72

Dumuc Bilyatshu

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

Genres

لم تكن حياتنا سهلة، لا نحن وحدنا أو تحت الأيكة مع رفاقنا ولا بعد أن وهبتنا الآلهة ابننا بازيكليس. كنا نواصل جولاتنا اليومية فنطوف بالقرى ونعبر الحارات الضيقة المظلمة ونصعد السلالم الهشة المتآكلة إلى البيوت والأكواخ المنسية. نهب سلام الروح ونسكب خمر الطمأنينة في أفواه الظمأى والمرضى المحتضرين، ونوزع خبز الحب والرضا الطازج مقابل لقيمات وجرعات لبن أو نبيذ تجود بها أيد محبة رحيمة من النوافذ والأبواب التي سمانا أصحابها فاتحي الأبواب. احتملنا الكلمات واللعنات التي كانت تنهال علينا أكثر وأوجع من حجارة الصبية الأشقياء، الذين يزفوننا كالمهرجين ولاعبي السيرك وحيواناته الوحشية والأليفة، وكم ترددت الشتائم الساخرة في أذني، فأثارت رياح الغضب في رأسي وحركت أمواج الندم في صدري: انظروا أفروديت مع المسخ القبيح! من يصدق أن الحورية وابنة ملك البحر تهيم غراما بالقرد الكلبي؟ أين العدل وهذا التاج الذهبي على رأس الكلب؟! من ينقذ أميرة الفراشات والزهور من أنياب الكلب المسعور؟!

كانت هيبارخيا تجري وراءهم وهي تصيح: أنتم الكلاب الذين نحاول أن نجعلكم بشرا! ليس هو الكلب بل الكلبي الذي أرسلته الآلهة ليخرجكم من الحظائر الدنسة! رضي بأن يوصف بالكلبي كما رضي معلمكم سقراط بشرب السم، لكن لا التواضع ولا السم صنعا المعجزة. لماذا تنبحونه وتتركون الكلاب السمينة تسرق خبزكم وتبني القصور من لحمكم وعظمكم وتسوقكم إلى الحروب لتبني عروشها على أشلائكم؟! متى تفيق الكلاب المسعورة على دعوة الراعي الإلهي؟ ومتى تحرس نفسها من حراسها الذين يطوقونها بنير العبودية، ويلتهمونها واحدا بعد الآخر؟

كانت تقول ذلك للصبية المتحرشين بنا والأغنياء الذين يمعنون في السخرية حين يدعوننا إلى مآدبهم الحافلة ويلقون إلينا بالعظام وهم يلغون في لحوم الديوك والخراف والعجول المشوية ويضحكون: انهشوا وارجعوا إلى الطبيعة. وتثور هيبارخيا وتلقي بنفسها عليهم وتصفعهم على وجوههم وتتحمل وقاحة المتطاولين الذين يستعذبون الصفع ويهتفون بها: ليتك أيضا تعضين أيتها الكلبة الجميلة! وأخلصها من أيديهم ونغادر المأدبة والضحكات وبقايا العظام تنهال فوق رءوسنا، وأقول لها حين تنفرد تحت ظلال الأيكة أو تحت سقف كوخ يدعونا إليه مزارع أو صياد أو حطاب: أرأيت أن الحياة مع الحكيم الكلبي أقسى من حياة الكلاب؟ فتقول وهي تربت على رأسي ووجهي بيديها: من قال إن الأرض العطشى تندم على عناق السماء الممطرة؟ وأعانقها وأضمها إلى صدري وننصهر ونحترق ونلتصق وننسكب كلانا في الآخر، فتهمس وهي تسوي جدائلها السوداء الناعمة وتتخلل بأناملها غابات رأسي وذقني الكثيفة الخشنة وتقول وهي تتحسس بطنها المنتفخة: وكيف أندم على العودة معك إلى الطبيعة بعد أن أصبحنا شجرة واحدة تنتظر الثمرة التي تنضج في جوفها وقريبا تتدلى من فرعها؟! وأنظر إليها نظرة الكلبي المتشكك التي تعرفها فتندفع إلى وجهي الممسوخ وتغمره بالقبلات ونسائم أنفاسها العطرة تهب على كل مسامي: كنت في قصر أبي كلبة حمقاء مدللة فأعدتني إلى طبيعة البشر، ألا تندم على كل لحظة قضيتها بعيدا عنك وعن الطبيعة الطيبة؟! •••

