Diya al-Salik ila Awda al-Masalik
ضياء السالك إلى أوضح المسالك
Publisher
مؤسسة الرسالة
Edition Number
الأولى ١٤٢٢هـ
Publication Year
٢٠٠١م
Genres
المجلد الأول
مقدمات
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله على جزيل نعمه، وتواتر آلائه ومننه، والصلاة والسلام على النبي المرتضى والحبيب المرتجى؛ سيدنا محمد ﷺ النبي العربي، والرسول القرشي؛ صفوة الأنبياء، وأفصح البلغاء، وعلى آله وأصحابه وتابعيه، ومن نحا نحوهم، واهتدى بهديهم، وسلك سبيلهم، إلى يوم الجزاء.
"وبعد" فهذا مؤلف جديد، وتعليق فريد، على "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" للإمام الجليل جمال الدين بن هشام الأنصاري، يزيد على ما سبقه من الكتب في دقة نسجه، ويفوق ما تقدمه من التعليقات في بسط جوهره، وينفرد عن غيره من المؤلفات بعمق النظرة، ووضوح الفكرة.
تناولت فيه التعليق الوافي على متن فخر النحاة "ابن هشام"، وأوضحت باختصار معاني وإعراب ألفية "ابن مالك" الهمام. وكشفت عن خفي العبارات والتراكيب التي يصعب على الدارس فهمها، ويلتوي عليه وعيها وإدراكها. وشرحت ما فيه من أمثلة وشواهد، وأجملت معانيها، وذكرت إعراب الغامض منها، وموضع الشاهد فيها.
واستقصيت -في إيجاز- ما تمس الحاجة إليه من طرائف وفوائد في شتى الموضوعات، وعملت على تجديد وتنويع ما عرضت من الأسئلة والتطبيقات.
وأضفت -في المناسبات- الموضوعات الصرفية الهامة التي أغفلها "ابن هشام" كما أغفلها "ابن مالك" -وبخاصة تصريف الأفعال اكتفاء بكتابه لامية الأفعال- ليكون الكتاب مغنيًا بنفسه في القواعد النحوية والصرفية.
وعنيت بعرض تعريف مناسب لأئمة النحاة والقراء الذين وردت أسماؤهم
1 / 3
في هذا السفر الجليل؛ ليكون الدارس على بصيرة بمنزلتهم العلمية، فيختار من آرائهم ما تطمئن إليه نفسه، ويهديه إليه درسه وبحثه.
وقد صدرت الكتاب بنبذة جامعة عن وضع النحو ونشأته، وسيره في طريق النمو والازدهار، حتى أينع وأثمر، واستتبع ذلك ذكر بعض رواده الأوائل، وجلة واضعيه الأماثل.
وأوضحت كيف نشأ المذهبان المعروفان لدى علماء النحو؛ وهما: المذهب البصري، والمذهب الكوفي، وأهم الفروق بينهما.
وقد أقبلت على وضع هذا المؤلف بعد أن سمح وقتي بتفرغي إليه، وقصر جهدي عليه، ومراجعة المصادر المختلفة التي تعين على توضيحه، وتساعد على إظهار مكنون أسراره، وقصدت بعملي هذا خدمة ذلك السفر العظيم، والتقرب إلى الله -الذي تعنو له الوجوه- بتيسير وفهم لغة كتابه الكريم.
وقد أسميته: "ضياء السالك إلى أوضح المسالك" سائلًا الله -جلت قدرته- أن يضيء به الطريق لقارئه، وينير السبيل أمام المطلع عليه، إنه سميع مجيب.
المؤلف
1 / 4
ترجمة ابن هشام:
هو الإمام العلامة النحوي المشهور: أبو محمد عبد الله "جمال الدين" بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري، ولد بالقاهرة في ذي القعدة من عام ٧٠٨ "ثمان وسبعمائة من الهجرة النبوية"، الموافق ١٣٠٩ ميلادية.
وقد اشتغل منذ نشأته بالعربية، وتوافر على دراستها حتى أتقنها وبرز فيها، وقرأ على ابن السراج، وسمع من أبي حيان ديوان زهير بن أبي سلمى ولم يلازمه، وحضر دروس الشيخ تاج الدين التبريزي، وتفقه على مذهب الشافعي ثم تحنبل.
وقد فاق الأقران بل الشيوخ، وبز من تقدمه، وأعيا من أتى بعده، وتصدر للدرس، فنفع الطلاب وأفادهم كثيرًا، وأقبل الناس عليه من كل صوب، وكان كثير المخالفة لأبي حيان، شديد الانحراف عنه، هذا إلى صلاحه وورعه وشدة تواضعه. قال عنه شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني في كتابه "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: "لقد انفرد ابن هشام بالفوائد الغريبة، والمباحث الدقيقة، والاستدراكات العجيبة، والتحقيق البالغ، والاطلاع المفرط، والاقتدار على التصرف في الكلام، والملكة التي كان يتمكن بها من التعبير عن مقصوده بما يريد؛ مسهبًا وموجزا، مع التواضع والبر، والشفقة ودماثة الخلق، ورقة القلب".
وحسبك هذه الشهادة -الجامعة لأنواع الفضائل- من إمام جليل كابن حجر.
1 / 5
وقال عنه المؤرخ العلامة ابن خلدون: "ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية، يقال له ابن هشام، أنحى من سيبويه".
وذكره مرة أخرى بقوله: "إن ابن هشام على علم جم يشهد بعلو قدره في صناعة النحو: وكان ينحو في طريقته منحى أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جني، واتبعوا مصطلح تعاليمه، فأتى من ذلك بشيء عجيب يدل على قوة ملكته واطلاعه".
