بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي جعل الْحق معزا لمن اعتقده وتوخاه ومعينا لمن اعْتَمدهُ وابتغاه وَجعل الْبَاطِل مذلا لمن آثره وارتضاه ومذلا لمن أظهره واقتفاه واختص ملك الْمُلُوك بهاء الدولة وضياء الْملَّة وغياث الْأمة باعتقاد الْحق وَاجْتنَاب الْبَاطِل حَتَّى تمكن من نواصي من راده وَمَانعه وَجعل لَهُ من وَلَده سندا يظاهره وعضدا يؤازره
فَالْحَمْد لله حمدا يوازي جميل نعمه ويضاهي جزيل قسمه وَصلى الله على بشير كل تَقِيّ مهتد ونذير كل مُعْتَد مُحَمَّد وَآله وصحابته هداة الصَّالِحين الأخيار وعداة الطالحين الأشرار وَسلم كثيرا
أما بعد فَإِن الله سُبْحَانَهُ ببليغ حكمته وَعدل قَضَائِهِ جعل النَّاس أصنافا مُخْتَلفين وأطوارا متباينين ليكونوا بالاختلاف مؤتلفين وبالتباين متفقين واختص مِنْهُم رَاعيا أوجب عَلَيْهِ حراسة رَعيته وَأوجب على الرّعية صدق طَاعَته وَجعله الْوَسِيط بَينه وَبَين عباده وَلم يَجْعَل بَينه وَبينهمْ أحدا سواهُ فَكَانَ ملك الْمُلُوك بهاء الدولة مِمَّن خصّه الله باسترعاء خلقه واستودعه حفاظ حَقه
1 / 54
وَجَعَلنَا أهل طَاعَته نتمسك بعصم الْمُوَالَاة ونمت بإخلاص المصافاة وأخلص الرّعية من كَانَ لحق الرّعية مذكرا وبحق سُلْطَانه معترفا وَقد دَعَاني صدق الطَّاعَة إِلَى إنْشَاء كتاب وجيز ضمنته من جمل السياسة مَا إِن كَانَ الْملك قد حَاز علم أضعافه بِحسن بديهته وأصيل رَأْيه فَإِنِّي لن أعدم أَن أكون قد أدّيت من لَوَازِم الطَّاعَة أم يحسن موقعه إِن شَاءَ الله ﷿
وقسمته بَابَيْنِ
الْبَاب الأول فِي أَخْلَاق الْملك
الْبَاب الثَّانِي فِي سياسة الْملك
وترجمته بدرر السلوك فِي سياسة الْمُلُوك إِذا كَانَ مَا تضمنه دَاعيا إِلَيْهِ وحاثا عَلَيْهِ وَأَنا أسأَل الله تَعَالَى حسن المعونة والتوفيق وَإِلَيْهِ أَرغب فِي إمدادي بِالرشد والتسديد وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل
1 / 55
الْبَاب الأول فِي أَخْلَاق الْملك
الْأَخْلَاق بَين الْمَدْح والذم
اعْلَم أَن الْإِنْسَان مطبوع على أَخْلَاق قل مَا حمد جَمِيعهَا أَو ذمّ سائرها وَإِنَّمَا الْغَالِب أَن بَعْضهَا مَحْمُود وَبَعضهَا مَذْمُوم قَالَ الشَّاعِر
(وَمَا هَذِه الْأَخْلَاق إِلَّا طبائع ... فمنهن مَحْمُود وَمِنْهَا مذمم)
إصْلَاح الْأَخْلَاق المذمومة بالتأديب
وَلَيْسَ يُمكن صَلَاح مذممومها بِالتَّسْلِيمِ إِلَى الطبيعة والتفويض إِلَى النحيزة إِلَّا أَن يرتاض لَهَا رياضة تَأْدِيب وتدريج فيستقيم لَهُ
1 / 56
الْجَمِيع بَعْضهَا خلق مطبوع وَبَعضهَا تخلق مسموع لِأَن الْخلق طبع وتكلف
قَالَ الشَّاعِر
(يَا أيتها المتحلي غير شيمته ... وَمن سجيته الْإِكْثَار والملق)
(عَلَيْك بِالْقَصْدِ فِيمَا أَنْت فَاعله ... إِن التخلق يَأْتِي دونه الْخلق)
شرِيف الْأَخْلَاق ثَمَرَته شرِيف الْأَفْعَال
