الموضوعات الشعرية
الموضوعات
أناشيد وأغاني
قوميات
تأملات
ربيعيات
متفرقات
رثاء
الموضوعات الشعرية
الموضوعات
Unknown page
أناشيد وأغاني
قوميات
تأملات
ربيعيات
متفرقات
رثاء
ديوان عابر سبيل
ديوان عابر سبيل
تأليف
عباس محمود العقاد
Unknown page
الموضوعات الشعرية
كلمة: «أنا حاضرة» إذا كتبتها معشوقة إلى عاشق، حملت إليه من الفرحة والشوق، وأشاعت في نفسه من الأمل واللذة ما تضيق عنه أشعار العبقريين ورسائل البلغاء، وهي تعد من أتفه الجمل، التي يتألف منها الكلام المركب المفيد، وليس في وسع تلميذ يتدرب على تأليف الجمل من مبتدأ وخبر أن يأتي بأتفه منها في الكلام.
وقد يدخل القادم الطارئ إلى مجلس، فيلقي فيه بكلمتين اثنتين هما: «فلان يحترق»، ويكون في المجلس أبو فلان هذا وصديق له، وإنسان لا يعرفه، وعدو من أعدائه، وآخرون يعرفونه بالقالة الحسنة، وآخرون يعرفونه بالقالة السيئة؛ ثم تنظر إلى صدى الكلمتين في نفوس أولئك الجلساء؛ فإذا هو مختلف أشد اختلاف: هذا يثب معولا، وهذا يجري مهرولا، وذلك يسمع ويكاد لا يشعر بشيء، وإلى جانبه من يسمع ويبتسم، ومعهم من يأسفون وهم يسمعون، ومعهم أيضا من لا يأسفون وكأنهم لا يسمعون. وإنما اختلف شعورهم بفلان هذا الذي يحترق؛ فاختلف معنى الكلمتين، وأثر هذا المعنى حسبما اختلف الشعور.
والجائع السليم يزدرد الرغيف القفار، يحس في أكله من اللذة والاشتهاء ما لا يحسه من يجلس إلى المائدة الفاخرة وهو متخوم أو ممعود؛ وإنما اختلفت الرغبة، واختلف الاشتهاء، فاختلف الذوق والشعور.
إن إحساسنا بشيء من الأشياء هو الذي يخلق فيه اللذة، ويبث فيه الروح، ويجعله معنى «شعريا» تهتز له النفس، أو معنى زريا تصدف عنه الأنظار، وتعرض عنه الأسماع، وكل شيء فيه شعر إذا كانت فينا حياة، أو كان فينا نحوه شعور.
فليست الرياض وحدها ولا البحار ولا الكواكب هي موضوعات الشعر الصالحة لتنبيه القريحة واستجاشة الخيال، وإنما النفس التي لا تستخرج الشعر إلا من هذه الموضوعات، كالجسم الذي لا يستخرج الغذاء إلا من الطعام المتخير المستحضر، أو كالمعدم الذي يظن أن المترفين لا يأكلون إلا العسل والباقلاء!
كل ما نخلع عليه من إحساسنا، ونفيض عليه من خيالنا، ونتخلله بوعينا، ونبث فيه من هواجسنا وأحلامنا ومخاوفنا - هو شعر وموضوع للشعر؛ لأنه حياة وموضوع للحياة.
وإن التصور لهو خير معوان للإحساس وشاحذ للرغبة أو للنفور.
فإن الأم التي تنظر إلى طفلها الوليد، ثم تقضي عشرين سنة وهي تتصوره عريسا سعيدا، لا تفرح به يوم عرسه، كما تفرح بتصوره والرجاء في بقائه طوال تلك السنين، فإنما من نسج التصور نخلق الحلل النفيسة التي نضيفها على آمال الغيب ومشاهد العيان.
فلنجمع لدينا الرغبة والتصور، نجمع لدينا زادا من الشعر لا ينفد وموضوعات للشعر تشتمل على كل ما تراه العيون وتمسه الأذواق، ولنتوجه بالحواس الراغبة إلى ما نشاء، نستمرئ الشعور به والتعبير عنه، كما نستمرئ المحاسن المشهورة والمناظر المأثورة؛ لأن المحاسن نفسها لن تهزنا إليها، ولن تحل عقدة من ألسنتا؛ حتى يزينها لنا الحس الناشط والخيال المتوفز، وإن أجمل وجه ليمر بنا في ساعة الجمود والوجوم كما تمر بنا طلعة الخادم العجوز التي نراها صباح مساء. •••
Unknown page
وعلى هذا الوجه يرى «عابر السبيل» شعرا في كل مكان إذا أراد: يراه في البيت الذي يسكنه، وفي الطريق الذي يعبره كل يوم، وفي الدكاكين المعروضة، وفي السيارة التي تحسب من أدوات المعيشة اليومية، ولا تحسب من دواعي الفن والتخيل؛ لأنها كلها تمتزج بالحياة الإنسانية، وكل ما يمتزج بالحياة الإنسانية فهو ممتزج بالشعور، صالح للتعبير، واجد عند التعبير عنه صدى مجيبا في خواطر الناس.
