1 - على العهد
2 - بين القيم والحوادث
3 - وبعد الصدمة
4 - أسباب ولا أسباب
5 - بين الجاهلية والإسلام
6 - نشأته وشخصيته
7 - ثقافة عثمان
8 - من إسلامه إلى خلافته
9 - المبايعة
10 - الخلافة
11 - مصحف الإمام أو مصحف عثمان
12 - النهاية
1 - على العهد
2 - بين القيم والحوادث
3 - وبعد الصدمة
4 - أسباب ولا أسباب
5 - بين الجاهلية والإسلام
6 - نشأته وشخصيته
7 - ثقافة عثمان
8 - من إسلامه إلى خلافته
9 - المبايعة
10 - الخلافة
11 - مصحف الإمام أو مصحف عثمان
12 - النهاية
ذو النورين عثمان بن عفان
ذو النورين عثمان بن عفان
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
على العهد
علم قراء هذه التراجم وجهتنا التي نتجه إليها في كتابتها، ولا نحسب أن أحدا ممن تتبعوها - أو تتبعوا معظمها ينتظر منها بحثا غير بحوثها التي عنيناها، فليس يعنينا منها سرد الحوادث ولا استقصاء البيان عن فترة من السنين، وإنما يعنينا من الحادثة التي نعرض لها ومن الفترة التي نستبينها أنها وسيلة إلى مقصد واحد: وهو التعريف بالنفس الإنسانية في حالة من أحوال العظمة والعبقرية، أو حالة من أحوال النبل والأريحية، فإن جاوزنا هذا المقصد إلى غيره فإنما نجاوزه لجلاء فكرة تحيط بأطوار التاريخ الإنساني، وتخرجه من غمار التيه والظلمة، وتسلك به مسلكا غير مسلك التخبط والضلال. •••
ونحن نقيس أثر هذه التراجم بمقياسين متقابلين، بل متعارضين متناقضين، ولكنهما ينتهيان إلى نتيجة واحدة.
نقيس أثرها بالرضى والقبول من الموافقين، ونقيسه بالسخط والنفور من المخالفين، وكلاهما دليل على أثر نغتبط به ونستزيد منه، دليل على أن التراجم رمية أصابت مرماها، وهذا كل ما نبغيه.
ومن الملاحظات التي نغتبط بها خاصة أن جانب الرضى عن هذه التراجم غير مقصور على أبناء دين واحد أو أبناء نحلة واحدة. فتراجمنا لعظماء الإسلام قد اطلع عليها وتتبعها أناس كثيرون ممن لا يدينون بالإسلام، وترجمتنا لغاندي قد كان أكثر قرائها من المسلمين، وهؤلاء وهؤلاء قد عرفوا وجهتها ولم يخرجوا بها عن سبيلها؛ فليست النفس الإنسانية ملكا لأبناء دين واحد، وما من شيء يجعل للدين نفسه معنى إن لم تكن النفس الإنسانية ذات معنى وذات قيمة وذات علاقة أصيلة بهذا الوجود أجمع، فلا يضل معتقد عن هدى عقيدته حين يؤمن بجانب من جوانب عظمتها، أو جانب من جوانب النبل والأريحية فيها. والسؤال الذي يسأله من يعرف المسألة كلها هو: هل تستحق الحياة أن نحياها؟!
فإن كانت حياة الإنسان أهلا للثقة بها والإيمان بقدرها؛ فالجواب: نعم، وإن لم تكن كذلك؛ فلا جواب للسؤال غير اليأس والضياع والانحلال، بل نحن نرى أن الشاكين والمترددين يثوبون إلى طريق الأمل والرجاء كلما لمسوا للنفس الإنسانية جذورا عميقة في أصول الحياة، وهذه الجذور نلمسها لمسا كلما علمنا أن النفس الإنسانية قابلة لعمل عظيم، وكلما علمنا أن قوة الاعتقاد بالخير هي نفسها عمل عظيم. وليس الخلاف إذن بين دين ودين، أو بين مذهب ومذهب أو بين فلسفة وفلسفة؛ ولكنه خلاف بين حياة لها جذور وحياة مستأصلة من جميع الجذور، وهو بعبارة أخرى خلاف بين حياة لها معنى وحياة فارغة من كل معنى، ولو كان هذا المعنى من مخترعاتها الملفقة وأباطيلها المزجاة. •••
نقيس أثر هذه التراجم بالرضى من هؤلاء المؤمنين بمعنى الحياة وهؤلاء الباحثين عن معناها.
ونقيسه كذلك بسخط الساخطين وغيظ المحنقين، وكلما اشتد هذا السخط واضطرم هذا الغيظ؛ علمنا موقع الرمية من الهدف الصميم، فهو موقعها الذي أصبنا به المقتل من ذلك المعسكر الذي يسمي نفسه بمختلف الأسماء، ولا يصدق عليه اسم كما يصدق عليه اسم أعداء الإنسان.
وإنما تصدق الأسماء حيث تصدق على الصفات والأعمال، وقد سمي بأعداء النوع الإنساني قديما معاشر من الخلق كانوا يكرهون النعمة، ويعافون السرور، ويتجنبون معاشرة الناس، ولكنها تسمية لم تكن على صواب؛ لأنهم كرهوا النعمة وعافوا السرور؛ إيمانا بنعمة أشرف من جميع النعم، وشوقا إلى مسرة أرفع من جميع المسرات، ثم تجنبوا معاشرة الناس؛ نبوا بضمائرهم عن العيش الذي لا يعرف النعم والمسرات إلا في أحضان الرذائل والشهوات، فمن شاء فليسم هؤلاء المتزمتين بما شاء من الأسماء إلا أن يسميهم بأعداء الإنسان.
أما أعداء النوع الإنساني حقا فهم الحريصون على تصغير كل عظيم فيه، الملوثون لكل صفحة نقية من صفحاته، العاكفون على هدم كل ما بناه في تاريخه الطويل من قيم الأخلاق وعقائد الخير والفلاح، الذين يعملون ما لا يعمله إلا عدو مغير على الأرض يتعقب بقايا أهلها، كما يتعقب العدو اللدود جنسا من ألد الأعداء لجنسه، فلا يسره شيء كما يسره أن يرجع إلى ماضيه وحاضره بالتشويه والتخريب، وذم الحميد منه وتسجيل الذميم المعيب. •••
ويبلغ المسخ بهؤلاء المساكين أنهم يخلصون في بغضائهم إخلاص الجنسين المتعاديين بالطبيعة؛ فلا يقنعون بما يجدونه من العيوب والأدناس، بل يتجسسون عليها ويلحون في تأويلها، ولا يطيب لهم شيء كما يطيب لهم أن يبطلوا الثناء على بطولة البطل وتفدية الشهيد وإيثار الكريم، فيردوه إلى الزراية والمهانة، وتعليل الأمور بأسوأ العلل، وتفسيرها بأقبح البواعث والأغراض ... ومثل هذه اللجاجة في تلطيخ تراث الإنسانية كله بالأوزار والأدناس لا تصدر إلا من طبع سقيم وخليقة عوجاء، فيجوز لكل صاحب عقل أن يفهم بعقله علل الأعمال: سامية أو مسفة، وعامة أو خاصة، ومخلوطة بالأثرة أو خالصة للإيثار، ولكن الهيام بتحقير كل عظيم واتهام كل ثناء، والحماسة المتشنجة لتغليب الخسة على النبل، ونبش السمعة المأثورة عن جراثيم النتن والقذى؛ ليس المرجع فيه إلى فهم ودراسة، ولكنه يرجع إلى مسخ في الكيان يسلخ المبتلى به في مسالخ العدو المبين لنوع الإنسان.
وما كان في وسع إنسان حي أن يسيغ الحياة كما يريدها هؤلاء المسخاء المنكودون، ولكنهم فقدوا الثقة بالحياة المثلى؛ فعوضوها ببديل منها لا يغني عنها إلا إلى حين. إن المنحدر من القمة إلى الهاوية يتحرك في انحداره، بل يتحرك سريعا إلى قراره، وهو في حركته هذه أسرع من الصاعد إلى القمة ... بجهده وهدايته، وأسبق منه جدا إلى غايته بل نهايته. إلا أنها حركة المصاب بالحركة على الرغم منه، فلا وجه للمقابلة بين الصاعد المجاهد والهابط المقذوف كما ينقذف الجلمود، وإن لاح لمن يراهما أنهما متحركان وأن الهابط منهما أقدر من الصاعد على العدو والجريان.
وقد امتلأ مكان الثقة من نفوس هؤلاء المسخاء بسخائم المقت والكراهية؛ فكانت لهم عوضا بئس العوض، كانت لهم عوضا كعوض الحركة الهابطة من الحركة الصاعدة، وليس أدل على ضرورة الثقة للإنسان في اجتماعه وانفراده من حاجة هؤلاء إلى تعويضها بذلك الثمن الثقيل، وإنه لجد ثقيل في الحقيقة، فإنه لهو الانتحار بغير إرادة الانتحار.
ونحمد الله على نصيبنا من هذه الكراهية كما نحمده على نصيبنا من تلك الثقة، فهذه وتلك كلتاهما مقياس صادق لأثر هذه التراجم التي نزيدها اليوم ترجمة جديدة، وسنزيدها بمشيئة الله؛ كلما اتسع الوقت وأحسسنا الرضى من هنا والكراهية من هناك. •••
إن سيرة الخليفة الثالث نمط من أنماط متعددة زخرت بها الدعوة الإسلامية من سير الخلفاء وغير الخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي عبيدة، وخالد، وسعد، وعمرو، وأمثالهم من الصحابة والتابعين، ما منهم إلا من كان عظيما بمزية، وعلما من أعلام التاريخ، فأين كان موضع هؤلاء من العظمة ومن تاريخ بني الإنسان لولا العقيدة الدينية ولولا الرسالة المحمدية؟
ليقل من شاء من فلاسفة التاريخ ما يشاء في التعليل والتحليل والتلخيص والتفصيل، فمهما يقل القائلون، ومهما يشرح الشارحون؛ فليس من السهل على عقل رشيد أن يزعم أنها كلها خدعة وهم في رءوس أناس جاهلين، ولا حاجة هنا إلى الفلسفة ولا إلى الحذلقة ولا إلى الجدل الطويل، فالقول الفصل بعد كل قول ووراء كل شرح: إن الوهم الخادع في رءوس الجاهلين خير ألا يكون، وماذا يبقى من تاريخ الإنسانية لو حذفنا منه هذه العوامل الحية، وقلنا مع القائلين: إنها وهم من الأوهام كان خيرا لها أنه لم يكن ولم يكن بعده ما جرى في مجراه؟! •••
وفي هذه السيرة - على ما نرجو، وعلى خلاف ما يخطر في بال الكثيرين لأول وهلة - شواهد على هذه العبرة الكبرى أكبر من شواهد أخرى، فلعلها لا تبرز لنا عبقرية كعبقرية الصديق أو الفاروق أو الإمام، ولكنها تبرز لنا من جانب الأريحية صفحة لا تطوى، ولا يستطيع العقل الرشيد أن يرجع بها إلى باعث غير باعث العقيدة والإيمان.
الفصل الثاني
بين القيم والحوادث
ربما كانت سيرة الخليفة الثالث - ذي النورين - أوفى السير بالشواهد على الخصائص التي تلازم تاريخ العقيدة في أطوارها الأولى، ولا سيما أطوار التحول في طريق الاستقرار.
وأبرز هذه الخصائص في تاريخ العقيدة أنه تاريخ قيم ومبادئ، وليس بتاريخ وقائع وأحداث.
فالوقائع والأحداث تتشابه في العصور المتطاولة، ولو أننا تخيلناها معروضة في الصور الصامتة؛ لما وجدنا من فارق يذكر بين الوقائع والأحداث التي تفصلها من مسافة الزمن آلاف السنين، ومن مسافة المكان آلاف الفراسخ، كلها صورة متكررة من حيث ظواهرها وأغراضها البادية للعيان، ولكنها تختلف اختلافا بعيدا حين ننفذ من ظاهرها إلى باطنها، أو حين ننفذ من حركاتها المكشوفة إلى القيم النفسية التي تكمن وراءها، وإلى الدعاوى التي تدور عليها، ولو كانت من دعاوى المبطلين التي يصدق عليها في بعض الأحايين أنها كلمات حق أريدت بها أباطيل.
فالحوادث التي تدور على طلب السطوة غير الحوادث التي تدور على طلب الحرية، ولو كان طلب الحرية أكذوبة يتعلل بها المتعلل لغاية في نفسه يسترها ويعلن ما عداها.
فإذا كان المتعلل بالحرية مبطلا في دعواه؛ فهناك فارق صحيح بين المعارك التي تذكر فيها الحرية حقا أو باطلا، والمعارك التي لا ترد فيها على لسان أحد ولا تخطر بباله، فلولا أنها أصبحت شيئا يهتم به الناس ويتنازعونه؛ لما ذكرها الصادقون ولا المبطلون، ومتى أصبحت الحرية قيمة من القيم المحسوبة في حياة الأمم؛ فهناك دليل عليها ممن يتعلل بها صادقا ويتعلل بها كاذبا؛ ليخدع الناس بها عما يريده من ورائها. •••
وفي سيرة عثمان رضي الله عنه صدمة عنيفة تواجه كل باحث في تاريخ صدر الإسلام، وتلك هي قتلته البشعة وهو شيخ وقور جاوز الثمانين.
لم يكن عثمان أول خليفة قتل، فإن الفاروق عمر بن الخطاب قتل قبله غيلة وهو يقيم الصلاة.
ولكن مقتل عمر لم يكن صدمة في تاريخ العقيدة ... قتله غلام دخيل على الإسلام، ومن ورائه عصابة تدين بغير دينه، وتكره منه ما عمله لإقامة ذلك الدين، فلا غرابة ولا صدمة، ولا شيء فيه غير الفاجعة التي تفجع نفوس المسلمين.
أما تلك القتلة البشعة التي انتهت بها حياة الخليفة الثالث فشيء غير هذا، وشيء بعيد عن هذا في صدمته المفاجئة لمن يتابع تاريخ العقيدة الإسلامية في أطوارها الأولى.
لم يمض جيل على الإسلام ويقتل خليفة المسلمين هذه القتلة؟! فماذا صنعت هذه العقيدة إذن بنفوس الحاكمين والمحكومين؟! وماذا تغير من فتكات الجاهلية بعد جهاد المؤمنين وإيمان الكافرين؟!
والسؤال صدمة عنيفة.
ولكنه قائم على خطأ جسيم، وإن يكن خطأ قريب التصحيح.
فالعقيدة لا تبطل الخلاف والنزاع، ولا تختم الوقائع والأحداث في التاريخ، ولم يحدث قط في دعوة إصلاح في الدين أو غير الدين أنها قسمت التاريخ إلى عهدين: عهد سابق كان فيه نزاع وكانت فيه أحداث، وعهد لاحق يبطل فيه النزاع وتنقضي فيه الأحداث.
لم يحدث هذا قط ولا يحسن أن يحدث، فإنه لو حدث؛ لكانت العقيدة المصلحة شللا معطلا لحياة الأمم، معوقا للتاريخ في مجراه المطرد إلى غير قرار.
إن العقيدة لا تلغي الحوادث والخصومات، ولكنها تجدد القيم التي تدور عليها الحوادث والخصومات.
وليست الخصومات شر ما يبتلى به الناس، فشر منها الخسة التي ترضى بالدون، وشر منها الوفاق على الغش والمهانة، وشر منها شلل الأخلاق الذي لا يبالي صاحبه ما يحسن وما يقبح وما يرضى وما يسوء، وشر منها الحياة بغير قيمة تستحق الخلاف عليها، وبغير معنى يتسع للبحث فيه.
فليس مطلوبا من العقيدة أن تبطل الخصومات، ولكنما المطلوب منها أن ترتفع بالنفوس عن الخصومة في غير شأن، أو ترتفع بها عن الخصومة في شأن هزيل ضئيل.
وعلى هذا ينبغي ألا تكون الخصومات والأحداث هي مدار البحث في تاريخ هذه الفترة، بل ينبغي أن يكون مدار البحث على القيم والمبادئ التي دارت عليها تلك الخصومات والأحداث.
ولا نقول: إن الفاجعة إذن تهون.
وغاية ما نقوله: إنها تفهم على وجهها الصحيح، وإنها تفهم على وجه لا يريب في عمل العقائد وعمل العقيدة الإسلامية على التخصيص.
لقد كان مدار الخصومة على محاسبة الإمام: محاسبة الرعية لإمامها، ومحاسبة الإمام لنفسه، وكل أولئك شيء جديد في التاريخ، وكل أولئك شيء يقيم ويقعد في حياة الأمم، ولا سيما حياتها في أطوار العقيدة الأولى.
أين كان أبناء الجاهلية من حق الحساب بين الحاكم والمحكوم؟
أما في البادية فقد كان الحساب كله على شريعة الثأر والانتقام وإغارة القبيلة الكبيرة على القبيلة الصغيرة، وكان الغالب على الفرد أن يعيش في كنف قبيلته، تحميه إن استطاعت، أو تخلعه إن عجزت عن حمايته. وقد شاع في العصور الحديثة كلام كثير عن الحرية البدوية، ولم تفهم على حقيقتها مع كثرة الكلام فيها، فما كانت الحرية البدوية قط قائمة على حق إنساني تحميه الشرائع والآداب، ولكنها كانت أشبه شيء بانطلاق المادة حيث لا عائق لها مما حولها، ومثل هذه الطلاقة طلاقة العصفور في فضائه، والحيوان الآبد في صحرائه، طلاقة المادة حيث لا حواجز ولا سدود.