وقد صنف ابن هشام كثيرًا من الكتب النافعة التي تلوح منها أمارات التحقيق، وطول الباع في البحث والتدقيق، منها: "مغني اللبيب عن كتب الأعاجيب" وهو مشهور متداول، ومرجع هام للدارسين، وعليه شروح كثيرة. و"الروضة الأدبية في شواهد علوم العربية" وهو شرح لشواهد "اللمع لابن جني" وكتاب "رفع الخصاصة عن قراء الخلاصة" في أربع مجلدات ... وغير ذلك. ومن كتبه المتداولة الآن: "شذور الذهب في معرفة كلام العرب"، و"قطر الندى وبل الصدى" وهما يدرسان في بعض المعاهد. و"شرح الجامع الصغير". وله عدة حواش على الألفية والتسهيل. وشرح قصيدتي: "بانت سعاد" و"البردة". أما "أوضح المسالك" الذي نحن بصدد التعليق عليه، فقد ذاع صيته، وانتشر في الآفاق ذكره، وهو مرجع هام في نحو اللغة العربية.
وكان ﵀ خبيرًا بالشعر ونظمه. ومن شعره قوله:
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله ... ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لا يذل النفس في طلب العلا ... يسيرا يعش دهرا طويلا أخا ذل
وتوفي ﵀ ليلة الجمعة، الخامس من ذي القعدة سنة ٧٦١ "إحدى وستين وسبعمائة هجرية"، الموافقة ١٦٣٠ ميلادية. ودفن عند باب النصر بالقاهرة، وقبره معروف هنالك إلى الآن. ﵀ وأسبغ على جدثه المغفرة والرضوان.
وقد رثاه كثير من الشعراء، ومنهم ابن نباتة المصري بقوله:
سقى ابن هشام في الثرى نوء رحمة ... يجر على مثواه ذيل غمام
سأروي له في سيرة المدح مسندا ... فما زلت أروي سيرة ابن هشام
1 / 6
كلمة إجمالية عن نشأة النحو:
العرب وسيادة قريش:
١- كان يسكن الجزيرة العربية شعبان عظيمان من شعوب الأمة العربية هما: العدنانيون، وكانوا يسكنون الحجاز بمكة وما والاها، ومنهم قريش. والقحطانيون، وكانت منازلهم باليمن. وكانت لغة الشعبين عربية فصيحة، غير أنهما يختلفان في مدلول بعض الألفاظ واللهجات، كما كان لكل من الشعبين لهجات تختلف باختلاف القبائل.
٢- وكان لقريش السيادة في الجاهلية، بسبب ما آل إليها من السقاية١ والرفادة٢ والحجابة٣ والسدانة٤ في البيت الحرام. وكانت مكة مزارًا يحج إليها العرب جميعًا كل عام، وتقام فيها الأسواق التي كان من أشهرها: عكاظ٥، ومجنة٦، وذي المجاز٧، والتي كان يحضرها الناس للتجارة، كما يحضرها الخطباء والشعراء من شتى الجهات؛ للتفاخر والتهاجي والتباري في الخطابة والشعر، ويحكم بينهم الحكام، والسعيد من حكم له بالسبق. فاجتمع
_________
١ هي: سقاية الحجاج.
٢ ما كانت تخرجه قريش من المال لتشتري به طعامًا للحجيج.
٣ القيام على خدمة البيت. والحاجب: البواب، ووظيفته الحجابة.
٤ خدمة الكعبة المشرفة، يقال: سدن أي: خدم الكعبة.
٥ سوق بين نخلة والطائف، شهدها الرسول ﷺ وبقيت حتى نصف القرن الثاني من الهجرة.
٦ موضع قرب مكة، وقد تكسر ميمها.
٧ سوق كانت على فرسخ من عرفة.
1 / 7
لقريش من ذلك كله زاد لغوي واسع، أضافته إلى لغتها الأصلية بعد أن تخيرت أعذبه جرسًا، وأخفه وقعًا، وأبلغه معنى. فأصبحت لغتها أغنى اللغات العربية، وأشملها، وأعذبها، وأقدرها على تصوير المعاني المختلفة. وتسابق الخطباء والشعراء في استعمال لغة قريش، ونقلوا كثيرا منها إلى قبائلهم، فانتشرت في الجزيرة العربية وسادت. فكان ذلك تمهيدًا وتهيئة لجو ملائم للرسالة المحمدية، ونزول القرآن الكريم بتلك اللغة المنتقاة.
٣- وكان العرب في هذه الآونة، يتكلمون العربية الصحيحة بالسليقة على اختلاف قبائلهم ولهجاتهم، وكانوا قليلي الاتصال بمن حولهم من الأعاجم، فكان بين الفرس وعرب الجزيرة، والروم وعرب الشام شيء من الاتصال، يدخل بعض هؤلاء الجزيرة العربية، ويتعلمون اللغة، وينطقونها تقليدًا.
