Dirasat Falsafiyya Gharbiyya
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
Genres
Mundus
أي مجموع الإمكانيات الحيوية، والعالم بهذا المعنى، أي مجموع إمكانياتنا، أوسع نطاقا من مصيرنا وهي حياتنا الفعلية. يدل العصر الحاضر على زيادة إمكانيات الحياة الإنسانية في شتى الميادين الثقافية والعلمية على عكس إمكانيات الحياة البدائية. ولا تستطيع هذه الحياة الاتجاه إلى الماضي بل ترى مصيرها في نفسها. حياتنا لا تتجه إلى الوراء بل تكشف عن نفسها وقدرها. ولما كان الإنسان مقذوفا في الزمان، والعالم موجودا من قبل فالإنسان موجود في العالم وهي إحدى المقولات الرئيسية في الفلسفة الوجودية. لا تختار الحياة عالمها بل على العكس يجد الإنسان نفسه حيا في عالم محدد لا يمكن استبداله، أي في هذا العالم الواقعي . عالمنا هو جزء من المصير الذي يشمل حياتنا. هذا المصير الحيوي ليس مصيرا آليا بل هو مصير يتطلب اختيارا بين الممكنات. لم نقذف في الوجود مثل طلقة بندقية تحدد مسارها من قبل بل فرضت علينا مسارات عدة تضطرنا إلى الاختيار. أن يحيا الإنسان هو أن يشعر حتما باضطراره ممارسته حريته، يقرر ماذا يريد أن يكون في هذا العالم. ولو كنا يائسين فقد قررنا ألا نقرر. ومن الخطأ التسليم في الحياة بأن الظروف هي التي تقرر نيابة عنا، بل على العكس الظروف هي التي تكون بنود المأساة التي تتجدد باستمرار والتي تدفعنا إلى أخذ موقف. شخصيتنا هي التي تقرر في الموقف. وهذا تماما ما انتهى إليه عديد من فلاسفة الوجود المعاصرين مثل ياسبرز في «المواقف المحددة»، ومثل قول سارتر المشهور: «إن الإنسان قد حكم عليه بالحرية.» ومثل نظرية برجسون في الجبر الذاتي، واضطرار الإنسان أن يكون حرا. أن يحيا الإنسان هو أن يوجد في الظرف أي في العالم. والعالم مجموع إمكانياتنا، والفرد هو اختيار أحدها ثم تحقيقها. بل إن أسوأ الإمكانيات هي إحدى الإمكانيات؛ لذلك كان الموقف والقرار هما أهم عاملين في الحياة. الظرف هو مجموع الإمكانيات، والقرار هو اختيار إحداها، الموقف لا يقرر بل الحرية هي التي تقرر. وهذا كله مرهون بالإنسان الفرد. أما الإنسان الجماهيري فإنه باعتباره فردا يحمل في طياته إمكانيات خالصة، خيرا كانت أم شرا، ولكنه باعتباره جماهيريا فإنه ليس صاحب القرار. الجماهير لا تقرر شيئا لأن دورها قاصر على الموافقة على قرار الأقلية التي تقدم برنامجا يعبر عن الحياة الجماعية في النظم الديمقراطية. وفي الغالب يعيش ممثلو السلطة العامة دون برامج. ويحكمون يوما بيوم طبقا للمنفعة العاجلة وكما تحتم الظروف تبعا لضغط الجماهير عليهم؛ لذلك لا تخلق الجماهير شيئا بالرغم من إمكانياتها الواسعة. ويستطرد أورتيجا معبرا عن هذا الموقف الوجودي الذي يشترك فيه جميع فلاسفة الوجود وهو أن وجودنا في هذا العالم رسالة ومشروع، وأن هذا المشروع لا يكون من المعرفة وحدها بل من السلوك أولا ، وأن المعرفة تكون ضرورية فقط بقدر ما يتطلبه السلوك. أن يحيا الإنسان هو أن يكون في علاقة بالعالم، وأن يصطدم بمشكلات، ويجابه أخطارا، ويحمل مسئوليات، كل ذلك وهو في مواقف محددة تجعله أقرب إلى التبعية أو الاستقلال. أن يحيا الإنسان هو أن يشعر بمحدوديته وأن يتعامل مع المحددات بحيث يتم تجاوزها والتحرر منها فيتخلق الإنسان بنفسه معتمدا على نفسه دون أن يلجأ إلى عون خارجي. وإذا كان شعار الحياة قديما هو أن يشعر الإنسان بحدوده والاعتماد على ذاته فإن الحياة الآن هي أن يشعر الإنسان بقدرته على تجاوز هذه الحدود والاعتماد مطلقا على ذاته. إن الإنسان الممتاز يتطلب الكثير من نفسه، أما الإنسان العادي فإنه يرضى بوضعه، ويقنع بظرفه، ويستسلم للموقف. العالم موجود بالفعل، والإنسان موجود في العالم. والسؤال الذي وضعته الفلسفات المثالية عن وجود العالم لا معنى له لأن العالم موجود بالفعل قبل السؤال عنه. وما دام إنسان هناك فالعالم جزء منه.
ويسمي أورتيجا هذه الفردية المتميزة النبل
La Noblesse
وإذا كان النبل قديما قاصرا على الصفوة المختارة، وكان النبيل هو من يتطلب من نفسه الكثير لأنه يتمتع بإمكانيات أكثر مما يتمتع به الإنسان العادي، فإن الإنسان العادي اليوم يكون نبيلا أيضا لأنه يتمتع بإمكانيات واسعة ف «النبل يستلزم»
Noblesse oblige . النبيل في اللغة هو الإنسان المعروف في مقابل الإنسان النكرة. ولا تتم هذه المعرفة عن طريق الطبقة كما هو الحال عند الصفوة المختارة بل عن طريق العمل. النبل هو الجهد، والتفاهة هي الاستكانة. والنبلاء حقا هم الذين يبذلون أقصى جهدهم، وهم الصفوة المختارة. يتحدد النبل بالالتزامات وليس بالحقوق، بالعطاء وليس بالأخذ. النبل هو العيش طبقا للقانون عند الصفوة، وعلى السجية عند الجمهور. وإذا كان النبل هو حياة المشقة والجهد والإبداع في مقابل حياة التفاهة والاستكانة، فإن أورتيجا هنا يكون أقرب إلى فلاسفة الجهد مثل مين دي بيران
Main de Biran
وبرجسون، بل وعودا إلى فشته وفلسفة المقاومة. وإذا كنا نعيش الآن في عصر التفاهة، تسوية كل شيء بكل شيء فإن الفرد المتميز قادر على الخروج على هذا العصر متمثلا النبل في حياة الجهد وخلق الذات بالذات؛ وبالتالي يكون النبلاء هم الفلاحون الذين يفلحون الأرض، وهم العمال الذين ينتجون بأيديهم، وهم الشهداء الذين يبذلون حياتهم، وكل من تتصبب جباههم عرقا، وكما قال الشاعر العربي قديما:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
ليس الفتى من يقول كان أبي
Unknown page