Din
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Genres
Totem
17
أو اللقب الأسري، وهو نظام معروف في الشعوب القديمة: «المصرية، والإثيوبية، والعربية، واليونانية، والرومانية، والغالية» وتوجد آثار منه في الأساطير الشعبية في أوروبا الآن،
18
ولا يزال منتشرا في القبائل غير المتحضرة في أمريكا، وأستراليا، وهذه الأخيرة - فيما يعتقد «دوركايم» - هي أخصب مكان لدراسة هذه الظاهرة؛ لأن سكانها أقل تطورا وأقرب إلى الطبيعة الأولى من غيرهم؛ ولذلك استمد منها الوقائع التي بنى عليها نظريته.
وخلاصة هذه الوقائع أن تلك الأمم في تعظيمها لألقابها تعظم في الوقت نفسه مسمى تلك الألقاب، ولما كان الاسم مشتركا بين الحيوان، وبين الجد الأعلى وبين أفراد العشيرة، وكانت الصلة بين هذه المعاني الثلاثة في نظرها صلة تجانس تام ترجعها إلى جوهر واحد، شمل التعظيم ثلاثتها، لكن الحظ الأكبر من التعظيم يدخرونه لهذا الاسم المشترك، أو لتلك الصورة الجامعة وهي الوسم أو الوشم: حتى إنهم نسبوا إلى هذه الصورة خصائص عجيبة، فزعموا أن الذي يحملها ينصر في الحرب على أعدائه، ويوفق في تسديد السهم إلى رميته، وأن وضعها على القروح يسرع في التئامها، إلى غير ذلك.
إلا أن هذا التعظيم في العادة لا يصل إلى درجة العبادة، ولا يوحي فكرة التدين والتقديس والتأليه؛ ولذلك يقضون جل أوقاتهم في حياة فاترة كل يسعى لقوته، منعزلا في الجبل للاحتطاب، أو على شاطئ البركة للصيد، وليس لهم مظهر من مظاهر التدين في هذه الأحوال العادية سوى التورع عن بعض المحظورات، وإنما يأخذ التدين حقيقته ومظهره التام عندهم في مواسم خاصة، تقام فيها الحفلات المرحة الصاخبة، التي يطلقون فيها العنان لحركاتهم العنيفة، وصيحاتهم المنكرة، على إيقاع الطبول، ولحن المزامير، وقد ركزوا السارية التي تحمل علم العشيرة في سرة الحفل؛ فينتهي بهم هذا الحماس الصاخب إلى الذهول والهذيان، بل يفضي بهم إلى انتهاك سياج المحرمات الجنسية التي يحترمونها أشد الاحترام في العادة. وربما نسبوا هذا التطور العجيب إلى حضور سر الأجداد فيهم عن طريق هذا الرمز، وعبادتهم للروح التي يرمز إليها، ظنا منهم أنها هي التي أحدثت فيهم هذا التحول الروحي الغريب.
ها هنا - وها هنا فقط - تتدخل النظرية لتكشف الغشاوة عن أعينهم، وتنبههم إلى ما حدث من تحول شعورهم عن منبعه وهدفه الحقيقيين، وأنهم إذا كانوا يتوجهون بعبادتهم إلى مصدر هذا الأثر الجديد، فليعلموا أنه ليس هو النصب، ولا ما يرمز إليه النصب، وإنما هو هذا الاجتماع الثائر نفسه؛ فإن من طبيعة هذه الاجتماعات أن تنسلخ النفوس فيها عن مشخصاتها الفردية، وتنمحي كلها في شخصية واحدة هي شخصية الجماعة، وهكذا يكون الاجتماع هو مبدأ التدين وغايته، وتكون الجماعة إنما تعبد نفسها من حيث لا تشعر. •••
هذه النظرية تبدي صفحتها لضروب من النقد لا تحصى، وقبل كل شيء فإنها - ككل النظريات عن العقليات «البدائية» - تقوم على أساس مشكوك فيه، ولا بد في قبوله من تحفظ بليغ، واحتراس شديد، ألا وهو تلك المعلومات التي يدونها الرحالة والسائحون عن عقائد الهمج وعوائدهم، والتي يبدو عليها الضعف من وجوه، منها: أنه ليس كل السائحين على جانب من علوم النفس والمنطق والدين والأخلاق يكفيهم لاستبطان غور الأمور، ووضع الأسئلة الدقيقة المحددة في هذا الشأن، وليسوا في غالب الأمر مزودين بمنهاج معين ديني أو أخلاقي، بل هذا الجانب هو أقل ما يسترعي اهتمام أكثر السائحين. ومنها: أن هذه المعلومات لا تستقى من آثار مكتوبة - إذ الفرض أن هؤلاء الأقوام محرومون من العلوم والفنون المدونة - وإنما تؤخذ من أفواه قوم لم يصلوا بعد إلى تحليل أفكارهم وتحديد شعورهم في هذه المسائل، فمن الراجح أنهم يسرعون إلى الإجابة بكلمة: «نعم» أو «لا» من غير مراجعة لعقولهم وإحساساتهم العميقة، ومهما تفترض الدقة وحسن النية في السائل والمجيب، فقد بقيت عقبة هذه اللغات «البدائية» التي لم تنضج أداتها، ولم تستكمل وسائل التعبير عن تلك المعاني الدقيقة الغامضة التي يصعب أداؤها حتى في أرقى اللغات وأوسعها. أضف إلى هذا أنه ليس كل فرد هناك يمثل الفكرة العامة للعشيرة أو القبيلة؛ إذ قد تختلف التفاسير بين شخص وآخر، بل الشخص الواحد قد يجمع متناقضات من التصورات، وليس أدل على وهن المعلومات المدونة بهذه الوسيلة من أن الكتاب أنفسهم قد يتناقضون
19
Unknown page