Dirasat Falsafiyya Islami
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Genres
بداية فلسفة جديدة للتاريخ تبدأ من ريح الشرق، واكتشاف الدوائر الحضارية وقانون لتطورها أشمل من البيئة الأوروبية، وإعادة النظر في وضع الشعوب الشرقية كبدايات للتاريخ (هردر، كانط). وكما بدأت الحضارات من الشرق وانتقلت إلى الغرب، فقد تعود إلى الشرق من جديد. (9)
إنشاء «الاستغراب» وتحويل الحضارة الأوروبية إلى موضوع للدراسة. وسيكون هذا العلم الجديد لدراسة هذه الحضارة: بداية ونهاية، نشأة وتطورا، بناء ومسارا كما فعلت الحضارة الأوروبية مع غيرها عندما حولتها إلى مواضيع للدراسة ولم تسلم من التحيز والمحاباة. (10)
انتهاء الاستشراق، وتحول حضارات الشرق من موضوع إلى ذات، وتصحيح الأحكام التي ألقاها الوعي الأوروبي وهو في عنفوانه على حضارات الشرق. فالاستشراق يكشف عن طبيعة العقلية الأوروبية ونظرتها إلى الآخر أكثر مما يكشف عن الموضوع المدروس، فهو موضوع دراسة وليس دراسة موضوع. (11)
تكوين الباحثين الوطنيين الذين يدرسون حضاراتهم الخاصة من منظور وطني، وحضارات الغير بطريقة أكثر حيادا وإنصافا مما فعل الغرب مع غيره. فتنشأ بالتالي العلوم الوطنية وتتكون الثقافة الوطنية، ويتأسس التاريخ الوطني، وينتهي الفصام في الثقافة والسياسة بين العلم والوطن، بين الباحث والمواطن.
3
سادسا: الموقف من الواقع
إن الموقف من التراث القديم والموقف من التراث الغربي كليهما مدخلان حضاريان يعبران عن موقفنا الحضاري اليوم الذي هو مصب لتراثين قديم ومعاصر. إنهما في حقيقة الأمر مصدر واحد من مصادر المعرفة وهو النقل، بصرف النظر عن مصدره: النقل من الماضي أو من الحاضر، من الأنا أو من الغير. والحقيقة أن الواقع لم يكن غائبا في الموقفين الحضاريين السابقين؛ فالموقف من التراث القديم، في أحد جوانبه، هو رد التراث إلى الواقع الأول الذي منه نشأ والذي له صيغ خاصة به، ثم عرض التراث على الواقع الحالي. فما اتفق مع مصالحه بقي وتطور، وما نافى هذه المصالح تم إسقاطه ونقده وتلاشيه. والموقف من الغرب أيضا هو في أحد معانيه رد التراث الغربي إلى بيئته المحلية وظروفه التاريخية التي نشأ منها، ومعرفة أي مرحلة أكثر اتفاقا وأجلب نفعا لنا في المرحلة الحالية التي نمر بها، وأيها أبعد عنا وأكثر ضررا. فالواقع حاضر في قلب الحضارة: منه تنشأ فكرا، وإليه تعود أثرا.
ولا يمكن فهم التراثين المحلي والغربي إلا بفهم الواقع الحالي أولا والذي على أساسه سيتم إعادة بناء الأول واختيار الثاني. ولطالما كثر الحديث عن ربط الجامعة بالواقع، والثقافة بالواقع، والعلم بالواقع، دون أن يتجاوز الحديث ألفاظ العبارات إلى معانيها، ودون أن يتجاوز الحديث المعاني إلى تحقيقها كمشاريع فعلية للأبحاث والدراسات. وبدون هذا البعد الثالث يظل الموقفان الأولان مجرد معلومات من كتب صفراء أو بيضاء لا صلة لها بواقع قديم أو جديد، ولا تثير شيئا في ذهن المستمع أو القارئ المشدود إلى قضايا الواقع والمتأزم بأوضاعه. فيظل العلم في جانب وحياة الناس في جانب آخر. لا بد إذن من إحصاء دقيق لمشاكل الواقع ومتطلباته وحاجاته التي يمكن أن تكون مقياسا يعاد وفقه بناء التراث القديم واختيار التراث الغربي أو تنظير مباشر له ما دام التراثان السابقان: تراث الأنا وتراث الآخر مجرد وسائل للخلق، وتعلم للإبداع. ولا يكفي في هذا الحماس لها أو الخطابة فيها، بل لا بد من عرضها عرضا دقيقا وتحليلها تحليلا كميا بالاعتماد على مناهج الإحصاء وبلغة الأرقام حتى يمكن للفكر بعد ذلك أن يصف كيفياتها. وقد تبدو هذه العملية خارج نطاق الفلسفة وهي في حقيقة الأمر أس الفلسفة وبواعثها ومقاصدها إذا ما حاولنا الذهاب إلى ما وراء النظريات، ويمكن عد هذه المكونات للواقع وإحصاء متطلباته على النحو الآتي: (1)
تحرير الأرض من الاحتلال والغزو. وهي القضية الأولى في واقعنا القومي نفكر فيها ليل نهار، ونحاول الوقوف أمام هذا التيار الجارف المتجه لاحتلال مزيد من الأرض وغزو عديد من الأوطان. هذه هي القضية التي تتناولها أجهزة الأعلام وتدافع أنظمة الحكم من أجلها عن كراسي الحكم، وتقاوم في سبيلها أحزاب المعارضة. وهذه القضية هي التي تملأ نفوس الجماهير مرارة وحسرة وغما. وتدفع البعض إلى الانتحار أو الانهيار أو الموت كمدا، وهي ليست غريبة على الفلسفة سواء في تراثنا القديم أو في التراث الغربي المعاصر. فالله في القرآن «إله السموات والأرض»، والطبيعيات عند الحكماء سابقة على الإلهيات، والحق والخلق شيء واحد عند الصوفية، وإقامة الشريعة للامتثال وللتكليف من مقاصد الشريعة. لقد قامت حركاتنا الإصلاحية الحديثة دفاعا عن الأرض ضد المحتل الأجنبي أو الإقطاعي الداخلي.
1
Unknown page