ها هي رواية «رمزي» بين يدي القراء مجلوة الصفحة، وضاحة النزعة، تفوح منها عبقة من الفن الصادق، وكأني بصديقي الأديب وهو يرفع روايته هذه إلى جمهورنا يرمق الأفق البعيد بنظره المطمئن الواثق لإنشاء مسرح محلي حديث، وكأني به وقد صاغ قطعته في العامية الدارجة خالعا عربيته المجيدة يصيح بنا في تواضع: أنا رجل المسرح سيد الطريقتين وأمير الأسلوبين.
ومن تذوق أسلوب رمزي في «عزته» و«بدويته» و«حاكمه» وغيرها من رواياته التاريخية الممتعة، فقد عرف الرجل ذا القلم المجيد الذي يجري بحذق فوق الصحيفة البيضاء فتسمع وراء صريره رنين أجراس الذهب .
من يقرأ «عزة» ولا تأخذه نشوة الموسيقى في أوجها السامي، ومن يقرأ رواية اليوم ولا يصيح أن «رمزي» مؤلف مدق يضم إلى طبله البدوي العزاف أرغولا مصريا يوقع أنفس «المواويل الحمر» ويردد صدى قهقهة «الصهبات» البلدية. وإن لرمزي لنظرة الفطن الساخر التي تتناول كل شيء يقع تحت بريقها. «دخول الحمام» تعد بحق شعبة من أشعة الفجر الأول لوضع الرواية المصرية المضحكة «الكوميديا المصرية». وكما بدأ «رمزي» المجهود الأول في وضع الرواية العربية التاريخية برواية «الحاكم بأمر الله» فهو في مقدمة ذلك النفر العزيز الذي حاول ويحاول وضع الرواية المصرية الأخلاقية.
وكتابة «رمزي» لهذه القطعة باللغة العامية - وهو الكاتب والشاعر المجيد - تفسر لنا مبدأه الذي طالما جاهر به في حلقات الأدب والفن، وهو: (وجوب كتابة الرواية المصرية المضحكة بالعامية الدارجة)، وهذا مبدأ أقره صديقي المسرحي الكبير محمد تيمور بك في روايته «العصفور في القفص» و«عبد الستار أفندي»، وزاد عليه: «وكتابة الدرام المصرية الحديثة أيضا بهذا اللسان» كما رأينا في روايته «الهاوية». «دخول الحمام» مشهد مصري صميم شد ما أفلح مصوره في مسحه بالصبغة المصرية الفاقعة التي تأخذ الناظر أينما سرح بصره فيه، والذي يبهرني في هذا المشهد موضوعه نفسه الساخر. لقد أضاف «رمزي» بروايته هذه مجدا جديدا إلى حرية التفكير في مصر، طرق «رمزي» بابا موصدا في الشرع الإسلامي طالما فزع الناس من الاقتراب منه وطالما كان قيامه سبب محن وتذمر وسخرية صامتة، الحمل المستكن؛ أظن هذا اسما لا يذكره مفكر إلا وتعلو وجهه بسمة متهكمة يحاول أن يضم عليها حفافي ثغره حتى لا تنفجر قهقهة مستهترة صاخبة. «عدم طلاق الغائب»؛ ألا ترى هذا عجيبا أيضا يا سيدي القارئ؟! هاتان النقطتان الواهنتان اللتان قد أصبح احتمالهما عسيرا وتنفيذهما مرا مع حياتنا الفكرية الحديثة قد تناولهما بنظرة نافذة «رمزي» المفكر الحر، وحاك عليهما مهزلة ساخرة رشيقة كان لها وقع كبير في التأثير على مشروع اليوم، ولم يكن عجيبا بعد الضجة التي أحدثتها هذه الرواية بين رجال القضاء وأصحاب المذاهب أن رأينا التشريع المصري يتناول هاتين النقطتين بالتعديل الجديد الذي ننعم به اليوم والذي يحدق فيه العقل بنظرة هادئة.
أما النجاح الذي حظيت به هذه القطعة فكان باهرا لم يحظ مؤلفها بمثيل له في سابق قطعه المسرحية اللهم إلا «البدوية»، ولعل هذه الرواية هي إحدى الروايات القليلة التي جابت بها فرقة أبيض أنحاء الوجه البحري في ليالي الصليب الأحمر ومثلتها بنجاح مستمر أمام جماهير تباينت عقليتهم وأذواقهم تباينا كبيرا.
وقد علا كعب الممثل «عزيز أفندي عيد» بإخراج هذه الرواية، وأضافت الممثلة «روزاليوسف» إلى مجدها المسرحي ضفيرة جديدة زاهرة بأدائها دور زوجة الحمامي وأثبتت أن مواهبها الفنية لا تقف عند إبراز الأدوار في الرواية الغربية الموضوع.
وإني أختم هذه العجالة بجملة كان دائما يقولها صديقي الراحل «تيمور» إذا ما جرى على ألسنتنا ذكر روايات «رمزي» ومجهوده الكبير المتواصل في تقرير مسرح محلي لهذه البلاد: «لقد وضع رمزي رواية دخول الحمام وكفى.»
زكي طليمات
9 / 11 / 24
Unknown page