بعد قوتها، ثم سقوطها فرية بين برائن أعدائها؟ ! إن فى ذلك لعبرة.!
كم حدثونا عن قائد حالفه النصر فى معركة أو معارك كيف انتصر؟ وكيف كان يخطط لمعركته، وينظم جنده، ويلقى عدوه؟ !
وعن قائد هزم فى معركة أو معارك: كيف ولماذا هزم؟ !
لعلنا-بعد-نتوخى أسباب النصر، ونتوفى عوامل الهزيمة!
كم حدثونا عن أعلام الفقهاء والمحدثين، والأدباء واللغويين، وسائر العلماء والمؤلفين كيف درسوا علومهم، وثقفوا عقولهم، وكونوا فى الحياة فلسفتهم وآراءهم، وأفادوا ممن عاصرهم أو سبقهم؟
وكيف رحلوا وجابوا مختلف الأقطار ليتحملوا العلم عن شيوخه، ثم يؤدوه إلى طلابه؟ !
علّنا نبذل الوقت والجهد والمال فى سبيل العلم كما بذلوا، ونستهين بالصعاب فى طلب العلياء كما استهانوا:
ومن تكن العليا همّة نفسه ... فكلّ الذى يلقاه فيها محبّب
كم حدثنا المؤرخون عن أولئك الأعلام: كيف تأثروا ببيئاتهم ومجتمعاتهم ثم أثروا-هم-فى بيئاتهم ومجتمعاتهم؟ وكيف خلّفوا لنا من المدارس الفكرية. والتّراث العلمى ما نحن فى مسيس الحاجة إلى الكشف عن نفائسه، والتنقيب عن ذخائره؛ لنعرف منه مدى ما لنا من أصالة ومكانة، ومدى ما يمكن أن نسبهم به الآن فى إثراء الفكر، وإرساء القيم، وتدعيم الحضارة!
المقدمة / 5
درة الحجال
و«درة الحجال، فى أسماء الرجال» واحد من الكتب التى تعنى بتراجم كثير من أعيان المشهورين الذين عاشوا ما بين أواخر القرن السابع إلى أواخر القرن العاشر، وأوائل القرن الحادى عشر، ممن وعتهم ذاكرة مؤلف الكتاب.
وقد بدأه المؤلف بترجمة «أحمد بن خلكان» ليكون-كما قال- كالذيل لوفيات الأعيان.
وقد أسهم ابن القاضى بتأليفه هذا مع من بنى على تأليف «ابن خلكان» وذيّل له (١).
١ - فقد ذيل لوفيات الأعيان: تاج الدين: عبد الباقى بن عبد المجيد المخزومى المكى المتوفى سنة ٧٤٣ هـ بنحو ثلاثين ترجمة مع تزييف كلام ابن خلكان، وتفضيل ابن الأثير عليه
٢ - وذيله أبو الحسن: أحمد بن أيبك المتوفى سنة ٧٤٩ هـ
٣ - والشيخ زين الدين: عبد الرحيم بن الحسين العراقى المتوفى سنة ٨٠٦
٤ - والشيخ بدر الدين الزركشى المتوفى سنة ٨٩٤ وسماه: «عقود الجمان» وذكر كثيرا من رجال ابن خلكان.
٥ - ومحمد بن شاكر بن أحمد الكتبى المتوفى عام ٧٦٤ هـ وسماه «فوات الوفيات» وقال فى مقدمته:
وبعد فإن علم التاريخ مرآة الزمان لمن تدبّر، ومشكاة أنوار يطلع بها
_________
(١) راجع كشف الظنون ٢/ ٢٠١٧ - ٢٠١٩.
المقدمة / 6
على تجارب الأمم من أمعن النظر وتفكّر. وكنت ممن أكثر لكتبه المطالعة واستحلى من فوائده المراجعة، فلما وقفت على كتاب «وفيات الأعيان» لقاضى القضاة «ابن خلكان»، قدّس الله روحه، وجدته من أحسنها وضعا؛ لما اشتمل عليه من الفوائد الغزيرة، والمحاسن الكثيرة، غير أنه لم يذكر أحدا من الخلفاء، ورأيته قد أخلّ بتراجم فضلاء زمانه، وجماعة ممن تقدم على أوانه. ولم أعلم أذلك ذهول عنهم، أو لم يقع له ترجمة أحد منهم؟
فأحببت أن أجمع كتابا يتضمن ذكر من لم يذكره من الأئمة الخلفاء، والسادة الفضلاء من وفاته إلى الآن، فاستخرت الله تعالى، فانشرح لذلك صدرى، وتوكلت عليه وفوضت إليه أمرى. . . الخ.