وأما الحكومات التي قامت في الجزيرة العربية، على نحو من نظام الملك والإمارة، فقد كانت شريعتها - على خلاف المظنون - طغيانا مطلقا من جميع القيود، وكان بعض ملوكها يتخذ من أهوائه ونزواته شعائر يدين بها الناس في مسائل الحياة والموت، فكان المنذر بن ماء السماء يجعل له يوم نعيم ويوم بؤس، ويقتل كل من يسوقه إليه الحين في يوم ولو كان عابر طريق، وكان يسكر ويأمر بالقتل فينفذ لساعته، ولا يدرى بعد إفاقته فيم كان هذا العقاب إن صح أن يسمى بالعقاب، وحدث أن حجر بن الحارث فرض على بني أسد إتاوة ثقيلة؛ فتمردوا عليها فاستباح أحياءهم، واعتقل رؤساءهم، وأقسم ليقتلنهم بالعصا؛ هوانا بهم عنده أن يقتلهم بالسيف أو السلاح، فسموا من أجل ذلك بعبيد العصا، وقال شاعرهم عبيد بن الأبرص يستشفع فيهم:
ومنعتهم نجدا فقد
حلوا على وجل تهامه
إما تركت تركت عف
وا أو قتلت فلا ملامه
أنت المملك فوقهم
وهم العبيد إلى القيامه
وكان عمرو بن هند يكلم الناس من وراء ستور، وكانوا يضربون المثل بكليب وائل في عزته، فيقولون عن العزيز البالغ في العزة: «إنه أعز من كليب وائل» ... لأنه كان يحمي الكلأ فلا يقرب حماه، ويمر بالمكان يعجبه فيرمى عنده بكليب وينادى بين القوم: إنه حيث بلغ عواؤه كان حمى لا يرعى ... وكانوا يقولون: «لا حر بوادي عوف»؛ لأنه كان من عزته يقهر كل من حل بواديه، فكلهم عنده كالعبيد.
وأقبح من ذلك ما روي عن عمليق ملك طسم وجديس، فإنه كان يأمر ألا تزف الفتاة إلى بعلها قبل أن تزف إليه، وفي ذلك تقول إحدى هؤلاء الفتيات:
أيجمل ما يؤتي إلى فتياتكم
وأنتم رجال فيكم عدد الرمل؟
إلى أشباه هذه المظالم التي أجملناها في كتابنا عن الديمقراطية في الإسلام، وقلنا معقبين عليها: إنها روايات لم تخل من إضافات القصة والخيال، كجميع روايات التاريخ القديم المنقول بالتلقين والإسناد «ولكننا نثبتها ونعول عليها؛ لأن الفكرة هنا أبلغ من الخبر، وأصدق من وثائق الأوراق، فلو لم تكن فكرتهم الغالبة عن الحكم أنه عزة وخيلاء لا تكملان لصاحبهما بغير إذلال الأعزاء، وتمحل الذرائع للعتو والإيذاء، لما تواترت أنباء الملوك على هذه الوتيرة.» •••
ومن هذه الفكرة المتواترة عن سلطان الحكم إلى محاسبة الخليفة على كل صغيرة وكبيرة في شئون الدولة بون بعيد، وشيوعها بين الخاصة والعامة، حتى يتصدى للحساب صغير القوم وكبيرهم على السواء هو الفتح الذي جاءت به العقيدة الإسلامية على أعقاب الجاهلية، وعلى مسمع من طغيان الأكاسرة والقياصرة والتبابعة، في الشرق والغرب والشمال والجنوب.
وسنرى أنهم كانوا يحاسبون الخليفة على الزيادة في حمى المرعى المتروك لإبل الصدقة بعد تكاثرها ومضاعفة عددها، وسنرى أنهم كانوا يحاسبون واليا من أكبر ولاته - وهو والي الشام معاوية بن أبي سفيان - لأنه سمى مال الدولة مال الله بعد أن كان يسمى ببيت مال المسلمين، وأشفقوا أن يكون تغيير الاسم تمهيدا لاستئثار الحاكم بالتصرف فيه، وكف المسلمين أصحاب المال عن المحاسبة عليه.
هذه المحاسبة بين الحاكم والمحكوم قيمة كبيرة نشأت مع العقيدة المحمدية، وهي قيمة كبيرة على جميع حالاتها من الصدق فيها أو التذرع بها إلى غرض قد يخفيه أصحاب الذرائع والتعلات، فإن القانون يصونه أناس مخلصون، ويدعى غيرهم صيانته كاذبين مدلسين، ولكن القانون على الحالتين كسب عزيز لا يستهين به عاقل، ولا يقول أحد بالاستغناء عنه من أجل الكذب به أو الكذب عليه، وكذلك كل قيمة غالية من قيم الحياة الإنسانية كالفضيلة والخير والحرية والصدق وما شابهها من فتوح الضمير في آماد التاريخ، مما يحرص عليه الناس أو يصطنعون الحرص عليه، فإنما تكسبها الإنسانية بالتعارف عليها وقبولها أو قبول مقاييسها، ولن تكون القيم جميعا إلا من هذا القبيل وعلى هذا المثال. •••
ولقد كان من الناهضين لمحاسبة عثمان رضي الله عنه أناس مغرضون يقولون مالا يفعلون ويفعلون غير ما يقولون: كان منهم من أقام عليه الحد، ومن حبس أباه في جريمة، ومن فرق بينه وبين حليلة تزوجها على غير الشريعة، ومن أبى عليه الولاية، ومن لم يصنع به الخليفة أمرا من هذه الأمور، ولكنه كان منطوي النية على الفساد والإفساد، وكل هذه المآرب قد شيبت بها حركة المحاسبة على أعمال الخليفة؛ فكانت عيبا للحركة، ولكنها لم تكن عيبا لحق المحاسبة، ولا إزراء بشأنه ولا بالشأن الذي أكسبته الأمة من تقريره والتعارف عليه، ولولا أنه حق؛ لما تعلل به المبطلون.
وآفة البحث في تطور الأخلاق والقيم الإنسانية أن يتولاه من لا يفقهون قيمة النهي عن شيء، بعد أن كان مباحا غير منهي عنه، ولا يخطر النهي عنه على بال أحد، فإقامة الحدود التي يؤخذ الناس بالتزامها وينهون عن تجاوزها، هي عنوان الدوافع الباطنية التي غيرت حياتهم، وغيرت نظراتهم إلى الأعمال والأخلاق فأعلنوها في تلك الحدود.
وأضل من هؤلاء من يبحثون في تطور الأخلاق؛ فيأخذونها بالعناوين ويطلقون العنوان الواحد على صفتين مختلفتين أو متناقضتين، ويكاد القس راشدال
Rashdall
أن يزن الأطوار الأخلاقية بهذا الميزان حيث يقول: «إنه ندر من رذيلة أو جريمة إلا كانت في زمن من الأزمنة منظورا إليها كأنها واجب من واجبات الديانة أو العرف، كالسرقة التي كانت تحسب فضيلة من الناشئة الإسبرطية ومن الطائفة الهندية التي تسمى بطائفة الخناقين، وقد كانت القرصنة - وهي سطو وقتل - صناعة محترمة في العالم القديم، وكان الاضطهاد الديني في القرون الوسطى أشرف الواجبات.»
وليس من الميسور في هذا المقام أن نفصل وجوه الخلاف بين الإباحة القديمة والتحريم الحديث في جميع هذه الفعال والخلال، ولكننا نكتفي بما يستطاع بيانه بغير حاجة إلى الإفاضة والإسهاب، كالقرصنة ما بين العصرين القديم والحديث، فهل القرصنة التي نحرمها اليوم هي القرصنة التي كانت مباحة بالأمس، أو هما نقيضان باسم واحد مشترك بينهما بوهم الاصطلاح؟
الواقع أن قرصنة الأمس كانت حقا كحق صاحب الملك الذي تسطو عليه؛ إذ كان صاحب الملك يجمع بضاعته بالسطو على قبيلة أو عشيرة أضعف منه وأعجز عن الهجوم والدفاع، فإن كان فيما يملكه شيء مصنوع فهو من صنع العبيد المسخرين في أرضه أو معمله، وكلهم من أسرى الحرب المغتصبين من أبناء القبيلة التي قهرت؛ لأنها عاجزة عن مقاومته ودفعه، فحقه في بضاعة السفينة كحق القرصان في السطو عليها، وليس هذا الحق الذي يستطيع القرصان في العهد الحديث أن يدعيه ويقبل التعارف عليه.
ويصدق على سرقة الناشئة الإسبرطيين ما يصدق على القرصنة في العصور القديمة، ويمكن أن يقال كذلك: إن الاضطهاد الديني في العصور الوسطى غير الاضطهاد الديني في العصر الحديث؛ لأن العمل لا يعتبر رذيلة أو جريمة إلا إذا كان فيه نقض لقيمة أخلاقية مصطلح عليها، ولم يكن التسامح ولا الحرية الفكرية قيمة مصطلحا عليها في العصور المظلمة بين الأوربيين سواء منهم المضطهدون ومن يقع عليهم الاضطهاد، فلو أن أحدا من الذين وقع عليهم الاضطهاد ظفر بمخالفيه في العقيدة؛ لاضطهدهم كما اضطهدوه وقسرهم على التصديق بعقيدته كما قسروه، وكلا الفريقين يستعيذ من حرية الفكر على اعتبارها تفريطا في الغيرة على الدين.
فالقيم الأخلاقية والوجدانية هي الجوهر المهم في تطور الأخلاق، وليست هي الأسماء والعناوين، ومتى ظهرت «القيمة» في أمة فهي مكسب حق لا شك في نفعه أيا كانت نية المنادي به على الصدق أو على الخداع، فلو لم يكن الذهب ذا قيمة لما استحق أن يزيفه المزيفون.
ومحاسبة الحكام كانت قيمة جديدة بين العرب وسائر المسلمين في الصدر الأول من الإسلام، فنادى بها الخاصة والعامة وادعاها الصادق والكاذب، وظلت عاملا مهما في السياسة أيام الخلافة وبعد أن صار الحكم ملكا يتوارثه الأبناء عن الآباء. •••
أما الخليفة عثمان رضي الله عنه فأثر العقيدة فيه وهو فرد أوضح من أثرها فيمن قدموا إليه من الأمصار ليناظروه ويحاسبوه، وهو واحد من آحاد معدودين لم يكن في وسع العقل أن يتخيلهم في جاهليتهم على حالتهم التي ارتفعوا إليها بعد الإسلام.
إنه كان من سلالة الأمويين، وهي سلالة اشتهرت في الجاهلية بالحرص على المال لا تبذله في غير مأرب أو متعة، ولم ينهض أحد منهم بتكاليف المروءة والسخاء إلا منافرة لمن ينافسهم بين الملأ، وغيرة منهم أن يسبقوه إلى المجد والثناء، فلما أسلم عثمان رضي الله عنه كانت شهرته الكبرى بالسخاء والأريحية، فنزل عن ماله لتسيير جيش في سنة العسرة، ونزل عن ماله لشراء بئر يستقي منها المسلمون بغير ثمن، ونزل عن ماله لتوسعة المسجد، ونزل عن ماله لحمل المغارم وإعانة الملهوف والبر بالأقربين والأبعدين.
ومذهبه في محاسبة نفسه قد تتعارض فيه الأقوال والتأويلات، ولكنه في الأمر الثابت الذي لا جدال فيه قد بلغ الذروة من محاسبة النفس والتحرج من المساس بالحياة البشرية ولو في سبيل الذود عن حياته وحياة أقرب الناس إليه، فلما أيقن من القتل؛ أبى أن يبقى في داره من يقتل أحدا ممن يحيطون بها ويعالجون اقتحامها لاغتياله، ولما سئل أن يتنحى عن الخلافة أبى أن يتنحى عنها، ولم يكن إباؤه ضنا بشيء يحتويه، فلا شيء أغلى من الحياة وقد هانت عليه، ولا يزعم أحد أنه غنم من الخلافة مالا، بل يتفق المؤرخون على أنه ترك الدنيا وماله أقل مما كان لديه يوم ولي الخلافة، ولكنه أبى أن يخلع نفسه حذرا من أن يحمل جريرة الخلع وما يعقبه من النزاع والقتال، وقد صرح بذلك غير مرة فقال: إنه يخشى على الذين يستطيلون أيامه أن يتمنوا بعده لو كان يومه مائة سنة، فلا يبوءن بالعاقبة المحذورة وهو مختار. •••
فإذا تركنا الحوادث جانبا ونظرنا إلى التاريخ في صدر الإسلام على أنه تاريخ قيم ومبادئ، فلنا أن نقول: إننا أمام فواجع مؤلمة يود الناظر إليها لو يزوي بصره عنها، وليس لنا أن نقول: إننا أمام صدمة يصطدم بها من يسأل عن أثر العقيدة وأطوارها، فلا صدمة هناك إذا نحن وزنا الحوادث بميزان القيم، وعلمنا أن التاريخ لن يخلو من الحوادث، وأن حوادث الخلاف ليست بأكبر الشرور التي تبتلى بها ضمائر بني الإنسان.
الفصل الثالث
وبعد الصدمة
وليست الصدمة العنيفة بالحائل الوحيد دون توضيح هذه الفترة وتمحيص أسبابها وعواملها وتبعات المسئولين عنها، فالصعوبة الكبرى أننا في هذه الفترة أمام حادثين يرجع كل منهما إلى أسبابه وعوامله، ويتكلم عنهما بعض المؤرخين كأنهما حادث واحد متحد الأسباب والعوامل.
هذان الحادثان هما: التطور السياسي، ومقتل عثمان رضي الله عنه. وأسباب هذا لا تكفي لتعليل ذاك وليس من الحتم أن تؤدي إليه، وقد طال الجدل حول عمل عبد الله بن سبأ الملقب بابن السوداء وأثره في هذه الفترة، فرأى بعض المؤرخين أنه أهون من ذاك؛ لأنهم اعتقدوا أن الانقلاب السياسي ومقتل عثمان حادث واحد له أسباب واحدة، وليس هو كذلك. ولو أنهم فصلوا بين الأسباب في كليهما؛ لأمكن تقدير التبعة والاستطاعة في عمل كل عامل ودسيسة كل مشترك في المؤامرة. •••
فابن السوداء - ولا شك - أهون من أن يحدث التطور السياسي، وغيره ممن هم أعظم منه شأنا وأشد منه خطرا أهون من إحداث ذلك التطور كله، سواء تعمدوه أو عملوا له غير عامدين؛ لأنه يرجع إلى أسباب متفرقة عميقة القرار، كثيرة التشعب، لا تضطلع بها قدرة رجل واحد ولا عدة رجال متألبين متواطئين.
ولكن مقتل عثمان شيء آخر غير التطور السياسي، وفي وسع ابن السوداء ومن هو أقل منه أن يقترفه بيده وأيدي من يستمعون لتحريضه ودسيسته؛ لأنه في حقيقته «مشاغبة» من مشاغبات الدهماء التي لا تعجز عن أمثال هذه الأفاعيل.
والذين يقرءون فاجعة عثمان ويلمون بالتاريخ يسبق إلى خيالهم ما قرءوه عن مصارع رؤساء الدول في إبان الثورات والفتن القومية: كالثورة الإنجليزية مع شارل الأول، والثورة الفرنسية مع لويس السادس عشر، وغيرهما من الثورات في العالم القديم والعالم الجديد.
ومتى سبقت إلى خيالهم هذه الصورة، حسبوا أن الثورة التي أفضت إلى مقتل رئيس الدولة في الأمتين كالثورة التي أفضت إلى مقتل رئيس الدولة الإسلامية في صدر الإسلام، وبينهما في الواقع فارق بعيد أبعد من فارق الزمان والمكان.
إن الثورة التي أطاحت بشارل الأول قد اجتمعت فيها قوة الأمة بأسرها على وجه التقريب أمام العرش وأنصاره من النبلاء، وقد كانت هناك حرب وهزيمة غلبت فيها إحدى القوتين، وانهزمت فيها القوة الأخرى.
وهكذا حدث في الثورة الفرنسية التي طاحت بلويس السادس عشر، وهكذا حدث في ثورات كهذه بالقارة الأمريكية والعالم القديم.
أما مقتل عثمان عليه الرضوان فلم تكن فيه حرب بين قوة الدولة وقوة الأمة، ولم تتقابل فيه قوى الحكومات الإسلامية وقوى الأمم في البلاد العربية وغير العربية، وغاية ما يوصف به أنه «حادثة محلية» قد تتم على أثر مشاغبة جامحة من مشاغبات الدهماء، وقد يستطيعها ابن السوداء ومن هو أقل من ابن السوداء.
وعلى سبيل الإيجاز الذي يغنينا عن الإسهاب في المقارنة والمناقشة نقول: إن عثمان رضي الله عنه ما كان ليقتل لو كانت داره محروسة حراسة الدور التي يقيم فيها ولاة الأمور، إن هذه الجمهرة التي اقتحمت داره واجترأت عليه بالسلاح ما كانت لتقتل واليا من ولاته - كمعاوية بن أبي سفيان في الشام مثلا - لو أنها هجمت على داره بين حرسه وأجناده، فلا محل هنا للموازنة بين قوى الدولة وقوى المشاغبة أو الفتنة، ولا محل كذلك للموازنة بين عوامل الانقلاب السياسي وعوامل الدفاع عن شخص الخليفة في داره، فكل عوامل الانقلاب لم يكن من الحتم أن تؤدي إلى مقتل الخليفة ولو بلغت أضعاف ما كانت عليه، وقد كانت المشاغبة التي جنت جنايتها على حياة الخليفة كافية لاجتراح هذه الفعلة، ولو لم يكن وراءها كل عوامل التطور التي كانت تتجمع هنا وهناك في تلك الفترة الفاجعة، وقد بقيت عوامل التطور وازدادت بعد انتهاء عهود الخلفاء الراشدين وقيام الملك الموروث، فلم ينجم عنها مقتل ملك أو وال من كبار الولاة في بقاع الدولة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها. •••
فمن الواجب إذن عند إحصاء الأسباب والتبعات، والكلام عما يستطاع وعمن يستطيعه أن نفرق بين الحادثين، وأن نرجع بالتطور السياسي إلى أسبابه وعوامله التي تبلغ ما تبلغ ولا يلزم منها أن تؤدي إلى مقتل ولي الأمر في عاصمته، وأن نرجع بمقتل ولي الأمر إلى أسبابه وعوامله التي قد تحدث مع ذلك التطور، وقد تحدث منفصلة عنه في كل طور من أطوار القلق والتذمر، مما يدوم أو ينقضي بانقضاء آونته ثم لا يعود في عصره.