ظهور اللحن: ١- ولما جاء الإسلام وانتشر خارج الجزيرة العربية، اضطر العرب للاختلاط بغيرهم، وزاد اتصالهم بالأعاجم في سائر الأمصار، وتبادلوا معهم التجارة والمنافع؛ فأخذ الفساد يدب في تلك السليقة العربية، وظهر اللحن بين بعض العرب -علاوة على الدخلاء من الأعاجم- وساعد على ذلك أن اللغة العربية لغة مُعْربة، سرعان ما يتسرب إليها اللحن والفساد. ٢- وقد ظهر اللحن في عهد الرسول ﵇ فقد روي أن رجلًا لحن بحضرته، فقال: "أرشدوا أخاكم فقد ضل". ومر عمر بن الخطاب على نفر يتمرنون على رمي السهام فوجدهم لا يحسنون، فأنبهم، فقالوا له: إنا قوم متعلمين، فأفزعه ذلك وقال: والله لخطؤكم في لسانكم أشد على من خطئكم في رميكم. وروي أن كاتبًا لأبي موسى الأشعري -وكان واليًا لسيدنا عمر على البصرة- كتب رسالة على لسان أبي موسى إلى سيدنا عمر: من أبو موسى الأشعري إلى....، فلما اطلع عمر عليها كتب إلى أبي موسى: عزمت عليك لما ضربت كاتبك سوطًا. ٣- وقد شاع اللحن بين أوساط الناس، وجرى على ألسنة العجم المستعربين فهال ذلك أولي الأمر، وخافوا أن يتسرب إلى القرآن الكريم والحديث الشريف، فأسرع المفكرون والعلماء إلى وضع قواعد يهتدى بها؛ لحفظ اللغة من هذا الخطر الداهم. وقد هداهم تفكيرهم إلى وضع علمي النحو واللغة.
ظهور اللحن: ١- ولما جاء الإسلام وانتشر خارج الجزيرة العربية، اضطر العرب للاختلاط بغيرهم، وزاد اتصالهم بالأعاجم في سائر الأمصار، وتبادلوا معهم التجارة والمنافع؛ فأخذ الفساد يدب في تلك السليقة العربية، وظهر اللحن بين بعض العرب -علاوة على الدخلاء من الأعاجم- وساعد على ذلك أن اللغة العربية لغة مُعْربة، سرعان ما يتسرب إليها اللحن والفساد. ٢- وقد ظهر اللحن في عهد الرسول ﵇ فقد روي أن رجلًا لحن بحضرته، فقال: "أرشدوا أخاكم فقد ضل". ومر عمر بن الخطاب على نفر يتمرنون على رمي السهام فوجدهم لا يحسنون، فأنبهم، فقالوا له: إنا قوم متعلمين، فأفزعه ذلك وقال: والله لخطؤكم في لسانكم أشد على من خطئكم في رميكم. وروي أن كاتبًا لأبي موسى الأشعري -وكان واليًا لسيدنا عمر على البصرة- كتب رسالة على لسان أبي موسى إلى سيدنا عمر: من أبو موسى الأشعري إلى....، فلما اطلع عمر عليها كتب إلى أبي موسى: عزمت عليك لما ضربت كاتبك سوطًا. ٣- وقد شاع اللحن بين أوساط الناس، وجرى على ألسنة العجم المستعربين فهال ذلك أولي الأمر، وخافوا أن يتسرب إلى القرآن الكريم والحديث الشريف، فأسرع المفكرون والعلماء إلى وضع قواعد يهتدى بها؛ لحفظ اللغة من هذا الخطر الداهم. وقد هداهم تفكيرهم إلى وضع علمي النحو واللغة.
1 / 8
وضع النحو:
١- اختلفت الروايات عن المتقدمين فيمن أشار بوضع النحو، ومن ابتدأ وضعه. وكثر الحديث في ذلك؛ فمن قائل: إن علي بن أبي طالب أول من وضع النحو، وأنه دفع إلى أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة ٦٧ هجرية بصحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام كله اسم وفعل وحرف ... إلخ. وأمره بتكميله. ومن قائل: إن أبا الأسود هو الذي ابتدأ هذا العمل بإشارة عمر ﵁ وقيل بإشارة زياد بن أبيه -وكان أبو الأسود معلم أولاده- وهو والي العراق وقتئذ، وقد لحظ انتشار اللحن. ويرى فريق أن أبا الأسود هو الذي بدأ ذلك بنفسه حين قالت له ابنته: يا أبت ما أحسن السماء! فقال نجومها. فقالت له: لم أرد شيء منها أحسن؟ إنما تعجبت من حسنها. فقال لها: قولي إذن: ما أحسن السماء! ثم دفعه ذلك إلى التفكير في وضع النحو، وابتدأ بباب التعجب.
٢- ومهما قيل، فمن المؤكد -بعد البحث- أن أبا الأسود هو الذي بدأ هذا العمل، سواء كان بإشارة علي، أم عمر، أم زياد، أم بتفكيره هو، وأنه لم يبدأ بما قيل من تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، ولا بوضع باب التعجب أو غيره، فإن التأليف لم يكن معروفًا عند العرب، كما أن كلمة النحو كلمة دقيقة مبتكرة لا تأتي عفوا، والمنطق والعقل يوحيان بالتدرج في مثل هذا العمل المبتكر، والأقرب -كما قيل- أن أبا الأسود بدأ بوضع نقط فوق الحروف؛
1 / 9
لتقوم مقام الشكل الذي نعرفه اليوم، وبعض الضوابط التي تحفظ من الخطأ في كتاب الله، ثم تدرج العمل بعد.
٣- وقد كان أبو الأسود من القراء، لبقا ذكيا، حاضر البديهة، كما كان شاعرًا مفلقا. ولعل الذي هداه إلى ذلك أنه خالط الأعاجم في العراق مدة طويلة، وكانت اللغة السريانية -وهي شقيقة اللغة العربية؛ لأن كلتيهما لغة سامية- منتشرة في شمال العراق، ولها نحو فيه اصطلاحات وتقاسيم، وقد يكون أبو الأسود استفاد من ذلك، هو ومن عاصره وشاركه هذا العمل، ومن أتى بعده ممن عنوا بهذا العلم، ووضعوا أصوله وقواعده.
