ولما وجده - وهو يسوقه أمامه - مستسلما محمر العينين، قال: تقدر تقول لي ماذا دفعك إلى تلك الفعلة، وأنت في هذا العمر؟!
ابتسم عم إبراهيم، ثم رفع أصبعه إلى فوق وهو يغمغم: الله!
ندت عنه كالتنهدة ...
جوار الله
دق جرس الباب الخارجي، ففتحت الخادم الشراعة، فرأت رجلا يرتدي جلبابا، عاري الرأس، غريب الوجه، كانت بلا ريب تراه لأول مرة، فطالعته بنظرة متسائلة، وإذا به يسأل: بيت سي عبد العظيم شلبي الموظف بالمساحة؟
وجاء عبد العظيم على صوت الرجل، متمهل المشية في جلبابه الفضفاض، مغطى الرأس بطاقية اتقاء للبرد، فنظر إلى القادم باستطلاع كما فعلت الخادم من قبل، ثم سأله عما يريد. فقال الرجل: لا مؤاخذة! أرسلني الحاج مصطفى الدرديري السمسار بالدرب الأحمر؛ لأخبرك بأن الست عمتكم مريضة جدا، ويلزم الحضور.
فانفعل عبد العظيم باهتمام شديد، وتساءل: ماذا حصل لها؟ - لا أعرف يا سيدي، وأنا قلت لحضرتك ما كلفني به الحاج.
ودعاه إلى الدخول من قبيل المجاملة فشكر وذهب. وتحول عبد العظيم إلى الداخل، فوجد أخته تفيدة واقفة تنصت، فقال لها: استعدي للذهاب إلى بيت عمتك نظيرة، الظاهر أنها ستودع ...
وعبد العظيم يقيم في هذا البيت بشارع شبين الكوم بحدائق القبة، هو وزوجته وأولاده الخمسة وأخته الكبرى تفيدة، وهي عانس في الخمسين وكان والده في الأصل من الدرب الأحمر، ولكنه انتقل إلى حدائق القبة منذ أربعين عاما، وعبد العظيم طفل في الخامسة. وانقطعت الأسباب رويدا بين الدرب الأحمر وحدائق القبة فيما عدا زيارات الست نظيرة لهم من حين لآخر. وهي في الحقيقة عمة أبيه لا عمته هو، وفي الثمانين من عمرها، عانس مثل تفيدة، تعيش وحيدة، وتملك بيتا مكونا من أربعة أدوار، عرفت بغرابة الأطوار وحدة الطبع. واكتظ رأس عبد العظيم بذكريات قديمة عما كان يدور في بيته حول ثروة عمة أبيه، وانصهر ذلك كله لحد الاحتراق في خياله بنهم رجل لم يمارس طيلة حياته أي نوع من أنواع الامتلاك. رجل طال به الأمد في الدرجة الخامسة، وتقوس ظهره تحت أعباء الواجبات، ولم يورثه أبوه إلا عبئا ثقيلا هو أخته تفيدة. ودأبت الست نظيرة على زيارتهم، حتى تجرأ يوما على أن يطلب منها قرضا صغيرا، فانقطعت عن زيارتهم. عجوز وبخيلة! تمتلك بيتا من أربعة أدوار إيراده الشهري لا يقل عن عشرة جنيهات. لكنها وحيدة، رغم أنها تعيش في بيئة أهلها القديمة. ومقيمة في حجرة وحيدة فوق سطح بيتها بين الدجاج والغسيل. ولا علاقة طيبة بأحد تؤنس وحشتها؛ إذ ضربت حول نفسها سياجا من سوء الظن والتوجس. وتساءل الرجل، وهو يرتدي ملابسه: ترى هل جاء الفرج أخيرا؟!
وقالت تفيدة، وهما يسيران جنبا إلى جنب في شارع شبين الكوم: ستترك ثروة من غير شك! - سيعرف كل شيء عما قليل. - والبيت أيضا، ترى هل يسهل علينا تحصيل الإيجار؟ إن أهل الأحياء البلدية قوم متعبون!
Unknown page