Duroos Ramadan
دروس رمضان
Publisher
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
Genres
دروس رمضان
للشيخ محمد إبراهيم الحمد
أيامًا معدودات
الحمد لله الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وهو الذي جعل الليلَ والنهارَ خِلْفَةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكورًا، وصلى الله على مَنْ بُعِثَ بالهدى ودين الحق بشيرًا ونذيرًا، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فإن رمضانَ أيامٌ معدوداتٌ، وفرصٌ سانحاتٌ، وإن اغتنام هذه الأيام لدليلُ الحزم، وإنَّ انتهاز تلك الفرص لعنوانُ العقل؛ ذلكم أن الوقت رأسُ مالِ الإنسان، وساعات العمرِ هي أنفسُ ما عني الإنسان بحفظه؛ فكل ساعة من ساعاتِ عُمُرِكَ قابلةٌ لأن تضعَ فيها حجرًا يزداد به صرحُ مجدِك ارتفاعًا، ويقطع بها قومك في السعادة باعًا أو ذراعًا.
فإن كنت حريصًا على أن يكون لك المجدُ الأسمى، ولقومك السعادةُ العظمى، وأن تفوز بخيري الآخرة والأولى - فَدعِ الراحةَ جانبًا، واجعل بينك وبين اللهو حاجبًا؛ فالحكيمُ الخبيرُ يَقْدُرُ الوقتَ حقَّ قدره، ولا يتخذه وعاءً لأبخس الأشياء، وأسخف الكلام، ويعلم أنه من أجلِّ ما يصان عن الإضاعة والإهمال، وَيقْصُره على المساعي الحميدة التي ترضي الله، وتنفع الناس.
1 / 1
ولعظم شأن الوقت أقسم به اللهُ في غير ما آية من كتابه العزيز قال ﷿: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ (الليل: ١- ٢) وقال: ﴿وَالضُّحَى﴾ ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ (الضحى: ١- ٢) وقال: ﴿وَالْعَصْرِ﴾ ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ (العصر: ١- ٢) .
ولئن كان حفظُ الوقتِ مطلوبًا في كل حين وآن، فلهو أولى وأحرى بالحفظ في الأزمنة المباركة.
ولئن كان التفريطُ فيه وإضاعتُه قبحًا في كل زمان، فإن قبح ذلك يشتد في المواسم الفاضلة.
ومن الناس مَنْ قَلَّ نصيبه من التوفيق، فلا تراه يلقي بالًا لحكمة الصوم، ولا لفضل الشهر، فتراه يجعل من رمضان فرصةً للسهر واللهو الممتد إلى بزوغ الفجر، والنومِ العميق في النهار حتى غروب الشمس.
ولا يخفى على عاقل لبيب ما لهذا الصنيع من أضرار على دين الإنسان ودنياه، فهو قلب للفطرة، فالله ﷿ جعل الليل لباسًا، والنهار معاشًا، كما أنه إضاعة للوقت، وتعطيل للمصالح.
ومن كان هذا صنيعَه فلن يرجى منه خيرٌ في الغالب لا لنفسه ولا لغيره.
1 / 2
ثم إن السهرَ سببٌ لإضاعة حقوق الأهل والوالدين؛ فالذي يسهر الليل في مشاهدة الحرام، ويعكف أمام ما تبثه الفضائيات من شرور سيضيِّع أولاده وزوجته إن كانوا يشاهدونها معه، وإن كان يسهر خارجَ المنزل كان ذلك سببًا في بعده عن بيته، وغفلته عما استرعاه الله إياه، وإن كان شابًّا في مقتبل عمره أقلق والديه بطول سهره، وبعده عن المنزل.
ثم إن الذي يسهرُ ليله وينام نهارَه سيضيع صلة أرحامه؛ إذ لا وقت لديه لِصِلتهم، وهكذا تنفصم عرى الأمة، وتنفك روابطها.
كما أن السهر أمام تلك الفضائيات له آثارُه السلوكيةُ المدمرةُ، ومنها الصد عن سبيل الله، وإضعاف أثر الدين في النفوس، وذلك من خلال ما تبثه من مشاهد فاضحة، وما تطرحه من شبهات كثيرة تطعن في الدين، وتُلْقى على عقول خواء، وأفئدة هواء.
