Dirasat Falsafiyya Gharbiyya
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
Genres
1 (1)
ففي علم أصول الدين إذا كان الاتجاه نحو الماضي قد ظهر في مبحث النبوة فإن الاتجاه نحو المستقبل قد ظهر في مبحث المعاد، وكلاهما من السمعيات إجابة على سؤال: ماذا يحدث للإنسان بعد الموت؟ وكانت الإجابة بطبيعة الحال فناء الأبدان وبعثها وبقاء الأرواح ومعادها نظرا لتمايز النفس عن البدن. لقد شغل القدماء أنفسهم بكيفية وضع حد لنهاية الزمان وكيفية موت الإنسان بالسيف أو بانتهاء الأجل الذي يأتي بغتة دون أي إمكانية لحسابه. وهذا يجعل الإنسان على استعداد دائم للرحيل «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.» فالنهاية ليست نهائية بل هناك استمرار نحو المستقبل، وحياة مستقبلية لا تنتهي بانتهاء الحياة الدنيا بل تستمر في الحياة الأخروية،
بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى (الأعلى: 16-17). كما شغل القدماء أنفسهم بعذاب القبر وضغطته، وبحساب الملكين منكر ونكير، وبتحلل الجسد كله إلا «عجب الذنب» التي تبقى بلا تحلل ومنها يبدأ البعث والنشور وحياة المستقبل! كما فصل القدماء في شرائط الساعة وعلاماتها مثل نزول المسيح الدجال وقتل المسيح عيسى ابن مريم له، وشروق الشمس من المغرب وغروبها من المشرق، وخروج الدابة من جحرها، والحرب بين يأجوج ومأجوج مما يدل على اضطراب قوانين الطبيعة وعجز الإنسان عن السيطرة عليها والتنبؤ بمسارها لما كان موقف الإنسان في العالم هو السيطرة عليها والتنبؤ بحوادثها. فإذا حان الحساب يقدم الإنسان أفعاله ويجد كل ما قدم أمامه محضرا. فالحاضر يمهد للمستقبل، والماضي لم يمت بل يحيا من جديد في المستقبل ويحكم على حاضر الإنسان الأبدي، وحياة الإنسان مستمرة لا توقف فيها، يحدد ماضيها حاضرها ومستقبلها. فإذا كانت المحصلة النهائية لعمر الإنسان إنما تتحدد نتيجة لأعماله إيجابا أم سلبا، خلاصا أم هلاكا فإن ذلك يدفع الإنسان لحسن الاستعداد للمستقبل، ويجعل المستقبل همه الأول ولكنه لسوء الحظ مستقبل خارج الدنيا يتجاوز الزمان. إن عملية الحساب ذاتها تتم وفقا لقانون وليست طبقا للأهواء والانفعالات مما يجعل موقف المعتزلة، أهل العدل والتوحيد، أكثر قدرة على تأصيل الاتجاه نحو المستقبل من الأشاعرة الذين يؤمنون بالشفاعة. ويغلب على هذه القوانين نفسها الطابع الحسابي الرياضي العقلي مثل قوانين الإحباط والتكفير، والاستحقاق والعوض مما يجعل حساب الاحتمالات ممكنا. وكان الميزان رمز الحساب. وينكر المعتزلة الصراط الذي يسير عليه من تتساوى حسناتهم مع سيئاتهم فيسقطون في الجنة أو في النار عشوائيا ومصادفة بلا قوانين للاحتمال أو للترجيح.