لكن عضات الندم زاد وخزها في لحمي وضميري بعد أن وضعت ابننا المسكين الضائع بازيكليس. صحيح أن عطايا الأصحاب والأتباع الذين انضموا إلى جماعتنا قد راحت تنهمر علينا كل يوم، والأبواب التي تفتح في وجوهنا والأعناب التي تقبل أقدامنا قد زادت بلا نهاية في القرى والمدن الصغيرة ومرابط الخيام المتنقلة وتجمعات الصيادين والمهاجرين واللاجئين والمنفيين وحجاج المعابد المقدسة ورواد الألعاب الرياضية والمسرحية والغنائية بأفراحها الدائمة، غير أننا كنا نعود في أكثر الأحيان يائسين متعبين إلى ظل الأيكة ونحتمي تحت سقف تعريشة من أغصان الشجر وألواح الخشب وأعواد القش ونضع هياكلنا المحطمة ونفوسنا الكسيرة ورءوسنا المنهكة على المخدات الحجرية الخشنة، ونمد أعضاءنا حول موقدنا الطيني الذي تختنق نيرانه تحت ركام الفحم والخشب والرماد، كنا نخفي تعبنا ويأسنا وراء النظرات المحبة والضلوع المشتعلة بخيبات الأمل في الكلاب والبشر والالهة والشياطين، وكانت جمرات الندم تتوهج في باطني وتلسع حطام ضميري كلما رأيت الوجه الفاتن الصبوح كالقنديل الصامت الذي خبا فتيله وشحبت ألوان زجاجه، وكان أكثر ما يؤلمني أن أرى منظر «بازيلكيس» وهو يتقلب في حضنها ويصرخ بحثا عن صدرها فيجاوبه نباح كلاب بعيدة وحفيف أوراق تجلدها الريح وتلسعها سياط المطر المتساقط. لم يبخل علينا بعض الكرام الذين انضموا إلى جماعتنا بتقديم المأوى والملاذ، لا سيما حين يشتد برد الشتاء وتمتد مواسم المطر وتحتد نوبات الأنواء وزخات الأمطار. وكانت هيبارخيا هي التي تبادر بالاعتذار عن قبول الدعوات وتحتج بالوفاء للطبيعة والإخلاص للمثل الحي المتجسد، حتى فاجأنا بزيارته ذلك الرجل ذو الوجه الصغير الطيب الذي كنت قد نسيته. قال وهو يفترش الأرض بجانبي ويحتضن بازيلكيس الذي سرعان ما يفلت من بين ذراعيه ليواصل ألعابه المضحكة: سيدي، لقد جئت أقدم إليك بيتي الصغير الذي سبق أن أهديتني إياه. قلت في نبرة لم أستطع إخفاء غضبها وضيقها: لست سيدك ولم تعد عبدي، والهدية التي تتحدث عنها لا أذكرها. قال الرجل: كان كوخا يتوسط مزرعة صغيرة، وكان من نصيبي عندما وزعت ضياعك وبيوتك وأراضيك وأنعمت علي بالحرية. أصلحت الكوخ وتعهدت المزرعة ثم أهملتها بعد أن نمت ثروتي واتسعت تجارتي وجرت العملات الذهبية والفضية في يدي، هل تتنازل وتقبل أن أرده إليك؟ قلت وأنا أتابع ولدي وأتصور زوجتي بعد رحلة الشقاء اليومية: ولكننا صرنا طبيعة أخرى بعد أن توحدنا بالطبيعة واحتقرنا المدينة وكلاب المدينة!

عاد يلح من جديد وهو يحدق في وجهي الذي تحجرت تجاعيده وذبلت ملامحه واسودت مثل قناع شيطان تعس: الكوخ والمزرعة الصغيرة عاريان من مظاهر المدنية، ولن تخون عهدك للطبيعة إذا نمت مع بازيكليس تحت سقفه! أطرقت طويلا وتذكرت الكوخ الصغير الذي كنت ألجأ إليه قديما لأستريح من عناء اللهاث وراء الثروة وأتقي سهام المتآمرين على مزارعي وسفني وتجارتي بالغدر والطمع والفتنة، وتأملت الوجه الصغير الذي كان يدخل علي تسبقه ابتسامته، فأسلم له ساقي ليدهنها بالزيت، وأذني ليسليهما بحكايات أيسوب وأمثاله، وحكم صولون والحكماء السبعة، والنوادر التي تروى في السوق والشارع وقاعات الضيوف ومآدب الأثرياء والرؤساء وأكواخ العجزة والمرضى والفقراء عن معلمنا سقراط الزاهد الحكيم وعن معلمي صاحب العصا والمصباح وعني أنا المسخ الأحدب الحزين. ضحكت كثيرا وسرحت طويلا وتأملت عيني عبدي السابق وسكت. هل أصبح حقا من كبار الأثرياء والوجهاء؟ هل مد يديه لأمثاله السابقين من العبيد والمحرومين؟ كنت متعبا من أحوالي وأحوال المدينة فلم أشأ أن أضيف متاعب جديدة، ويبدو أنه قرأ المكتوب على ألواح خواطري السوداء فقال وهو يمد إلي يده بمفتاح ضخم: لم يتغير شيء ولن يتغير يا سيدي، خذ مفتاح الكوخ وأغلقه عليك وعلى أهلك جيدا. قلت في دهشة: وماذا أفعل بالمفتاح يا ... قال: أندروكليس يا سيدي، صاحب النوادر والحكايات والطرائف والأشعار. قلت: نعم يا أندروكليس، ولكن ألم تسمع أنهم سموني فاتح الأبواب؟ قال: سمعت هذا وأكثر منه يا سيدي. رفعت صوتي غاضبا: قلت لك لم أعد سيدك ولم تعد عبدي، ما الفائدة من كل حياتي وعذابي لتحرير الإنسان من الكلب الكامن فيه؟ ولماذا أغلق بابي بالمفتاح وكل الأبواب مفتوحة في وجهي؟ قال وهو يستعد للانصراف وتلح علي ذراعه ويده بأن آخذ منه المفتاح الحديدي الصدئ: لا تقل كل الأبواب يا كراتيس، لا تتصور أن شيئا تغير أو سيتغير! دفعت يده الممدودة كمخلب نسر عجوز وأنا أصيح: الكلبي الأباس من أبأس كلب لا يحتاج إلى مفتاح، لا يحتاج إلى كوخ!