٤- وقد عاصر أبا الأسود، وأخذ عنه، وتدارس معه مسائل النحو كثيرون من العلماء؛ منهم: نصر بن عاصم الليثي المتوفى سنة ٨٩ هجرية، أول من سبب النحو وفتق فيه القياس؛ حتى نسب بعضهم إليه أول وضعه. وعبد الرحمن بن هرمز، أول من نقل النحو إلى المدينة وتكلم فيه، وتوفي سنة ١١٧ هـ، ودفن بالمدينة. ومنهم: يحيى بن يعمر المتوفى سنة ١٢٩هـ، والذي بسط النحو وعين بعض أبوابه، وكان أظهر عمل هؤلاء أن أثاروا بعض مسائل مختلفة من النحو حول آيات من القرآن الكريم، وأبيات من الشعر العربي.
٥- وقد أخذ عن معاصري أبي الأسود أو تلاميذه كثيرون؛ منهم عبد الله بن إسحاق الحضرمي المتوفى سنة ١١٧هـ، أول من مد القياس وشرح العلل. وأبو عمرو بن العلاء، أوسع الناس علمًا بكلام العرب ولغتها وغريبها، ثم عيسى بن عمرو الثقفي المتوفى سنة ١٤٩هـ، الذي تتلمذ عليه الخليل بن أحمد، وقد جمع ما أثاره أسلافه من المسائل المتفرقة، وقيل إنه ألف كتابين سمى أحدهما "الإكمال" والآخر "الجامع"، وقد قال فيهما الخليل:
بطل النحو جميعا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك "إكمال" وهذا "جامع" ... فهما للناس شمس وقمر
1 / 10
ويقال: إن الجامع هو كتاب سيبويه، أضيف إليه كثير مما تلقاه عن الخليل بن أحمد وبعض أساتذته وعلماء عصره، وكل هؤلاء بصريون. وقد ظهر في زمنهم بالكوفة كثير من علمائها، منهم: معاذ الهراء أستاذ الكسائي، إمام الكوفيين في النحو واللغة. والرؤاسي أستاذ الفراء، وهو أول من ألف في النحو من الكوفيين، وكتابه يسمى "الفيصل".
٦- ثم جاء الخليل بن أحمد المتوفى سنة ١٧٥ هجرية، فعكف على دراسة هذا العلم، وأخذ يخترع ويستنبط الأصول من الفروع، وكان له الفصل الأول في إرساء قواعده ومسائله، ولم يؤلف في ذلك كتابا، وإنما أوحى بعلمه ونتائج بحوثه إلى تلميذه "سيبويه" المتوفى سنة ١٨٠هـ، فجمع ذلك وضم إليه كثيرًا من أقوال علماء عصره، ومن سبقهم، وما سمعه بنفسه عن العرب، ورتبه وبوبه وبسطه على النحو الذي نعرفه الآن، وألف فيه كتابه المعروف، وقد حاز هذا الكتاب ثقة العلماء بعده، وتناولوه بالشرح والإيضاح، وأصبح لفظ "الكتاب" إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى كتاب سيبويه. والواقع أن ما ألف بعده مبني عليه ومستمد منه، ولا يزال المرجع في كثير من مسائل النحو إلى الآن.
1 / 11
مصادر النحو والصرف:
١- اعتمد العلماء الأقدمون فيما جمعوه من المسائل والقواعد النحوية والصرفية على ما جمع من علوم اللغة والأدب؛ تلك العلوم التي كان من أهم مصادرها: القرآن الكريم، والحديث الشريف، والشعر العربي الموثوق بصحته، وعربية قائليه.
٢- كما اعتمدوا على مشافهة العرب والرحلة إليهم، حيث يقيمون في بواديهم النائية، أو الحواضر التي نزحوا إليها. وبذلوا في تتبع النصوص المختلفة المتنوعة جهدًا مضنيًا، وتحملوا كثيرًا من مشاق السفر والرحلة، وخشونة العيش؛ للاختلاط بالعرب. ثم أخذوا يستعرضون الجزئيات المختلفة التي جمعوها، ويضعون لها الكليات، وأعملوا ذهنهم في استخراج القواعد المضبوطة الجامعة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
٣- وبرغم ما أنفقوا من جهد ووقت ومال، وتحملوا من عناء ومشقة، جاءت القواعد التي وضعوها نتيجة استقراء ناقص؛ لأنه من المحال استيعاب جميع ما ورد عن العرب. يضاف إلى هذا: أن القبائل العربية لم تكن في مستوى واحد من الفصاحة، ولا من السلامة من اللحن؛ بسبب اختلاطها بغيرها من الأعاجم، وقرب بعضها من الحضر. ولذلك كان العلماء يتحرزون عند جمع اللغة، ويفضلون بعض القبائل على بعض، وأكثر القبائل العربية التي نقل عنها، وأخذت العربية الصحيحة منها هم: قيس، وتميم، وأسد، وهذيل، وبعض قبائل كنانة، وبعض الطائيين. واستبعدت قبائل: حمير، ولخم، وجذام، وقضاعة، وغسان، وإياد، وثقيف، وبني حنيفة، وعبد قيس؛ وذلك بسبب تسرب الخطأ إليهم، لقربهم من الأعاجم، ومخالطتهم لهم.
٤- وقد حمل ذلك العلماء واضطرهم إلى القياس النحوي في بعض المسائل، فأصبحت القواعد التي وضعت بعد الاستقراء والقياس الصحيح، هي المقياس لعلم النحو والصرف، وأهدر ما عدا ذلك من المصادر.