وشريف الْأَفْعَال لَا يتَصَرَّف فِيهِ إِلَّا شرِيف الْأَخْلَاق سَوَاء كَانَ ذَلِك طبعا أَو تطبعا وَقد نبه الله تَعَالَى على ذَلِك فِي كِتَابه الْكَرِيم بقوله لنَبيه ﷺ ﴿وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم﴾ لِأَن النُّبُوَّة لما كَانَت أشرف منَازِل الْخلق ندب إِلَيْهَا من أكمل فَضَائِل الْأَخْلَاق
1 / 57
سياسة الْإِنْسَان لنَفسِهِ
فَإِذا بَدَأَ الْإِنْسَان بسياسة نَفسه كَانَ على سياسة غَيره أقدر وَإِذا أهمل مُرَاعَاة نَفسه كَانَ بإهمال غَيره أَجْدَر
وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْمُتَقَدِّمين من بَدَأَ بسياسة نَفسه أدْرك سياسة النَّاس
وَقد قيل فِي منثور الحكم لَا يَنْبَغِي للعاقل أَن يطْلب طَاعَة غَيره وَطَاعَة نَفسه ممتنعة عَلَيْهِ
قَالَ الشَّاعِر
(أتطمع أَن يطيعك قلب سعدى ... تزْعم أَن قَلْبك قد عصاكا) وَرُبمَا حسن ظن الْإِنْسَان بِنَفسِهِ فأغفل مُرَاعَاة أخلاقه
1 / 58
فَدَعَاهُ حسن الظَّن بهَا إِلَى الرِّضَا عَنْهَا دَاعيا إِلَى الانقياد لَهَا ففسد مِنْهُ مَا كَانَ صَالحا وَلم يصلح مِنْهَا مَا كَانَ فَاسِدا لِأَن الْهوى أغلب من الآراء وَالنَّفس أجور من الْأَعْدَاء لِأَنَّهَا بالسوء أَمارَة وَإِلَى الشَّهَوَات مائلة وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِي ﷺ الشَّديد من ملك نَفسه
قَالَ بعض الْحُكَمَاء من رَضِي عَن نَفسه أَسخط عَلَيْهِ النَّاس ولحسن الظَّن بهَا أَسبَاب فَمن أقوى أَسبَابه الْكبر والإعجاب وَهُوَ بِكُل أحد قَبِيح وبالملوك أقبح لِأَنَّهُ دَال على صغر الهمة مخبر بعلو الْمنزلَة وَكفى بِالْمَرْءِ ذما أَن تكون همته دون مَنْزِلَته وَقد قَالَ بعض أَشْرَاف السّلف لَا يَنْبَغِي أَن يرى شَيْئا من الدُّنْيَا لنَفسِهِ خطرا فَيكون بِهِ تائها والملوك أَعلَى النَّاس همما وأبسطهم أملا فَلذَلِك كَانَ الْكبر
1 / 59
والإعجاب بهم أقبح وَكَانَ عبد الله بن الْعَبَّاس رضوَان الله عَلَيْهِ يَقُول سَمِعت أَبَا بكر الصّديق رضوَان الله عَلَيْهِ يَقُول
(إِذا أردْت شرِيف النَّاس كلهم ... فَانْظُر إِلَى ملك فِي زِيّ مِسْكين)
(ذَاك الَّذِي حسنت فِي النَّاس رأفته ... وَذَاكَ يصلح للدنيا وَالدّين)
السكينَة وَالْوَقار أَحْمد من الْكبر والإعجاب
لَكِن السكينَة وَالْوَقار أَحْمد وَأولى بِهِ من الْكبر والإعجاب وَمن النَّاس من لَا يفرق بَين الْكبر وَالْوَقار وَهَذَا جهل بمعناهما
الْفرق بَين الْكبر والإعجاب
فإمَّا الْكبر والإعجاب فقد يَجْتَمِعَانِ فِي الذَّم ويفترقان فِي الْمَعْنى فالإعجاب يكون فِي النَّفس وَمَا تظنه من فضائلها وَالْكبر يكون بالمنزلة وَمَا تظنه من علوها
أَسبَاب الْكبر
وللكبر أَسبَاب فَمن أقوى أَسبَابه علو الْيَد ونفوذ الْأَمر
1 / 60
