Dirāsāt fī al-madhāhib al-adabiyya waʾl-ijtimāʿiyya
دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية
Genres
ولقد وضح منذ سنوات أن دوام فاروق على العرش أمر مشكوك فيه، ولكنه كان شكا يقترن ببعض الأمل في الصلاح وبعض الحيرة في المصير، ثم أخذ هذا الأمل ينقطع شيئا فشيئا وأصبح السخط في القلوب غالبا على كل حيرة في العقول، حتى إذا كانت الأسابيع الأخيرة من عهده المشئوم جرى ذكر الكوارث التي تتعاقب على الأمة في مجلس يضم أكثر من عشرين مصريا بين أديب وصحفي وأستاذ وطالب، فقال قائل: وما العمل؟ ... قلت: إنها الثورة لا محيص لنا منها، وليكن ما يكون! والحمد لله ... جاءت الثورة ولم يمض شهران.
وجاءت سليمة لم يسفك فيها دم ولم يضطرب فيها حبل الأمور، وقد كان الخلاص من عهد فاروق ضرورة لا تستكثر عليها أن تقدم الأمة في سبيلها على خسارة في الأرواح والأموال، واضطراب الأمور شهورا أو أكثر من شهور، فلما تكفل الجيش للأمة بالثورة التي كانت مطلوبة منها عوفيت من جرائرها وأهوالها وانتظمت الأمور في سياقها، وانجلى ملك مكروه من عرشه بأيسر من جلاء عمدة في قرية صغيرة، ينصره أناس ويخذله آخرون.
وبحق أعلن الجيش أنه يحارب فساد فاروق، ولا يقصر حربه على شخص فاروق.
وبحق أعلن كذلك أنه فساد في نظام الإقطاع كله، فلا يتأتى القضاء عليه إذا انقضى فاروق وترك وراءه ألوفا من الفواريق الصغار.
وقبل أن يسأل السائل: وما للجيوش ولهذه الشئون؟ عليه أن يسأل: كيف كان الخلاص لو لم تخلصنا حركة الجيش من فاروق؟
إن فاروقا قد نزل عن العرش وهو في الثانية والثلاثين من عمره، فلو أنه بقي على العرش إلى نهاية أجله فلا يعلم إلا الله كم سنة تتعاقب على مصر وهي تنحدر من هاوية إلى هاوية، وتتقهقر من نكسة إلى نكسة، وتتهافت من خراب على خراب، وتتلطخ بوصمة بعد وصمة من وصمات ذلك الفساد الذي جعلها مضغة في أفواه العالمين، وأسقط الثقة بها في حساب العروض والأعراض.
أما إذا قدر له أن يخلع قبل نهاية أجله، فمن المستبعد جدا أن يتفق ملوك الإقطاع الصغار على خلع ملك الإقطاع الكبير، وإنما يجيء خلعه بقوة أجنبية، تعصف باستقلال البلد أو بثورة شيوعية تعصف بكل خير فيه وتسلمه إلى الفوضى التي لا يدري أحد متى تثوب إلى قرار.
فإذا كانت ثورة الجيش قد عصمت مصر من إحدى هذه العواقب وكلها شر لا خير، فمن حقه - بل من واجبه - أن يدفع غائلة النكسة عن هذا الوطن فلا يرجع إلى الهاوية التي لم يكد يخرج منها، ولن تؤمن هذه النكسة مع بقاء نظام الإقطاع على شره الذي عهدناه، ولو عقل الإقطاعيون لسبقوا غيرهم إلى حمد الله على هذه النتيجة، فإنها حماية لهم في آخر المطاف.
ومن التوفيقات الإلهية أن يتولى قيادة الجيش في هذه الثورة رجل من أصلح القادة لحرب الإقطاع، رجل لو قيل فيه إنه محصن الضمير ب «مصل نفساني» مضاد لآفات الإقطاع لما اختلف تعبير المجاز وتعبير الحقيقة في وصفه، فإن آفات الإقطاع جميعا تتلخص في الولع بالمظاهر والاستكثار من جمع المال بغير حاجة إليه، وكل من عرفوا ذلك القائد عن كثب، يعرفون عنه طبيعة النفور من المظاهر والميل إلى الاعتكاف والزهد في المال.
ومن التوفيقات الإلهية أيضا أن يبتلى جشع فاروق بقناعة ذلك القائد الملهم، وأن يدخر القدر لثورة الجيش في حرب الإقطاع رجلا من أصلح الناس أن يكون قدوة لمن يحاربون الإقطاع، ويعتصمون بنزاهة اليد والضمير من آفات الإقطاعيين وفتن الإقطاع.
Unknown page