1 / 12
أين نشأ النحو؟
المذهبان: البصري والكوفي
١- العراق إقليم خصب يقع بين نهري دجلة والفرات، وهو من أقدم بقاع الأرض عمرانًا، وكان يسكنه كثيرون من الأمم والدول ذات العلوم والحضارة؛ كالبابليين، والآشوريين، والكلدانيين، والفرس، وغيرهم، وقد هاجر إليه كثيرون من القبائل العربية؛ منها قبيلتا ربيعة ومضر، ونزح إليه الأدباء والعلماء من سائر الجهات: لهذا كان أسبق البلاد إلى تدوين النحو والصرف، وساعد على ذلك حاجة أهل العراق الأعاجم إلى العناية بهذا العلم لتستقيم لغتهم الأعجمية بخلاف العرب، وقد أنشئت مدينة البصرة في الجنوب الغربي من العراق قريبًا من بادية "نجد" سنة ١٤هـ، كما أنشئت مدينة الكوفة في الشمال منه سنة ١٧هـ بعيدة عن البادية، وكلاهما في زمن الخليفة سيدنا عمر بن الخطاب.
٢- وكان بين أهل البصرة والكوفة تعصب قبلي، انقلب بعد إلى تعصب سياسي، ثم علمي. ولما كانت البصرة قريبة من بادية نجد، وعلى ثلاثة فراسخ من "المربد" -الذي كان في مبدأ أمره سوقًا للإبل، ثم صار متجرا يأتي إليه الناس من كل فج للبيع والشراء، ثم انقلب سوقا للشعر والأدب، والمناظرة بين العلماء- كان النحويون يقصدونها لتلقي الشعر من أفواه العرب، وقد ساعدهم ذلك على تحديد قواعد النحو ووضع رسومها.
٣- وقد هاجر إلى البصرة كثيرون من علماء الممالك المجاورة؛ ليتعلموا النحو على علمائها، وينقلوه إلى بلادهم. وبذلك انتشر المذهب البصري، وشجع عليه خلفاء بني أمية. وتعتبر البصرة أول مدينة عنيت بالنحو واللغة وتدوينها، ووضع القواعد لهما، وقد سبقت غيرها بنحو قرن من الزمان. ويعتبر "سيبويه" وكتابه على رأس المذهب النحوي البصري. ومن أشهر النحويين البصريين غير ما أسلفنا: الأخفش، ويونس بن حبيب، واليزيدي، والجرمي، والمازني، والمبرد، والزجاج، وابن السراج، وابن درستويه، والفارسي، والسيرافي ... وغيرهم. ويقسم العلماء نحاة البصريين إلى عشر طبقات.
٤- أما الكوفة؛ فلبعدها عن البادية قل نزوح الأعراب الذين صحت لهجاتهم إليها، وكانت "الكناسة"١ عندهم تقابل "المربد" في البصرة؛ حيث يجتمع فيها العرب، ويتنافسون في إلقاء الخطب وإنشاد الشعر.. إلخ. ولكن -على الرغم من هذا- لم يكن لها ما كان للمربد من أثر بعيد في اللغة.
_________
١ موضع بالكوفة.
1 / 13
٥- وقد اتخذ الكوفيون لهم مذهبًا خاصا يضاهي مذهب البصريين وينافسه، واختلفوا معهم في كثير من المسائل؛ لأن بعض القواعد التي قعدها البصريون جاءت نتيجة استقراء ناقص؛ فقد كان الكوفيون أكثر رواية للشعر من البصريين. وعلى رأس المذهب الكوفي: أبو جعفر الرؤاسي، وتلميذاه: الكسائي والفراء، واشتهر من علمائهم: هشام بن معاوية الضرير، وابن السكيت، وابن الأعرابي، والطوال، وابن سعدان، وثعلب، وابن كيسان، والأنباري، ونفطويه.. إلخ. وينقسم نحاة الكوفة إلى ست طبقات.
٦- وقد حدثت بين أصحاب المذهبين مناقشات، وخلافات، ومنازعات ومناظرات١، ابتدأت هادئة بين الخليل من البصريين، والرؤاسي من الكوفيين، ثم اشتدت بين سيبويه والكسائي وأتباعهما. وقد كان لهذه العصبية العلمية التي نشأت عن العصبية السياسية أثر عظيم في خدمة العلم، والتسابق في تجليته. واستمر الخلاف إلى أواخر القرن الثالث الهجري، ثم خفت حدة النزاع والجدل، وتقارب المذهبان حين التقى الكوفيون بالبصريين في بغداد بعد قليل.
ثم جاء بعد ذلك من عرض المذهبين ونقدهما، واختار منهما مذهبًا خاصا، وعلى رأس هؤلاء: العالم الثقة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الكوفي المتوفى سنة ٢٩٦هـ. فقد مزج المذهبين وإن كان إلى البصريين أميل.
_________
١- حدثت مناظرة بين سيبويه والكسائي أمام يحيى البرمكي، انتصر فيها الكسائي بالاتفاق مع بعض العرب في المسألة المعروفة بمسألة "العقرب" أو "المسألة الزنبورية"، وأخرى بين الكسائي وبين اليزيدي، انتصر فيها اليزيدي.