الفصل الرابع
أسباب ولا أسباب
على أن الأسباب التي ذكرت للحادثين جميعا لا تزال في حاجة إلى إعادة نظر؛ لأنها إما أسباب مزعومة يراد بها غير ظاهرها، أو يجتهد بها المجتهدون بغير روية في مواردها ومصادرها، وإما أسباب صحيحة ولكنها لم تفعل فعلها إلا لاقترانها بأحوال تلك الفترة، ولو جاءت في فترة أخرى؛ لما كان لها ذلك الأثر.
خذ لذلك مثلا أسباب الفتنة كما ذكرها معاوية لابن الحصين. سأله حين وفد عليه: «ما الذي شتت أمر المسلمين وخالف بينهم؟» قال ابن الحصين وكأنه أراد أن يوافق هواه: «قتل الناس عثمان!» قال معاوية: «ما صنعت شيئا»، فعاد ابن الحصين يقول: «فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال علي إياهم». قال معاوية مرة أخرى: «ما صنعت شيئا»، فقال الرجل: «ما عندي يا أمير المؤمنين». قال معاوية: «فأنا أخبرك أنه لم يشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر؛ وذلك أن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فعمل بما أمره الله به ثم قبضه الله إليه، وقدم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم؛ إذ رضيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لأمر دينهم، فعمل بسنة الرسول وسار بسيرته حتى قبضه الله، واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته، ثم جعلها شورى بين ستة نفر، فلم يكن منهم رجل إلا رجاها لنفسه ورجاها له قومه ... ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف.»
كذلك روى ابن الحصين عن معاوية، وجاء أناس من ذوي النظر في الحكمة والتاريخ فقالوا بما قال به معاوية، ومنهم محمد بن سليمان المتفلسف فيما رواه عنه ابن مكي الحاجب. قال ما فحواه: إن اختيار الستة من أهل الشورى ليكون الخليفة واحدا منهم بعد مقتل الفاروق قد جعل كلا منهم يشرئب إليها ويعلم أنه أهل لها، وكان أشدهم عملا لها وكيدا لعثمان طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي الملقب بطلحة الجود، فهو من أبناء عمومة أبي بكر، محبوب لسخائه وشجاعته وسبقه إلى الإسلام، وكان ينافس عليها الفاروق فضلا عمن جاء بعده، ويرى أن أبا بكر كان خليقا أن يكلها إليه، وأنه إذا فضل عليه فليس بعد عمر من يفضله، وأعانه الزبير؛ لأن منافسة علي وعثمان إذا وليا الخلافة أشق عليه من منافسة طلحة إذا هي آلت إليه.
وكان أناس من المجتهدين يتابعون محمد بن سليمان المتفلسف على هذا الرأي، أو يتابعون معاوية بن أبي سفيان - أول من قال به وذهب إلى تخطئة عمر في ندبه لأهل الشورى - ولم تزل منهم بقية في عصرنا هذا ترى الحصافة والحكمة فيما قاله معاوية، منهم الأستاذ محمد أحمد جاد المولى الذي كان كبيرا للمفتشين بوزارة المعارف، فهو ينقل كلام معاوية في كتابه «إنصاف عثمان» ثم يتبعه قائلا: إنه رأي «الحصيف المجرب الذي حلب الدهر أشطره، وغلب برأيه ودهائه صاحب الحق على حقه، وأقام دولة الإسلام على تخوم دولة الروم موطدة الأكناف قوية الدعائم، وحاش لعمر أن يتهمه أحد فيما فعل؛ فإنه لم يرد إلا الخير للمسلمين جاهدا، وكان أعظم ما يرجوه من ذلك ألا يكون خلاف وافتراق بين المسلمين ... وأكبر الظن عندنا أن عمر لو كان في حال غير هذه؛ فربما فضل أن يريح المسلمين من العناء والمناوشات الحزبية، ويعهد إلى من هو أهل للخلافة، فقد يجد الناس لهذا التعيين حرمة تسكت الألسنة والدولة لا تزال فتية، أعدى أعدائها الشقاق والانقسام.»
هذا سبب من أشهر الأسباب المذكورة، تواتر القول به من أيام الفتنة إلى العصر الحاضر، ولو كانت الأسباب التاريخية تهمل على قدر وهنها وظهور الغرض فيها؛ لما ورد لهذا السبب ذكر على لسان بعد إفضاء معاوية به إلى أبي الحصين، إلا أن يكون ذكره لتوهينه والكشف عن غرضه، وهو مكشوف لا يجهد من يريد أن يلتفت إليه.
فمعاوية لم ينكر الشورى في اختيار الخليفة؛ إلا لأنه أجمع العزم على خطة ولاية العهد ورشح لها ابنه يزيد من بعده، وما كان في هذه الخطة حصافة ولا تجربة؛ لأنها لم تلبث أن أوقعت الخلاف في أقرب الأقربين إلى معاوية، وساقتهم إلى تولية العهد اثنين بدلا من ولي عهد واحد، ولم تحسم الخلاف بين بني أمية فضلا عن حسم الخلاف بين قريش وبين سائر المسلمين.
وقد قال الشعبي: إن عمر لم يمت حتى كانت قريش قد ملته؛ لقمعه رؤساءهم، وحبسه إياهم بالحجاز خوفا من فتنتهم بالدنيا وفتنة الدنيا بهم، فإذا كانت هيبته في حياته قد سكنت بهم عن الخلاف؛ فهم مختلفون بعد موته لا محالة، ولو أنه اختار للخلافة أحدا سماه لما اختار طلحة ولا الزبير؛ لأنه لم يذكرهما فيمن تمناه للخلافة من الموتى ولا من الأحياء، فقال: إنه كان يختار أبا عبيدة لو عاش؛ لأنه سمع الرسول الله يدعوه أمين الأمة، أو كان يختار سالما مولى أبي حذيفة لو عاش؛ لأنه رأى رسول الله يقدمه للصلاة بالمهاجرين. فلما سمى من يحسبهم مرشحين للخلافة من الأحياء سمى عليا وعثمان، ولم يجاوزهما إلى غيرهما من الستة أصحاب الشورى. فقال لعلي: «اتق الله يا علي إن صارت إليك، ولا تحمل بني هاشم على رءوس الناس» وقال لعثمان: «اتق الله يا عثمان إن صارت إليك، ولا تحمل بني معيط على رءوس الناس»، وما نحسبه سكت عن طلحة إلا عامدا وعلى علم بأن اتفاق الستة لا يجمعون عليه، وتقية أن يظن ظان أنها وقف على بني تيم، ويقينا منه أن اتفاق الستة على واحد أحرى أن يلزمهم الطاعة لمن يتفقون عليه.
وإذا كان في كلام معاوية لأبي الحصين حصافة ألمعية، فتلك هي إشارته المقصودة إلى التفرقة بين أمور الدين وأمور الدنيا، واعتباره أن تقديم النبي عليه السلام أبا بكر للصلاة بالناس بمثابة الرضى عنه لأمور دينهم، فأضاف الناس إليه الرضى عنه لأمور دنياهم، ويصح من ثم أن يكون المرضي عنه لهذه غير المرضي عنه لتلك، وهذا هو المدخل إلى ولاية الملك لأمثال يزيد عقبه مع وجود من هم أفضل منه دينا من جلة الصحابة والتابعين. •••
ونعدل عن الأسباب المزعومة أو الأسباب التي اجتهد بها المجتهدون إلى الأسباب الواقعة التي حدثت وكان لها أثر في إهاجة الخواطر وتسويغ الانقلاب: ومنها ما يتعلق بأمور الدين، ومنها ما يتعلق بأمور الدنيا أو أمور الحكم والسياسة.
فمن الأمور التي تتعلق بالدين أن الخليفة الثالث زاد النداء في الأذان لصلاة الجمعة، وأنه أتم الصلاة في منى وعرفة، وكان النبي والخليفتان الأولان يقيمونها على القصر، وقد صلاها عثمان نفسه في أول خلافته ركعتين، ومنها أنه جمع القرآن الكريم في نسخة، وأمر بإحراق ما عداها في المدينة والأمصار.
ولم يكن عثمان رضي الله عنه في واحدة من هذه مستبيح حرام، بل كان متحرجا غاية التحرج لدينه، فقد زاد في الأذان لكثرة عدد الناس واتساع المدينة، وصلى صلاة المقيم؛ لأنه اتخذ بمكة أهلا فتحرج أن يصلى صلاة المسافر وهو صاحب أهل فيها، وقد كان جمعه القرآن الكريم حسنة من أجل الحسنات، سبقه أبو بكر وعمر إلى مثلها؛ فحمد المسلمون صنيعهما وأنكره من أنكره منهم أولا، ثم عادوا إلى قبوله، بل ألفوه وأثنوا عليه.
قال عمر: إن القتل قد استحر بأهل اليمامة، وأخشى أن يستحر بقراء الكتاب في غيرها فيذهب ما حفظوه بذهابهم، إلا أن يجمعوه، وأشار على الخليفة الأول بجمعه، فكانت مفاجأة نفر منها أبو بكر، وجعل يقول: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟!» فقال عمر: «هو والله خير». قال أبو بكر: «نعم خير»، ولم يزل عمر يراجعه حتى شرح الله لذلك صدره، ثم أخذوا يتتبعون آي القرآن ويجمعونها من الرقاع والعسب والأكتاف وصدور الرجال، حتى وجدوا من سورة التوبة آيتين عند خزيمة بن ثابت لم يجدوهما عند غيره؛ وتم جمع الكتاب في مصاحف عند طائفة من جلة الصحابة: كالإمام علي، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وجاء عثمان فسد ذرائع الخلاف ولم يأت بشيء من عنده غير تعميم المصحف في جمع البلدان ليقرأه المسلمون على نسخة واحدة.
ولئن كان في بعض هذه الأمور التي تتعلق بالدين مخالفة للمألوف؛ لقد خالف عمر المألوف في منع زواج المتعة، وفي نقص الأعطية للمؤلفة قلوبهم، وفي الإعفاء من حد السرقة في عام المجاعة، وفي تسوية الصفوف بالمسجد عند الصلاة، وفي مسائل أكبر مما أحصوه على عثمان؛ فلم يتحدث بها متحدث على سخط وتذمر فضلا عن الثورة وحمل السلاح. •••
ولا نطيل في سرد الأمور «الدنيوية» التي قيل: إنها هاجت الفتنة على عهد عثمان ومنها: غلبة قريش على الأمصار، وسيادة العرب على الأمم الأخرى، وإقامة بعض الولاة الذين اتهموا في تقواهم، وبذل الأموال لذوي القرابة والنصراء.
فقد ثار الثوار، فجاء الكوفيون يطلبون الزبير، وجاء البصريون يطلبون طلحة، وجاء المصريون يطلبون عليا وكلهم من صميم قريش، وقد أقام معاوية ملكه بقريش والعرب، وكان بذل الأموال لذوي القرابة والنصراء عماد دولته ووسيلته إلى تأسيس بيته وبسط سلطانه.
ومن الولاة الذين أنكر الثائرون ولايتهم لاتهامهم بشرب الخمر الوليد بن عقبة، وقد حده عثمان بعد استماعه للشهادة عليه، ولم تكن ولايته على عهد عثمان، بل ولاه عمر على الجزيرة، واختاره عثمان لولاية الكوفة.
وسنرى بعد، أنه ما من عمل نسب إلى الخليفة الثالث إلا حدث مثله من قبله؛ فلم تنشب من أجله فتنة أو حدث مثله من بعده فلم تنشب من أجله فتنة، بل لعله كان من دعائم الدولة وأساس السلطان.
ولهذا قلنا: إنها أسباب ولا أسباب، وإنها بين أسباب مزعومة يراد بها غير ظاهرها، أو أسباب صحيحة ولكنها لم تفعل فعلها إلا لاقترانها بأحوال تلك الفترة، ولو جاءت في فترة أخرى لما كان لها ذلك الأثر، لم؟!
نعم، لم والأسباب واحدة تختلف عواقبها بين هذه الفترة وغيرها؟
ذلك أنها فترة جاءت بين الخلافة والمملكة، فلا تستقيم فيها وسائل الخلافة ولا تستقيم فيها وسائل المملكة. ومن هنا اضطرب الوزن، واضطراب السخط والرضى، وقياس الأمور في وقت واحد بمقياسين مختلفين أو متعارضين. ولعمر الحق ما من شيء يدل على أن الأحداث السياسية تبع للحالة النفسية ومقاييس الفكر والأخلاق كما يدل عليه تاريخ هذه الفترة في صدر الإسلام بين خلافة الراشدين ودولة بني أمية.
لقد كان الناس رعية «مملكة» يتصرفون في معايشهم ومطالبهم، كما يتصرف رعايا الممالك ويسومون ولي أمرهم أن يسوسهم سياسة الخلافة، وينتظرون من الخليفة الثالث ألا يجري في أمر من الأمور على نهج ينحرف قيد شعرة عن نهج الخليفتين الأول والثاني، وهم أنفسهم قد انحرفوا عن نهج رعايا الخليفتين أبعد انحراف.
ومما لا جدال فيه أنه عثمان لم يكن بقوة أبي بكر وعمر، ولكن عمر نفسه على قوته ومهابته قد أحس في أخريات أيامه وطأة الاختلاف بين العهود؛ فكان يقول في دعائه: «اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني غير مضيع ولا مفرط ...»
فتكليف عثمان أن يستبقي الزمن حيث لا يبقى ضرب من تكليف الأيام ضد طباعها كما قال الشاعر الحكيم، وقد أسلفنا الإشارة إلى ذلك، فقلنا في عبقرية الإمام إن عثمان «أحس بها فما فارق الدنيا حتى ترك الخلافة والملك عسكرين متناجزين لا يرجع أحدهما إلا بالغلبة على نده وضده.»
وقلنا قبل ذلك: «إنه لا بد من ملك أو خلافة، ولن يكون ملك بأدوات خليفة ولا خليفة بأدوات ملك، ولم يكن معاوية زاهدا في الخلافة على عهد أبي بكر أو عمر أو عثمان، ولكن الخلافة كانت زاهدة فيه، فلما جاء عصر الملك طلب الملك والملك يطلبه ...»
ثم قلنا: «كيف يكون المخرج بين سياسة الملك كما يطلبها العصر وسياسة الخلافة كما تطلبها البقية الباقية من آداب الفترة النبوية! ... أيفرق الأموال على رءوس القوم وقادة الجند وطلاب الترف؟! أم يلزمها عيشة النسك والشظف والجهاد؟! وإذا حرمهم وتألبوا عليه مع خصمه أفهو الغالب إذن بمطالب العصر ومقتضياته ودواعيه أم هم الغالبون؟! وإذا أعطاهم ليبذخوا بذخ الملك الدنيوي وهو وحده بينهم الناسك المجتهد على سنة النبوة، أفيستقيم له هذا «الدور» العجيب وهو في جوهره متناقض لا يستقيم؟!»
تلك هي العقدة التي استحكمت في عهد عثمان ووجب أن تنقطع في عهد علي ومعاوية.
وإعادة النظر في جميع الأسباب والتبعات تعود بنا إلى نظرة فاصلة في هذه المشكلة التي زادها نفر من المؤرخين إشكالا بما أضافوه إليها من الأسباب المختلفة والأسباب الصحيحة التي خرجوا بها على غير مخرجها.
فنحن أولا في تاريخ الخليفة الثالث أمام حادثين لا تكفي أسباب أحدهما لتفسير الحادث الآخر.
ونحن في الحادثين جميعا بعد هذا أمام أسباب لا تفعل فعلها لو جاءت في فترة أخرى، ولعلها تفعل نقيض فعلها فتؤيد ولي الأمر ولا تخذله كما تأيدت دولة بني أمية بالعطايا والعمائر، وكان فيها خذلان عثمان ومشيره مروان.
وما لم تنقطع غاشية هذا اللبس وهذا الإبهام من تاريخ هذه الفترة؛ فنحن نسلكها في ضباب لا تبدو فيه الأشباح والصور على حقيقتها؛ ومن ثم رجونا أن نبدأ السيرة وقد تبدد ما حولها من غواشي ذلك الضباب الكثيف، وسنبدؤها من حيث تبدأ في طريق لا يبهمه اختلاط الأسباب ولا التعويل عليها مبتورة منفصلة الرءوس والأذناب.
الفصل الخامس
بين الجاهلية والإسلام
نشأ عثمان بن عفان في أسرة أموية تنتمي إلى أمية جد أبيه، وعند أمية يكثر الخلاف على سلسلة النسب بين أسرته والنسابين؛ فلا تتفق الأقوال المتضاربة على قول حاسم.
يقول المقريزي في رسالة النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم: «وقد كانت المنافرة لا تزال بين بني هاشم وبني عبد شمس؛ بحيث إنه يقال: إن هاشما وعبد شمس ولدا توءمين فخرج عبد شمس في الولادة قبل هاشم، وقد لصقت أصبع أحدهما بجبهة الآخر، فلما نزعت دمي المكان فقيل سيكون بينهما أو بين ولديهما دم، فكان كذلك.
ويقال: إن عبد شمس وهاشم كانا يوم ولدا في بطن واحد، كانت جباههما ملصقة بعضها ببعض ففرق بين جباههما بالسيف، فقال بعض العرب: ألا فرق ذلك بالدرهم؟ فإنه لا يزال السيف بينهم وبين أولادهم إلى الأبد.»