ومن آثارها: التمرد على القيم النبيلة، والأخلاق الفاضلة، والآداب المرعية.
ومنها: شيوع العادات السيئة كالاستهانة بمحارم الله، والاستخفاف بشعائر الدين.
ومنها: الإعجابُ بالكفار وتقليدهم في مستهجن عاداتهم من نحو الملبس، والهيئة، وقصات الشعر، وما إلى ذلك.
1 / 3
ومنها: انتشار الجريمة، وشيوع المظاهر المخلة بالأمن كالقتل، والسرقة، وتعاطي المخدرات ونحو ذلك.
ومنها: الزهد بالفضيلة والعفاف، وذلك من خلال الافتتان بالمذيعات والممثلات والمغنيات؛ فقد يفضي ذلك الصنيعُ إلى الزهد بالزوجات؛ لأن بعض مشاهدي تلك القنوات - لفرط جهله - يعقد مقارنة ظالمةً بين زوجته وبين ما يشاهده من تلك النسوة اللاتي نزعن الحياءَ، ووضعْنَ من الأصباغ ومواد التجميل ما يغري بهن.
وهذه مقارنةٌ ظالمةٌ لم تُبْنَ على أسس سليمة؛ إذ تغافل ذلك المُقارِنُ عن عفاف زوجته، وسترها، وحيائها.
بل ربما تكون أجملَ مما يشاهد، ولكن الشيطان يقبحها في عينه، ويزين ما يشاهده في نفسه.
أيها الصائمون: ومن آثار السهر أن له آثارًا على نَفْس الإنسان وخُلُقِه؛ إذ يصبح ونفسه كزَّةٌّ، وخلقُه سيئٌ؛ وذلك لما للسهر من تأثير على الأعصاب؛ فينتج من جَرَّاء ذلك انقباضُ النفس، وقلة احتمالها.
ولو لم يأت من آثار السهر إلا أنه سبب لترك صلاة الفجر لكفى.
أما النوم الكثير - خصوصًا بالنهار - فلا يخفى ضرره؛ فذلك مضيعة للوقت، وحرمانٌ للبركة؛ فالنومُ يعطل قوةَ العقل، ويُلْحِقُ الإنسان بالخشب المسندة.
1 / 4
وبما أن أمرَه غالب ما له من مَرَد فإن أولي الحكمةِ لا يخضعون لسلطانه إلا حيثُ يَغْلب على أمرهم، ولا يعطونه من الوقت إلا أقلَّ مما تفرضُه عليهم الطبيعةُ البشرية، ويبتغون بذلك أن تبقى عقولهم في حركات تثمر علمًا نافعًا، أو عملا صالحًا.
فحقيق على هؤلاء المُفرِّطين المضيعين أوقاتَهم أن يتنبهوا لأسرار الصيام، وأن يغتنموا مدرستَه العظيمة؛ ليجنوا ثمارَه الصحيحةَ، ويستمدوا منه قوةَ الروح؛ فيكون نهارُهم نشاطًا وإنتاجًا وإتقانًا، وتعاونًا على البر والتقوى.
ويكون ليلُهم تهجدًا وتلاوةً لكتاب ربهم، ومحاسبةً لأنفسهم على ضوئه؛ ليخرجوا من مدرسة الصيام مفلحين فائزين.
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلات، وأعنا على اغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
1 / 5
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن للصيام آدابًا كثيرةً، ومن تلك الآداب: أن يقتصدَ الصائمُ في طعامه وشرابه.
ومما يلحظ على بعض الصائمين -بل على أكثرهم- أنهم يجعلون شهرَ رمضانَ موسمًا سنويًّا للموائد الزاخرة بألوان الطعام، فتراهم يُسرفون في ذلك أيّما إسرافٍ، وتراهم يتهافتون إلى الأسواق؛ لشراء ما لذّ وطاب من الأطعمة التي لا عهدَ لهم بأكثرها في غير رمضان.