كانت هيباشيا قد رجعت من طوافها اليومي فسمعت صيحتي ورأت الرجل، قال لها في هدوء وهو يضع المفتاح في يدها: من أجل يازيلكيس ومن أجلك يا سيدتي، حاولي أنت أن تقنعي سيدي القديم العنيد.

وعرفت هيباشيا ما دار بيننا فسكتت طويلا. نظرت إلى وجهها الذي غطته سحب الحزن والوهن والذبول، فلمت نفسي ولذت بالصمت، وأقبل يازيلكيس فاحتضنته وقالت: من أجل صدري وصدرك اللذين افترسهما السعال سأوفر على نفسي النقاش الطويل، وانحنت علي وتفرست عيناها الجميلتان في وجهي، وقالت وهي تشد ذراعي بلطف وتضع يدها في يدي: هيا بنا، يبدو أن شيئا لم يتغير ولن يتغير! •••

سرنا إلى الكوخ الذي تذكرت مكانه بعد السنين الطويلة، ووضعنا فيه متاعنا «الكلبي» الفقير، أصبح لنا سقف نبيت تحته وجدران تحمينا من المطر والريح، واستمرت حياتنا وجولاتنا اليومية ولقاءاتنا تحت الأيكة ومواعظنا وحكمنا ونصائحنا ونواهينا التي أخرجها من جرابي الجلدي القديم وأتلقى في مقابلها أرغفة الخبز وقطع الجبن وفواكه الأرض وخضرتها حينا، كما أتلقى الشتائم والصفعات والركلات والبصق في وجهي حينا آخر. لم يتغير شيء كما قلت لك، ولكن بدأ ابني بازيلكيس يتغير، ومع أني كنت ألاحظ أن النور في قنديل هيبارخيا بدأ يخبو وتزحف عليه ظلال الصفرة والسواد، وأن الشيخوخة بدأت تثقل من وطء الصخرة التي أحملها على ظهري، فقد كان أكثر ما يحزنني أنا وهيبارخيا أن ولدنا يتغير في الوقت الذي تكرر فيه عيوننا الصامتة ما قاله عبدي السابق ذات يوم: لم يتغير شيء يا كراتيس ولن يتغير شيء، لا الأثرياء تحولوا عن جشعهم، ولا الحكام كفوا عن مؤامراتهم وصراعاتهم، ولا الفلاسفة - ومنهم شقيق هيبارخيا وتلاميذه البارعون في الجدل - عدلوا عن ثرثرتهم وبناء قصورهم فوق السحب وعلى أكف الرياح، حتى الفقراء والمساكين الذين عشنا لهم قد ازداد تكلبهم واستفحل سعارهم وعضهم لبعضهم وتركوا الكلاب الحقيقية والذئاب الطاغية الضارية. ومع أن القليلين من رجال السلطة كانوا يزوروننا بين الحين والحين - ومنهم قاضيان ورئيس شرطة سابق أدركوا أخيرا أن القانون ليس هو السيد ولا أحد يخضع له - فقد كانت المدينة تتحلل أمام أعيننا، والإنسانية والفضيلة والحرية والبساطة والاتضاع وسائر الخيرات التي بح صوتي في الدعوة إليها تتساقط كأوراق الخريف الذابلة تحت أقدام الجميع.