وأمية هو في تاريخ الأسرة ابن عبد شمس أحد التوءمين أو الأخوين، ولكن بعض النسابين يقول: إنه ربيب عبد شمس، وإنه ابن جارية رومية وصلت إلى الحجاز مع ركب سفينة جنحت إلى الشاطئ، ويفسرون بذلك أبياتا منسوبة إلى أبي طالب يقول فيها:
قديما أبوهم كان عبدا لجدنا
بني أمة شهلاء جاش بها البحر
ويفسرون به أيضا قول الإمام علي لمعاوية في بعض كتبه: «ليس المهاجر كطليق، ولا الصريح كاللصيق.» وجاء في ابن هشام أن عقبة بن ذكوان بن أمية صاح حين أمر النبي بقتله: «أأقتل من بين قريش؟» فقال عمر بن الخطاب: «حن قدح
1
ليس منها»، وهو مثل يضرب للقدح الدخيل في الميسر، وروى ابن هشام أيضا أن النبي عليه السلام قال حينئذ: «إنما أنت يهودي من أهل صفورية» ويقال في تفسير الحديث: إن الأمة التي ولدت أباه كانت ليهودي من أهل صفورية، ويقال غير ذلك مما يعسر الفصل فيه.
ولكنه من الراجح الذي ينتهي به التاريخ إلى دور التحقيق أن التبني وتدعيم العصبية به معهودان في هذه الأسرة على نحو لم يذكر له مثيل في الأسر الجاهلية الكبيرة، ومما رواه الأصفهاني وابن أبي الحديد أن معاوية قال لدغفل النسابة: «أرأيت أمية؟»
قال: «نعم» قال: «كيف رأيته؟» قال: «رأيته رجلا قصيرا ضريرا يقوده عبده ذكوان.» قال معاوية: «ذلك ابنه أبو عمرو.» قال دغفل: «ذلك شيء تقولونه أنتم، أما قريش فلم تكن تعرف إلا أنه عبده.» •••
وفي التاريخ الثابت بعد الإسلام أن أبا سفيان استلحق زيادا الذي كان يسمى بزياد بن أبيه أو بزياد بن سمية، وكان معاوية يغضب على من ينكر هذا الاستلحاق، فقال يزيد بن مفرغ يخاطبه:
أتغضب أن يقال أبوك عف
وترضى أن يقال أبوك زان
فأقسم إن رحمك من زياد
كرحم الفيل من ولد الأتان
وروى البلاذري من أخبار هذا الاستلحاق أن عثمان بن محمد بن أبي سفيان ولي المدينة بعد عمرو بن سعيد، فعرض في خطبته بسلفه وكان هذا حاضرا في المسجد؛ فنهض مغضبا وقال فيما قال لعثمان حفيد أبي سفيان: «إنني لا يستنكر شبهي ولا أدعى لغير أبي.»
ويزيد المقريزي على ما تقدم من خبره أن أمية «صنع في الجاهلية شيئا لم يصنعه أحد من العرب: زوج ابنه أبا عمرو امرأته في حياته.»
قال المقريزي: «والمقتيون
2
في الإسلام هم الذين أولدوا نساء آبائهم واستنكحوهن من بعد موتهم، وأما أن يتزوجها في حياته ويبني عليها وهو يراه فإن هذا لم يكن قط، وأمية قد جاوز هذا المعنى ولم يرض بهذا المقدار حتى نزل عنها له وزوجها منه.»
ثم قال المقريزي: «وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية قد زاد في المقت درجتين.»
وندع ما جاء في أنساب الأشراف وفي شرح نهج البلاغة من سائر هذه الأخبار عن استلحاق الأبناء، فإن الحرص على تدعيم العصبية ظاهر في هذه الأسرة مما ثبت من أخبارها فلا حاجة إلى الإسهاب فيه. •••
وكانت المنافرة شديدة بين أمية وهاشم على أيام الدعوة المحمدية، يحفظ لنا الرواة أخبارا كثيرة منها، قديمة وحديثة، فمن أحدثها قبل الدعوة الإسلامية أن حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم تنافرا إلى حكم من بني عدي القرشيين هو نفيل جد الفاروق، فقال نفيل لحرب: «أتنافر رجلا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ولدا، وأجزل منك صفدا، وأطول منك مذودا:
3
أبوك معاهد وأبوه عف
وذاد الفيل عن بلد حرام»
يشير إلى تعرض أمية للنساء، ومنهن امرأة من بني زهرة راودها فتصدى له بعض قومها، وأوشكت أن تكون من جراء هذا الخلاف فتنة بين قبائل قريش.
وأقدم من هذه المنافرة منافرة أخرى بين هاشم وأمية تكلف فيها أمية أن يصنع صنيع هاشم، وكان هاشم - واسمه عمرو - قد غلب عليه لقب هاشم؛ لأنه تكفل بإطعام المعوزين من أهل مكة وجيرتها عام المجاعة، فكان يهشم الثريد لهم وينحر الإبل ويتعهد الفقراء، وفيه يقول شاعرهم:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
فأراد أمية أن ينافسه في الشرف ومحبة الناس إياه فعجز عن هذه المنزلة، فدعاه إلى المنافرة كعادتهم، واحتكما إلى كاهن خزاعة بعسفان على خمسين ناقة تنحر بمكة، وجلاء عشر سنين من جوار الحرم، فقال الكاهن سجعا على أسلوب الكهان والمحكمين جميعا يومئذ: «والقمر الباهر والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم إلى المآثر، أول منه وآخر، وأبو همهمة بذلك خابر.»
وأبو همهمة الذي أشار إليه الكاهن هو حبيب بن عامر الذي خرج مع أمية، وينتهي نسبه إلى فهر بن مالك، وكأنما أراد الكاهن بذكره أن يذكره بما في النسب الأول والآخر من سر هو به خبير.
قال الرواة: فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين.
ويكاد التنافس بين العشيرتين أن يشمل كل مطلب من مطالب الحياة فشمل الفروسية، ووسامة الذرية، كما شمل الرئاسة، ومفاخر السيادة. •••
تنافس أمية وعبد المطلب على سباق للخيل، وتراهنا على أن تحز ناصية المسبوق سنة ويغرم عددا اختلفوا فيه من العبيد والإماء والإبل، فسبق فرس عبد المطلب فرس أمية، ودان أمية بسيادته عليه سنة، وينقل ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة كلمة لعبد الله بن جعفر في محضر معاوية جبه
4
بها يزيد وهو يفاخره فقال: «أتفاخرني بحرب الذي أجرناه، أم بأمية الذي ملكناه، أم بعبد شمس الذي كفلناه؟!»
ويقول الكلبي في أبناء عبد المطلب: «كانوا إذا طافوا بالبيت يأخذون البصر»، ورآهم عامر بن مالك فقال: «بهؤلاء تمنع مكة». وغير هذه الصفة تقال في أبناء حرب؛ فلا يتصدى لنقضها أحد من الأمويين المتقدمين.
ونحسب أن المنافسة بين العشيرتين كانت ضربة لازب؛ لأن الاختلاف بينهما أعمق غورا من الاختلاف على الرئاسة ومناصب الشرف فيما اصطلح عليه عرف الجاهلية: كان اختلافا في الخلق والطبيعة، وكان بنو هاشم على ما ثبت من الروايات المتقدمة أقرب إلى الأخلاق المثالية الدينية، وبنو أمية أقرب إلى الأخلاق العملية الدنيوية، وقد يتردد المؤرخ في قبول بعض الروايات المتقدمة على علاتها، ولكنه لا يحتاج إلى المشكوك فيه من تلك المرويات؛ ليعلم هذا الفارق الواضح من خلائق العشيرتين فيما أثر عنهم قبل الإسلام وبعد الإسلام، ففي حلف الفضول قام بنو هاشم بالأمر، وقام به معهم بنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم، وتخلى عنه عبد شمس فلم يشتركوا فيه. وحلف الفضول هذا هو الذي قال عنه النبي عليه السلام: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول ... أما لو دعيت به اليوم لأجبت، وما أحب أن لي به حمر النعم وأني نقضته.»
وخلاصة قصته أن رجلا يمانيا قدم مكة ببضاعة، فاشتراها رجل فلواه بحقه وأبى أن يرد إليه بضاعته، فقام في الحجر أو في مكان على شرف وصاح يستغيث، وكان من أجل ذلك أن تعاهد أناس من بني هاشم وأحلافهم ألا يظلم بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد؛ إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه من أنفسهم ومن غيرهم، وعمدوا إلى ماء من زمزم فجعلوه في جفنة وبعثوا به إلى البيت فغسلت به أركانه وشربوه.
وقد أبى الأمويون وبنو عبد شمس عامة على أحد منهم أن يدخل هذا الحلف، فكان أحدهم عتبة بن ربيعة يقول: «لو أن رجلا وحده خرج من قومه؛ لخرجت من عبد شمس حتى أدخل حلف الفضول.»
وإن طبيعتين يفصلهما هذا الفاصل من ذوات النفوس، لا جرم تتنافران وإن ضمهما بلد واحد، وإنهما في البلد الواحد لأخلق بالتنافر من المتباعدين.
هذه العجالة عما كان من المنافرة بين بني هاشم وبني أمية في الجاهلية تدخل في سيرة عثمان من مداخل شتى، وقل أن يمر بنا مبحث في عمل من أعماله أو أخلاقه إلا كانت به عودة إلى تلك المنافرة.
فمنها نفهم أن فضل عثمان في إسلامه لا يدانيه فضل أحد من السابقين المعدودين إلى الإسلام؛ إذ لم يكن منهم من أقامت أسرته بينها وبين النبي هذه الحواجز العريقة من المنافسة والملاحاة، وكلهم كان بينهم وبين الإسلام ما كان بين القديم عامة والجديد خاصة، ولم تبلغ عداوتهم أن تكون من عصبية اللحم والدم، أو عصبية البيت كما كانت عداوة الأمويين للهاشميين، وليست هذه العداوة في الجاهلية بالشيء الهين ولا بالعقبة المذللة، فقد رأينا رجلا من بني عبد شمس كان يتمنى أن يشهد حلف الفضول، فحماه أن يفعل ذلك خشية الخروج على قومه ببدعة لم يقبلوها ولم يشتركوا فيها، وهذا مع ما هو واضح من الفارق بين دعوة كحلف الفضول لا تنقض دينا ولا تغير عبادة ولا تميز أحدا من الداخلين فيها بشرف أو سيادة، وبين دعوة كالدعوة المحمدية: تحطم كل صنم، وتبدل كل عبادة، وتثبت لبيت عبد المطلب شرفا لا يسمو إليه شرف بين الناس كافة، فضلا عن قريش وأمة العرب بكل من تشتمل عليه.
وما تقدم من شواجر النزاع بين أمية وهاشم كاف لإبانة عن فضل عثمان في سبقه مع السابقين إلى قبول الدعوة المحمدية. إلا أن هذا الذي تقدم لم يكن شيئا إلى جانب الشر الذي قوبل به النبي في بيت عثمان نفسه وبين عمومته وقرابته من جملة الأمويين.
فالحكم بن العاص - عم عثمان - كان يتصدى للنبي، ويشتمه ويمشي وراءه يحكيه في مشيته، ويخلج بأنفه وفمه، فقيل: إنه عليه السلام التفت إليه وهو بهذه الحالة فلزمه ذلك الاختلاج، وقال فيه عبد الرحمن بن حسان وهو يهجو مروان ابنه:
إن اللعين أباك فارم عظامه
إن ترم ترم مخلجا مجنونا
يضحى خميص البطن من عمل التقى
ويظل من عمل الخبيث بطينا
وقد لبث على دخلة نفسه بعد إسلامه عام الفتح خوفا من القتل، فكان يتطلع على النبي في داره، فرآه مرة فقال: «من عذيرى من هذا الوزغة!» ثم أمر ألا يساكنه بالمدينة، فأخرج مع بنيه إلى الطائف لا يدخل المدينة ما أقام فيها عليه السلام.
ومنهم عقبة بن أبي معيط الذي كان يتربص بالنبي حتى يسجد في صلاته فيلقي على رأسه سلا الشاء أو يطأ على عنقه الشريفة، كما قال النبي في يوم بدر: «إنه وطئ على عنقي وأنا ساجد، فما رفعت حتى ظننت أن عيني قد سقطتا.» وكان أحد الأسرى الذين قتلوا ببدر لشدة ما ابتلى به المسلمون من أذاهم قبل الهجرة، وفي بيت عقبة هذا أقام عثمان زمنا؛ لأنه تزوج من أمه بعد موت أبيه في صباه.
وتصدى للنبي عليه السلام كثيرون غير هذين من قرابة عثمان وخاصة أهله، ولم يدخل في الإسلام أحد من بني أمية قبله مع هذه العداوة في أسرته كلها وفي خاصة قرابته منها، فله من فضل هذه السابقة ما ليس لأحد السابقين إلى قبول الدعوة المحمدية.
ولما أسلم رضي الله عنه أخذه عمه الحكم، فأوثقه رباطا وعذبه، وأقسم لا يخلينه أو يدع ما هو فيه؛ فأقسم لا يدعنه أبدا، وصبر على العذاب حتى يئس منه عمه فأخلاه.
وروي في سبب إسلامه أن أبا بكر شرح له قواعد الإسلام وهداية الدين الجديد وأنس منه خشوعا وتفكيرا؛ فقال له: «ويحك يا عثمان، والله إنك لرجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل. ما هذه الأوثان التي تعبدها وقومك؟ أليست حجارة لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع؟» فراجع نفسه وقال: «بلى، والله إنها لكذلك»؛ فدعاه أبو بكر إلى لقاء النبي ولقيه، فقال له عليه السلام: «يا عثمان، أجب الله إلى جنته.» قال عثمان: «فو الله ما ملكت حين سمعت قوله أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية.»
ومن المتواتر أن عثمان كانت له خالة اسمها سعدي بنت كريز تتكهن وتتعبد، ونقل عنها أنها هنأته بإسلامه وزواجه، فقالت:
هدى الله عثمان الصفي بقوله
فأرشده والله يهدي إلى الحق
فبايع بالرأي السديد محمدا
وكان ابن أروى لا يصد عن الصدق
وأنكحه المبعوث خير بناته
فكان كبدر مازج الشمس في الأفق
وينقل عنها غير ذلك أنها كانت طرقت
5
وتكهنت عند قومها، فلما رأته بعد قيام النبي بالدعوة قالت:
أبشر وحييت ثلاثا تترى
أتاك خير ووقيت شرا
أنكحت والله حصانا زهرا
6
وأنت بكر ولقيت بكرا
وافيتها بنت عظيم قدرا
بنت نبي قد أشاد ذكرا
قال عثمان: «فعجبت من كلامها وسألتها: يا خالة، ما تقولين؟!» قالت: «يا عثمان، لك الجمال ولك اللسان، هذا نبي معه البرهان، أرسله بحقه الديان، فاتبعه واهجر الأوثان.» واستزادها قائلا: «يا خالة، إنك لتذكرين شيئا ما وقع ذكره في بلدنا فأبينيه لي.» قالت: «محمد بن عبد الله رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله يدعو إلى الحق والهدى.»
ويقال: إن عثمان إنما ذهب إلى أبي بكر بعد ما سمعه من خالته، فرآه أبو بكر مفكرا فسأله، وجرى بينهما بعد ذلك ما تقدم من النصيحة والاستجابة على ما اتفقت به الروايات.
ونحن نسقط من حسابنا ما روي من كلام الكاهنة؛ لأنه ضعيف السند لا يبقى منه إلا أن خالة لعثمان كانت تتكهن وتتعبد، وأن مسألة الدين في بيته كانت شغلا شاغلا لمن يأخذه على العصبية والعناد أو يأخذه على العبادة والتقوى، فما نظن أن رجلا في الثلاثين - وهي سنه عند إسلامه - كان يعصى آله جميعا، ويطيع شيخة عقاما لو لم يكن في ضميره باعث مطاع إلى الإيمان بالدين الجديد.
وفي وسعنا أن نتخيل غضب قومه الأقربين من إسلامه، فقد كان كأشد غضب لحق مسلما من قومه المقيمين على الجاهلية، ولكنه مع هذا لم يمنع أناسا منهم أن يلوذوا به خوفا على أنفسهم بعد هزيمتهم، ولم يمنع أن يتشفع لهم عند النبي وصحبه ويسأله العفو عنهم، وكذلك نرى أن تاريخ أمية في الجاهلية يحضرنا عند تقدير فضل عثمان في إسلامه، ويحضرنا عند تقدير أعذاره وعلل أعماله التي أخذت عليه بعد ولايته الخلافة؛ فقد كان لتدعيم العصبية وتأليبها شأن قديم في تاريخ هذه الأسرة ألجأها إلى استلحاق الأبناء من الموالي، وإلى تزويج البنين من زوجات آبائهم أو الموالي من زوجات أوليائهم، ولا ندري على التحقيق بم نعلل هذه العادة التي انفردوا بها أو كادوا، إلا أنها قد تعلل بأن القوم لم يكونوا من الخمول بحيث يسكنون إلى خمولهم، ولم يكونوا من العزة الراسخة بحيث يطمئنون إلى عزتهم، وأنهم - وإن لم يعقموا - لم تشتهر عنهم غزارة الذرية في الجاهلية، ولا في الإسلام، وهذه سلسلة ولاية العهد أوشكت أن تنقطع في كل بيت من بيوتهم ولي الخلافة بعد قيام الدولة الأموية، وربما انقرض البيت في جيل أو جيلين وبقي معاصروه من غيرهم عدة أجيال.