1 / 14
منهج المذهبين وسبب الخلاف بينهما:
١- وضع البصريون قواعد عامة مستنبطة من الجزئيات التي تتبعوها في أكثر القبائل المشهورة، التي كانت بمنأى عن المواطن التي سرى فيها اللحن، ورأوا التزام هذه القواعد، والسير عليها، بدون حيدة عنها. وتمسكوا بصواب ما ذهبوا إليه على الرغم من تعدد القبائل واختلافها اختلافًا بينًا في اللغات واللهجات. وشجعهم على ذلك قرب البصرة من البادية، وتمشيًا مع قواعدهم أخذوا يؤولون كل ما خرج عن هذه القواعد، ولو كان مرويا عن الشعراء الموثوق بعربيتهم وبسلامة لغتهم، ويتكلفون في التخريج شططًا ليوافق مذهبهم، وإذا أعجزهم التأويل قالوا: إنه شاذ يحفظ ولا يقاس عليه، أو ضرورة دعت إليها القافية، أو الوزن الشعري وأحيانًا يخطئون بعض العرب المعروفين بصواب القول وصدق العروبة؛ إذا جاء في أقوالهم ما يخالف قواعدهم. وقد نشأ عن ذلك إهدارهم لكثير من الاستعمالات العربية في بعض القبائل، واعتبروه خطأ أو شاذا، مع أنه في الواقع قد يكون غير ذلك، وما هو إلا لغة أو لهجة لهذه القبائل، وأحيانًا يصطنعون أبياتًا من الشعر للتدليل على آرائهم، وتمشيًا مع قواعدهم، وكانوا يرمون من وراء ذلك إلى تنظيم اللغة ولو بإهدار بعضها.
٢- أما الكوفيون فقد عنوا بكل ما سمعوا من شعر عربي، ورأوا احترام جميع ما ورد عن العرب، وأجازوا استعماله ولو لم يجر على تلك القواعد التي وضعها البصريون، وقد احتجوا بالشاهد الواحد، وبالشاهد المجهول قائله، وربما جعلوا من هذه الشواهد الفردية والشواذ أساسًا لقواعد أخرى. قيل إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة، فيجعله أصلًا ويقيس عليه.
وقد كان الكوفيون أكثر رواية للشعر من البصريين، وكانوا يستنبطون بعض القواعد بالقياس النظري من غير حاجة إلى شاهد. أما البصريون فكانوا لا يستجيبون لكل مسموع، ولا يقيسون على الشاذ، ولهذا كانوا أصح قياسًا من الكوفيين. ومن هنا نشأ خلاف بين الفريقين في كثير من الفروع النحوية.
1 / 15
ونستطيع أن نجمل الفروق الأساسية بين المذهبين فيما يأتي:
أ- البصريون حازمون متشددون في قبول ما يروى من الشعر، ولا يعترفون إلا ببعض القبائل الموثوق بشعرها، وقد ذكرناها، ويقل عندهم التجويز.
ب- البصريون صارمون، معتدون بأنفسهم، والثقة بروايتهم، ويخطئون ما عداها من الروايات، مهما كان مصدرها.
جـ- البصريون يؤولون ما يخالف قواعدهم، ولو كان عربيا صحيحًا، ويتكلفون في ذلك عنتًا، وإذا أعجزهم التأويل حكموا بشذوذه.
أما الكوفيون فمتسامحون؛ يقبلون كل ما ورد عن العرب، ويقيسون حتى على البيت الواحد، ويضعون لكل شيء قاعدة ولو كان شاذا.
وقد كان البصريون يتحرجون من الرواية عن علماء الكوفة؛ لأن اتصال هؤلاء بالخلفاء ببغداد، وتزاحمهم على أبوابهم -جعلهم يتزيدون فيما يعجب ويجري على الألسنة. أما الكوفيون فكانوا يأخذون عن البصريين؛ لثقتهم فيما يروونه.
والذي لا شك فيه أن البصريين كانوا أكثر استنباطًا وإنتاجًا، وأوثق رواية من الكوفيين؛ لما ذكرنا من أن الفصحاء من العرب كانوا يردون على البصرة أكثر من الكوفة لقرب الأولى منهم. وقد نضج النحو في البصرة قبل الكوفة بنحو مائة عام. وهذا لا يحول دون صواب رأي الكوفيين في كثير من المسائل.
ونشير هنا إلى أن تشجيع الخلفاء والأوامر من بني العباس للحركة العلمية -وبخاصة اللغة والنحو- كان له أكبر الأثر في الإقبال على تدوين هذا العلم، ووضع أصوله وقواعده. وقد أشرت إلى ما كان يحدث من مناظرات وغيرها.
ويعتبر ما وضعه الخليل بن أحمد معجزة الزمان، وما دونه سيبويه في كتابه، وأكمله العلماء والباحثون في ذلك العصر -أساسًا لكل ما وصل إلينا في
1 / 16
النحو والصرف. وما جد في العصور المتتالية وفي جميع الأمصار- إنما هو شرح وتفصيل وتنظيم وتكميل لهذا التراث العظيم. فجزاهم الله بما قدموا من عمل أحسن الجزاء.
وقد ألف أبو البقاء العكبري المتوفى سنة ٦١٦هـ كتابًا أسماه: "التبيين في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين". كما ألف الإمام الجليل كمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي المتوفى سنة ٥٧٧هـ كتابًا أسماه "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين" وهو كتاب فريد في بابه، ذكر فيه مائة وإحدى وعشرين مسألة.
ولعل من المفيد أن أعرض بعض أمثلة من هذه المسائل التي وقع فيها الخلاف، ليقف الدارس على وجهة نظر كل من الفريقين وما احتج به.