وَقلة مُخَالطَة الْأَكفاء وللإعجاب أَسبَاب فَمن أقوى أَسبَابه كَثْرَة مديح المقربين وإطراء المتملقين الَّذين استبضعوا الْكَذِب والنفاق واستصحبوا الْمَكْر وَالْخداع فَإِذا وجدوا لنفاقهم سوقا ولكذبهم تَصْدِيقًا جَعَلُوهُ فِي ذمم النوكي فاعتاضوا بِهِ رتبا وعوضوا مِنْهُ نشبا وحسبوه زينا فَصَارَ شينا وَحكم الممدوح بكذب قَوْلهم على صدق علمه وَجعل لَهُم طَرِيقا إِلَى الِاسْتِهْزَاء بِهِ وَمن أجل ذَلِك قَالَ النَّبِي ﷺ احثوا فِي وُجُوه المداحين التُّرَاب
وَقيل لأنوشروان لم تتهاونون بالمدح إِذا مدحتم قَالَ لأننا رَأينَا ممدوحا هُوَ بالذم أَحَق
1 / 61
بَين التملق وَصدق النَّصِيحَة
وَهَذَا أَمر يَنْبَغِي لكل وَاحِد أَن يراعيه من نَفسه وَيفرق بَين متملقه احتيالا وَبَين مخلص لَهُ النَّصِيحَة من أهل الصدْق وَالْوَفَاء الَّذين هم مرايا محاسنه وعيونه فَإِنَّهُ إِن أغفل ذَلِك داهن نَفسه ونافق عقله واستفسد أهل الْوَفَاء والصدق ومار مأكله النِّفَاق والملق فأعقبه ذَلِك ضَرَرا وأورثه تهجينا وذما وَالْملك أولى من حذر ذَلِك وتوقاه لِأَن حَضْرَة الْمُلُوك كالسوق الَّتِي يجلب إِلَيْهَا مَا ينْفق فِيهَا وكل دَاخل عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يُرِيد التَّقَرُّب إِلَيْهِ بقوله وَفعله فَإِذا علمُوا مِنْهُ إِيثَار الْمُوَافقَة على الْهوى وَحب الْمَدْح والإطراء جعلُوا ذَلِك أربح بضائعهم لَدَيْهِ وَمن أجل مَا يتَقرَّب بِهِ إِلَيْهِ فيتصور ذمه حمدا وَقد كسب بِهِ ذما وَيتَصَوَّر قبحه حسنا وَقد كسب بِهِ قبحا فَهَذَا مِمَّا يجب أَن يتوقاه الْملك ويحذره
دَلَائِل الْوَقار
وَإِذا كَانَ الْوَقار مَحْمُودًا وَكَانَ الْإِنْسَان بِهِ مَأْمُورا فَوَاجِب أَن نصف مِنْهُ فصولا دَالَّة يتبع بَعْضهَا بَعْضًا
فَمن ذَلِك قلَّة التسرع إِلَى الشَّهَوَات والتثبت عِنْد الشُّبُهَات
1 / 62
وَاجْتنَاب سرعَة الحركات وخفة الإشارات ثمَّ إطراق الطّرف وَلُزُوم الصمت فَإِنَّهُ أبلغ فِي الْوَقار وَأسلم من هَذَا الْكَلَام مَعَ أَن الْملك ملحوظ الأنفاس مَنْقُول اللَّفْظ
وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْحصْر خير من الهذر لِأَن الْحصْر يضعف الْحجَّة والهذر يتْلف المهجة
وَقَالَ بعض البلغاء الزم الصمت فَإِنَّهُ يكسبك صفو الْمحبَّة ويؤمنك سوء المغبة ويلبسك ثوب الْوَقار وَيَكْفِيك مُؤنَة الِاعْتِذَار وَتكلم أَرْبَعَة من حكماء الْمُلُوك بأَرْبعَة كَلِمَات كَأَنَّهَا رميت عَن قَوس
فَقَالَ ملك الرّوم أفضل علم الْعلمَاء السُّكُوت
وَقَالَ ملك الْفرس إِذا تَكَلَّمت بِالْكَلِمَةِ ملكتني وَلم أملكهَا
وَقَالَ ملك الْهِنْد أَنا على رد مَا لم أقل أقدر مني على رد مَا قلت
وَقَالَ ملك الصين نَدِمت على الْكَلَام وَلم أندم على السُّكُوت
1 / 63
وليعلم أَن الْحَاجة إِلَى الصمت أَكثر من الْحَاجة إِلَى الْكَلَام لِأَن الْحَاجة إِلَى الصمت عَامَّة وَالْحَاجة إِلَى الْكَلَام عارضة فَلذَلِك مَا وَجب أَن يكون صمت الْعَاقِل فِي الْأَحْوَال أَكثر من كَلَامه فِي كل حَال