وواضح من هذا ما دعا ابن شاكر إلى تأليفه: «فوات الوفيات» وهو أن يكون استدراكا لما فات ابن خلكان أن يذكره فى وفياته، واستكمالا لتراجم أعيان الحقبة التاريخية ما بين وفاة ابن خلكان (٦٨١ هـ) إلى قبيل وفاة ابن شاكر (٧٦٤ هـ).
وقد طبع فوات الوفيات بالقاهرة عام ١٩٥١ بتحقيق الأستاذ الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد.
واشتمل على: ٨٤٦ ترجمة، جاءت وافية بالغرض الذى من أجله ألف الكتاب.
إلى غير هذا وذاك من المؤلفات التى عنيت بالتذييل على وفيات ابن خلكان، والبناء عليه، والتى كانت درة الحجال» واحدا منها كما قدمنا.
... ولئن كانت السّمة العامة للدرة هى الترجمة لأعلام الحقبة التى أشرنا إليها،
المقدمة / 7
والتى تنتظم أكثر من أربعة قرون إلا أن لها خصائص لا نجد بدّا من الحديث عنها فيما يلى:
خصائص الكتاب
١ - أن التأريخ فيه ليس لطبقة خاصة من الفقهاء أو الأدباء أو النحويين ومن إليهم. وإنما هو للأعيان من سائر الطبقات، وابن القاضى يقول فى مقدمته:
«ولم أقتصر فيه على العلماء والأدباء، بل كل من له شهرة واستطار على الألسنة ذكره، من أولى الفضل والأعلام».
... ٢ - العناية بالناحية الأدبية للمترجم له أظهر من سواها.
ويبدو هذا فى حرص المؤلف على إيراد نموذج أو نماذج من شعر من يترجم له. ونراه فى كثير من التراجم يقتصر على أن يقول بعد اسم المترجم: «له نظم رائق» ويذكر طرفا منه. وقد يعقب-بعد ذلك-بسنة الوفاة، وقد لا يعقب.
وانظر صنيعه فى ترجمة أحمد بن عماد الدين المعروف بابن هبة الله ص ١٩ - ٢١ وأحمد بن سليمان بن مروان ص ٢٣ - ٢٥.
فإذا ما أفاض فى ذكر أخبار المترجم له لم ينس فى كثير من الأحيان أن يذكر إلى جانب ذلك طرفا من شعر المترجم له.
وحسبنا دليلا على هذا ما صنع فى ترجمة العلامة ابن حجر العسقلانى
المقدمة / 8
(٧٧٣ - ٨٥٢ هـ) فقد أورد فى ترجمته ص ٦٤ - ٧٢ من هذا الجزء خمسة وتسعين بيتا من شعره. بينما لم يزد فى التعريف به أن ذكر بعض مؤلفاته، وأخذه النحو عن ابن هشام، والحديث عن أبى العباس الغمارى، ووفاته.
ولعل هذه العناية ترجع إلى أن ابن القاضى كان إلى جانب ما عرف عنه-أديبا وشاعرا-على ما سنذكر فى ترجمته، فولع بإبراز هذه الناحية فى عامة كتبه.
... ٣ - ليس فى الكتاب استقصاء لتراجم أعلام تلك الحقبة التى أشرنا إليها: فابن القاضى ألف كتابا قبل هذا سماه «المنتقى المقصور، على مآثر الخليفة أبى العباس المنصور» استطرد فيه إلى ذكر بعض الفضلاء الذين رأى أن الحاجة تدعو إلى ذكرهم. بيد أن «المنتقى» ضاق عن استيفائهم وحصرهم، فألف «الدرة» لتكون كالملحق «للمنتقى» لا يستقصى فيها، بل يذكر من وعته ذاكرته-فحسب-من الأعيان الذين ضاق عنهم كتابه الأول، وقد نص على هذا فى مقدمته ص ٤ - ٥.
