Din
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Genres
يقول الفارابي نقلا عن قدماء اليونان: إن اسم الفلسفة خاص عندهم بالعلم الذي تتعقل فيه حقائق الأشياء بذاتها، لا بمثالها، ويتوسل فيه إلى إثباتها بالبراهين اليقينية، لا بمجرد الإقناع، أما الملل والأديان فطريقها في التفهيم إقناعي، وتمثيلي.
نقول: إن صحت هذه التفرقة في بعض الأديان، فإنها لا تنطبق على جميعها، فهذا دين الإسلام - مثلا - قد جمع في تعاليمه بين طريقتي اليقين والإقناع، وبين منهجي التحقيق والتمثيل، والفيلسوف ابن رشد يقرر لنا هذه الحقيقة بطريقة تطبيقية على كثير من المسائل والنصوص، في كتابه «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، فبعد أن بين أن طباع الناس متفاضلة في التصديق؛ فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان؛ إذ ليس في طبيعته أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية، قال ما نصه: «ولما كانت شريعتنا هذه ... قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث، عم التصديق بها كل إنسان، إلا من يجحدها عنادا بلسانه أو لإغفاله ذلك من نفسه، ولذلك خص - عليه الصلاة والسلام - بالبعث إلى الأحمر والأسود، أعني: لتضمن شريعته طرق الدعاء إلى الله تعالى، وذلك صريح في قوله تعالى:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة »
4
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: «فإن الكتاب العزيز إذا تؤمل وجدت فيه الطرق الثلاثة، أعني: الطريق الموجودة لجميع الناس، والطريق المشتركة لتعليم أكثر الناس، والطريق الخاصة.»
5
ليس لنا إذن أن نقول: إن الأديان كلها تقوم على الإقناع الخطابي والتمثيلي، لا على التحقيق واليقين.
ثم ليس من الصواب أن نقول من الجهة الأخرى: إن التعليمات الفلسفية تستمد دائما من نور العقل، وتستند إلى البراهين القطعية؛ إذ لو كانت كلها كذلك ما أمكن أن يحدث بينها هذا الاختلاف والتضارب، فإن الحق لا يعارض الحق ولا يكذبه، بل يسنده ويؤيده.
فهذا التعارض دليل واضح على أنه ليس كل واحد منها يمثل الحقيقة المطلقة أو يقول فيها الكلمة الأخيرة، بل من الجائز أن يكون كل منهما يمثل جانبا من حقيقة مركبة تتألف من مجموعها، ومن الجائز أن يكون الحق واحدا منها وسائرها باطلا، أو يكون الحق وراء ذلك كله، ولا بد لمعرفة أي ذلك هو الواقع، في موضوع ما، من إعادة النظر فيه بالفحص والمقارنة بين مذهب ومذهب، ودليل ودليل.
ونحن نعرف بالاستقراء والتجربة أن أكثر هذه النظريات الفلسفية المتضاربة فروض وتقديرات، تدور كلها في ذلك الإمكان والاحتمال، وتتفاوت فيما بينها بقدر ما فيها من حسن العرض وتناسق الوضع، لا اعتمادا على العقل الخالص ومتانة البرهان، بل على جودة الخيال وبراعة البيان، فهي لا تعدو أن تكون ضربا من الشعر المنثور، يناجي العاطفة ويستهوي القلوب، من غير أن يكون في حجتها ما يشفي طالب اليقين، ولا في حكمها ما يحسم مادة النزاع بما فيه فصل الخطاب. (3-2) رأي ابن سينا ونقده
Unknown page