وقد انتهت المفاخرة بعد الإسلام بين المسلمين من بني أمية وبين بني عبد المطلب، فما من أموي مسلم كان يتعالى إلى مطاولة آل النبي بالنسب من جانب آبائه عليه السلام خاصة، ولكنهم مع هذا - ولا استثناء لأصدقهم إسلاما كعثمان وصحابة النبي - قد كانوا يودون لو سمعوا عن أمية كلما سمعوا عن هاشم وبنيه. وتقدم أن معاوية سأل دغفلا النسابة عن أمية بعد سؤاله عن عبد المطلب، وابن أبي الحديد يروي مثل هذا عن عثمان في أيام خلافته، وأنه رضي الله عنه تمنى رجلا يحدثه عن الملوك وسير الماضين؛ فذكروا له رجلا بحضرموت، فكان مما سأله عنه: أرأيت عبد المطلب؟ قال: «نعم، رأيت رجلا قعدا أبيض طوالا مقرون الحاجبين بين عينيه غرة يقال إن فيها بركة، وأن فيه بركة.» فعاد يسأله: «أفرأيت أمية؟» قال: «نعم، رأيت رجلا آدم دميما قصيرا أعمى يقال: إنه نكد. وإن فيه نكدا.» قال عثمان: «حسبك من شر سماعه وصرف الرجل.»
ولا ينبغي أن ينسى العذر حيث يذكر الفضل للرجل من سوابق آله وذويه.
الفصل السادس
نشأته وشخصيته
ترجمة عثمان ترجمة سوية، لا نستغرب من لاحقها بعد الإسلام شيئا مما نعلمه عن سابق سيرته قبل إسلامه، وإذا فاجأنا بالغرابة لأول وهلة فإنما نستغربه من أثر المفاجأة، ثم نعود إلى دواعيه؛ فإذا هو مطرد لا غرابة فيه.
نشأ في نعمة وعيش خفيض، وكانت ولادته بالطائف أخصب بقاع الحجاز، لست سنوات مضت من عام الفيل، ولم يؤثر عنه أنه اختبر شظف العيش قط في صباه أو طفولته.
وهو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، كان أبوه تاجرا واسع التجارة، وكان يحمل قوافله إلى الشام على دأب الأكثرين من تجار بني أمية، وفي إحدى هذه الرحلات التجارية مات عن ثورة عظيمة، وترك ابنه بين الصبا والشباب.
وإذا صح ما جاء في أنساب الأشراف للبلاذري فقد كان عفان يعمل في حياكة الثياب: «عفان أول حائك لثيابكم»، ولكننا نستبعد جدا أن يجمع الثروة من حياكة الثياب بيديه، ومن الراجح إذن أنه كان يدير مصنعا من مصانعها، أو أنه عمل بها في صباه، ثم تحول عنها إلى التجارة.
وأم عثمان هي أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأمها أروى البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي عليه السلام، وقد سبق أن أختها تتكهن وتنقطع للكهانة، ففي وراثته من جانب أمه جنوح إلى طبيعة التدين التي اشتهر بها عبد المطلب وآباؤه وبنوه.
ويروى كما جاء في ابن الأثير أن عقبة بن أبي معيط شكاه إلى أمه - وكان قد تزوج بها بعد وفاة عفان - فقال لها: إن ابنك قد صار ينصر محمدا؛ فلم تنكر ذلك من ابنها، وقالت: «ومن أولى به منا؟ ... أموالنا وأنفسنا دون محمد.»
وقد كان مألوفا في الجاهلية أن تتزوج المرأة بعد تطليقها من زوجها أو بعد وفاته، ولكن هذه العادة المألوفة لا تمنع أن ينقبض لها الابن وأن ينكسر لها بينه وبين نفسه، فيلازمه منها بعض الخجل ولا يرتاح إليها بأية حال.
ويبدو من دراسات علم النفس الحديث أن «مشكلة الأب» قد تمكنت من طوية الصبي؛ فكان لها فعلها في توجيه شعوره من ناحية ذويه ومن ناحية البيئة بأسرها؛ فضاعفت ما في وراثته الأموية من الإيواء إلى ذوي قرباه، وهيأت نفسه للنفور من الوضع القائم في البيئة؛ فلم يصعب عليه أن ينكر الأوضاع القائمة في نطاقها الأعم الأوسع، وهو نطاق الشعائر الجاهلية.
ذلك أنه نشأ وهو يحس أن رب البيت الذي نشأ فيه غاصب ينتزع مكان أبيه؛ فتمكنت من نفسه الريبة في الأوضاع القائمة، ولم يحتملها إلا على مضض الكاره وترقب المتربص، وبخاصة حين تأتي من ناحية الأم التي تتمثل لابنها في هذه الحالة كأنها مغلوبة على أمرها منتزعة ممن هو أحق بها.
وقد أسلفنا أننا لا نعول كثيرا على الرواية التي تعود بإسلام عثمان إلى نصيحة خالته الكاهنة؛ فليس في كلامها مقنع للفكر يحول رجلا في الثلاثين عن دينه وتراث بيته، ولكنها على هذا تدل على داعية من الشعور لا نهملها ولا نستبعد مكانها من السريرة الباطنة، ويعززها أن أسرة أمه كانت لا تخلو من عطف قوي نحو صاحب الدعوة إلى الدين الجديد؛ عطف يبدو من قول أمه: «أموالنا وأنفسنا دون محمد»، وهي كلمة لا ينبغي أن ننساها في مواطن كثيرة من سيرة ابنها رضوان الله عليه.
ونقرأ وصف عثمان على ألسنة معاصريه؛ فنراهم مجمعين على صفتين لم ينسها أحد منهم: وهما الجمال والحياء.
كان ربعة لا بالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه، مشرف الأنف، بوجنتيه نكتات من آثار الجدري، رقيق البشرة، أسمر اللون، كثير الشعر، له جمة أسفل أذنيه، وبه صلع مع طول في لحيته وغزارة في عارضيه.
وكان خفيف الجسم، ولكنه لم يكن بضعيفه ولا معروقه، بل كان ضخم الكراديس بعيد ما بين المنكبين.
أما خلائقه فقد أجمع واصفوه على أنه كان عذب الروح، حلو الشمائل، محببا إلى عارفيه، ومن ذاك أن نساء قريش كن يرقصن أطفالهن فيقلن:
أحبك والرحمن
حب قريش عثمان
وكان يوتد أسنانه بالذهب، ويخضب لحيته، وربما تركها بغير خضاب.
وفي كتاب «الرياض النضرة» يروي المحب الطبري عن عمرو بن عثمان أن عثمان بن عفان قال: «كنت رجلا مستهترا بالنساء، وإني ذات ليلة بفناء الكعبة في رهط من قريش إذ أتينا فقيل لنا: إن محمدا قد أنكح عتبة بن أبي لهب رقية، وكانت رقية ذات جمال رائع.
قال عثمان: فدخلتني الحسرة لم لا أكون أنا سبقت إلى ذلك؟ فلم ألبث أن انصرفت إلى منزلي ؛ فأصبت خالة لي قاعدة وهي سعدى بنت كريز، وكانت قد طرقت وتكهنت عند قومها، فلما رأتني قالت: «أبشر وحييت ثلاثا تترى» إلى آخر الأبيات. وروى ما تقدم من حديثها في غير هذا الفصل إلى قوله: «وكان لي مجلس عند أبي بكر، فأتيته فأصبته في مجلس ليس عنده أحد، فجلست إليه فرآني مفكرا فسألني عن أمري، وكان رجلا متأنيا، فأخبرته بما سمعت من خالتي، فقال: «ويحك يا عثمان إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل»، ثم قال: فما كان أسرع من أن مر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومعه علي بن أبي طالب يحمل ثوبا؛ فلما رآه أبو بكر قام فساره في أذنه بشيء، فجاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ثم أقبل علي فقال: «يا عثمان، أجب الله إلى جنته، فإني رسول الله إليك وإلى خلقه.» قال: فوالله ما تمالكت حين سمعت قوله أن أسلمت؛ وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ...»
وتتكرر قصة كهذه في كتاب الإصابة لابن حجر العسقلاني، وهي قصة يلاحظ عليها أن زواج السيدة رقية من عتبة بن أبي لهب قد كان قبل البعثة النبوية، فلما بعث النبي قال أبو لهب لابنه: «رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته»؛ ففارقها ولم يكن دخل بها.
فلا يبقى من هذه القصة ما يستبقى للتعريف بخلائق عثمان إلا قوله عن نفسه إنه كان في الجاهلية مستهترا
1
بالنساء، ولو لم يرد حديث هذه القصة في رواية من الروايات؛ لما علمنا قط أنه كان كذلك في الجاهلية؛ لأن أحدا من معاصريه في الجاهلية لم يشهده على حال يحسبها من الاستهتار بالنساء، فإنهم كانوا يبيحون كثرة الزوجات لمن استطاع أن يجمع بينهن، وإنما نعرف من هذه القصة خلائق عثمان بنعمته وحيائه، وبقدرته على المتعة والتعفف عما يشينه منها، وبالخلق الذي لازمه طول الحياة، وهو خلق ربيب النعمة الكريم.
روى عمرو بن أمية الضمري قال: «إني كنت أتعشى مع عثمان خزيرا من طبخ من أجود ما رأيت، فيها بطون الغنم وأدمها اللبن والسمن، فقال عثمان: كيف ترى هذا الطعام؟! فقلت: هذا أطيب ما أكلت قط، فقال: يرحم الله ابن الخطاب. أكلت معه هذه الخزيرة قط؟ قلت: نعم، فكادت اللقمة تفرث بين يدي حين أهوى بها إلى فمي وليس فيها لحم، وكان أدمها السمن ولا لبن فيها، فقال عثمان: صدقت: صدقت! إن عمر رضي الله عنه أتعب والله من تبع أثره، وإنه كان يطلب بثنيه - أي منعه - عن هذه الأمور ظلفا - أي غلظا - في المعيشة. ثم قال: أما والله ما آكله من مال المسلمين، ولكني آكله من مالي، وأنت تعلم أني كنت أكثر قريش مالا وأجدهم في التجارة، ولم أزل آكل من الطعام ما لان منه وقد بلغت سنا، فأحب الطعام إلي ألينه، ولا أعلم لأحد علي في ذلك تبعة.»
ودخل زياد على عثمان في خلافته بما بقي عنده لبيت المال، فجاء ابن لعثمان فأخذ شيئا من فضة ومضى به؛ فبكى زياد، قال عثمان: «ما يبكيك؟» قال: «أتيت أمير المؤمنين عمر بمثل ما أتيتك به، فجاء ابن له فأخذ درهما، فأمر به أن ينتزع منه حتى أبكى الغلام، وإن ابنك هذا جاء فأخذ ما أخذ؛ فلم أر أحدا قال له شيئا.» قال عثمان: «إن عمر كان يمنع أهله وقرابته ابتغاء وجه الله، وإني أعطي أهلي وأقربائي ابتغاء وجه الله. ولن تلقى مثل عمر، لن تلقى مثل عمر، لن تلقى مثل عمر.»
وقد سمع غير مرة يقول: «يرحم الله عمر، من ذا يطيق ما كان يطيقه!» •••
وصفوة القول في خلائق عثمان أنه كان إلى صفات الطيبة والسماحة أقرب منه إلى صفات البأس والصرامة، وأن نشأة العيش الخفيض صحبته من صباه إلى شيخوخته، وفي غير تبعة عليه كما قال.
اختصم يوما هو وأبو عبيدة بن الجراح، فقال أبو عبيدة: «أنا أفضل منك بثلاث»، فسأله عثمان: «وما هن؟» قال: «الأولى: إني كنت يوم البيعة حاضرا وأنت غائب، والثانية: شهدت بدرا ولم تشهده، والثالثة: كنت ممن ثبت يوم أحد ولم تثبت أنت»، فلم يغضب عثمان ولكنه قال له: «صدقت». ثم أجابه معتذرا فقال: «أما يوم البيعة فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعثني في حاجة، ومد يده عني وقال: هذه يد عثمان بن عفان، وكانت يده الشريفة خيرا من يدي، وأما يوم بدر فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
استخلفني على المدينة ولم يمكنني مخالفته، وكانت ابنته رقية مريضة؛ فاشتغلت بخدمتها حتى ماتت ودفنتها، وأما انهزامي يوم أحد، فإن الله عفا عني وأضاف فعلي إلى الشيطان، فقال تعالى:
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (آل عمران: 155).»
والحق أن تخلف عثمان عن يوم البيعة وعن يوم بدر لم يكن باختيار منه، ولم يكن فيه إحجام عن خطر مخوف، بل تخلف في اليومين طوعا لأمر النبي عليه السلام، أما يوم «أحد» فقد انهزم معه فيه كثيرون من شجعان الصحابة، وكانت الهزيمة فيه صدمة من صدمات البغتة التي يكاد النكوص فيها أن يكون دفعة آلية، ثم يثبت الجأش بعد الصدمة الأولى كما حدث من أكثر المنهزمين في ذلك اليوم العصيب.
بيد أن المعارك الأخرى لم تحفظ لعثمان موقفا من تلك المواقف النادرة التي تتناقلها الألسنة ويتساير بها الركبان من أخبار زملائه الخلفاء، فإن كان فيها غير متخلف ولا محجم فليست هي بفخره الأول وفضيلته العليا. إنما كانت فضيلته العليا السخاء حيث يعز السخاء على أمثاله من ذوي الثراء، ولا سيما ذوي الثراء من بني أمية الذين ضنوا بأموالهم في الجاهلية والإسلام إلا لمطمع أو مصلحة، وهذه هي آية العقيدة في مناقب عثمان.
لقد أشربت النفوس من العقيدة الجديدة غيرة لا عهد لها بمثلها في التنافس بين أكفائها: غيرة في العقيدة، وغيرة لها، وغيرة عليها، فجمعت من معاني الغيرة أشرفها وأصدقها وأبعدها عن التنازع بين الناس بالباطل والتلاحي بينهم بالعرض الزائل، إذ كانت تجمع من معاني الغيرة الشريفة: غيرة الحماسة للعقيدة، وغيرة التنافس عليها ، وغيرة الصدق في منافستها، وأشرف ما في هذه الغيرة الشريفة أنها لم تكن تغري أحدا بغمط حق لأحد، أو بادعاء حق لا يؤمن به من يدعيه في قرارة ضميره؛ لأنها لم تكن غيرة العرف الظاهر قصاراها الوجاهة عند الناس، بل كانت الوجاهة عند الله قصاراها ومبدأها ومنتهاها، فلا يدعيها مدع بالباطل، ولا يأمن إذا ادعاها بالباطل أن تذهب جميعا فلا تبقى لها عنده ولا عند الناس أو عند الله باقية؛ ومن ثم كانت غيرة بناء وصدق، ولم تكن غيرة هدم وادعاء.
ومضى الناس يتنافسون، ويؤمرون أن يتنافسوا في مثل هذا الفضل، فهم فيه متنافسون مجدون، وقد رأينا كيف كان أناس في رجاحة أبي عبيدة وعثمان يتعارفون على هذا التنافس الذي لا يخجل فيه أخ من أخيه ولا صديق من صديقه؛ فلا ينقم مسبوق على سابق، ولكنه يغبطه ويستحث عزائمه على سبقه ما استطاع.
وهكذا نظر عثمان إلى أكفائه فوجد أنه لم يسبقهم في ميادين الجهاد؛ بالسيف فآلى على نفسه ليسبقنهم في ميادين الجود والسخاء، وثابر على ذلك من أول أيامه في الإسلام إلى ختام أيامه في الحياة، فهاجر إلى الحبشة وهو يعلم أن ماله كله عرضة للضياع من جراء هذه الهجرة؛ فلم يبال ما بقي منه وما ضاع، وتقدم في كل محنة أصابت المسلمين من فاقة أو قحط أو نقص في السلاح والعتاد، فبذل من المعونة والعطاء ما لم يبذله أحد من أمثاله في ثرائه، وما لم يبذله الذين هم أقدر منه على معونة أو عطاء، ولم يكن على أية حال بأغنى الأغنياء.
وكانت له سماحة محببة حيث يجود ويتكلم بكلام التجار في مساواتهم، وهو على غاية الجود.
قال ابن عباس: «قحط الناس في زمن أبي بكر، فقال أبو بكر: لا تمسون حتى يفرج الله عنكم، فلما كان من الغد جاء البشير إليه، فقال: لقد قدمت لعثمان ألف راحلة برا وطعاما، فغدا التجار على عثمان؛ فقرعوا عليه الباب فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه، فقال لهم : ما تريدون؟ قالوا: بلغنا أنه قدم لك ألف راحلة برا وطعاما. بعنا حتى نوسع على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا! فدخلوا، فإذا ألف وقر قد صب في الدار، فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟ قالوا: العشرة اثني عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة أربعة عشر. قال قد زادوني. قالوا: العشرة خمسة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: من زادوك ونحن تجار المدينة؟
قال: زادوني بكل درهم عشرة. هل عندكم زيادة؟ قالوا: لا. قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة.»
ويشير عثمان هنا - كما هو ظاهر - إلى جزاء الحسنة بعشرة أمثالها عند الله، ولن تعدم في هذا المقام ابتسامة سخف على فم متذحلق يقول: أما أعطى عطاءه وهو ينتظر الجزاء في الآخرة؟ فلقد آمن بالآخرة ألوف من ذوي الأموال التي لا تفنى، وهم لا يبضون بدرهم يوقنون من جزائه ما أيقنه عثمان.
وكان يدخل عرف الإحسان في صفقات التجارة، وهي تلك المعاملة التي اصطلح الناس قديما على أنها شيء يتقدم فيه حساب المنفعة على حساب المودة، بل القرابة، وممن يعبرون اليوم عن هذا المعنى ويقولون باصطلاح العصر من يعبرون عن معنى قديم تفاهم عليه المتعاملون بالبيع والشراء من أقدم الأزمنة، فقيل من أخباره في هذه الخصلة: إنه ابتاع حائطا - أي بستانا - من رجل، فساومه حتى قام على عثمان فالتفت عثمان إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: إن الله عز وجل أدخل الجنة رجلا كان سمحا بائعا ومبتاعا وقابضا ومقبضا، ثم زاد البائع العشرة الآلاف.
