فيسير برهة مطرق الرأس منغمس الذهن في لجة من الكرب واليأس، ولسان حاله يقول: «مائة جنيه في العام كل أرباحي! خمسة وعشرون من العمر، ولا أكسب أكثر من مائة في العام!»
لم يكن إصطفيان بالهادئ المزاج الساكن الطبع، لقد كان جهازه العصبي مشدود الأوتار إلى الغاية القصوى، وكانت أوتاره - نظرا لظروف وأسباب خاصة - مختلة النغمة شيئا ما، أو على الأقل كان يشعر أنها كذلك.
فكانت دورته الدموية في ذلك الوقت مفرطة السرعة، وكل نبض يضرب بمنتهى الشدة، والدم يتدفق مستعرا في عروقه.
ونحو ذلك كانت حالته النفسية؛ فكان ناري المزاج سريع التأثر والانفعال، قريب اهتياج العواطف والشهوات، قليل الصبر كثير القلق. ولكنه كان لا يزال يقدح نفسه، ويقمعها بأصعب شكيمة من قوة الإرادة، وأمتن لجام من صرامة العزم.
فبفضل هذه الإرادة استطاع إصطفيان بعد برهة يسيرة أن يهدئ ثائرة نفسه، ويربط نافر جأشه، وينظم ما تشوش واضطرب من حركة ذهنه. ثم جعل في أثناء مسيره يحاول أن يتذكر هل كان قد صرح للفتاة في مقاله المتقدم بكل ما ينوي ويقصد؟
فيقتنع بعد التذكر والتدبر، بأنه قد فعل ذلك؛ فيطمئن قلبه، ويهدأ باله.
ويقول في نفسه : «لقد بينت لها مبادئي وآرائي، فهي الآن لا تستنكر منى إمساكي عن مفاتحتها في شأن اقتراني بها، فعلي الآن أن أبحث عن وظيفة ذات مرتب أكبر مما أتقاضاه اليوم، وبعد ذلك ...»
كان إصطفيان راجح السهم، وافر النصيب من المحامد والمناقب، يمتاز بقوة الحزم، وصرامة العزم، وضبط النفس، وقمع الشهوات والأهواء، وشدة التمسك بأسباب الشرف والنزاهة، وفرط الاحتفاط بما يراه الفرض والواجب، وله قوة إرادة لا تردها قوة في السماء والأرض، ولا يقف في وجهها حائل. ولكنه كان يفقد شيئا أعظم من كل ذلك وأخفى وأدق؛ وذلك هو حلاوة الروح وعذوبة النفس.
وكذلك لم يكن في طبعه مثقال ذرة من تلك الخلة السماوية، والخصلة الملائكية التي هي إكسير الحياة وترياق الهموم؛ أعني «المؤاساة»، أي مشاركة الغير في آلامه وأحزانه، ومشاطرته جملة أوجاعه وأشجانه. هذه الشيمة الإلهية «المؤاساة» لم تكن في طبعه، ولا كان يفقه لها أدنى معنى. أما الرحمة والرأفة التي هي صدى «المؤاساة» وظلها، فكان نصيبه منها طفيفا جدا، ومعناها في ذهنه ضعيفا مبهما غامضا.
كان الفتى يلتزم ما يظنه منهج الحق وسبيل الواجب أشد التزام، أما عواطف الغير وإحساساتهم فلا لوم عليه إذا لم يحفل بها ولم يكترث؛ لأنه لم يستقر في علمه قط أن للغير إحساسات وعواطف.
Unknown page