حُكيَ أَن بعض الْحُكَمَاء رأى رجلا يكثر الْكَلَام ويقل السُّكُوت فَقَالَ لَهُ إِن الله تَعَالَى إِنَّمَا جعل لَك أذنين وَلِسَانًا وَاحِدًا ليَكُون مَا تسمعه ضعف مَا تَتَكَلَّم بِهِ فَإِذا دَعَتْهُ الْحَاجة إِلَى الْكَلَام سبره وَقيل اللِّسَان وَزِير الْإِنْسَان فَإِذا تكلم تحذر من الْإِكْثَار فَقل من كثر كَلَامه إِلَّا وَكثر ندمه
وَقد قيل من كثر كَلَامه كثرت آثامه وَلَا يَنْبَغِي أَن يعجب بجيد كَلَامه وَلَا بصواب مَنْطِقه فان الْإِعْجَاب بِهِ سَبَب الْإِكْثَار مِنْهُ وَقد قيل من أعجب بقوله أُصِيب بعقله
اعْتِمَاد الصدْق والحذر من الْكَذِب
ويعتمد الصدْق فِي مقاله وَاجْتنَاب الْكَذِب من مقاله
فقد
1 / 64
رُوِيَ عَن النَّبِي ﷺ انه قَالَ رحم الله امْرَءًا أصلح من لِسَانه واقصر من عنانه وألزم طَرِيق الْحق مقوله وَلم يعود الخطل مفصله
فيحذر الْكَذِب وَلَا يرخص لنَفسِهِ فِيهِ إِلَّا على وَجه التورية فِي خداع الحروب فَإِن الْحَرْب خدعة
وَقد جَاءَت السّنة بإرخاص الْكَذِب فِيهَا على وَجه التورية دون التَّصْرِيح فان أرخص لنَفسِهِ فِيهِ على غير هَذَا الْوَجْه صَار بِهِ موسوما لِأَن الْإِنْسَان بِقدر مَا يسْبق إِلَيْهِ يعرف وَبِمَا يظْهر من أخلاقه يُوصف وَبِذَلِك جرت عَادَة الْخلق أَنهم يعدلُونَ الْعَادِل بالغالب من أَفعاله وَرُبمَا أَسَاءَ ويفسقون الْفَاسِق بالغالب من أَفعاله وَرُبمَا أحسن فَإِذا وسم بِالصّدقِ وَقصر كَلَامه على المهم كَانَ تبشيره وإنذاره على حسب خطر الْأُمُور الَّتِي يجْرِي فِيهَا وعده أَو وعيده كَانَت أَلْفَاظه ألقابا وَكَانَ ذمه عذَابا وَاسْتغْنى عَن كثير من الإرغاب والإرهاب
وَقد اختير للملوك عذوبة
1 / 65
الْكَلَام وجهارة الصَّوْت لِأَنَّهُ أرعب وأرهب
وَحكي أَن أَبَا بكر الصّديق ﵁ كتب إِلَى عِكْرِمَة ابْن أبي جهل وَهُوَ عَامله بعمان إياك أَن توعد على مَعْصِيّة بِأَكْثَرَ من عقوبتها فَإنَّك إِن فعلت أثمت وَإِن تركت كذبت
الحذر من الْغَضَب
ويحذر الْغَضَب ويتجنبه فَإِنَّهُ شَرّ قاهر وأضر معاند وَلَيْسَ يفْسد الْأُمُور وينتقص التَّدْبِير إِلَّا عِنْد غلبته وَشدَّة فورته فَإِن مني بِهِ فَلَا يمْضِي فعلا وَلَا ينفذ حكما حَتَّى يَزُول
1 / 66
وروى عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ إِذا استشاط السُّلْطَان تسلط الشَّيْطَان
وَحكي أَن بعض مُلُوك الْفرس كتب كتابا فَدفعهُ إِلَى وزيره وَقَالَ إِذا غضِبت فناولنيه وَكَانَ فِيهِ مَكْتُوب مَالك وَالْغَضَب إِنَّك لست بإله إِنَّمَا أَنْت بشر ارْحَمْ من فِي الأَرْض يَرْحَمك من فِي السَّمَاء
وَإِنَّمَا كَانَ يفعل هَذَا ليزول عَنهُ الْغَضَب خوفًا من قبح آثاره وَشدَّة إضراره
الحذر من الْمحل واللجاج