١- العطف على موضع اسم "إن" بالرفع قبل تمام الخبر:
أجازه الكوفيون محتجين بالنقل، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ﴾ بعطف ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ على موضع اسم إن بحسب الأصل قبل تمام الخبر وهو ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ وورد في كلام العرب: إنك وزيد ذاهبان. ذكر ذلك سيبويه في كتابه، والقياس لا يمنع العطف على الموضع قبل تمام الخبر مع "لا" فكذلك "إن" ويمنعه البصريون ويؤولون ما ورد من ذلك:
٢- وقوع الفعل الماضي حالًا:
أجازه الكوفيون محتجين بالنقل والقياس. أما النقل فقوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ فحصرت فعل ماض، وهو موضع الحال من جاءوكم. ويؤيد قراءة: "حَصِرَةً صُدُورُهُمْ" وقول الشاعر أبي صخر الهذلي:
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر
1 / 17
فـ "بَلَّلَهُ" فعل ماض، وهو في موضع الحال، والقياس: أن كل ما جاز أن يكون صفة للنكرة جاز أن يكون حالًا للمعرفة. والفعل الماضي يجوز وقوعه صفة للنكرة، فتقول: مررت برجل قعد، وغلام قام.
ومنعه البصريون، وأولوا ما ورد من أمثاله:
٣- إظهار "أن" المصدرية بعد "لكي":
أجازه الكوفيون، على أن تكون "أن" توكيدًا لكي، محتجين بقول الشاعر:
أردت لكيما أن تطير بقربتي ... فتتركها شنًا ببيداء بلقع
ومنعه البصريون. ومثل "كي" "حتى".
٤- ترخيم المضاف:
أجازه الكوفيون، ويوقعون الترخيم في آخر الاسم المضاف إليه، محتجين بورود ذلك كثيرًا في الفصيح من كلام العرب، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
خذوا حظكم يا آل عكرم واحفظوا ... أواصرنا والرحم بالغيب تذكر
أراد: "يا آل عكرمة" وهو عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، وحذف التاء للترخيم.
ومنعه البصريون؛ بحجة أنه لا توجد فيه شروط الترخيم، وهي: أن يكون الاسم منادى، مفردًا، معرفة ... إلخ.
٥- إضافة اسم إلى آخر يوافقه في المعنى:
أجازه الكوفيون إذا اختلف اللفظان، محتجين بمثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾، ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ فاليقين في المعنى نعت لحق، والنعت في المعنى هو المنعوت، وقد أضيف المنعوت إلى النعت وهما بمعنى واحد. والدار هي الآخرة وقد أضيفت إليها. وقولهم: "صلاة الأولى، ومسجد الجامع، وبقلة الحمقاء" فالأولى في المعنى هي الصلاة، والجامع هو المسجد، والبقلة هي الحمقاء.
1 / 18
ومنعه البصريون؛ بحجة أن الإضافة يراد بها التعريف أو التخصيص، والشيء لا يتعرف بنفسه، وأولوا ما ورد من ذلك، على نحو ما هو مبسوط في كتب النحو.
٦- إضافة النيف إلى العشرة:
أجازه الكوفيون؛ فيقولون: خمسة عشر، واحتجوا بورود ذلك في الشعر العربي. قال الشاعر:
كلف من عنائه وشقوته ... بنت ثماني عشرة من حجته
ولأن النيف اسم مظهر كغيره من الأسماء المظهرة، فلا مانع من إضافة مثلها. ومنعه البصريون؛ لأنهم جعلوا اللفظين اسمًا واحدًا، ولا يضاف بعض الاسم إلى بعضه، وأنكروا البيت.
٧- العطف على الضمير المخفوض:
أجازه الكوفيون، تقول: مررت بك ومحمد، محتجين بوروده كثيرًا؛ في القرآن الكريم، وفي الكلام العربي. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ﴾ بخفض الأرحام على قراءة حمزة؛ عطفًا على الضمير في "به" وقوله: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ بعطف المسجد على الهاء من "به". وقال الشاعر:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب
يخفض الأيام على الكاف في "بك".
ومنعه البصريون؛ بحجة أن الجار مع المجرور كالشيء الواحد، والضمير إذا جر اتصل بالجار، ولهذا لا يكون إلا متصلًا، بخلاف ضمير المرفوع والمنصوب.
1 / 19
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المصنف:
الحمد لله رب العالمين١، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وقائد الغر٢ المحجلين٣ وعلى آله وصحبه أجمعين صلاة وسلاما دائمين بدوام السموات والأرض.
أما بعد حمد الله مستحق الحمد وملهمه٤، ومنشئ الخلق ومعدمه، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأكرمه٥، المنعوت بأحسن الخلق وأعظمه٦؛ محمد نبيه، وخليله وصفيه، وعلى آله وأصحابه وأحزابه وأحبابه. فإن٧ كتاب "الخلاصة
_________
١ الأرجح: أنه اسم جمع، أعرب إعراب الجمع، وليس جمعًا لعالم بفتح اللام كما قال بعضهم؛ لأنه يستلزم أن يكون المفرد أعم من الجمع؛ لأن العالم اسم لما سوى الله، والعالمين خاص بالعقلاء.
٢ جمع أغر من الغرة، وهي بياض في الجبهة، ورجل أغر: شريف كريم الأفعال واضحها.
٣ جمع محجل، وهو من الخيل الذي يرتفع البياض في قوائمه إلى الركبتين التي هي مواضع الأحجال؛ أي: الخلاخل والقيود. وفي هذه العبارة إشارة إلى قول الرسول ﷺ: "أمتي الغر المحجلون"، والمراد الموسومون ببياض مواضع الوضوء؛ من الأيدي والوجه والأقدام، وهو كناية عن النور والوضاءة.
٤ ملقنه لعباده. والإلهام: شيء يلقيه الله في النفس، يبعث الملهم على الفعل أو الترك، وهو نوع من الوحي يخص الله به من يشاء من عباده.
٥ أي: الموصوف من النعت بمعنى الصفة.