والنتيجة من وراء ذلك: إضاعةُ المال، وإرهاقُ الأبدان في كثرة الطعام، وثِقَلُ النفوس عن أداء العبادات، وإهدارُ الأوقات الطويلة بالتسوّق، وإعداد الكميّات الهائلة من الأطعمة التي يكون مصيرُها في الغالب صناديقَ الزِّبل.
إن هذا الاستعدادَ المتناهيَ الذي يقع فيه أكثر المسلمين لرمضان بالتفنن والاستكثار من المطاعم والمشارب - مخالفٌ لأمر الله، منافٍ لحكمة الصوم، مناقضٌ لحفظ الصحة، معاكسٌ لقواعد الاقتصاد.
1 / 6
ولو كان هؤلاء متأدبين بآداب الدين لاقتصروا على المعتاد المعروف من طعامهم وشرابهم، ولأنفقوا الزائد في طرق البر والإحسان التي تناسب رمضان، من إطعام الفقراء واليتامى والأيامى، وتفطير الصّوام المعوزِين، ونحو ذلك.
والغالب أن يكون لكل غنيٍّ مسرفٍ من هذا النوع جارٌ أو جيران من الفقراء والمساكين، وهم أحق الناس ببر الجار الغني، وإن لم يكن لهؤلاء الأغنياء جيرانٌ من هذا النوع فإنه يحسن صرفها في وجوه الخير.
ولو فعل الأغنياء المسرفون ذلك لأضافوا إلى قربة الصوم قربةً عظيمة عند الله، ألا وهي الإحسان إلى المعدمين، وللقيام بهذه الخصلة من الخير مزيّة في المجتمع؛ لأنها تقرب القلوبَ في هذا الشهر المبارك، وتشعر الصائمين كلَّهم بأنهم في شهر إحسان، ورحمة وأخوَّة.
1 / 7
ثم إن الإنسان لو طاوع نفسَه في تعاطي الشهوات، والتهام ما حلا من المطاعم وما مرّ، وما برد منها وما حرّ، وطاوع نفسه باستيفاء اللذة إلى أقصى حد - لكانت عاقبةُ أمره شقاءً ووبالًا، ونقصًا في صحته واختلالًا، ولكانت الحميةُ في بعض الأوقات واجبًا مما يأمر به الطبيب الناصح؛ تخفيفًا على الأجهزة البدنية، وادخارًا لبعض القوة إلى الكِبَر وإبقاءً على اعتدال المزاج، وتدبيرًا منظمًا للصحة.
وإن ذلك لهو الحكمة البارزة في الصوم، فكيف يُقْلَبُ الأمر رأسًا على عقب؟ ! ويجعل من شهر الصوم ميدانًا للتوسع في الأكل والشرب؟ !.
قال الله ﷿: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ .
قال بعض العلماء: " جمع الله بهذه الآية الطبَّ كلَّه ".
قال النبي ": «ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» أخرجه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
1 / 8
أيها الصوام: لا يخفى على عاقل ما للتوسع في المآكل والمشارب من عواقب وخيمة على دين المرء ودنياه زيادةً على ما مضى؛ فهو مما يورث البلادة، ويعوق عن التفكير الصحيح، وهو مدعاةٌ للكسل، وموجبٌ لقسوة القلب، وهو سببٌ لمرض البدن، وتحريك نوازع الشر، وتسلُّط الشيطان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: " وقد ثبت عن النبي " أنه قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» رواه البخاري.
ولا ريب أن الدَّمَ يتولد من الطعام والشراب؛ ولهذا إذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشيطان، ولهذا قيل: " فضيقوا مجاريَه بالجوع ".
1 / 9
وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي تُفْتَحُ بها أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي تفتح بها أبواب النار، وصفِّدت الشياطين، فضعفت قوتُهم وعملُهم بتصفيدهم، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره ولم يقل: " إنهم قتلوا "، ولا ماتوا، بل قال: "صفِّدوا" والمصفَّد من الشياطين قد يؤذي، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه، فمن كان صومه كاملًا دفع الشيطان دفعًا لا يدفعه الصوم الناقص، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب، والحكم ثابت على وَفْقِهِ " اهـ.
قال لقمان ﵇ لابنه: " يا بني إذا امتلأت المعدة؛ نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقَعَدت الأعضاءُ عن العبادة ".