وَكَذَلِكَ الْمحل واللجاج يجب أَن يحذرهُ فَهُوَ أليف الْغَضَب وحليف العطب والانقياد للرأي أَحْمد والرفق فِي الْأُمُور أوفق
وَرُوِيَ عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ إِن الرِّفْق لم يكن فِي شَيْء قطّ إِلَّا
1 / 67
زانه وَلَا نزع مِنْهُ إِلَّا شانه
وليعلم أَن فِي الْأُمُور الَّتِي تدبرها مَا لَا يمْضِي إِلَّا بفرط الصرامة والهيبة وَأَن ذَلِك لَا يكون إِلَّا لمن خيف غَضَبه وخشيت سطوته فليجعل من الْغَضَب تغضبا لَا غَضبا لِأَن التغاضب فعله يُمكنهُ أَن يقف مِنْهُ على الْحَد الْمَطْلُوب وَالْغَضَب انفعال فِيهِ اضْطر إِلَيْهِ لَا يُمكنهُ أَن يقف مِنْهُ على حد وَلَقَد أصَاب من كَانَت عُقُوبَته للأدب وَأَخْطَأ من كَانَت عُقُوبَته للغضب وَهَذَا مِمَّا ذكرنَا فِي معنى الطَّبْع والتطبع
وعَلى هَذَا الْقيَاس فَلَا يَنْبَغِي أَن يستفزه السرُور فتملأ البشائر قلبه وتخلب الأفراح لبه فينسبه الْعَدو إِلَى ضعف الْعَزِيمَة ولين الهمة بل يصور فِي نَفسه وَيقدر فِي فكره أَن البشائر وَإِن جلت محتقرة إِذا قيست بكبر همته وأضيفت إِلَى عظم مَنْزِلَته
الصَّبْر وأقسامه
وَكَذَلِكَ الْحَوَادِث إِذا طرقت والنوازل إِذا ألمت كَانَت سهلة الْوَطْأَة فِي جنب صبره وشهامته قَليلَة الْأَثر لسعة صَدره
1 / 68
وَبعد همته فَإِن طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْهَا طَارِئ بَان فَضله على سواهُ بِالصبرِ والمسكة عِنْد جزعهم وَالْوَقار والأناة عِنْد استفزازهم فَيكون بصبره ممتثلا لأمر الله ﷿ فِيمَا أَتَاهُ راجيا للظفر فِيمَا يَقْصِدهُ ويتوخاه وَقد قَالَت الْحُكَمَاء بِالصبرِ على مواقع الكره تدْرك الحظوة
وَقد قَالَ الشَّاعِر
(إِذا الْمَرْء لم يَأْخُذ من الصَّبْر حَظه ... تقطع من أَسبَابه كل مبرم)
وليعلم أَن الصَّبْر قد يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام وَهُوَ فِي كل قسم مِنْهَا مَحْمُود
فَأول أقسامه الصَّبْر على مَا فَاتَ إِدْرَاكه من نيل الرغائب أَو نقضت أوقاته من نزُول المصائب وبالصبر فِي هَذَا تستفاد رَاحَة الْقلب وهدوء الْحَواس وفقد الصَّبْر فِيهِ مَنْسُوب إِلَى شدَّة الأسى وإفراط الْحزن فَإِن صَبر طَائِعا وَإِلَّا احْتمل كَارِهًا هما لَازِما وَصَارَ إِثْمًا لعمله راغما
وَثَانِي أقسامه الصَّبْر على مَا نزل من مَكْرُوه أَو حل من أَمر مخوف وَالصَّبْر فِي هَذَا يفتح وُجُوه الآراء ويتوقى مكايد الْأَعْدَاء وَفِي مثله قَالَ الله ﷾ ﴿واصبر على مَا أَصَابَك إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور﴾
وَقَالَت الْحُكَمَاء مِفْتَاح عَزِيمَة الصَّبْر يعالج مغاليق
1 / 69
الْأُمُور وفقد الصَّبْر فِي هَذَا مَنْسُوب إِلَى الْخرق
وثالث أقسامه الصَّبْر فِي مَا ينْتَظر وُرُوده من رَغْبَة يرجوها أَو يخْشَى حُدُوثه من رهبة يخافها وبالصبر والتلطف فِي هَذَا يدْفع عَادِية مَا يخافه من الشَّرّ
