Dirasat Falsafiyya Gharbiyya
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
Genres
وقد يكون الابتسار من ناحية العقل عندما لا يرى من الواقع إلى جانبه الصوري ولا يرى في العالم إلا المقولات والتصورات. فالعالم فكرة، والمادة رؤية، ولا وجود إلا للذات. وقد وقع في هذا الابتسار كل التيار العقلي في العصور الحديثة الذي خرج منه ديكارت وسار فيه اسبينوزا وليبنتز ومالبرانش. فالعالم حركة وامتداد، مفهومان رياضيان لعلمي الميكانيكا والهندسة. والله فكرة العالم، والروح فكرة البدن كما هو الحال عند اسبينوزا. والعالم كله قوانين عقلية ثابتة يمكن معرفتها وحسابها كما هو الحال عند ليبنتز في «المونادولوجيا». وقد انتهى هذا الابتسار إلى الوقوع في الصورية الفارغة وإنكار العالم المادي وإغفال منطق الحس والتجربة، ونشأ الصراع بين الابتسار الحسي وبين الابتسار العقلي، كل يريد رد الكل إلى الجزء، وضاعت الحقيقة بشقها إلى نصفين.
ثم حدث ابتسار ثالث عندما تم تجاوز هذا الصراع التقليدي بين المذهب الحسي والمذهب العقلي من أجل العثور على طرف ثالث يجمع بين الاثنين هو الحياة أو الوجود أو الإنسان. واختلف الفلاسفة في هذا الطرف الثالث وتحديد ماهيته، فهو الوجود الإنساني عند هيدجر، وهو الحرية عند سارتر، والجسم عند جابريل مارسل وميرلو بونتي، وإرادة القوة عند نيتشه، والحياة عند أونامونو، والزمان عند برجسون، والشخص عند مونييه وشيلر، والعمل عند وليم جيمس وجون ديوي، والفعل عند بلوندل، ويعود المذهب الحسي من جديد في الواقعية الجديدة، كما يعود المذهب العقلي في العقلانية الجديدة. وتحاول فلسفة الشعور جعل العقل والتجربة واجهتين له. ويظل الوعي الأوروبي متذبذبا بين هذا وذاك، ترددا بين المذاهب، وهو في كل الحالات يرد الكل إلى الجزء، وإن اختلفت الأجزاء.
3
وعلى العكس من ذلك، تحيا الفلسفة بالنظرة الشاملة للكون وبالقدرة على بعد الرؤية وإدراك المعاني المستقلة والماهيات والحقائق التي تنكشف من خلال التجربة وبالاستقلال عنها. وقد كانت الفلسفات الشرقية القديمة نموذجا لهذا البحث. لم تقع في الابتسار وظلت مرتبطة بالنظرة الشاملة للكون، وبواقع الناس اليومي؛ ومن ثم اتحدت بحياتهم، وعبرت عن تاريخهم، وكونت تراثهم ووعيهم القومي. كما كانت الفلسفة اليونانية نموذجا آخر لهذا البحث الكلي الشامل باتجاهاتها الثلاثة، فقد بحث سقراط معاني الخير والفضيلة والجمال والصداقة والمحبة بصرف النظر عن وقائعها المادية وظروفها الاجتماعية وحالاتها الخاصة، حتى إنه ليمكن لعشرات الأجيال بعد سقراط إدراك مقاصده وفهم معانيه دون أن تبلى وتقدم. كما كانت هناك محاولات في العصر الوسيط لإعطاء تصورات شاملة للكون ولكن لم يكن لها سند من عقل أو تجربة بل كانت مضادة للعقل ولشهادة الحس، مناهضة للفكر الحر وللعلم الحديث. وإبان العصور الحديثة قامت محاولات أخرى لضم الأجزاء من أجل الحصول على نظرة شاملة للكون. حاول ذلك كانط ولكن جاءت محاولته مصطنعة بطريقة الأدراج والعلب والمراتب. فوضع الحس أولا، ووضع فوقه الذهن ثانيا، ثم وضع فوقه العقل ثالثا. وكل طبقه دنيا تدخل في الطبقة العليا بطريقة المضمون والشكل. وما أسهل أن يتفكك الرباط المصطنع فينشأ منه المذهب الحسي وحده أو العقلي وحده أو الإيماني بمفرده، وكل مذهب ينتسب إلى كانط. كما حاول هيجل بعد ذلك الشيء نفسه فوضع الحركة في البناء، وأعطاه الوحدة الداخلية بين الحس والذهن والعقل، كلها ثلاث لحظات للتصور. ربط بين الفلسفة والدين والعلم، بين الوجود والماهية والصيرورة، بين الإنسان والعالم والله. ولكن خرجت المحاولة أسطورية كونية بلا فردية، فتحول الجميع ضحايا للمذهب وغرق الأفراد في بحر الشمول.