... ٤ - الكتاب وإن كان خاصا بتراجم الأعلام إلا أن المؤلف قد يستطرد فيه عقب إحدى التراجم إلى ذكر وقائع تاريخية هامة لا علاقة لها بالترجمة إلا أنها وقعت فى سنة وفاة المترجم له؛ يذكرها لأهميتها القصوى، ومغزاها البعيد.
كما فعل بعد أن ترجم لأحمد الجذامى الإسكندرى ص ١٣٨ فقد ترجم له فيما لا يزيد عن سطرين، وذكر وفاته سنة ٧٠٩ ثم قال:
المقدمة / 9
وفى هذه السنة فى يوم الثلاثاء ثالث شهر ربيع الأول منها. . . فى أول دولة أبى الجيوش حاضر «البرجلوني» «المرية» وقائد أبى الجيوش عليها القائد «أبو مدين: شعيب بن شعهب» وعلى البحر: القائد أبو الحسين: على الرفداحى» والبرجلوني المذكور طاغية «أرغون» خذله الله وصل. فى ثلاثمائة قطعة بين صغار وكبار، حربية وسفرية. إلخ.
وأخذ فيما يربو على عشر صفحات يتحدث عن هذا الغزو الغادر وما حدث بإزائه من قصد وصمود، ودفاع مجيد، ومقاومة باسلة، وكيف تواكب المدد للغزاة حتى تمكنوا من إحكام الحصار، ومع ذلك لم تهن عزائم المسلمين، ولم تضعف قواهم. . فكلما أفاض الأعداء فى المقاتلة. اشتد المسلمون فى المدافعة.
وظل ابن القاضى يتابع الحرب يوما بيوم ويسجل أهم الأحداث فى أهم الأيام إلى اليوم الثانى والعشرين من رجب من السنة المذكورة حيث كان آخر قتال، ثم إلى الثانى والعشرين من شعبان حيث تم إرغام الغزاة على الانسحاب (وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا) ثم تحدث ابن القاضى عما حشد أهل بادية «المرية» حتى لا يؤخذوا مرة أخرى على غرة، وعما يمكن أن يؤخذ من هذا كله من عظة وعبرة.
... ٥ - لم يلتزم المؤلف نسقا واحدا فى التعريف بالمترجم، فقد يقتصر فى التعريف على ذكر اسم المترجم له، وسنة وفاته كما صنع فى ترجمة «أحمد الغريانى» ص ١٣، و«أحمد اللحيانى» ص ١٤. من هذا الجزء.
وقد يتوسط فيعرّف بالمترجم له تعريفا يشمل منشأه وأصله، وخلقه، وفضله، وعلمه وفنه، ومصنفاته وكتبه، ومن أخذ عنهم، ومن أخذوا
المقدمة / 10
عنه وطرفا من شعره، وسنة مولده ووفاته كما فعل فى ترجمة «أحمد بن محمد بن عثمان الأزدى» ص ١٤ - ١٦ من هذا الجزء.
وقد يسهب فى الترجمة، فيفصل القول فى التعريف بالمترجم له من جوانب شتى، ولا يرى باسا فى أن يستطرد إلى شرح بعض المسائل العلمية التى تتعلق بالصنعة الأدبية فى النماذج الشعرية التى أوردها. كما صنع فى ترجمة «أبى العباس المنصور». التى استغرقت أكثر من أربع عشرة صحيفة من هذا الجزء.
ولسنا نعيب عليه أن يتوسط فى بعض التراجم، ويسهب فى بعضها الآخر، ولكنا نأخذ عليه أن يستطرد إلى ذكر أمر لا حاجة بالكتاب أو بقارئه إليه، وأن يوجز إيجازه ذلك المفرط فى الاقتصار عند التعريف له على ذكر الاسم والوفاة.
ولو جاز لنا أن نتقبل هذا الإيجاز فى بعض الأعلام المغمورين الذين يكفى ذلك فى التعريف بهم، فما أحسبنا نعتذر عنه، أو نتقبل صنيعه ذلك فى أعلام مشهورين «كأحمد بن إدريس القرافى» (ص ٨)، و«ابن عطاء الله السكندرى» (ص ١٢) و«أحمد بن عبد الرحيم العراقى» المحدث (ص ٢١)، و«أحمد النحوى» الملقب بالسمين (ص ٤٦) والأمير «برقوق» (ص ٢١٧) والسلطان تيمور لنك (ص ٢٣٠ - ٢٣١).
