Dirāsāt fī al-madhāhib al-adabiyya waʾl-ijtimāʿiyya
دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية
Genres
ويقع الحجر على الفنون الجميلة من الشعوب المحكومة قبل أن تستهدف له من الحاكم المسيطر عليها.
فإذا جمد الشعور، وفترت النفوس، وقصرت الهمم، وضاق أفق الخيال، فهي التي تحجر على الفن الجميل من غير حاجة إلى سلطان أو تشريع، ويأتي عمل السلطان والتشريع في الحجر عليها تابعا لعمل الرعية، وهو في الواقع أحرى أن يسمى عجزا عن العمل وانصرافا إلى الدعة والجمود.
فالفن المصري كان في عهد العظمة الفرعونية لا يلقى عنتا من الفراعنة العظام وهم في ذلك العهد أرباب يعبدون.
فلما انقضى عهد العظمة وأعقبته عهود الضعف والخمول جاءته القيود من أصحابه، وجاء الحجر على صناعة التماثيل من المثالين، وكان المثالون عنوانا للشعب كله في جمود شعوره وعجزه عن تذوق الفن الجميل على إطلاقه، وهذه هي الفترة التي أصبح فيها التمثال البشري مجموعة من المقاييس المقررة بين حجم الرأس وأحجام سائر الأعضاء، وبين طول الذراع وطول الساق، أو طول الكف وطول القدم، على نحو لا يختلف بين إنسان وإنسان، وإن رأى المثال بعينه أن التمثال يخالف صاحبه في هذه المقاييس.
ويحدث في صناعة المعزف ما يحدث في صناعة الريشة والإزميل، فيسري الجمود إلى ألحان من جمود السامعين والمستمعين، ولا يسري إليها كثير من جمود رجل السياسة أو جمود رجل الدين، وينتهي الأمر بالحس الجامد في صناعة الألحان إلى مقاييس محفوظة كمقاييس المثالين التي يفرضونها على نسب الأجسام والأعضاء، فلا يأتي اللحن معبرا عن شعور لأنه لا شعور، ولكنه يأتي على حسب المقاييس المفروضة لكل نغمة ولكل مقام، أو يأتي آليا يخرج من آلات، ولا يأتي إنسانيا يخرج من قلوب ونفوس.
ويخيل إلينا أننا وصلنا في هذا العصر إلى حالة لا نتكلم فيها عن الحرية ولا عن الحجر على الحرية فيما يرجع إلى الفنون الجميلة، ولكننا نتكلم عن «البطر» في استخدام الحرية الفنية، فإن الشبع من الحرية قد وصل إلى حد «البطر» الذي يخشى منه على جمال الفن كما كان يخشى عليه قديما من الحجر والتقيد أو من الجمود والخمول، وكلا الطرفين يلتقيان، كما يقال.
فمن البطر في الحرية تلك المذاهب السخيفة التي تبتلي فنون الكتابة والتصوير والغناء في هذا الزمن بنكسة من نكسات السقم والاعوجاج لا موجب لها، إلا أن الفنان قد ملك الحرية كلها فظن أنه يفعل ما يشاء.
كان الأديب يستخدم الرمز في الخرافات والأمثال والحكم التي هي من قبيل حكم لقمان؛ لأنه كان في خوف على نفسه من ذوي السلطان، فأصبح لدينا في العصر الحديث من يتعسفون الرموز لغير حاجة، ثم تسألهم عن المعنى الذي أرادوه فإذا هو «أولا» معنى لا يؤديه ذلك التعبير، وإذا هو بعد ذلك معنى يقال في لفظ صريح وعبارة واضحة، لا يلجئ أحدا إلى اللف وراء الرموز.
وكان الهمجي يرسم الإنسان أو الحيوان في صورة شائهة؛ لأنه لا يحسن الرسم ولا يعرف تمثيل المنظور في الظل والنور، فأصبح لدينا في العصر الحديث من يشوهون أشكال الإنسان والحيوان ويرسمون رجلا أو امرأة، فلا يعرف أحد - ولو كان من المصورين - من هو ذلك الرجل ومن هي تلك المرأة ... وتسألهم فيقولون لك: إنه مذهب المستقبليين أو مذهب فوق الواقعيين، وإنهم ينقلون عن الوعي الباطن الذي يتشدقون به ولا يعرفونه، ولا يعرفون أهو وعي باطن الراسم أو وعي باطن المرسوم، ويتمادون في ذلك مدرسة بعد مدرسة، وفنانا يسابق فنانا في الإيهام والتشويه، كأنما التصوير فن من فنون التنجيم، أو كأنما الوعي الباطن قد ألغى الحس الظاهر، أو كأنما الوعي الباطن مخترع حديث لم يصحب الإنسان منذ كان، أو كأنما المصور أقدم من أصحاب الصناعات في هذا المضمار، وهو إن لم يحسن النظر بعينه إلى الأشكال والظلال فليس له حجة في ادعاء ملكة غير هذه الملكة بحق صناعة التصوير.
هذا هو دور البطر، وهو يصيب جمال الفن كما يصيبه فقد الحرية، ولكننا نعود فنقول: إن الحرية الفنية أقوى من القيود وأقوى من البطر، وهي التي يصح فيها أن نستعيد كلمة سليمان الحكيم فنقول: إنها هي أقوى من الموت نفسه؛ لأن النفس البشرية في سبيل حريتها تقتحم سدود الموت، ثم تقهر الموت بالخلود في عالم الفنون.
Unknown page