وأسعدت شمائل السماحة فيه بخصال أندر في أبناء النعمة من خصال الكرم والإحسان، فقد يهون على المرء أن يتجرد من بعض ماله، ولا يهون عليه أن يتجرد من بعض كبريائه وخيلائه وتعاليه على أنداده ونظرائه فضلا عمن يعلوهم بالبسطة والجاه، وكان المأثور عن عثمان كما روى صاحب الصفوة عن مولاة له أنه «كان لا يوقظ أحدا من أهله إلا أن يجده يقظان فيدعوه.»
وروى الحسن أنه «رآه نائما في المسجد ورداؤه تحت رأسه فيجيء الرجل فيجلس إليه، ثم يجيء الرجل فيجلس إليه، كأنه أحدهم.»
وربما أحرج كما يحرج أصحاب الحياء حين يجترئ على حيائهم من هو أولى بتوقيره فيبدر منه بعض ما يسوء مخاطبه، ثم لا يلبث أن يندم على بادرته ويتوب إلى الله، ومن قبيل ذلك غضبه على عمرو بن العاص حين واجهه بالزجر وهو يخطب الناس؛ فثارت ثورته أن يكون هو من يعظه عمرو بمثل ذلك الكلام وما فيه من إغراء بالفتنة عليه، قال عمرو: يا عثمان إنك قد ركبت بالناس النهابير
2
وركبوها منك، فتب إلى الله عز وجل ليتوبوا. فالتفت إليه مغضبا وأجاب قائلا: وأنت هناك يا ابن النابغة؟ ثم لم يلبث أن رفع يديه، وقال: أتوب إلى الله تعالى. ثم كررها فقال: اللهم إني أول تائب إليك.
فهذه شخصية سمحة، تساندت فيها مناقب السماحة، وأوشكت أن تستوفيها على مثال منقطع النظير فيمن عرفناها من الأعلام بين الجاهلية والإسلام: كرم، وحياء، ودعة، ورفق، وأريحية ومروءة تعين على المروءات. فهل يقال على هذا: إنها شخصية سمحة وكفى؟! هل يقال: إنها شخصية خلت من صفات البأس والصرامة، أو كان حظها من هذه الصفات ضئيلا لا يلتفت إليه؟! هل يقال إنها شخصية ضعيفة بكلمة متيقنة لا تردد فيها؟!
من السهل أن يقال ذلك متابعة لجمهرة المؤرخين الذين درجوا على تعليل الحوادث الجلى في عصر عثمان بضعفه واستسلامه لمن حوله، وعلى رأسهم ابن عمه مروان بن الحكم، فإن السهولة هنا توحي إلى المؤرخ أن يختار سبيلها، ويعفي نفسه من النظر إلى طريق غيرها قد يعترضه فيها اعتراض من حيث لا اعتراض على سالك السبيل السهل الذلول.
لكن القول بضعف عثمان صعب على من يعلم أن السماحة نفسها قوة لا يضطلع بها طبع ضعيف، وصعب على من ينظر في أعماله جميعا، ولا يكتفي منها بأعماله التي يبدو عليها الضعف والتردد، ولم يكن عهد من عهود سيرته يخلو من عمل يدل على قوة نفس ومناعة خلق وثبات لا يتزعزع أمام الهول والخطر، وحسبنا من عهود سيرته ما أحاطه بأطرافها من أول إسلامه إلى ختام حياته؛ فقد كان إسلامه تحديا قويا لخاصة أهله ثبت عليه مع بقاء العلية من قومه بين عدو للإسلام أو مسالم له على دخل وسوء نية، وقد تلقى في أول خلافته صدمات لم يتعرض الفاروق لأخطر منها في جميع أيامه ومنها: هزيمة الجيوش، وفناء بعضها بين عوارض الأجواء القصية، وانقضاض الروم والخزر على أطراف الدولة الإسلامية الحديثة، وبعض مواقفه في تلك الأيام لا يمكن الرجوع به إلى رأي مروان بن الحكم، كوصاياه في إعداد الحملات البحرية من المتطوعين بغير إكراه على أحد من المجندين، وليس من السهل أن يوصف بالضعف رجل يحيط به خطر الموت من كل جانب ولا يذعن لمن توعدوه به جهرة ورددوه على مسمعه ليل نهار.
كلا، لا يقول القائل عن رجل كهذا: إنه ضعيف، ثم يستريح إلى قولته، إلا أن يبتغي الراحة ولا يبتغي سواها.
ولكنا نحسب أن مكان عثمان من القوة والعزيمة هو المكان الذي يحتاج إلى التوضيح، ولا يتضح لأول نظرة في سيرته وحوادث عصره، فليس هو بالمكان الذي يتراءى على القرب والبعد كأنه العلم البين الغني عن التوضيح. •••
من الناس من يقتحم طريقه ولا ينتظر من يدله أو يدفعه، بل لعله يقتحمه ويصر على اقتحامه كلما كثر المعارضون له وقل من يدلونه عليه، ومن شأنه أن يحسم تردد المترددين واعتراض المعترضين؛ فلا يلبث أن يقودهم معتزما فينقادوا له معتزمين.
ليس عثمان من هؤلاء.
ومن الناس من لا يعرف العزم تابعا أو متبوعا، ولا يثبت عليه إذا عرفه إلا ريثما يدفعه الخطر عنه، وقد ينثني عن عزمه بغير خطر؛ لأنه من الوهن والعي بحيث لا يقوى على الثبات.
وليس عثمان من هؤلاء.
فليس هو مقتحما ولا هو منقادا عاجزا عن العزم والثبات، ولكنه وسط بين الاقتحام والانقياد لغيره في جميع الأحوال.
إنه ينقاد ويسوغ انقياده لنفسه بمسوغ ترضاه، ولا بد له من المسوغ المرضي في جميع الأحوال.
هؤلاء أيضا يختلفون في مسوغ الانقياد للآخرين، فمنهم من ينقاد لمن هم أكبر منه ويأبى الانقياد لمن هم مثله أو دونه في المنزلة، ومنهم على نقيض ذلك من ينقاد لمن هم أنداده أو ينقاد لمن هم دونه، ويأبى الانقياد للنظراء والرؤساء.
ومسوغ الأولين الذين ينقادون لمن هم أكبر منهم أن الانقياد للأكبر طبيعة في كل علاقة بين رئيس ومرءوس، ويدين بهذا المسوغ من لا حق له في الرئاسة، أو من لا مطمع له فيها على الأقل إلى حين، فقد يكون صغيرا يرجو أن يكبر، أو خاملا يرجو أن يعرف، أو مبتدئا يرجو أن ينتهي إلى العظمة كما انتهى إليها من يعظمهم من الرؤساء.
أما مسوغ الآخرين الذين ينقادون لمن هم أنداد لهم أو من هم دونهم، فهو أنهم أمنوا أن ينسب انقيادهم إلى ذلة أو خوف، وبخاصة حين يكون المنقاد معروف الوجاهة والرئاسة، مساويا لمن يدله ويشير عليه، أو راجحا عليه بالمكانة والسلطان.
وكذلك كان عثمان في اهتدائه إلى الإسلام بنصيحة أبي بكر الصديق، فقد كان عثمان أجمع لأسباب الوجاهة من أبي بكر في عرف عصره: كان من أمية وأبو بكر من تيم، وكان أغنى منه وأقدر على مخالفته، وكان أبو بكر إلى جانب هذا وذاك يدعوه إلى الإيمان برسول يتبعانه معا فيقبل إن شاء، ويأبى إن شاء، ولا سلطان له عليه.
وكذلك كان عثمان في إصغائه لمروان بن الحكم حيث أصغى إليه، فقد كان مروان كاتبه وتابعه، وكان إصغاؤه له لغير خوف أو مذلة، وعلما منه بأنه محسوب عليه.
وسماحة عثمان واضحة هنا أيضا؛ لأنها فرض كفروض الحساب لا يتأتى بغيره تقدير الحقيقة الملتبسة، فمن الناس من يأبى الانقياد للأنداد والرؤساء حسدا ونكدا، ومن يأبى الانقياد للأتباع والأعوان تيها وتجبرا وذهابا مع شهوة الترفع والاستعلاء، فهؤلاء كأولئك لا يعرفون السماحة ولا يوصفون بها، ولو لم يكن عثمان سمحا مبرأ من الحسد والنكد ومن شهوة الترفع والاستعلاء؛ لما أصغى إلى ند ولا إلى تابع، ولا سوغ الإصغاء إليهما بمسوغ من المسوغات ترضاه نفسه وتطمئن إليه.
من أشد ما يروى استدلالا على ضعفه وانقياده لرأى مروان بن الحكم قصة رواها ابن عباس عن أبيه، وهو ثقة فيما عاينه وحكاه، قال:
ما سمعت من أبي شيئا قط في أمر عثمان يلومه فيه أو يعذره، وما سألته عن شيء من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه، فأنا عنده ليلة ونحن نتعشى؛ إذ قيل: أمير المؤمنين بالباب، فقال: ائذنوا له، فدخل فأوسع له على فراشه، وأصاب من العشاء معه، فلما رفع قام من كان هناك وثبت أنا، فحمد عثمان الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا خال، فإني قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك علي ... سبني وشهر أمري، وقطع رحمي، وطعن في ديني، وإني أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب. إن كان لكم حق تزعمون أنكم غلبتم عليه فقد تركتموه في يدي من فعل ذلك بكم، وأنا أقرب إليكم رحما منه، وما لمت أحدا منكم إلا عليا، ولقد دعيت أن أبسط يدي عليه فتركته لله والرحم، وأنا أخاف ألا يتركني فلا أتركه.
قال: فحمد العباس الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يابن أختي فإن كنت لا تحمد عليا لنفسك؛ فإني لأحمدك لعلي، وما علي وحده قال فيك بل غيره، فلو أنك اتهمت نفسك للناس اتهم الناس أنفسهم لك، ولو أنك نزلت مما رقيت وارتقوا مما نزلوا فأخذت منهم وأخذوا منك؛ ما كان بذلك بأس.
قال عثمان: «فذلك إليك يا خال، وأنت بيني وبينهم.»
قال: «فأذكر لهم ذلك عنك؟»
قال: «نعم» وانصرف.
فما لبثنا أن قيل: هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب، فقال: ائذنوا له. فدخل فلم يجلس، وقال: لا تعجل يا خال حتى أوذنك.
فنظرنا فإذا مروان بن الحكم جالسا بالباب ينتظره حتى خرج، فهو الذي ثناه عن رأيه.
فأقبل علي أبي وقال: يا بني! ما إلى هذا - يعني عثمان - من أمره شيء.»
فإذا أخذت هذه القصة على عجل؛ فعثمان قد كان أداة لمروان يذهب به ويجيء كما يشاء ويمضيه على رأي أو يثنيه عنه على هواه.
ولكننا إذا تخيلنا عثمان على هذه الصورة وجب أن نسأل: من غير مروان كان يصنع بعثمان هذا الصنيع؟ فإن الرجل إذا كان هين المقادة إلى هذا الحد؛ هان على كل موسوس له أن يقوده، ولا سيما أقربهم إليه وألزمهم له من حرمه ومساكنيه في داره، وقد عرفنا من تاريخ تلك الفترة أو ما قاربها أنه كان يستمع في بيته إلى من يوغر صدره على مروان فلا يستجيب لتوغيره، ومنهم نائلة بنت الفرافصة زوجته، وقد كان للزوجات أثر في قصور ذوي السلطان ممن عرفوا بالقوة والسطوة، لم ينقطع في عصر من العصور.
فالطاعة هنا ليست بطاعة نفس ضعيفة لكل من يوسوس لها على مقربة منها، ولكنها طاعة اختيار لسبب له شأنه عند عثمان، وإن لم يكن له هذا الشأن عندنا نحن اليوم أو عند ناقديه من معاصريه.
ونحن على يقين أننا اليوم نتردد في الجواب إذا سئلنا: «من غير مروان بن الحكم كان خليقا أن يعمل لعثمان عمل الكاتب الوزير الذي يعمل له كأنه يعمل لنفسه في سره وجهره؟»
إننا نعرف رجال تلك الفترة المرشحين لمثل هذا العمل، فمن منهم يتولاه إذا استغنى عن مروان؟!
ليس مروان بأفضل من يكتب للخليفة في عصره، ولكن الذين هم أفضل منه لا يرتبطون بهذا العمل ارتباطه، ولا يطالبهم عثمان بما يطالب به مروان من خدمته وولائه.
لقد ذهب عثمان إلى العباس يشكو عليا، ويكاد يعم بالشكوى بني عبد المطلب؛ لأنه يحسبهم ذوي حق غلبوا عليه، فإذا خامرته هذه الشكوى صوابا أو خطأ وخامرته في أناس كبني عبد المطلب على مثل ذلك الصواب أو ذلك الخطأ، فهو لا يتخذهم وزراء كتبة يعملون له ويرتبطون بخدمته كارتباط مروان ومن إليه، ولعله لو لم يشكهم لا يخطر له أن يكلفهم عملا كعمل كاتبه ووزيره؛ فإنهم في مقام الأنداد ولهم شاغل عن عمل يرتبطون به إلى جواره.
ولا نقول: إن عثمان لم يكن يستمع لمروان، ولا إنه كان يستمع للصواب من رأيه ويعرض عن الخطأ منه، ولكنما نريد أن نقول: إن ما بينهما ليس بطاعة الضعيف يلعب به القوي، وإنه اختيار له سببه الذي يوضع في ميزانه عند عثمان وغير عثمان حين يكون في مكانه.
والسؤال الواجب على أية حال في كل مقام كهذا المقام هو: «ماذا كان أجدر وأجدى من هذا؟» فإن كان الجواب قاطعا فقد أمكن القطع بالخطأ، وإن كان الجواب يحتمل رأيا هنا ورأيا هناك؛ فليس التردد بينهما بالدليل حتما على الضعف والاستسلام.
واتباع عثمان لمشورة مروان أو لمشورة غيره، لم يكن قط ذلك الاتباع الذي يعاب جملة أو يستحسن جملة، ولم يكن طاعة المستسلم الذي لا يدري فيم يستسلم، ولكنه أشد ما يكون من قبيل الحيرة التي يشترك فيها سالكان لا يأمن أحدهما إذا ضل صاحبه، ومن حار معك كما تحار أقرب إليك ممن يهتدي وهو في طريق وأنت في طريق.
ونعود فنقول: إن شخصية عثمان بما اشتملت عليه من نواحي قوتها وضعفها شخصية سوية، لا تناقض بين ما علمناه من أخبارها وأعمالها، وبين ما نرجحه من المؤثرات فيها من فعل البيئة والعقيدة، وقد ذكرنا بين مؤثرات البيئة: وراثته الأموية، ويتمه في صباه، ونشأته في بيت يتولاه غير أبيه، وانتماءه من جانب الأمومة إلى بيت عبد المطلب؛ وعلينا أن نشير إلى مؤثر آخر يلحق بهذه المؤثرات ولا يورد على أنه مؤثر يتواتر في جميع الحالات؛ ولكنه يورد لأنه لا يهمل في اعتبار بعض النفسانيين.
ذلك السبب هو إصابته بالجدري في شبابه، وعند بعض النفسانيين أن الجدري يعقب أثرا في بنية المصاب به إذا أهمل علاجه - بعد سن الطفولة خاصة - وليس إهمال علاجه يومئذ بالأمر البعيد.
أما أثر العقيدة فمن الواجب ونحن نتعرف معادن الشخصية الإنسانية أن نثبت من معاييره في تقويم الأخلاق والتفرقة بين فاضلها ومفضولها، ويجب هذا التثبت خاصة في الزمن الذي يكثر فيه الخلط بين قيمة الفضيلة وبين التعريف بأسبابها، فيعذر بعض المقصرين أنفسهم أن يكونوا دون المؤمنين بالدين شجاعة وسخاء، ويقولون: إننا كنا خلقاء أن نقدم مثل إقدامهم، ونسخو مثل سخائهم، ونجود بالروح والمال مثل جودهم، لو كنا ننتظر الجزاء في اليوم الآخر أضعافا مضاعفة من النعيم والسعادة.
وتلك في الواقع خديعة الطبع اللئيم، وإنهم ليزعمون أنهم يشجعون ويجودون لو آمنوا بالجزاء بعد الموت، والواقع أنهم واهمون أو مغالطون، وإن لهم أشباها صدقوا بالجزاء بعد الموت ولم يتركوا الجبن والشح، ولا تركوا ما هو أقبح من الجبن والشح وهو: السلب والغصب والعدوان على النفس والمال.
فانتظار الجزاء بعد الموت لا يبطل قيم الأخلاق، ولا يجعل الشجاع غير شجاع، أو الكريم غير كريم في ميزان الخلق المحمود.
قلنا في كتابنا أبي الشهداء: «كذلك يقول من يقول: إن الأريحية التي سمت إليها طبائع أنصار الحسين إنما هي أريحية الإيمان الذي يعتقد صاحبه أنه يموت في نصرة الحسين؛ فيذهب لساعته إلى جنات النعيم. فهؤلاء الذين يقولون هذا القول يجعلون المنفعة وحدها باعث الإنسان إلى جميع أعماله، حتى ما صدر منها عن عقيدة وإيمان، وينسون أن المنفعة وحدها لن تفسر لنا حتى الغرائز الحيوانية التي يصاب من جرائها الفرد طوعا أو كرها في خدمة نوعه، بل ينسون أن أنصار يزيد لا يكرهون جنات النعيم ولا يكفرون بها؛ فلماذا لم يطلبوها كما طلبها أنصار الحسين؟ إنهم لم يطلبوها؛ لأنهم منقادون لغواية أخرى؛ ولأنهم لا يملكون عزيمة الإيمان ونخوة العقيدة، ولا تلك القوة الخلقية التي يتغلبون بها على رهبة الموت، ويقرعون بها وساوس التعلق بالعيش، والخنوع للمتعة القريبة، فلولا اختلاف الطبائع؛ لظهر شغف الناس جميعا بجنات النعيم على نحو واحد، ومضى الناس على سنة واحدة في الأريحية والفداء. ومرجع الفرق إذن في آخر المطاف إلى فرق واضح بين طبائع الأريحيين وطبائع النفعيين.»