وقال عمر ﵁: " من كثر أكله لم يجد لذكر الله لذة ".
وقال علي ﵁: " إن كنت بَطِنًا؛ فعد نفسك زَمِنًا ".
وقال بعض الحكماء: " أقلل طعامًا، تحمدْ منامًا ".
وقال بعض الشعراء:
وكم من لقمةٍ منعت أخاها ... بلذةِ ساعةٍ أكلاتِ دهرِ
وكم من طالبٍ يسعى لأمر ... وفيه هلاكُه لو كان يدري
1 / 10
وقال ابن القيم ﵀: " وأما فضول الطعام: فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر؛ فإنه يحرك الجوارحَ إلى المعاصي، ويثقلها عن الطاعات، وحسبك بهذين شرًّا، فكم من معصية جَلَبها الشبعُ وفضولُ الطعام، وكم من طاعة حال دونها؛ فمن وقي شرَّ بطنه؛ فقد وقي شرًّا عظيمًا، والشيطان أعظم ما يتحكَّم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام ".
إلى أن قال ﵀: " ولو لم يكن من الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله - عز جل - وإذا غفل القلب عن الذكر ساعةً واحدةً جَثَم عليه الشيطانُ، ووعده، ومنَّاه، وشهَّاه وهام به في كل وادٍ؛ فإن النفس إذا شبعت تحركت، وجالت وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت - وخشعت وذلت " اهـ.
بل إن الذين يتوسعون في المآكل لا يجدون لها لذةً كما يجدُها المقتصدون.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: " فالذين يقتصدون في المآكل نعيمُهم بها أكثرُ من المسرفين فيها؛ فإن أولئك إذا أدمنوها، وألِفُوها لا يبقى لها عندهم كبير لذة مع أنهم قد لا يصبرون عنها، وتكثر أمراضهم بسببها " اهـ.
1 / 11
أيها الصائمون الكرام: إذا كان الأمر كذلك؛ فما أحرانا أن نجعل من شهرنا الكريم فرصةً لتوطين نفوسنا على الاعتدال في المآكل والمشارب؛ فالنفوسُ طُلَعةٌ لا ترضى بالقليل من اللذات؛ فإذا جاهدناها؛ انقدعت عن شهواتها، وكفَّت عن الاسترسال مع لذاتها ورغباتها، وإن من أحكم ما قالته العرب قولَ أبي ذؤيب الهذلي:
والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها ... وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تقنع
أما إذا استرسلنا معها، وأعطيناها كل ما تريد؛ فإنها ستقودنا إلى الغواية، وتنزع بنا إلى شر غاية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 12
رمضان شهر الفرح
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن الفرح مطلب مُلحٌّ، وغاية مبتغاة، وهدفٌ منشود، والناس كل الناس يسعى إلى فرح قلبه، وزوال همِّهِ وغمِّهِ، وتفرق أحزانه وآلامه.
ولكنْ قَلَّ من يصل إلى الفرح الحقيقي، ويحصل على السعادة العظمى، وينجو من الآلام والأتراح.
والحديث هاهنا سيدور حول معنى الفرح، وأسبابه، وموانعه.
وبعد ذلك نصل إلى معنى الفرح في الصيام، وكيفيةِ كونِ هذا الشهر الكريم شهرَ فرحٍ.
أيها الصائم الكريم الفرحُ لذةٌ تقع في القلب بإدراك المحبوب، ونيل المشتهى، فيتولّدُ من إدراكه حالةٌ تسمى الفرح والسرور.
كما أن الحَزَنَ والغَمَّ مِنْ فقد المحبوب، فإذا فقده تولد مِنْ فقده حالةٌ تسمى الحزَن والغم.
والفرحُ أعلى نعيمِ القلب ولذتِه وبهجتِه، فالفرحُ والسرورُ نعيمُه، والهمُّ والغمُّ عذابُه.
والفرحُ بالشيء فوق الرضا به، فإن الرضا طمأنينةٌ وسكونٌ وانشراحٌ.
والفرح لذةٌ وبهجةٌ وسرورٌ، فكل فَرِحٍ راضٍ، وليس كلُّ راضٍ فَرِحًا.