ولكن هناك محاولات أخرى قدر لها النجاح النسبي، وأنقذت العلوم الأوروبية من أزمة الابتسار. فقد ساهمت نظرية الجشطلت في تقدم علم النفس بعد أن اشتدت أزمة علم النفس التجريبي وذلك بإعطاء الأولوية للكل على الجزء، وإثبات أن إدراك الكل سابق على إدراك الأجزاء. كما نجح هوسرل في «بحوث منطقية» في المبحث الثالث «الكل والأجزاء» في نقد المذهب التجريبي في المنطق معطيا الأولوية للكل على الجزء، ومكونا المنطق الترنسندنتالي. كما نجح الوجوديون في وضع الإنسان في موقف وبيان موقفه من العالم مع الآخرين وبين الأشياء متجاوزين الموضوعية العلمية العتيقة وموجهين العقل نحو التجارب الإنسانية الواسعة. كما أصبح أحد عناصر قوة الماركسية - كمذهب سياسي - هو نظرتها الشاملة للكون، ووضع الفرد في علاقاته الاجتماعية وداخل أوضاع المجتمع الطبقية وتفسيرها لكل شيء ووضعه له في مرحلته التاريخية المحددة.
4
سادسا: الفلسفة والعقل
تموت الفلسفة إذا ما أصبحت مهمة العقل - وهو أداة الفلسفة الأولى - هي تبرير المعطيات سواء كانت دينية أو سياسية، والدفاع عنها دون أن يقوم بوظيفته الأولى في التحليل والفهم أولا ثم في نقد الواقع والأوضاع القائمة ثانيا، بل يقتصر على التبرير لما يفهم دون نقد أو تغيير ودون إحداث أي تأثير في الواقع، فالفهم والتغيير كلاهما من وظائف العقل. والاكتفاء بالأول دون الثاني يجعل من الفيلسوف متفرجا على الأحداث دون أن يكون مسيرا لها. فلا يكفي فهم العالم بل لا بد من تغييره أيضا. والحقيقة أن العقل قادر على فهم كل شيء وتبرير كل شيء، بل إن الفهم نفسه هو أحد أنواع التبرير. ومع ذلك لا يتم دور العقل الكلي إلا إذا واجه ما يستعصي على الفهم. وهنا يبدأ عمل العقل الفعلي في التحليل والنقد. ثم يتحول إلى رفض وثورة وغضب ويتحد بالوجود الإنساني كله. وفي التبرير لا تهم جهة المعطيات ونوعها. فسواء أتت من الوحي أو من المجتمع فالتبرير واحد في كلتا الحالتين. تبرير الوحي يكون تبريرا للعقائد التي هي في حقيقة الأمر نتاج التاريخ ومن وضع المجتمع ومن صياغة الفقهاء، تعبيرا عن روح العصر. وتبرير المجتمع يكون تبريرا للنظم السياسية والاجتماعية دفاعا عن الأوضاع القائمة، ويقوم به الموظفون الأيديولوجيون في كل نظام.
وقد نشأت هذه الوظيفة في الوعي الأوروبي بعد أن مارس العقل وظيفته الأولى في التحليل والنقد واكتشف ضعف المعطيات التي حللها، والتناقض الداخلي في الموروث القديم وعدم تطابقه مع الحس أو الواقع وتعارضه مع الصالح العام ، ولكن خشي البعض إلقاء الطفل مع الماء بعد طقس العماد، وأرادوا إنقاذ ما يمكن إنقاذه فقاموا باستئناف عمل العقل في العصر الوسيط، أي تبرير العقائد مع الاختلاف في مواد التبرير وفي درجة الإقناع. فإذا ند الموروث القديم عن العقل في العصر الوسيط فإنه الآن يعبر عن الاشتباه في الحياة الذي يعبر بدوره عن تناقض الوجود الإنساني. وإذا برر العقل الخطيئة الأولى بعجز الإنسان عن إنقاذ نفسه وضرورة المخلص فإنه يبررها اليوم بمظاهر الألم والبؤس والشقاء في الوجود الإنساني. وإذا برر القدماء نهاية العالم بفساد الكون فإن المحدثين يرونها بتقليص الطاقة وبتناقصها في الزمان.
1
Unknown page