Dirasat Falsafiyya Gharbiyya
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
Genres
يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين (المائدة: 101-102). فالسؤال لا يجوز إلا إذا كان فيه نفع عملي. وقد قال علماء أصول الفقه قديما: إن كل سؤال لا ينتج عنه أثر عملي فإنه يكون عاريا عن العلم.
1
وكثير من الأسئلة له إجابات عملية وليست نظرية، وكما في الأثر عندما سئل الرسول عن الساعة قال: «فاستعد لها.» كما رفضت الفلسفات العملية في الغرب هذا البحث النظري المجرد من أجل التوجيه العملي في الحياة. لقد ارتبط هذا التعريف للفلسفة باليونان عامة وبالطبقة الأرستقراطية - طبقة الأحرار - خاصة وهي التي كفاها العبيد مئونة العيش وتدبير حياتها المادية من عمل وكد ورزق وإعداد للأعمال المنزلية. فبدأت في البحث عن طبائع الأشياء وأصلها بحثا مجردا صرفا لا غاية له ولا هدف إلا الحقيقة ذاتها لملء أوقات الفراغ. كما استمر هذا التعريف أيضا عند بعض فلاسفة التنوير مثل لسنج صاحب القول المأثور: «لو أن الله أمسك بالحقيقة كلها في يده اليمنى، والبحث الدائب عن الحقيقة في اليسرى كي أقع دائما في الأخطاء وقال لي: أيهما تختار؟ فإنني بكل تواضع أختار اليد اليسرى قائلا: أبي، هب لي هذا، فالحقيقة المطلقة لك وحدك.»
2
وقد كان ذلك رد فعل على الدجماطيقية والمعطيات المسبقة والحقائق الجاهزة من السلطتين الدينية والسياسية أو من العرف والتقاليد، ثقة بقدرة الإنسان على اكتشاف الحقائق بجهده الإنساني الخالص حتى يطمئن إلى ذاته وإلى قدرته على إعطاء العالم غطاء نظريا من وضعه بعد أن انهارت كل الأغطية النظرية الموروثة التي دافعت عنها الكنيسة والدولة إلى آخر رمق. وكان الثمن دماء المفكرين الأحرار والعلماء التي سالت من أجل البحث عن الحقيقة والبرهنة عليها بشهادة الحس والتجربة وبدليل العقل والبرهان. وقد عبر هوسرل عن هذا التعريف أخيرا بأن الفلسفة هي البحث عن الحقيقة النظرية المجردة الخالصة وأن موضوعها المثالي هو نقطة أرشميدس أي الموضوع النظري المجرد الذي لا وجود له في الواقع. فطالما ارتبطت الفلسفة بالنواحي العملية الدينية أو الأخلاقية ولم تكن بحثا نظريا مجردا فإنها لا تكون فلسفة؛ ومن ثم لم يعرف الشرق القديم الفلسفة بهذا المعنى. بل إن سقراط نفسه ليس فيلسوفا لأنه ربط بحثه النظري بالأخلاق العملية، وعلى هذا النحو يكون الغرب وحده - ببحثه النظري المجرد - هو القادر على التفلسف، ويكون أفلاطون هو نموذج الفيلسوف في نظرية المثل؛ موضوعات عقلية صورية مفارقة للطبيعة الحسية المادية. إن تطور الحضارة الأوروبية وبناءها إنما يتحدد بالبحث النظري المجرد. وقد تحول ذلك إلى غائية وقصد حضاري. بل إن العمل ذاته، أي كل ما يتعلق بالإرادة والرغبات والميول، يتم البحث فيه بحثا نظريا خالصا مجردا كما أراد كانط في «نقد العقل العملي» من أجل البحث عن الأسس النظرية للعمل؛ لذلك كان ليبنتز نموذج الفيلسوف بتحويله العالم إلى رياضيات شاملة يمكن معرفتها بقوانين العقل ذاتها وأولياته.
3
وقد كرر ماكس فيبر الشيء نفسه، وجعل التعقيل أو التنظير
Rationalization
ميزة خاصة للغرب على باقي الحضارات. فقد نشأ لديه تقسيم العمل واكتشف قوانين الطبيعة واخترع الحاسبات الآلية، وقد وصل هذا الاعتزاز عند فيبر بهذا التنظير إلى حد العنصرية.
4
Unknown page