٦ الخلق -بضم اللام وسكونها- الدين والسجية والطبيعة، وهو صورة الإنسان الباطنية لنفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها. كما أن الخلق صورته الظاهرة وأفعالها وأوصافها المختصة بها، ويجمع على أخلاق لا غير. وهو يشير إلى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ .
٧ هذا جواب أما، ولذلك قرن بالفاء، أي: فأنا أقول لك إن ...
1 / 21
الألفية في علم العربية"١ نظم الإمام العلامة جمال الدين أبي عبد الله محمد بن مالك الطائي ﵀-٢ كتاب صغر حجمًا، وغزر علمًا٣، غير أنه لإفراط٤
_________
١ المراد هنا: النحو والصرف؛ لأن علم العربية -كما يقول الزمخشري- يطلق على اثني عشر علمًا. ويحد على هذا: بأنه قواعد تعرف بها أحوال الكلمات عند الإفراد والتركيب.
٢ هو إمام النحاة وحافظ اللغة: محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني الشافعي. ولد سنة ٦٠٠هـ بمدينة جيان بالأندلس، فنسب إليها. ورحل أهله إلى دمشق، فنشأ بها، وأخذ العربية عن علمائها وغيرهم، ثم صرف همته إليها فأتقنها حتى حاز فيها قصب السبق، وبلغ الغاية، وأربى على المتقدمين، وأصبح المرجع في غريب اللغة ووحشيها، وكان فوق ذلك إمامًا في القراءات وعللها. أما النحو والصرف فكان فيهما بحرًا لا يجارى، وحبرًا لا يبارى. وكان العلماء يعجبون من أشعار العرب التي يستشهد بها في النحو واللغة من أين جاء بها؟ وكان نظم الشعر عليه سهلًا؛ رجزه، وطويله، وبسيطه. وأكثر ما كان يستشهد بالقرآن، فإن لم يجد فيه شاهدًا عدل إلى الحديث، فإن لم يجد فيه ضالته تحول إلى أشعار العرب. هذا مع شدة تدينه، وصدق لهجته، وفصاحة لفظه وأسلوبه، وكمال عقله، ووقاره، وقد أقام بدمشق يصنف ويدرس. وقد تخرج به كثير من العلماء، وله تصانيف كثيرة تقرب من الثلاثين، وقد قدم القاهرة ثم عاد إلى دمشق، وقيل إنه قرأ على ثابت بن حيان، وسمع من أبي علي الشلوبين، وأخذ عن ابن يعيش الحلبي. وتوفي ابن مالك بدمشق في ١٢ من شعبان سنة ٦٧٢هـ، وقد رثاه العلماء كثيرًا، وقد جاء في مرثية الإمام شرف الدين الحصني:
يا لسان الأعراب يا جامع الإعـ ... ـراب يا مفهمًا لكل مقال
يا فريد الزمان في النظم والنثـ ... ـر وفي نقل مسندات العوالي
كم علوم بثثتها في أناس ... علموا ما بثثت عند الزوال
٣- أي: كثر علمه، والغزارة: الكثرة، وبابه ظرف.
٤- الإفراط: مجاوزة الحد في الأمر. والإيجاز: الاختصار، يقال: أوجز الكلام: قصره وقلله، والمراد شدة الاختصار. أما التفريط فهو: التقصير والإهمال، يقال: فرط في الأمر -قصر فيه وضيعه حتى فات.
1 / 22
الإيجاز، قد كاد يعد من جملة الألغاز.١ وقد أسعفت٢ طالبيه، بمختصر يدانيه،٣ وتوضيح يسايره٤ ويباريه٥، أحل به ألفاظه٦، وأوضح معانيه، وأحلل به تراكيبه٧، وأنقح مبانيه٨، وأعذب به موارده٩، وأعقل به شوارده١٠، ولا أخلي١١ منه مسألة من شاهد١٢ أو تمثيل، وربما أشير فيه إلى خلاف أو نقد أو تعليل. ولم آل جهدًا١٣ في توضيحه وتهذيبه، وربما خالفته في تفصيله وترتيبه.
_________
١ جمع لغز "بالضم وبضمتين -وبالتحريك- وكصرد" وهو ما يعمى به ويصعب فهمه، يقال: ألغز الكلام وألغز فيه: عمى مراده وأضمره على خلاف ما أظهره. والألغوزة: ما يعمى به.
٢ ساعدت وعاونت، يقال: أسعفه بحاجته: قضاها له.
٣ يقاربه في مسائله وبحوثه.
٤ يسير على نهجه ويتبع طريقته.
٥ يسابقه ويفعل مثل فعله.
٦ أبين وأشرح مفرداته.
٧ أي: أفصلها وأوضحها.
٨ أهذب أصول موضوعاته. ومبنى الكتاب: ما تبنى عليه مسائله.
٩ الموارد: المناهل، واحدها مورد. والعذب: الماء الطيب، والمراد: أيسر مسائله، حتى تطيب وتحلو لدى طلابها.
١٠ عقل البعير -من باب ضرب- ثنى وظيفه "مستدق ساقه" مع ذراعه وشدهما بالحبل؛ وهو العقال. والشارد: النافر، والمراد: أجمع مسائله المبعثرة، وأقيد المطلقة منها بأدلتها المحددة.
١١ لا أترك.
١٢ أي: دليل من كلام عربي صحيح لإثبات القاعدة، والمثال: جزئي يذكر للإيضاح.
١٣ لم أقصر في طاقتي ولم أدخر وسعًا، يقال: ألا -من باب عدا- قصر. والألو: التقصير. والجهد -بفتح الجيم وضمها- الطاقة والوسع.
1 / 23