من الروايات ما ينشأ للتفكهة والتسلية، ومنها ما ينشأ للإفادة ونشر المبادئ والأفكار، والذين أنشئوا رواياتهم للإفادة في الغرب معدودون في مقدمة مشاهير المؤلفين كتولستوي وزولا وكيبلنغ وغيرهم، فإن كل واحد من هؤلاء الكتاب لا يرى في وضع الروايات حطة وضعة، بل يعتبر الرواية منبرا ينشر منه آراءه وأفكاره بطريقة تبلغها إلى أذهان القراء بسهولة، ونحن في الشرق محرومون هذه الطريقة لعدم رواجها لأسباب لا محل لذكرها هنا؛ ولذلك كانت الروايات التي تنشر عندنا لا غرض منها غير التفكهة إلا بعضها.
ولما وصلنا في إبراز مواد «الجامعة» إلى المواضيع المهمة التي تكمل مباحثها السابقة خطر لنا أن نهجر أسلوب المقالات المتقطعة والفصول المتفرقة إلى أسلوب الرواية؛ لأنه أجمع وأوعى، فضلا عن كونه أشد تأثيرا وأحسن وقعا، فعزمنا بحوله تعالى على إبراز عدة روايات كل واحدة منها تبتدئ وتنتهي في جزء واحد تسهيلا لمطالعتها واستيعابها لأن الانتظار يقطع الرغبة فيها، وسيكون اهتمامنا فيها بالمبادئ والأفكار مقدما على الاهتمام بالحوادث والأخبار، ولكن هذا لا يمنع من التزام ما تقتضيه الروايات من الوصف وتصوير العواطف والحوادث تصويرا طبيعيا، لأن فن الروايات فن بسيكولوجي جماله وتأثيره متوقفان على حسن سبكه ولطف أسلوبه ودرس باطن الإنسان وأخلاقه وبيئته درسا دقيقا.
وهذا الكتاب «الدين والعلم والمال» هو الرواية الأولى من هذه الروايات، وموضوعه معروف من عنوانه، وقد سميناه هنا (رواية) على سبيل التساهل لأنه عبارة عن بحث فلسفي اجتماعي في علائق المال والعلم والدين، وهو ما يسمونه في أوروبا «بالمسألة الاجتماعية» وهي عندهم في المنزلة الأولى من الأهمية لأن مدنيتهم متوقفة عليها .
وربما قيل: إن هذا الموضوع غير لاصق بنا كل اللصوق لأن «المسألة الاجتماعية» لا تزال صغيرة عندنا، فالجواب أن هذه المسائل هي مدخل للمباحث التالية في الكتب التالية؛ ذلك لأن المباحث الاجتماعية والفلسفية مرتبطة في الحقيقة بعضها ببعض، فلا يمكن تحقيق أحدها دون الغوص إلى أعماقها لمعرفة أساسها، وقد أظهرنا الأساس في هذا الكتاب، فعسى أن ينال من رضى ساداتنا القراء والكتاب ما ينشطنا في خدمتنا.
الفصل الأول
حليم
والمدن الثلاث التي كان يحج إليها الناس
فقال له الشيخ: وهل تقيم عندنا طويلا يا بني.
فأجاب الشاب: نعم يا عم فإنني جئت من أقاصي البلاد لأشاهد المدن الثلاث التي سار بذكرها الركبان، وربما استغرقت إقامتي عندكم شهرا على الأقل، لأنني سأزورها واحدة واحدة وأبحث في شؤونها بحث مؤرخ دارس لا بحث متفرج.
فتنفس الشيخ الصعداء وقال: أف أف، كم يزور الناس هذه المدن الثلاث، فهم يظنونها عجيبة من عجائب الدنيا مع أننا نحن لا نراها إلا مدنا كباقي المدن، انظر إليها، أي فرق بينها وبين باقي المدن سوى قيامها في هذا السهل الفسيح بشكل مثلث.
Unknown page