وهذا الفرق بين الطبائع هو الذي نرجع إليه في رجل يمتاز بالشجاعة البالغة، ورجل يمتاز بالسماحة البالغة، ولا يمتازان بمزية واحدة، وكلاهما يؤمن بالثواب والعقاب.
وهذا الفرق بين الطبائع هو الفرق بين من يطمح إلى المثل الأعلى ولا يقنع بما دونه، وبين من يكفيه من الجزاء أنه يؤمن العذاب.
وهذا الفرق بين الطبائع هو الفرق بين فرقتين من المسلمين تحارب كلتاهما في صف، وكلهم مصدقون بجزاء السماء واطلاع علام الغيوب بما يطوونه في الخفاء.
فالعقيدة الدينية لا تبطل سماحة عثمان ولا تغض من قيمتها، وتظل هذه السماحة سماحة مقومة في معيار كل فضيلة ومعيار كل فاضل، لا يغير منها أن العقيدة بعثتها في مبعثها هذا، أو حركتها بعد سكون، أو خلقتها خلقا من حيث لم تكن. فقد كان مع عثمان أناس من منبته لم يعتقدوا كما اعتقد، ولم يزل بينهم وبين الاعتقاد حجاب من: عوج العقول، وعمى الأبصار، وأثرة الجهالة، وكل أولئك محسوب معدود في معايير الأخلاق.
ونعمم هذا القول في تقويم الفضائل والمواهب؛ فنفرق بين التقويم والتقدير وبين التعليل والتفسير، فليست كل فضيلة عللناها أو فسرناها شيئا قد أبطلنا قيمته وقدره، وليس قولنا: إن هذه الروضة تنبت الرياحين والثمرات مبطلا ما بينها وبين الفلاة المجدبة من الفرق والاختلاف، وليس قولنا: إن هذا الإنسان شجاع؛ لأنه استمد مناقب الشجاعة من وراثته أو من تعليمه أو من اعتقاده ذاهبا بفضل الشجاعة، مسويا بينه وبين الجبان، أو بينه وبين الشجاع الذي هو دونه في شجاعته وإقدامه.
فالأسباب تثبت الفضائل والمواهب ولا تنفيها، وهي من أجل هذا جديرة بالإثبات وجديرة بالطلب وجديرة بالثناء، وإن من تعرف أسباب حسنه لحسن، وإن من تعرف أسباب قبحه لقبيح؛ فلن يصبح الحسن قبيحا لأنه معروف السبب، ولن يصبح القبيح حسنا لأنه معروف السبب، وإن قل العجب مع عرفان السبب كما قيل، فقد يذهب العجب ولا يذهب الإعجاب.
والشاعر قد بلغ غاية الإعجاب بيحيى حفيد علي بن أبي طالب حين قال:
كدأب علي في المواطن كلها
أبي حسن والعرق من حيث يخرج
وأين له من ذاك؟ لا أين! إنه
إليه بعرقيه الزكيين محرج
تفسير للشجاعة هو غاية التقدير، وإبطال للعجب هو غاية الإعجاب، وإنما يتجنى على الفضائل الإنسانية بتفسير أسبابها من يتمحل للنوع الإنساني كأنه يتمحل لعدو لا يرضيه أن يوصف بخير؛ إلا أن يتعلل لمعابته بعلة، ويبطل العجب منه والإعجاب به سواء.
الفصل السابع
ثقافة عثمان
نعنى في تراجم عظماء الصدر الأول من الإسلام بالكلام على ثقافتهم، ومصادر هذه الثقافة من معلومات زمنهم، ونرى أنها من العناصر التي لا غنى عنها في التعريف بمنازلهم وكفاياتهم؛ لأن هذه الكفايات قسمة بين قوة النفس والخلق، وبين قوة الفهم والتفكير، ولا تخفى علاقة ثقافتهم بما يفهمون ويفكرون.
وبديه أن ثقافة الأقدمين غير ما نريده بكلمة الثقافة في العصر الحديث، ولكنه فرق يحسب للأقدمين، ويشهد باجتهادهم ودرايتهم بالاستفادة من القليل المبعثر حيث لا يستفاد اليوم من الكثير المجموع الميسر لطالبيه، ولو أننا جعلنا ودائع الورق مقياسا للثقافة؛ لكانت أوراق تلميذ مبتدئ في عصرنا أضخم من أوراق نوابغ المثقفين في صدر الإسلام، ولكنهم كانوا بهذا المحصول القليل يعملون ما يعجز نوابغنا وأبطالنا، ويتكلمون في المعضلات فإذا بالكلمة الوجيزة فصل الخطاب.
ونخال أن الاختلاف بيننا وبينهم في ثقافتنا وثقافتهم يتلخص في فرق واحد يحصر جميع الفروق، وذاك أن الكلمة قد رخصت في زمن المطبعة وإباحة الكلام أو ابتذاله لمن لا يحسنه في قول ولا استماع.
كانت الكلمة تسمع وتحفظ، وتنقل من سلف على خلف، وتندمج في تجربة كل سامع كأنها زيادة عضوية تتوالد ولا تموت.
كانت بضعة من حياة.
كانت تصان كما تصان ذخائر الآباء والأجداد، ولو أنها صينت هذه الصيانة لأول مرة في عصر التنزيل؛ لما استغرب أحد تقديسهم للكلمة التي يعلمون أنها مقدسة ويصونونها إيمانا بالفريضة الإلهية، وما في ذلك غرابة عند الأقدمين أو المحدثين، ولكنهم فعلوا ذلك قبل عصور التنزيل، وتعودوا الحرص على ذخيرتها الإنسانية قبل أن يتعودوا الحرص عليها وهي ذخيرة سماوية يدخرونها لحياة أبقى من الحياة الدنيا، وهي حياة الخلود.
إليك مثلا علمهم الذي يسمونه علم الأنساب: ما مبلغه من العلم بالقياس إلى العلم الذي يقابله في زماننا، وهو علم التاريخ؟
أين ذلك مما يستوعبه اليوم من النقد والتحليل والشرح والتفصيل والتفريع والتأصيل؟
لكن علم الأنساب هنالك وشائج أعراق وأحساب وعروق في الأبدان والأنفس لا يدفنها التراب.
إذا عرف أحدهم نسبا؛ فقد عرفه ليهتز بفخره، أو يهتاج بعداوته، أو يقرفه بفعال صاحبه، ويشهدها في ذريته وخلفائه.
وإذا عرف ذلك النسب فهو فلان هذا الذي أمامه، يساجله المودة أو البغضاء، ويذكر ما كان له ولآبائه من عزة ومضاء أو ذلة واستخذاء، ويضيف إلى كل نسب رواية عن ملحمة، أو طرفة من حكمة، أو ملحة من فكاهة، ولا يجد بينها وبين أنباء نهاره فاصلا بين قديم وجديد، أو بين مدثور مهجور وحاضر مسموع ومذكور.
وقل مثل ذلك في: أمثال العرب، وشواهدها، ومعارض الاستشهاد بها في مواضعها.
وقل مثل ذلك في: أشعارها، ومدائحها، وأهاجيها، وبلاغتها، ومحاسن ألفاظها، ومغازيها.
كل ممدوح كائن حي من مجد ومنعة وجود ومطاولة بالغلبة والعطاء، وكل مادح كائن حي بما استجاشه من طمع وما استقبله من أمل وما خلفه وراءه من عطف وحنين، وما أثار في كلامه من تنافس وتناظر، أو من سوابق بين عشائرهم تذكر، وتستعاد وتعود معها محاسن آباء وأجداد ومساوئ أضغان وأحقاد.
فإذا سطرت تلك الأمثال والقصائد كلاما في الورق، فهي بضع صفحات مختزلات، وإذا تمثلتها خوالج بين الصدور فهي حيوات تضاف إلى حياة.
لقد كانوا يعيشون عيشهم المحمل بتجاربه وعواقبه، كلما تكلموا أو استمعوا إلى متكلم من رواتهم وبلغائهم وثقافتهم؛ فلا جرم كانوا يفاخرون أمم العالم، بأنهم يتكلمون. •••
وكان عثمان على علم بمعارف العرب في الجاهلية ومنها: الأنساب، والأمثال، وأخبار الأيام. وساح في الأرض فرحل إلى الشام والحبشة، وعاشر أقواما غير العرب؛ فعرف من أطوارهم وأحوالهم ما ليس يعرفه كل عربي في بلاده، وجدد في رحلاته تجديد الخبرة والعمل معارف البادية عن الأنواء والرياح ومطالع النجوم ومقارنتها في منازل السماء، وهي معارف القوافل والأدلاء من أبناء الصحراء العربية، وأبناء كل صحراء.
وأسلم فكان من أفقه المسلمين في أحكام الدين وأحفظهم للقرآن والسنة، روى عن النبي عليه السلام قرابة مائة وخمسين حديثا، وقال محمد بن سيرين وهو يتكلم عن الصحابة: «كان أعلمهم بالمناسك عثمان، وبعده ابن عمر.»
وكان أقرب الصحابة إلى مجرى الحوادث بين المسلمين والمشركين، فكان من سفراء الإسلام في غير موقف من مواقف الخلاف أو الوفاق، تارة بين المسلمين وأعدائهم وتارة بينهم وبين الأسرى منهم في أرض الأعداء.
وكان كاتبا يجيد الكتابة، فاعتمد عليه النبي عليه السلام في تدوين الوحي، واعتمد عليه الصديق في كتابة الوثائق الهامة، ومنها الوثيقة التي عهد فيها بالأمر بعده لخليفته الفاروق.
وزودته معرفته بالأخبار والأنساب وسياحته في البلاد بزاد حسن من مادة الحديث مع ذوي الكمال من الرجال. قال عبد الرحمن بن حاطب: «ما رأيت أحدا من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان إذا حدث أتم حديثا ولا أحسن من عثمان بن عفان، إلا أنه كان رجلا يهاب الحديث.»
ولم يكن حديثه لغوا ولا ثرثرة يزجى بها الفراغ بين أهل الفراغ، بل كان من تلك الأحاديث التي كان يتوق إليها النبي عليه السلام في بعض أوقاته فيتمناها، وتروي السيدة عائشة من ذلك أنها سمعت النبي ذات ليلة يقول: لو كان معنا من يحدثنا؟ قالت: يا رسول الله أفأبعث إلى أبي بكر؟ فسكت، ثم قالت: أفأبعث إلى عمر؟ فسكت، ثم دعا وصيفا بين يديه، فساره فذهب فإذا عثمان يستأذن، فأذن له فدخل فناجاه عليه السلام طويلا.
وينقل عنه الرواة كثيرا من شواهد الأمثال والأشعار، وكأنه ينظم الشعر إن صح ما قيل: إنهم وجدوا في خزانته وصية مكتوبا على ظهرها:
غنى النفس يغني النفس حتى يجلها
وإن غصها حتى يضر بها الفقر
وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها
بكائنة إلا سيتبعها يسر
ومن لم يقاس الدهر لم يعرف الأسى
وفي غير الأيام ما وعد الدهر
ولكن هذا الشعر وغيره مشكوك في نسبته إليه، إلا أنه كتب في خلافته رسائل من النمط الذي لا يرتضي الظن نسبته إلى كاتبه مروان.
ومن هذه الرسائل كتاب إلى عماله يقول فيه: ... استعينوا على الناس وكل ما ينوبهم بالصبر والصلاة، وأمر الله أقيموه ولا تداهنوا فيه، وإياكم والعجلة فيما سوى ذلك، وارضوا من الشر بأيسره، فإن قليل الشر كثير، واعلموا أن الذي ألف بين القلوب هو الذي يفرقها ويباعد بعضها عن بعض، سيروا سيرة قوم يريدون الله؛ لئلا تكون لهم على الله حجة.
ومنها كتاب إلى العمال يقول فيه:
إن الله ألف بين قلوب المسلمين على طاعته، وقال سبحانه:
لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم (الأنفال: 63)، وهو مفرقها على معصيته، ولا تعجلوا على أحد بحد قبل استيجابه؛ فإن الله تعالى قال:
لست عليهم بمصيطر* إلا من تولى وكفر
ومن كفر داويناه بدوائه، ومن تولى عن الجماعة أنصفناه وأعطيناه حتى يقطع حجته وعذره إن شاء الله.
ومن كتبه إلى العمال:
أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإن عدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين فتعطوهم الذي لهم وتأخذوا بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة
1
فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء.
ومن كتبه إلى الجباة:
أما بعد، فإن الله خلق الخلق بالحق، فلا يقبل إلا الحق. خذوا الحق وأعطوا الحق، والأمانة الأمانة، قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها؛ فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد، فإن الله خصم لمن ظلمهم ...
وكتب على أمراء الأجناد:
أما بعد فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان على ملأ منا ... لا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل؛ فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون، فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه ...
وبعض هذه الكتب يبدؤه ويختمه بذكر آيات من القرآن، تتوالى في بيان ما يدعوهم إليه وينهاهم عنه، وليست هي مما يكتبه مروان؛ لأنه لم يكن يحفظ القرآن حفظ عثمان، وليس ما تقدم من الوصايا بالذي يكتبه مروان غير مملى عليه ؛ لأنها هي الوصايا التي هي أحرى بحياء عثمان وألفته ووفائه ورحمته لليتيم وإيثاره الموادعة وكراهته اللجاجة في القصاص؛ لهذا نقول: إنها من أسلوبه الذي يوائمه رضي الله عنه، وأسلوبه ثمة هو ترجمان نفسه، فإن الرجل يكتب لغيره ليقنعهم بما يحس أنه مقنعه لو كتب إليه، وهذه كتابة عثمان لا كلفة فيها ولا محاولة ولا إطناب، إلا الدعوة القويمة في استقامة وسهولة وبساطة لا تقدر في الناس أنهم يخالفون ما وضح لهم واستقام بين أعينهم من الأمور، وكذلك كان عثمان يعقل ما يطيعه وما يطاع، وكذلك استجاب لدعوة أبي بكر حين دعاه إلى الإسلام، فما هو إلا أن اتجه ذهنه مستقيما إلى حقيقة الأصنام وحقيقة الإسلام حتى قال لصاحبه: نعم ... هو ذاك. •••
أما الخطابة فقد كانت على هذا النهج من الكتابة السهلة القويمة، وربما ارتج عليه فلا يبتئس لذلك ولا يزيد على أن يقول ما معناه: سيأتي القول حين الحاجة إلى القول.
ومن خطبه في أوائل الفتنة:
إن الناس يبلغني عنهم هنات وهنات، وإني والله لا أكون أول من فتح بابها وأدار رحاها. ألا وإني زام نفسي بزمام وملجمها بلجام ... ومناولكم طرف الحبل، فمن اتبعني حملته على الأمر الذي يعرف، ومن لم يتبعني ففي الله خلف منه وعزاء عنه. ألا وإن لكل نفس يوم القيامة سائقا وشاهدا: سائقا يسوقها على أمر الله وشاهدا عليها بعملها، فمن كان يريد الله بشيء فلييسر، ومن كان إنما يريد الدنيا فقد خسر ...
ومن خطبه بعد تفاقم الفتنة خطبة على الروية لم تكن مرتجلة قال فيها: ... آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة، عيابون طعانون، يرونكم ما تحبون، ويسترون عنكم ما تكرهون، ويقولون لكم وتقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، أحب مواردهم إليهم البعيد، لا يشربون إلا نعصا، ولا يردون إلا عكرا، لا يقوم لهم رائد ... وقد أعيتهم الأمور ...
ألا فقد والله عبتم علي ما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطنكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه؛ فدنتم له على ما أحببتم وكرهتم، ولنت لكم وأوطأتكم كنفي، وكففت عنكم يدي ولساني؛ فاجترأتم علي، أما والله لأنا أعز نفرا وأقرب ناصرا وأكثر عددا، وأحرى إن قلت: هلم؛ أتي إلي، ولقد أعددت لكم أقرانا، وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به، فكفوا عني ألسنتكم وعيبكم وطعنكم على ولاتكم، فإني كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم رضيتم مني بدون منطقي هذا. ألا فما تفقدون من حقكم؟ والله ما قصرت عن بلوغ ما بلغ من كان قبلي، ولم تكونوا تختلفون عليه ...
وهذه الخطبة هي التي قام مروان بعدها يهم بالكلام ويتكلم متوعدا، فأسكته عثمان، ونرى أنها قيلت على الروية؛ لأنه خرج من داره وهو يعلم باجتماع الوفود وحفزها، ولم يفاجأ منها بأمر لم يكن يعلمه وهو ينوي الخطابة فيها.
وهذه النماذج من كتبه وخطبه لا تورد في هذا المقام من ناحية البلاغة والبيان مستقلة عن مواضعها ودواعيها، ولكنها تورد قبل كل شيء؛ لأنها - مع ما تبديه من بيانه - تبدي لنا أسلوب الخليفة الثالث في علاقته برعاياه من خلال أسلوب الكتابة والخطابة. فقد كانت أوائل كتبه أشبه الكلام بما نسميه اليوم «الأسلوب الرسمي»، أو أسلوب التشريع والوثائق القانونية: تبليغ وتقرير بغير تنميق ولا محاولة تأثير، وهو كذلك أسلوب الخلافة التي تعلم أن التفاهم بينها وبين من تخاطبهم مفروغ منه متفق عليه مستغن عن الإقناع وعن المسحة الشخصية التي يصطبغ بها الكلام إذا وقع الاختلاف في النظر بين السامع والمتكلم، ثم يستطرد الموقف بالخليفة إلى ما رأيناه في خطابه الأخير، وأول ما يبدو منه أن الراعي والرعية لا يثوبون إلى قسطاس واحد، وتلك بوادر الملك تظهر في مضامين القول، كما ظهرت على ما نراه في الأعمال والنيات.