وعندي أننا في حاجة - نحن أبناء العصر الحاضر - إلى هذا التوجيه؛ لإنقاذ النفس الإنسانية لا لإنقاذ الملكة الفنية وحدها، فإننا إذا تعودنا العناية بالأشياء؛ وجدنا فيها ما يستحق العناية، وينفض عن النفس تلك التفاهة، التي غلبت على الحياة وعلى الشعر والفن في هذه الأيام الحديثة.
ومن الواضح أن التفاهة إنما تغلب على النفس وعلى الشعر لسببين: أحدهما: أن أبناء هذا العصر - ولا سيما في أوربا - فقدوا الإيمان بالمثل العليا والعقائد الراسخة والفضائل الروحية، وفترت نفوسهم من هذه الناحية؛ فلا يصغون إلى الشاعر الذي يتغنى لهم بهذه المعاني المهجورة، ولا يظنون أن هناك أحدا يصدقها أو يغتر بدعواها، ومن حدثهم في أغراضها التفتوا إليه ساخرين مستريبين، كمن يلتفت إلى محتال يحاول أن يمد يديه إلى كيس نقوده، وإن كثيرا من الشعراء والكتاب ليصطنعون «التفاهة» اصطناعا؛ ليدفعوا عنهم ريبة الاحتيال، ويظهروا للناس أنهم أفلتوا من أوهاق هذه الخديعة.
والسبب الآخر الذي وسم الشعر الأوربي الحديث بسمة «التفاهة» هو «آداب الصالونات» الشائعة، واعتبار الجمهرة الغالبة من الشعراء والكتاب أن العلاقة بين الشاعر وقارئه كالعلاقة بين جلساء «الصالون» أو جلساء الفراغ، الذين لا يتحدث الواحد منهم إلى صاحبه إلا فيما لا يهم، ولا يثير الخاطر ولا ينفذ إلى ما وراء الظواهر؛ فلا تكون العلاقة بين جلساء الصالون علاقة معلم وتلميذ، أو علاقة صفيين يتكاشفان بلواعج الضمير وهموم السريرة، ولا يعد من الذوق عندهم أن يخرج الإنسان من الثرثرة العامة إلى الدخائل الخاصة والشواغل المطوية.
ولقد كان التهجم العصري خليقا أن يقضي على آداب الصالونات، كما يقضي «السبورتسمان» على «الجنتلمان»، لولا أننا في عصر تفككت فيه روابط المجتمع، وضعفت الأواصر الإنسانية التي قدستها الأمم الماضية زمنا طويلا؛ فجاء التهجم العصري مقرونا بالأنانية، التي لا يشغلها شاغل من الدنيا غير: إشباع اللذة، وقضاء اللحظة العابرة، والإعراض عما وراء ذلك من الأحاديث والتعلات، فلا فرق إذن بين أحلاس «الصالونات» الذين يتكلمون فيما لا يهم؛ مجاراة للعرف والكياسة، وبين المتهجمين العصريين الذين يتكلمون فيما لا يهم؛ لأنهم لا يهتمون، ولا يحبون أن يهتموا؛ والتفاهة من ثم غالبة على هؤلاء وهؤلاء.
فإذا تعودنا أن نشعر بما حولنا حق الشعور، وأن نخلع على اليوم الحاضر ما كنا نخلعه على الزمن الماضي من سرابيل الجمال والخيال؛ استطعنا أن نقشع عن أبصارنا غشاوة الماضي، دون أن نجعل التفاهة نتيجة لازمة لانقشاع تلك الغشاوة.
فإن كنا لا نصدق بواق الواق، فلنصدق بالبيوت، وإن كنا لا نصدق بالأبطال، فلنصدق بالرجال، وإن كنا لا نصدق بالحب النادر، فلنصدق بالحب الشائع، وإن كنا لا نحلم فلنشعر، أو كنا لا نجعل الحلم واقعا، فلنجعل الواقع حلما، ونحن غير مخدوعين ولا سائمين.
لماذا يكون الحاضر وقفا على خرافات الماضي أو على أحلامه وأمانيه؟ إن زهرة هذا الربيع لا تنضر؛ لأن زهرة نضرت قبل ألف عام، وإن الإنسان ليستطيع أن يحيا اليوم وأن يشعر بالدنيا؛ لأنه تحت الشمس وفوق الأرض وبين الناس، وإن كان لا يحب الدنيا للمزايا الصحيحة أو المكذوبة التي أحبها من أجلها أسلافه وسابقوه.
تلك رسالة هذا الديوان الجديد «عابر سبيل»، وهو اسم يدل على مرماه، ولست أقول إنه أدى هذه الرسالة، ولكني أرجو أن يقنع القراء بأنها رسالة قابلة للأداء.