وينال نفع مَا يرجوه من الْخَيْر وَفِي مثله قَالَت الْحُكَمَاء من اسْتَعَانَ بِالصبرِ نَالَ جسيمات الْأُمُور وفقد الصَّبْر فِيهِ مَنْسُوب إِلَى الطيش
كتمان السِّرّ
وَلَيْسَ يَصح الصَّبْر فِي الْأُمُور بترك التسرع إِلَيْهَا دون كتمان السِّرّ فِيهَا فَإِن كتمان السِّرّ من أقوى أَسبَاب الظفر وأبلغ فِي كيد الْعَدو وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ اسْتَعِينُوا على الْحَاجَات بِالْكِتْمَانِ
1 / 70
وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب ﵁ سرك أسيرك فَإِذا تَكَلَّمت بِهِ صرت أسيره وَقَالَ أنوشران من حصن سره فَلهُ بتحصينه خصلتان الظفر بحاجته والسلامة من السطوات وليعلم أَن من الْأَسْرَار مَالا يسْتَغْنى فِيهَا عَن مطالعة ولي مخلص واستشارة نَاصح فليتحفظ فِيهَا وليختر لَهَا أمناءها فَإِن الركون إِلَى حسن الظَّن ذَرِيعَة إِلَى إفشاء السِّرّ فَلَيْسَ كل من كَانَ على الْأَمْوَال أَمينا يجب أَن يكون على الْأَسْرَار مؤتمنا والعفة على الْأَمْوَال أيسر من الْعِفَّة عَن إذاعة الْأَسْرَار لِأَن الْإِنْسَان قد يذيع سر نَفسه لمبادرة لِسَانه وَسقط كَلَامه ويشح على الْيَسِير من مَاله ضنا بِهِ وحفاظا عَلَيْهِ وَلَا يرى مَا أذاع من سره كَبِيرا فِي جنب مَا حفظه من يسير مَاله مَعَ عظم الضَّرَر الدَّاخِل عَلَيْهِ فَمن أجل ذَلِك كَانَ أُمَنَاء الْأَسْرَار أَشد تعذرا وَأَقل وجودا من أُمَنَاء الْأَمْوَال فَإِذا ظفر بِهَذَا الْأمين المعوز أودعهُ إِيدَاع متحفظ فَإِن وجده مؤثرا للوقوف عَلَيْهِ حذره وتوقاه فَإِن طَالب الْوَدِيعَة خائن
1 / 71
وَقد قَالَ الشَّاعِر
(لَا تذع سرا إِلَى طَالبه ... إِن الطَّالِب للسر مذيع)
وَأولى الْأُمُور فِي الْأَسْرَار كتمها لتؤمن مخاوف الإذاعة والإستطالة بالإدلال
وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء من أفشى سره كثر عَلَيْهِ المتآمرون
وَقد قَالَ الشَّاعِر
(ألم تَرَ أَن وشَاة الرِّجَال ... لَا يتركون أديما صَحِيحا)
(فَلَا تفش سرك إِلَّا إِلَيْك ... فَإِن لكل نصيح نصيحا)
1 / 72
وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء إِذا وقفت الرّعية على سرائر الْمُلُوك هان عَلَيْهَا أمرهَا
المشورة
وَيَنْبَغِي للْملك أَن لَا يمْضِي الْأُمُور بهاجس رَأْيه ونتائج فكره تَحَرُّزًا من إفشاء سره والاستعانة بِرَأْي غَيره حَتَّى يشاور ذَوي الأحلام والنهى وَأهل الْأَمَانَة والتقى مِمَّن قد حنكتهم التجارب فارتضوا بهَا وَعرفُوا عِنْد موارد الْأُمُور حقائق مصادرها فَإِنَّهُ رُبمَا كَانَ استبداده بِرَأْيهِ أضرّ عَلَيْهِ من إذاعة سره وَلَيْسَ كل الْأُمُور المبرمة أسرارا مكتومة وَلَا الْأَسْرَار المكتومة بمشاورة النصحاء فَاشِية مَعْلُومَة
وَقد قَالَ النَّبِي ﷺ مَا سعد أحد بِرَأْيهِ وَلَا شقي عَن مشورة
1 / 73