وآه يا ولدي الضائع! بدأنا نلاحظ أن رياح التغير قد عصفت بك، فمجادلاتك معنا لا تنتهي من كثرة ترددك على مجالس الحكماء الثرثارين، وتطاولك على أمك وعلي يزيد كل يوم عن كل الحدود، وإعلانك عن عزمك على التبرؤ من أبويك واحتقارك لملبسهما ومأكلهما وكلامهما يزداد تبجحا إلى درجة لا تطاق، وبدأت مطالبك تفوق كل قدراتنا التي وقفناها على الزهد والتخلي عن مظاهر القدرة والتملك، وكم صرخت في وجوهنا الذابلة من شظف الحرمان أن تواضعنا ضعة، وزهدنا عجز، وفقرنا غباء، وصمتنا عي وبلاهة، وأننا - ويا لقسوة اتهاماتك يا بني! - أشباح كلاب مهزومة في عالم لا يبقى فيه حيا إلا الذئاب الضارية والسباع الكاسرة والثيران الهائجة والنمور الجريئة الوثابة.

حاولت أن أجرب معك كل سبيل، لكنك لم تصبر على كلامي ولم تطق سماع صوتي، ولم تملك إلا الاحتقار لي ولمن علموني وعشت وفيا لهم. لم تصدق أن الإنسان يصبح أقوى ما يكون عندما يزهد ويتخلى، ولم أفز منك إلا بالضحك علي كلما حاولت أن أقنعك بأن الغني حقا هو المستغني، وأن الإنسان لا يكون سيد نفسه وقدره بما يملكه ويخزنه، بل بما يكونه ويزهد فيه. وأخذتك يوما معي لترى ديوكليس الذي استطعت أن أهديه إلى طريقنا وأرغبه في حياتنا وأدفعه إلى مشاركة البؤساء والمساكين من مواطنينا والتعاطف مع كل الكائنات المعذبة. لكن ماذا كان تصرفك وكيف فعلت فعلتك الطائشة؟ كنت قد اتفقت مع تاجر الأغنام العجوز الفاحش الثراء أن نلتقي على شاطئ البحر ليختم عهد الوفاء للطريق الجديد ويدفع ثمن الرجوع عن حياة الكلاب إلى حياة البشر. قلت له لا يكفي أن تترك بيتك وتحرر عبيدك وترفع عبء الديون عن المزارعين في ضياعك وتوزع عقارك وأراضيك ورياشك وأملاكك على الفقراء والمحتاجين من أهلك وجيرانك. لا يكفي أيضا أن تجعل ضياعك مرعى حرا للأغنام وحظائرك ومخازن غلالك مشاعا للرعاة والسياس والخدم والعاملين، اشترطت عليه أن يتجرد من ملابسه إلا الخرقة التي تستره، ويتخلص مما ادخره للأيام من عملات ذهبية وفضية حتى يمكن أن يشاركنا جولاتنا اليومية، وافق على كل شيء واتفقنا كما قلت على اللقاء على الشاطئ في مكان بعيد عن فنارة الميناء ومواقع الشرطة والجمارك وحراس الحدود، وعن أبعد أكواخ الصيادين، وجئت معي يا بني بعد الرجاء والإلحاح من أمك ومني، ووصلنا إلى المكان وعرفتك بالرجل الأصلع القصير الذي كان يوما هو المسئول عن إطعام «ثيبة» باللحوم. ورأيت بنفسك كيف وقف أمام البحر في خرقه الرثة الممزقة، وكيف فتح صدره للريح وقال: الآن أعاهدك أيتها الأمواج الأزلية المد والجزر أنني سأثبت على نقائي وعريي مثلك عن كل شيء، الآن لن تستطيع قشة واحدة من متاع الدنيا أن تتعلق بي إلا إذا أصبحت جثة فوق جسدك الناعم الطري! ولن تستطيع أن تصمد أمام قوة يقيني وزهدي فيها إلا كما تصمد أمام قوة اندفاعك وغضبك وثورتك المزبدة التي تلفظها على رمال الشاطئ، ومد يده البيضاء السمينة إلى داخل كيس ضخم حمله معه وأخذ يلقي القطع الذهبية والفضية واحدة تلو الأخرى فتلمع في ضوء الشمس الغاربة ببريق ذهبي خاطف قبل أن تتلقفها أمواج البحر وتلقمها أعماقه السفلية الشرهة، كان يضحك ويصرخ ويبكي بجنون، وكنت تصرخ أنت أيضا وتحاول أن تمسك يده وتنتزع الكيس منها وأنت تهتف: دع الكيس أيها المخبول! إن كان أبي قد غرر بك وزين لك الإفلاس فانظر إليه لترى المصير الذي أوصلته إليه خزعبلاته، انظر إلي لتعرف مدى جنايته علي، أبق على البقية الباقية أيها المعتوه حتى لا تفيق من السكرة يوما فلا تجد اللقمة ولا الجرعة ولا الدواء، انتظر ولا تجعلني أقذفك في الماء، انتظر ولا ...

Unknown page