Dirāsāt ʿan Muqaddimat Ibn Khaldūn
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
Genres
يتبين من ذلك كله «أن الاجتماع ضروري للنوع الإنساني» (ص42)، وأنه «يستحيل على البشر أن يعيشوا منفردين» (ص151). (2)
بعد سرد هذا المبدأ، «وتقرير» طبيعية الاجتماع وضروريته للإنسان، ينتقل ابن خلدون إلى المبدأ الثاني، ويقرر ضرورة وجود وازع في كل اجتماع، قائلا: «ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر، فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض؛ لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم» (ص43).
إن دفع هذا العدوان لا يمكن أن يتم بالأسلحة التي تستعمل لدفع عدوان الحيوانات العجم؛ لأن تلك الأسلحة «موجودة لجميعهم»، فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض، ومن البديهي أن هذا الوازع لا يمكن أن يكون من غير الإنسان، فمن الضروري أن يكون «واحدا منهم، يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، حتى لا يصل إلى غيره بعدوان. وهذا هو معنى الملك» (ص43).
ابن خلدون يكرر هذا المبدأ - مبدأ عدوان البشر بعضهم على بعض - ويؤكد هذه الضرورة - ضرورة وجود وازع يدفع هذا العدوان، في عدة مواضع من المقدمة، بعبارات متنوعة وبوضوح أعظم.
يقول في أحد الفصول: «فمن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض، فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه، امتدت يده إلى أخذه إلى أن يصده وازع.» كما قال: «والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم» (ص128).
كما يقول في فصل آخر: «إن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم، وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات، ومد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه؛ لما في الطباع الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم على بعض، ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة، ومقتضى القوة البشرية في ذلك، فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة، وهي تؤدي إلى الهرج، وسفك الدماء، وإذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع؛ ولذلك استحال بقاؤهم فوضى دون وازع يزع بعضهم عن بعض، واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم، وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم» (ص187).
ولهذا لا يشك ابن خلدون بأن «الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض» (ص139). (3)
هذا هو الأساس الذي يبني عليه ابن خلدون نظريته في «الاجتماع والملك والدولة».
لا حاجة للبيان أن ابن خلدون لم يكن مبتكرا لجميع أقسام هذه النظرية؛ فإن الشطر الأول منها لمما كان يقول به الحكماء من قديم الزمان، كما يشير إلى ذلك هو بنفسه، فإنه عندما يقول «إن الاجتماع الإنساني ضروري»، يعقب على ذلك بالعبارات التالية: «ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم: الإنسان مدني بالطبع؛ أي لا بد له من الاجتماع، الذي هو المدنية في اصطلاحهم، وهو معنى العمران» (ص41).
إن هذا الرأي كان قد ساد على أذهان جميع المفكرين - في الشرق والغرب - منذ عهد أرسطو الذي قال: «إن الإنسان حيوان سياسي، ومخلوق مدني اجتماعي»، غير أن الفيلسوف الإنجليزي «هوبز»
Unknown page