ولهذا كنت أعرّف فى التعليقات بمن لم يعرف به «ابن القاضى» أو أذكر من أخبار المترجم له ما قصر هو فيه، كلما تأتى ذلك لى وأشير إلى مصادر الترجمة لمن أراد أن يستوثق أو يستبحر فى المعرفة بالمترجم له.
... ٦ - قد نتكرر الترجمة للشخص الواحد-فى هذا الكتاب-كما
المقدمة / 11
صنع المؤلف فى الترجمة رقم ٢٦ (ص ٢٦ - ٢٧) لأحمد بن جزى الكلبى. فقد أعادها أخصر من الأولى رقم ٨٠ (ص ٥٩) ولم يزد فى الموضع الثانى إلا النص على تحديد ميلاده.
... ٧ - قد تكون الترجمة من نقل ابن القاضى أو اختصاره عن غيره فى المترجم، غير أنه قد ينص عمن ينقل عنه، أو يختصر كما فعل حين نص فى ترجمة «أحمد بن يوسف بن عمر الحلبى» ص ٥٠ - ٥١ على نقل قول السيوطى عنه فى «بغية الوعاة».
وقد لا ينص؛ كما فعل عند ما نقل قول الخزرجى فى ترجمة «أحمد ابن عثمان الزبيدى» ص ٤٨.
وكما فعل عند ما اختصر عن ابن حجر فى الدرر ما ترجم به لأحمد بن ثور ص ٤٩.
وكما نقل عن ابن الأعدل فى تاريخ اليمن قوله فى «أحمد بن إبراهيم العسلقى» ص ٥٥ دون أن ينسبه إليه.
ولهذا فنحن لا نستطيع أن نجزم بأن ما يترجم به ليس منقولا عن الغير حين يذكر الترجمة غير منسوبة لأحد.
لكنى أنسب الأقوال إلى قائليها، وأرد الترجمة إلى أصولها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، كما سيتبين فى التعليقات.
... ٨ - لم يلتزم المؤلف ترتيب المترجمين ترتيبا دقيقا لا بالسنوات
المقدمة / 12
ولا بالأسماء. وإنما أورد الأعلام تحت عنوان الحرف الواحد كيفما اتفق، فلم يصنع صنيع ابن حجر فى الدرر الكامنة، ولا صنيع السخاوى فى «الضوء اللامع» و«التحفة اللطيفة» فى تاريخ المدينة الشريفة» حيث رتبا الأعلام بحسب الحروف والآباء والأجداد ترتيبا دقيقا يسهل على الباحثين مهمة الحصول على طلبتهم من الأعلام فى موضعها بين سابقها ولا حقها.
ولم يفعل كما فعل الذهبى فى «العبر» وابن العماد فى «الشذرات» حيث رتبا التراجم فى كتابيهما يحسب سنوات الوفاة؛ تيسيرا أيضا لمهمة الباحثين.
وقد اعترف هو بذلك ثم اعتذر عن نفسه حيث قال فى آخر مقدمته: «ولم أرتبه على ترتيب السنين بل كيفما اتفق ذلك فى الحرف؛ لأنى جمعته من مقيداتى، وعسر على جمع ذلك على السنين والله الموفق».
... ذلك. والكتاب من قبل ومن بعد-زاد تاريخى حافل-إذ، استثنينا ما أخذناه عليه آنفا-ثم هو ثروة أدبية، نحيا بها فى ظلال تلك الحقبة التاريخية الآهلة، فنعرف عن أدبائها ونتاج قرائحهم ما يتكفل هذا الكتاب بإعطاء صورة حية عنه بهذه النماذج العديدة التى أوردها ابن القاضى فى ثنايا صفحاته.
... وإذا كان اختيار المرء قطعة من عقله، فإن اختيار ابن القاضى فى هذا الكتاب سواء فيما يتعلق بالأعلام وأخبارهم، أو الأدباء وأشعارهم. يبين-ولا ريب-عن فكره وشخصيته، وعلمه وثقافته، فى الفترة التى
المقدمة / 13
ألف فيها كتابه هذا، وسنراه أعمق فكرا، وأدق ترتيبا، وأكثر شمولا فى كتابه الآخر: «جذوة الاقتباس، فيمن حل من الأعلام بمدينة فاس» الذى سنتحدث عنه فى ثنايا الحديث عن مؤلفاته وآثاره-بعد أن نعرّف به، ونترجم له.