عباس محمود العقاد
Unknown page
الموضوعات
بيت يتكلم
كل بيت من البيوت التي تعاقب عليها السكان لو ألقيت عليه طلسم الخيال، وأمرته بالكلام فتكلم؛ لانطلقت منه أسرار وأشباح يزدحم بها فضاء المكان، ولسمعت عجبا لا تسمع الآذن أعجب منه، وليس الذي يتحدث به «البيت» في القصيدة التالية إلا قليلا من كثير:
جميع الناس سكاني
فهل تدرون عنواني؟
وما للناس من سر
عدا آذان حيطاني
حديثي عجب فيه
خفايا الإنس والجان
فكم قضيت أيامي
Unknown page
بأفراح وأحزان!
وكم آويت من بر
وكم آويت من جان!
فإن أرضاكم سري
فهاكم بعض إعلاني •••
بني الإنسان لن أحف
ل في دهري بإنسان
ألم أعرفكم طرا
فلم أسعد بعرفاني؟
أتاني أول السكن
Unknown page
1
وما استوفيت بنياني
وما أرهفت آذانا
ولم آنس بقطان
وأصغيت على مهل
فطاشت كل آذاني
هما زوجان، أو شيطا
نة لاذت بشيطان
وقد عاشا وفيين
بتقدير وحسبان
Unknown page
وراحا - هكذا يحكو
ن - في روح وريحان
وما أبصرت من هذا
ولا من تلك في آن
سوى خوانة خرقا
ء تفري عرض خوان
إذا ما ضحكا يوما
على غش وبهتان
حسدت البيد والأطلا
ل في غيظي وكتماني
Unknown page
وأشفقت من النقم
ة أن تهتز أركاني •••
وجاء الساكن الثاني
وبئس الساكن الثاني
يراه الناس ذا مال
وأفراس وغيطان
وقد شوهني بخلا
وأعراني وأعياني
وقد صيرني سجنا
ومنه كان سجاني
Unknown page
فلما طال بي عهدا
ولم أسعد بهجران
وددت لو ان لي في كل
جحر ألف ثعبان
بديلا منه أرضاه
وأحبوه بغفراني
وأنفث سمها أو يت
قي شري ويخشاني
إلى أن آده
2
Unknown page
أجري
ولم يظفر بنقصان
فأخلاني ولن أنسى
سروري يوم أخلاني •••
وكان الساكن الثال
ث ذا عز وسلطان
فما ارتبت بأن الع
ز والذلة سيان
وما ألفيته إلا
لئيما جد غفلان
Unknown page
ضعيفا يستر الضعف
بطغيان وعدوان
وكم أذعن للطاغي
عليه شر إذعان
إذا ما لقي الناس
بكبر منه طنان
فما أصغر ما ألقا
ه منه بين جدراني •••
وأما رابع القوم
فذو علم وتبيان
Unknown page
حشا بالورق الياب
س والأخضر حيشاني
فما لي موضع في الأر
ض أو من فوق عمدان
وما لي مطبخ أو مخ
دع أو بهو ضيفان
ولا زاوية إلا
وفيها الكتب تلقاني
أبى للنفس دعواها
ولم يسمع لجثمان
Unknown page
فلا سهرة أحباب
ولا جلسة ندمان
فما أجهله بالخل
ق ذاك العالم العاني!
أبين الناس يحتاج
إلى علم وبرهان؟
وهم عميان ظلماء
سروا في إثر عميان؟
كثير لك يا إنسا
ن في دنياك عينان! •••
Unknown page
وأما الخامس الجاني
فناهيك بشهوان
فما زودني إلا
بأثداء وأعكان
وهتاف بألحان
وسمار على الحان
إذا أمسيت مساني
بأشكال وألوان
على الأبواب ما يرضي
ك من حسن وإحسان
Unknown page
ومن صون لأسماع
ومن غض لأجفان
فلا تنظرهم ثم
ة وانظر بين أحضاني
فيا لله كم في الأر
ض من غي وغيان
وكم في القوم من مخدو
ع آباء وإخوان
وأزواج وأصهار
وخلان وأخدان
Unknown page
لو اني قلت ما أدري
لهدوا كل أركاني
فنعم الصمت والحكم
ة يا صخري وصواني! •••
وكم صاحبت من أصحا
ب آداب وأديان
تجافوا وصمة العاصي
وعافوا شهوة الزاني
وباتوا بين قربان
وترتيل لقرآن
Unknown page
ولم يأسوا من الدنيا
على غبن وحرمان
إذا ما شرفتني زم
رة منهم بصحبان
حسبت الأرض تجفوني
فأنساها وتنساني
وقالوا الجان لا تقر
ب من مجلس فرقان
فقد ألفيت بعض الإن
س في العنصر كالجان
Unknown page
ولكن شر ما آوي
ت في لؤم وعصيان
رياء الخائن العادي
على أهل وأوطان
تلقاهم بتمويه
ولاقوه بإيمان
وفي حجرة أسراري
وفي ظلمة أركاني
يبيع الحوزة الكبرى
بربع أو ببستان
Unknown page
ويعطي الحق والذم
ة والفتيا بأثمان
ويفني أمة تحيي
ه وهو الزائل الفاني
ويمشي بين قتلاه
رفيع الذكر والشان •••
ولم أحمد من الضيفا
ن ضيفا مثل فنان
تولاني بإبداع
من الفن وإتقان
Unknown page