2
كما ظهر بعد المستقبل في تصور أوصاف الله وصفاته، فالله بالإضافة إلى أنه قديم هو باق، وهو كل الزمان لا أول له ولا آخر، لا بداية له ولا نهاية، يعلم ما يكون وما لا يكون، يضم الماضي والحاضر والمستقبل. بل إن الكرامية تصورته على أنه محل للحوادث، متجدد باستمرار، «كل يوم هو في شأن» مما يوحي بإمكانية إعطاء الأولوية للجديد على القديم، وللمستقبل على الماضي في وجداننا القومي. وظهر المستقبل أيضا في الحسن والقبح العقليين عندما تصور المعتزلة العالم الإنساني يسير طبقا لغاية ووفقا لقانون الصلاح والأصلح أو اللطف، وأن العالم ليس عشوائيا لا يخضع إلا لإرادات مشخصة مطلقة بلا قانون وبلا هدف. كما ظهر المستقبل أيضا في الطبيعيات في نظرية التوليد عند المعتزلة ومسئولية الإنسان عن نتائج أفعاله في المستقبل مما دفع علماء المسلمين إلى حساب المستقبل وحركات القذائف. فالإنسان لديه استطاعة ليس فقط قبل الفعل أو مع الفعل بل أيضا بعد الفعل. كما ظهر الاتجاه نحو المستقبل في نظرية الإمامة عند الشيعة والسنة في خطين متمايزين ومتعارضين. فبينما الإمامة عند الشيعة اتجاه نحو المستقبل، وانتظار للإمام الغائب على ما هو معروف في تاريخ الأديان باسم المشيانية
Messianism
هي عند أهل السنة تدهور وانحطاط من النبوة إلى الخلافة إلى الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين. فالتاريخ يسير من الوحدة إلى التفرق، ومن الإيمان إلى الكفر، والخلف أفضل من السلف
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات (مريم: 59)، كما أن «خير القرون قرني ...» كما قوى ذلك التصور للتاريخ المنهار حديث الفرقة الناجية الذي يشكك في صحته ابن حزم «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، هي ما أنا عليه وأصحابي.» وهم أهل السنة والجماعة أي الدولة السنية الأشعرية، أو بلغة العصر كل الاجتهادات على خطأ وكل اتجاهات المعارضة على باطل ولا يوجد إلا رأي واحد صائب حق هو رأي الحكومة! ومن ثم ضاعت فرصة ظهور المستقبل على أنه ازدهار وانتصار بالرغم من وجود إمكانيات لذلك في الآيات والأحاديث مثل الآيات التي تحث على الأمل وترفض اليأس والقنوط، ومثل حديث المجددين «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».
3 (2)
وفي علم أصول الفقه إذا كان شرع من قبلنا لم يعد ملزما لنا؛ وبالتالي أمكن فك إسارنا من الماضي والاتجاه نحو الحاضر، وبدأنا شعورنا القومي على البراءة الأصلية فإن المصادر الأربعة للتشريع توحي بالزمان وبالمستقبل انتقالا من القرآن إلى السنة إلى الإجماع إلى الاجتهاد، فكل مصدر يوحي بتقدم في الزمان عن المصدر السابق: السنة تعين أول للقرآن، والإجماع تعين ثان له، والاجتهاد تعين ثالث ومستمر له. فإذا تركنا القرآن والسنة للعلوم النقلية فإن الإجماع يضع مشكلة العصور والأجيال وإمكانية عدم التزام العصر اللاحق بأحكام العصر السابق نظرا لتغير الظروف والأحوال واختلاف المصالح والحاجات، ولكن الذي يشير بصراحة ووضوح إلى بعد المستقبل هو المصدر الرابع للتشريع وهو الاجتهاد. فقد أعطى المصدر الأول المبادئ العامة الصالحة لكل زمان ومكان. وأعطت السنة أول تحقق لهذه المبادئ العامة في التاريخ، في زمان ومكان معينين، وفي عصر معين ولأمة بعينها. كما أعطى الإجماع إمكانية الاتفاق على التطبيق العملي باسم مصالح الأمة ووحدتها. والآن يعطي الاجتهاد إمكانية احتواء كل الحوادث المستقبلة والتشريع لكل الظروف الآتية ابتداء من جهد الإنسان العقلي وقدراته على الاستنباط والاستقراء، وبعد أن ميز الشاطبي بين تحقيق المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط جعل الأول لا ينقطع إلا بانقطاع التكليف في حين أن الثاني والثالث مشروطان بوجود المجتهد. الأول مستمر إلى ما لا نهاية طالما أن هناك إنسانا عاقلا وقادرا مكلفا، باق مع الإنسان إلى ما لا نهاية. ولما كان تحقيق المناط هو وجود علة الحكم في الواقع كان على الإنسان أن يبحث باستمرار عن هذا المناط. فالاجتهاد هو عصب الشريعة، وهو كما يسميه إقبال «مبدأ الحركة» في الإسلام. فالمستقبل وارد في الشريعة، وحساب المستقبل موجود في الاجتهاد. المستقبل ليس هما أو إشكالا أو تأزما بل هو حاضر معاش يدخل في نظرية قادرة على أن تعطيه حكما يحل الإشكال ويقضي على الأزمات. فالمجتهد هو العالم المناط به تطوير الشريعة ونقل الماضي إلى الحاضر. والعلماء ورثة الأنبياء، والفقهاء أمناء الرسل. ولما كان الله هو عالم الغيب والشهادة ظهر ذلك في أحد جوانب المنهج الأصولي. وهو قياس الغائب على الشاهد. فمعرفة الغائب ممكنة وذلك بقياسه على الشاهد. ولما كان المستقبل أحد مظاهر الغيب أمكن معرفته.
Unknown page