فمن هو ابن القاضى؟
هو أبو العباس: أحمد بن محمد بن أبى العافية، المشهور بابن القاضى، المكناسى؛ فهو منسوب إلى موسى بن أبى العافية، ثم إلى مكناس بن وصطيف كما حدث عن نفسه فى «جذوة الاقتباس» وهو أيضا من أهل «مكناس» (بالمغرب)
نشأته:
ولد بها عام ٩٦٠ هـ، ونشأ فى بيت علم فكان أول تلقيه على أبيه: عمر بن أبى العافية المتوفى بفاس سنة ٩٨١ هـ ثم أخذ عن أعلام عصره ما بين المغرب والمشرق.
شيوخه:
فمعن أخذ عنهم فى المغرب: أبو العباس: أحمد بن على المنجور الفاسى (٩٢٦ - ٩٩٥ هـ).
كان مستبحرا فى كثير من العلوم، لا سيما علم الأصول والمنطق، والتاريخ، والبيان. وقد ترجم له ابن القاضى فى هذا الجزء ترجمة ضافية (ص ١٥٦ - ١٦٣) ذكر فيها كثيرا من أخباره وأشعاره، ومناقبه وآثاره، ثم قال:
«ولقد أجاز لى جميع ما يحمله، وجميع تآليفه، وصارت الدنيا تصغر بين عينى كلما ذكرت أكل التراب للسانه، والدود لبنانه. .
المقدمة / 14
ولقد لازمته كثيرا من سنة ٩٧٥ إلى وفاته، ﵀. وما فارقته إلا زمن رحلتى للمشرق، وزمن أسرى فقط، أو مدة أقمتها بمراكش فى حياته. . . إلخ.
وحديث ابن القاضى عن شيخه هذا فى سائر الترجمة ينبئ عن مدى ما كان يكن له من إجلال وتوقير، وما كان يأخذ به نفسه من ملازمته ومتابعته، والاعتذار عن يسير مفارقته.
وهو أمر ينبئ بدوره عن مدى تعلق ابن القاضى بالعلم. وحرصه على تحصيله وفقهه؛ فملازمة الأعلام، ودوى المثالة فى العلم حين تتجرد عن غرض الدنيا لا تكون لشئ إلا للإفادة منهم، والتحمل عنهم، وهى الطريقة المثلى لنشر العلم، وخلود الأثر! .
وقد كانت علاقة ابن القاضى بابن المنجور صورة رائعة لهذا الذى نقول.
... ومنهم: أبو العباس: أحمد بابا بن أحمد بن عمر بن أقيت التنبكتى الصنهاجى الفقيه المؤرخ المحقق.
له ما يزيد على الأربعين تأليفا منها: «شرح على مختصر خليل» من الزكاة إلى النكاح، و«فوائد النكاح، على مختصر الوشاح» للسيوطى، و«نيل الابتهاج بتطريز الديباج» «وكفاية المحتاج لمعرفة من ليس فى الديباج» كانت مكتبته تضم ألف مجلد وستمائة مجلد، وكان يقول: أنا أقل عشيرتى كتبا.
المقدمة / 15
توفى سنة ١٠٣٢.
وقد انتفع ابن القاضى بشيخه هذا أيما انتفاع ولعل الناحية التاريخية كانت أظهر ما انتفع به منه.
... ومنهم أبو عثمان: سعيد بن أحمد المقرى التلمسانى (٩٣٠ - ١٩١١ هـ).
كان مفتى تلمسان نحوا من ستين سنة، وخطيبها بجامعها الأعظم خمسا وأربعين سنة. وكان فقيها وراوية.
وعنه أخذ ابن القاضى الفقه والتاريخ.
... ومنهم: أبو العباس: أحمد بن جيدة العالم الرحال الفقيه الأديب صاحب النظم الجيد، والنثر الرائق.