ولهذا كان الفرحُ ضدَّ الحزن، والرضا ضدَّ السخط، والحزنُ يؤلم صاحبَه، والسُّخط لا يؤلمه إلا إذا كان مع العجز عن الانتقام.
1 / 13
ولقد جاء الفرح في القرآن على نوعين: مطلقٍ ومقيدٍ، فالمطلقُ جاء في الذم كقوله - تعالى -: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾، وقوله: ﴿إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ .
والفرح المقيَّدُ نوعان - أيضًا - مقيَّدٌ بالدنيا يُنْسِي فضل الله ومنته، وهو مذموم كقوله - تعالى -: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ .
والثاني فرحٌ مقيَّدٌ بفضل الله ورحمته: وهو نوعان - أيضًا - فضلٌ ورحمةٌ بالسبب، وفضل بالمسبِّب، فالأول كقوله - تعالى-: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾، والثاني كقوله - تعالى -: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ .
ولقد ذكر الله - سبحانه - الأمر بالفرح بفضله ورحمته عقيب قوله: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ .
1 / 14
ولا شيءَ أحقُّ أن يَفْرح به العبدُ من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظةَ وشفاءَ الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة، الهدى الذي يتضمَّن ثَلْجَ الصدور باليقين، وطمأنينةَ القلبِ به، وسكونَ النفسِ إليه، وحياةَ الروح به.
والرحمةُ التي تجلب لها كلَّ خيرٍ ولذةٍ، وتدفع عنها كلَّ شرٍّ وألمٍ.
والموعظةُ التي هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
وشفاءُ الصدورِ المتضمنُ لعافيتها من داء الجهل، والظلمة، والغي، والسفه؛ تلك الأدواءُ التي هي أشدُّ ألمًا لها من أدواء البدن.
فالموعظةُ، والشفاءُ، والهدى، والرحمةُ هي الفرح الحقيقي، وهي أَجَلُّ ما يفرح به؛ إذ هو خيرٌ مما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها؛ فهذا هو الذي ينبغي أن يُفْرح به، ومَنْ فرح به، فقد فرح بأجلّ مفروحٍ به، لا ما يجمع أهل الدنيا فيها؛ فإنه ليس بموضع للفرح؛ لأنه عرضةٌ للآفات، وشيكُ الزوال، وخيمُ العاقبة، وهو طيفُ خيالٍ زار الصبَّ في المنام، ثم انقضى المنامُ، ووَلَّى الطيف، وأعقب مزاره الهجران.
فالدنيا، لا تتخلص أفراحُها من أتراحِها وأحزانِها البتة، بل ما من فرحة إلا ومعها تَرْحةٌ سابقةٌ، أو مقارنة، أو لاحقة.
1 / 15
ولا تتجرد الفرحةُ، بل لا بد من تَرْحة تقارنها؛ ولكن قد تقوى الفرحةُ على الحزن، فينغمر حكمُه وألمهُ مع وجودها وبالعكس.
فالفرحُ بالله وبرسوله، وبالإيمان، وبالقرآن، وبالسنة، وبالعلم يُعَدُّ مِنْ أعلى مقامات العارفين، وأرفع منازل السائرين.
وضدُّ هذا الفرحِ الحزنُ، الذي أعظم أسبابه الجهلُ، وأعظمُه الجهل بالله، وبأمره، ونهيه؛ فالعلمُ يوجب نورًا، وأنسًا، وضدُّه يوجب ظلمةً، ويوقع في وحشة.
ومن أسباب الحزن تَفَرُّقُ الهمِّ عن الله؛ فذلك مادةُ حزنه، كما أن جَمْعِيَّة القلب على الله مادةُ فرحِهِ ونعيمِه؛ ففي القلب شَعَثٌ لا يَلُمُّه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنسُ به في خلوته، وفيه حُزْنٌ لا يذهبه إلا السرورُ بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكِّنه إلا الاجتماعُ عليه والفرارُ منه إليه، وفيه نيرانُ حسراتٍ لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقف دونَ أن يكون هو وحده مطلوبَهُ، وفيه فاقةٌ لا يسدُّها إلا محبتُه والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تُسدَّ تلك الفاقةُ منه أبدًا.
