Dirasat Fi Madhahib Adabiyya Wa Ijtimaciyya
دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية
Genres
لقد كان الشعب يستمع إلى ملاحم أبي زيد وهو موفور الطعام ناعم بالرخاء والسلام، وكان يستمع إليها وهو مهدد بالمجاعة والوباء، ولم يكن من هم الحاكمين أن يعلموا المحكومين البطولة ويعرضوا أمامهم قدوة المجازفة والهجوم على الموت والخطر، ولعلهم قد مضى عليهم زمن وهم لا يعلمون من هو أبو زيد ولا يسمعون باسمه، بل لعلهم منعوا الجلوس على القهوات التي تنشد فيها تلك الملاحم مرات بعد مرات منعا للضوضاء والشجار، وهم لا يدرون من أسبابه الكثير أو القليل.
ثم بطلت ملاحم أبي زيد وخلفتها بطولة رعاة البقر في البراري الأمريكية، أو خلفتها بطولة العصابات في المدن الكبرى، ولم تكن لرعاة البقر ولا للعصابات دولة تروج لها الدعوة في وادي النيل، ولم يكن إقبال الشعب على هذه الملاحم بعد تلك الملاحم؛ لأنه «تأمرك» بعد أن تعرب، وإنما حلت دار الصور المتحركة محل القهوة البلدية وبقي حب البطولة والغزل كما كان؛ لأنه حياة يفهمها الحي كائنا ما كان القائلون والممثلون.
وإذا انحدرنا من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان والنبات، فما هو العنوان الاجتماعي الذي يندرج تحت زهر الفول وتغريد العصفور؟
إننا نتخيل في هذه اللحظة رطانا من أصحاب البرجوازيات والاسترخائيات والانتهازيات قد شال بأنفه وصعر خده وامتلأ عجبا من هؤلاء الناس الذي يسألون أمثال هذه الأسئلة الفضولية، ويخفى عليهم أن الأمر متعلق باللقاح والتناسل ووفرة الغذاء في الربيع!
وأفادهم الله وإن لم يفيدونا شيئا.
ولكنهم مسئولون بعد ذلك: لماذا يغني العصفور يا ترى إذا شبع؟ أليس الشبع هو المقصود وفيه الكفاية؟ ولماذا يغني إذا تغزل؟ أليست الغريزة الجنسية هناك؟ ولماذا تضيع الطبيعة وقتها في تزويق أوراق الفول؟ أليس هذا ترفا برجوازيا استرخائيا مظهريا إلى آخر هذه المنسوبات؟
لقد كان أجهل جاهل من المستمعين إلى ملاحم الهلالي والزير سالم إنسانا أكرم من بعض هؤلاء التقدميين الذين يرسمون للأدب طريقه وللحياة طريقها، وهم عالة على الأدب وعلى الحياة.
وسيعاد تعريف الأدب على ألف صورة! مسألة اجتماعية تارة ومسألة اقتصادية تارة ومسألة حركية أو سكونية تارة أو تارات، ولكنه لن يمتنع بذلك عن موضوع ولن ينقطع لموضوع، ولن يكون أدبا ما لم يكن نصيب من شعور الإنسان، وبهذه المثابة يحدثنا عن القطب الشمالي فيحدثنا عن قريب، ويروي لنا خبر البطولة فيروي لنا خبرا يهز نفس الفقير والغني والصغير والكبير، ويذكر لنا الزهرية فلا يقول له قائل حي: دعها واذكر قدرة الفول المدمس، ما دام إنسانا يرجع إلى الطبيعة إن لم يرجع إلى نفسه، فيلمس منبت الفول وزهرته من تربة الحياة.
الفصل الرابع
الواقعية في الأدب
Unknown page