توفى سنة ١٠٠٩
... ومنهم: أبو المحاسن: يوسف بن محمد القصرى الفاسى العالم الفقيه العارف بالله المؤرخ: ولد سنة ٩٣٧ وتوفى سنة ١٠١٣.
ومنهم: أبو عبد الله: محمد بن القاسم القيسى الشهير بالقصار الفقيه المحدث، المحقق شيخ الفتيا بفاس، وخاتمة أعلامها.
المقدمة / 16
له مؤلفات عديدة، وفهرسة جمعت روايته فى الفقه والحديث.
ولد سنة ٩٣٦ وتوفى سنة ١٠١٢.
... ومنهم: أبو عبد الله: محمد بن الشيخ أبو بكر، الدلائى. الإمام العالم العامل العارف بالله، المستبحر فى علوم القرآن والسنة والكلام، انتهت إليه الرياسة الإمامة والفتيا فى زمنه.
قال ابن مخلوف فى شجرة النور الزكية ١/ ٣٠١:
وكان أعلام وقته كالشهاب المقرّى، وأبو العباس الفاسى (ابن القاضى) يقصدون زيارته، والتبرك به، ويراجعونه فى عويص المسائل اه.
ولد سنة ٩٦٧ وتوفى سنة ١٠٤٦ هـ.
ومن هذا النص نستطيع أن نلمح مدى ما كان عليه أبو العباس بن القاضى؛ فإنه لا تجوز مراجعة الأعلام وذوى الشأن فى عويص المسائل، ولا الغوص معهم فى محيط العلوم إلا لمن كان ذا تمكن واقتدار.
ناهيك إذا بابن القاضى، وما كان له من مكانه فى العلم! ومثالة بين القوم!؟
... وممن أخذ عنهم فى المشرق، إبراهيم بن عبد الرحمن العلقمى المصرى الشافعى الأشعرى، المحدّث الرواية الراحالة.
المقدمة / 17
وقد ترجم له ابن القاضى ص ٢٠٣ - ٢٠٤ وقال: «أخذت عنه «البخارى» -رواية-بمصر سنة ٩٨٦ بداره. . ثم ذكر طرفا من إنشاده لنفسه ولغيره، وأنه توفى سنة ٩٩٧.
... ومنهم: أبو عبد الله: محمد بن سلامة البنوفرى.
من أعيان فقهاء مصر كان مشهورا بالدين والورع، وانفرد أخيرا برياسة المذهب وكان-على ما قيل-يختم إقراء «مختصر خليل» فى أربعة أشهر، ويمشى لرباط الإسكندرية أربعة أشهر، ويحج فى أربعة أشهر. توفى فى حدود سنة ٩٩٨ هـ
... ومنهم القاضى بدر الدين: محمد بن يحيى بن عمر بن أحمد بن يونس المصرى القرافى كان مشارا إليه بالعلم والصلاح ورواية الحديث. تولى قضاء المالكية بمصر كان-على ما قيل-أمثل قضاته، شرح مختصر خليل فى أسفار، وله حاشية على القاموس سماها «القول المأنوس» وله تعليق على «أوائل ابن الحاجب» و«ذيل على الديباج» فيه تراجم لأكثر من ثلاثمائة شخص، وله شرح على «الموطأ» وله شعر حسن.
ولد سنة ٩٣٨ وتوفى سنة ١٠٨.
... على هؤلاء الأعلام وعلى غيرهم فى الشرق والغرب تتلمذ ابن القاضى وتغدى بلبان المعرفة فى الفقه، والحديث، والتفسير، والتاريخ، واللغة، والرياضة، والأدب، ثم غدا كما قال الكنانى: «حافظا، ضابطا، محققا، مؤرخا، إخباريا
المقدمة / 18
ثقة، سيّال القريحة بالشعر، حسن العبارة، لطيف الإشارة، مستجمعا لعلوم الأدب، ماهرا فى معرفة علوم الأوائل، مشاركا فى غير ذلك، وانفرد بعلم الحساب والفرائض فى وقته شرقا وغربا (١)
... ولقد كان ابن القاضى بعد تحمله للعلم وإعمال فكره فيه، وتمثله لمسائله حريصا على أدائه ونشره، ومن هنا كانت عنايته بالتربية والتدريس ومثابرته على التأليف والتصنيف.