1 / 16
ولقد قرَّر العلماء العالمون بالله وبأمره هذا المعنى، وعلى رأس أولئك العلامةُ ابن القيم ﵀.
أيها الصائمون هذا هو الفرح الحق، وهذا هو فرح أهل الإيمان، لا فرحُ أهلِ الأشر والبطر والطغيان.
هذا وإن للصائمين من هذا الفرح نصيبًا غيرَ منقوص؛ كيف وقد قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه: «وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه» .
قال ابن رجب ﵀: " أما فرحة الصائم عند فطره؛ فإن النفوسَ مجبولةٌ على الميل إلى ما يلائمها من مطعم، ومشرب، ومنكح؛ فإذا امتنعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها في وقت آخر، فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصًا عند اشتداد الحاجة إليه؛ فإن النفوسَ تفرح بذلك طبعًا؛ فإن كان ذلك محبوبًا لله كان محبوبًا شرعًا.
1 / 17
والصائمُ عند فطره كذلك، فكما أن الله - تعالى - حَرَّم على الصائم في نهار الصيام تناولَ هذه الشهواتِ، فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحب منه المبادرةَ إلى تناولها من أول الليل وآخره؛ فأحب عباد الله إليه أعجلهم فطرًا، والله وملائكته يصلون على المتسحرين؛ فالصائمُ ترك شهواتِه في النهار تقربًا إلى الله، وطاعةً له، وبادر إليها بالليل تقربًا إلى الله، وطاعة له؛ فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر ربه؛ فهو مطيعٌ في الحالين؛ ولهذا نُهِيَ عن الوصال؛ فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقربًا إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله فإنه ترجى له المغفرةُ، أو بلوغُ الرضوان بذلك ".
إلى أن قال ﵀: " ثم إنه ربما استجيب دعاؤه عند فطره، وعند ابن ماجه: «إن للصائم عند فطره دعوةً لا تُرد» .
وإن نوى بأكله وشربه تقوية بدنه على القيام والصيام كان مثابًا على ذلك، كما أنه إن نوى بنومه في الليل والنهار التقوّيَ على العمل كان نومُه عبادة.
1 / 18
ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه، لم يتوقَّف في معنى فرحه عند فطره؛ فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله ورحمته، فيدخل في قوله - تعالى -: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ .
وقال ابن رجب ﵀: " وأما فرحه عند لقاء ربه، ففيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدَّخرًا؛ فيجده أحوجَ ما كان إليه كما قال - تعالى -: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ .
وقال - تعالى -: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ .
وقال - تعالى -: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ اهـ.
اللهم أفرح قلوبنا بالإيمان، والقرآن، والسنة، والعلم، والصيام.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 19
الصوم والإخلاص (١)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن حديث هذه الليلة سيدور حول فضيلة الإخلاص، وأثرِ الصوم في اكتسابها.
وقبل الدخول في أثر الصوم في اكتساب الإخلاص يحسن الوقوفُ عند الإخلاص من حيث مفهومُه، وأهميتُه.
معاشر الصائمين: أصل الإخلاص في اللغة مادة خلص، والخالص: هو ما زال عنه شوبُه بعد أن كان فيه.
والإخلاصُ في الشرع: هو تصفيةُ العمل من كل شائبة تشوبه.
ومدارُ الإخلاصِ على أن يكون الباعثُ على العمل امتثالَ أمرِ الله، وإرادتَه ﷿ فلا يمازج العملَ شائبةٌ من شوائب إرادة النفس: إما طلبُ التزيُّن في قلوب الخلق، وإما طلبُ مدحِهم والهربُ من ذمهم، أو طلبُ تعظيمهم، أو طلبُ أموالهم أو خدمتِهم ومحبتِهم، وقضائهم حوائجه، أو غيرُ ذلك من العلل، والشوائب التي يجمعها إرادةُ ما سوى الله في العمل؛ فهذا هو مدار الإخلاص.
ولا حرج بعد هذا على من يطمح إلى شيء آخر، كالفوز بنعيم الآخرة، أو النجاة من أليم عذابها.
1 / 20