ولقد أثمرت مدرسته فتخرج على يديه الكثيرون ممن ترسم هديه، واقتفى أثره، وقاربه أوفاقه فى تحصيل العلم، وخلود الأثر.
فلا غرو أن مثّل ابن القاضى-بالمدرسة الفكرية التى تأثر بها، ثم بتلامذته الذين صنعهم على عينه، ودفعهم للعلم والعمل بتوجيهه- لا غرو أن مثل ابن القاضى بأولئك وهؤلاء حلقة ضخمة فى سلسلة الحركة العلمية أينعت بها حقول المعرفة، فاستنارت البصائر، وتطور المجتمع، وازدهرت الحياة.
وسنستدل على ما نقول بحديث خاطف عن بعض تلاميذه ومكانتهم وإنتاجهم بعد أن تحدثنا عن بعض شيوخه فيما سبق، ثم نتبع ذلك: الحديث عن مؤلفاته.
_________
(١) فى اليواقيت الثمينة، فى أعيان مذهب عالم المدينة: ٢٤.
المقدمة / 19
من تلاميذه
فمن تلاميذه: شهاب الدين: أبو العباس: أحمد بن محمد المقرى.
ولد بتلمسان ثم رحل إلى فاس والقاهرة.
كان محدثا، راوية، متكلما، مؤلفا محققا، عارفا بالسير وأحوال الرجال، آية فى الحفظ والذكاء والأدب، نثرا ونظما.
وله مؤلفات عديدة تدل على سعة أفقه، وضبطه وحفظه منها: «نفح الطيب» و«أزهار الرياض» و«النفحات العنبرية، فى فعل خير البرية» و«إضاءة الدجنة فى عقائد أهل السنة» و«عرف النشق، فى أخبار دمشق» و«الغث والسمين، والرث والسمين» و«البداءة والنشأة» أدب كله و«الدر الثمين فى أسماء الهادى الأمين» و«شرح مقدمة ابن خلدون» وغير ذلك.
وقد تولى الخطابة بجامع القرويين، وحج خمس حجج، وأقرأ هناك الحديث وغيره، ورحل إلى دمشق فأملى صحيح البخارى فى الجامع الأموى وحاضر الآلاف هناك، وتكلم بكلام فى العقائد، والحديث لم يسمع له نظير، وأثر فى الناس أى تأثير، ثم عاد إلى مصر وبها كانت وفاته سنة ١٠٤١ هـ.
... ومنهم: أبو مالك: عبد الواحد بن أحمد بن عاشر الأنصارى الأندلسى الفاسى. الفقيه الأصولى، المتكلم، النظار.
له تآليف عديدة: منها: «المنظومة المسماة بالمرشد المعين» و«شرح مورد الظمآن، فى علم رسم القرآن» وشرح على المختصر. من أثناء النكاح إلى السلم. وتقييد على كبرى السنوسية وغير ذلك.
توفى سنة ١٠٤٠ هـ
المقدمة / 20
ومنهم أبو عبد الله: محمد بن أحمد ميارة.
الفقيه، المستبحر فى العلوم، الثقة، الأمين، الورع.
مؤلفاته
أما مؤلفاته-عدا هذا الكتاب-فعديدة، منها:
١ - المنتقى المقصور على مآثر الخليفة أبى العباس المنصور.
٢ - غنية الرائض فى طبقات أهل الحساب والفرائض.
٣ - المدخل فى الهندسة.
٤ - نيل الأمل، فيما به جرى بين المالكية العمل.
٥ - نظم تلخيص ابن البناء.
٦ - نظم منطق السعد.
٧ - تقاييد على جداول الحوفى.
٨ - الفتح النبيل لما تضمنه من أسماء العدد التنزيل.
٩ - فهرسة.
١٠ - لقط الفرائد فى تحقيق الفوائد أو: لقط الفرائد من لفاظه حلو الفوائد.
وقد ألفه كما ألف كثيرا من كتبه للسلطان أبى العباس المنصور، وجمع فيه تراجم من كان من أعيان القرن الثامن، مرتبا على السنين إلى آخر القرن العاشر وجعله كالذيل لكتاب شرف الطالب فى أسنى المطالب، لابن قنفذ وهو كتاب جامع مختصر بنحو فيه منحى الذهبى فى العبر. وهذا نموذج منه، قال بعد المقدمة:
المقدمة / 21