الفصل الثامن
من إسلامه إلى خلافته
شئونه
مضى من إسلام عثمان إلى مبايعته بالخلافة نيف وثلاثون سنة، شهد فيها من الغير في تاريخ الجزيرة العربية وفي تاريخ العالم من حولها ما لم يعهد العالم قط قبل البعثة المحمدية، وشهد فيها عهد الدعوة النبوية وعهد الخلافة في أوجها على أيام الصديق، ثم على أيام الفاروق.
وجمعت المصاهرة بين حياته الخاصة وحياة النبي عليه السلام في بيته مع اتصاله به في الدعوة الكبرى من سنتها الأولى؛ فلم يفته شيء من أخبار النبوة الخاصة والعامة في حياة النبي، ولم يفته شيء بعدها من أخبار الخلافة في حياة الشيخين، ولم يفته بعبارة أخرى شيء مما نسميه اليوم بأعمال التأسيس في الدولة الإسلامية.
تزوج من السيدة رقية بنت النبي عليه السلام، وهاجر بها إلى الحبشة فكان أول المهاجرين إليها، ثم هاجر بها إلى المدينة فمرضت هناك بالحصبة، وأذن له النبي عليه السلام أن يتخلف عن وقعة بدر للعناية بها، فماتت يوم ورد البشير إلى المدينة بنصر المسلمين وهزيمة قريش في تلك الوقعة الحاسمة، وقيل: إن عثمان كان قد أصيب بالجدري قبل الخروج إلى بدر، فحال مرضه ومرض زوجته دون الخروج إليها مع جلة الصحابة.
وكانت غبطة عثمان بمصاهرة النبي عليه السلام عظيمة، وحزنه لانقطاع هذه الصلة أعظم؛ فلم ير بعد ذلك إلا محزونا مهموما لفقد زوجته وانقطاع صلته بنبيه وأكرم الناس عليه، ورآه النبي
صلى الله عليه وسلم
على تلك الحال فسأله: «مالي أراك مهموما؟» قال فيما رواه سعيد بن المسيب: «وهل دخل على أحد ما دخل علي يا رسول الله؟! ماتت ابنة رسول الله التي كانت عندي، وانقطع ظهري وانقطع الصهر بيني وبينك»؛ فطيب النبي
صلى الله عليه وسلم
خاطره وزوجه أختها أم كلثوم، وبقيت معه إلى أن توفيت في السنة التاسعة للهجرة بعد بنائه بها بست سنوات.
وأشهر الروايات على أنه سمي بذي النورين؛ لأنه تزوج من رقية وأم كلثوم بنتي النبي عليه السلام، «ولم يعلم أحد تزوج بنتي نبي غيره.»
ويقال: إنه سمي بذلك، لأن النبي عليه السلام قال: فيه نور أهل السماء ومصباح أهل الأرض، ويقال: إنه كان يختم القرآن كل ليلة في صلاته «فالقرآن نور وقيام الليل نور.»
ومما خرجه الحافظ السلفي في سياق هذه الكنية أن إسماعيل بن علين أتى يونس بن خباب ليسمع منه، فسأله يونس «من أين أنت؟» فقال: «من أهل البصرة.» قال يونس: «أنت من أهل المدينة الذين يحبون عثمان بن عفان، وقد قتل ابنتي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ...»، فقال إسماعيل ما فحواه: «أتراه قتل واحدة فزوجه الثانية من أجل ذلك؟!»
وجواب إسماعيل مفحم، وقصته مع يونس بن خباب عبرة من عبر الدعوة «السياسية» إذا لجت بالنفوس وغلبت على العقول، فما يسمى عثمان من أجله بذي النورين يجري على لسان صاحب الهوى في النقد والمعابة؛ فينعاه عليه وينعاه على البلد الذي يحبه، ويحسبه قتلا لبنتين من بنات النبي، ولا يدور بخلده جواب إسماعيل أن من قتل واحدة لا يعطي غيرها ليقتلها، ولا يرد على باله ما لا يغيب عن مثله من حديث ابن عباس، حيث يروى عن النبي أنه قال لعثمان مواسيا بعد موت رقية: «والذي نفسي بيده لو أن عندي مائة بنت تموت واحدة بعد واحدة زوجتك أخرى حتى لا يبقى من المائة شيء ...»
وحقيق بهذه القصة أن نحضرها أخلادنا ونحن مقبلون على العلل والتعلات في الدعوة لعثمان والدعوة عليه، فإننا لواردون على علل كثيرة وتعلات أكثر منها، تسبقها الرغبة في خلق المحاسن أو المآخذ فلا تعيا مرة بخلق ما تريد.
ومنذ اليوم الذي أسلم فيه عثمان لزم النبي حيث كان، ولم يفارقه إلا للهجرة بإذنه، أو في مهمة من المهام التي يندب لها، ولا يغني أحد فيها غناءه شأنه في هذه الملازمة شأن الخلفاء الراشدين جميعا، كأنما هي خاصة من خواصهم رشحهم لها ما رشحهم بعد ذلك للخلافة متعاقبين بغير حاجة إلى مفاضلة وترجيح.
فمن الصحابة من كان يبرح المدينة أو مكة في عمل من أعماله، ومن كان يحضر الغزوات ويغيب عما عداها في مصالحه ومصالح أهله، ما عدا أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، فقد أصبح عملهم بعد إسلامهم مقترنا بعمل النبي في مقامه وسفره، وقد يقترن به فيما عم أو خص من أمره صلوات الله عليه، وتلك وشيجة من وشائج الواقع غير مدبرة ولا مقدرة، تجمع بين النبوة والخلافة كما ينبغي أن تجتمعا بحكم القرابة اللدنية بين المهمتين المتلازمتين.
وترك عثمان تجارته الواسعة لمن يتولاها عنه من وكلائه وذوي قرباه، وجعل بيته بيتا لمال المسلمين قبل أن يكون للدولة الإسلامية بيت مال، فلم يتطلب عمل الرسالة مددا من زاد السلم أو الحرب إلا نهض به عثمان وحده، أو كان أول ناهض به مع القادرين على بذل المال في هذا السبيل.
شكا المهاجرون تغير الماء بالمدينة، ولم يجدوا فيها غير بئر واحدة يستسيغون ماءها، وكانت عند يهودي يغالي بثمنها؛ فاشترى منه نصفها وغلبه دهاء؛ لأنه قسم سقياها يوما له ويوما لصاحبها، وأباح السقيا منها بغير ثمن في يومه، فكان طلاب الماء يأخذون منه كفايتهم في ذلك اليوم ... ونظر اليهودي فرأى أنه لا ينتفع من نصفه الباقي له بكثير أو قليل، فلما باعه بالقليل بعد المغالاة فيه وهبها عثمان لمن يستقي منها في جميع الأيام.
ولما ندب النبي
صلى الله عليه وسلم
المسلمين لغزوة تبوك لم يكن عندهم من المال ما يقوم بنفقاتها؛ لبعد شقتها، واشتداد القيظ في وقت الخروج إليها، فتكفل عثمان وحده بثلث نفقاتها، وتبرع للمجاهدين بالمطايا والأطعمة، وجاء بألف دينار في كمه فنثرها في حجر الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وكرر ذلك غير مرة على ما جاء في جمهرة الأخبار.
واشترى أرضا ليزيدها في بناء المسجد، بذل فيها عشرين ألف درهم أو خمسة وعشرين ألفا، ولم يقصر عن معونة يستطيعها في عسرة أو مجاعة، مدعوا إلى ذلك أو ملبيا من نفسه داعية النجدة والسماحة، فلم يضارعه في سخائه أحد من أقرانه، وكان بحق أسخى الأغنياء وأغنى الأسخياء.
وعهد إليه النبي
صلى الله عليه وسلم
في السفارات التي يخشى خطرها، فلما كانت حملة الحديبية التي تأهب فيها النبي لدخول مكة دعا بعمر ليبعثه إلى رؤساء عشائرها، فقال عمر: «إن قريشا تعرف عداوتي إياها وغلظتي عليها، وليس بين القوم أحد من بني عدي ينتصر لي، فلو بعثت يا رسول الله عثمان إليهم فهو بينهم أعز مني» وقد بعثه النبي فلم يسلم من سفاهة السفهاء، ولم يمنعهم أن يبطشوا به لولا أن تصدى لهم ابن عمه أبان بن سعيد بن العاص، وشاع يومئذ في معسكر المسلمين أن المشركين قتلوه، وكانوا قد احتبسوه ثلاثة أيام يتشاورون في أمره، فلما دعا النبي جنده إلى بيعة الرضوان أو بيعة الشجرة، وضع يده اليمنى على يده اليسرى وهو يقول: هذه بيعة عثمان. «اللهم هذه عن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك.»
وسيأتي من أمر الدعوة على عثمان أنهم كانوا يحسبون عليه أنه لم يشهد بدرا ولم يشهد يوم البيعة، ولا لوم عليه في المرتين ولا سيما التخلف عن بيعة الشجرة؛ إذ كان قد تخلف فيما هو أخطر وأعسر من حضور المبايعة كما حضرها سائر الصحابة، وهذه وما تقدمها من حديث يونس بن خباب بعض أفانين التهم التي تخلقها الفتنة، ويعلم بطلانها القائل قبل المستمع إليها. •••
ومن المهام التي اختصه النبي بها أنه كان يكتب له الوحي عند نزوله، وكان عليه السلام يناديه متحببا، ويقول له وهو يملي عليه: «اكتب يا عثيم» واستخلفه على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع، وأرسله إلى اليمن مستطلعا حين كانت إمارتها إلى علي، وكاد أن يفرده بالعمل فيما نسميه اليوم أمانة السر أو الكتابة الخاصة، وهي أمانة يضطلع بها من يوثق بصدقه وكياسته ولطف أدائه لما يؤتمن عليه من رسالة أو سفارة.
لا جرم يروي عنه أبو عبد الله الجبيري في رواية راجحة أنه كان موضع سر النبي في مرضه عليه السلام، وفي هذه الرواية ينقل عن السيدة حفصة أنها حادثت السيدة عائشة تذكرها بما كان من هذه المسارة فقالت: «إني كنت أنا وأنت عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فأغمي عليه، فقلت لك: أترينه قد قبض؟ فقلت: لا أدري، ثم أفاق فقال: افتحوا له الباب، فقلت لك: أبوك أو أبي؟ فقلت: لا أدري ففتحنا فإذا عثمان، فلما رآه النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: ادنه، فأكب عليه فساره بشيء ما ندري ما هو، ثم رفع رأسه فقال أفهمت ما قلت لك؟ قال: نعم سمعته أذناي ووعاه قلبي، ثم أمره فانصرف.»
كان بين الصحابة منزلة من منازل الفخر، يعتدون بها ويتعارفون عليها، وهي منزلة الرضى من رسول الله إلى يوم وفاته، وكان من الكلمات الجارية على الألسنة في معرض الثناء أن يقال عن الرجل إنه توفي رسول الله وهو عنه راض.
فهذه المنزلة كانت من مفاخر عثمان التي يذكرها ويذكرها له من يحمده، وكان في الطليعة ممن تحسب لهم هذه المفخرة بين الصحابة، وإنما كان شانئوه يتحدثون بتخلفه عن وقعة بدر وعن بيعة الرضوان؛ لينزلوا به شيئا من منزلته تلك التي ليس عليها خلاف.
وصارت الخلافة إلى الصديق وهو الذي أسلم عثمان على يديه، وطالت الصحبة بينهما من قبل الإسلام، وألفت بينهما مشابه كثيرة في الطباع والأخلاق، وكان أبو بكر يعتقد في عثمان الحزم كما قال له يوم فاتحه في أمر إسلامه، وليست هي من كلمات المجاملة في مقام الترغيب والارتفاع، فما كان أبو بكر بالرجل الذي يرسل الكلمات جزافا، ولا بالمتكلم الذي يعيبه أن يجامل أحدا بالصدق الذي يرضيه.
ولم يكن مستغربا بعد طول الصحبة أن يكون عثمان أقرب المقربين إلى الخليفة الجديد في أعمال سياسته وأواصر مودته، ولكننا هنا أمام عهد نادر من عهود الإنسانية تتقدم فيه النظرة إلى الدعوة القائمة على كل نظرة إلى ما عداها، وقد يحب الإنسان من يحب؛ لأنه أقرب إلى اعتقاده في نصرة الدعوة والأمانة لها والقدرة على خدمتها، وإن هذه الظاهرة العميقة الأغوار لمن أقوى ظواهر العهد وأحقها من المؤرخ بالانتباه إليها، وقد سبقت الإشارة إلى فعلها اللدني في الجمع بين النبوة والخلافة، وتخصيص الخلفاء الراشدين على غير تدبير، والتقديم بملازمة النبي في مقامه وسفره وغيابهم حين يغيبون بإذنه وفي رسالة من رسائل الدعوة النبوية، ثم ها هي تتكرر في التقريب بين الخليفة الأول وبين أوفق الصحاب لمعونته وملازمته والاطلاع على مقاصده ونياته، فلم يكن بين أبي بكر وعمر من الصحبة قبل الإسلام ولا من المشابهة في الخلق بعض ما كان بين أبي بكر وعثمان، ولكن أبا بكر وعمر كانا أوفق اثنين بين الصحابة للعمل معا في مهام الخلافة الأولى؛ فتلازما وتشاورا وتقرب بينهما في الدعوة ما تباعد في الخلق والخليقة، حتى كان من يريد الوقيعة يسأل أبا بكر متجاهلا: والله ما ندري أأنت الخليفة أم عمر؟ فيقول رضي الله عنه: هو لو كان شاء.
ويحق لنا أن نقول إن الأمر لم يكن باختيار أبي بكر ولا باختيار عمر، ولكنه كان باختيار المصلحة العليا التي غلبت على كل مصلحة في ذلك العهد النادر، وإنها لمن وحي الله.
في أيام أبي بكر لم يكن أحد بعد عمر أقرب إليه من عثمان، وكتب أبو بكر عهده الأخير وهو على سرير الموت وعثمان على جواره يملي عليه، فلما أفاق سأله: من كتبت؟
قال: عمر. كتبها وهو يعلم أنه لا يعدو بها نية الخليفة المحتضر، فإن أفاق أتم عهده كما أراد، وإن ذهب في تلك الغشية بطلت اللجاجة فيما أراد، وانسد باب الفتنة والخلاف.
قال أبو بكر وهو على سرير الموت مستريح إلى وفاء صاحبه، مطمئن إلى أمانة كاتبه: «بارك الله فيك! بأبي أنت وأمي، لو كتبت نفسك كنت لها أهلا.»
هذا هو أسلوب الصديق فيما يرتضيه لمجاملته وصدقه: كلمة حق توافق السامع ولا تخالف الحقيقة في ضمير القائل، ومما لا شك فيه أن أبا بكر كان يرى في عثمان أنه أهل للخلافة، وإن رأى عمر أحق بها منه. •••
ثم صارت الخلافة إلى عمر، ولم يكن عنده قريب أو بعيد غير من يقربه عمل أو يبعده عمل، ولم يكن للناس عنده أقدار غير أقدارهم عند الله وعند رسول الله، وكان يستمع إلى كل ويعتمد على كل، ويستبقي كبار الصحابة جميعا عنده؛ ليستعين برأيهم ويجنبهم غواية الدنيا إذا انطلقوا إليها، أو كما قال: إنه كان يخشى عليهم من الدنيا ويخشى على الدنيا منهم، فبقي منهم من بقي على رضى وموافقة، وبقي الكثيرون منهم على تبرم وملل، فلم يرسل أحدا منهم في البلاد إلا من أرسله في ولاية أو جهاد، ولم يكن يطيل الولاية لأحد منهم وإن أحسن وأفضل؛ مخافة على الناس أن يفتتنوا بإحسانه وأفضاله، إن لم يخف عليه أن يفتنه الناس.
وكان عثمان ممن بقي معه ولازمه غير مكره ولا راغب في الرحلة كما رغب فيها الذين لم يرتحلوا ارتحاله قبل الإسلام، ولم يشتغلوا بالدين اشتغاله بعد الإسلام، فركن إليه عمر في طلب المشورة، وعمل بمشورته في إحصاء الناس والأعطية، وفي بدء السنة بشهر المحرم، وعمل بها في خطته الكبرى وهي خطة العزل بين الإمامة والقيادة في ميادين القتال، فإن إصابة الإمام قد تطمع العدو وقد تيئس الصديق، وليست كذلك إصابة القائد الذي من ورائه إمام يوليه ويولي أنداده وأمثاله من بعده، وهي نصيحة من عثمان لعمر ما أدلها على سرائر المؤمنين في ذلك العهد الأمين: ينصح الناصح ولا يبتغي بنصيحته غير وجه الله، ويتقبلها السامع وهو لا يبتغي بقبولها غير وجه الله.
شيء واحد من أشياء كثيرة يكشف لنا عن أصالة المشكلات والنقائض في عهد عثمان.
فها هنا فترة من التربية السياسية مرت به ومر بها ولم تهيأ لخليفة قبله ولا بعده، فهي أطول من فترة التربية السياسية التي تهيأت لأبي بكر مع النبي، وأطول من الفترة التي تهيأت لعمر مع النبي والخليفة الأول، ثم هي أطول من الفترات التي تهيأت للخليفة الرابع علي الذي جاء بعده؛ لأن عليا رضي الله عنه أسلم وهو صبي، ومضت عليه سنوات قبل مشاركته في أعمال الرأي أو أعمال الفعل والإنجاز، وقد كان إسلام عثمان وهو في نحو الثلاثين - مشهود له بالحزم والبصر، ومتأهب من اللحظة الأولى للمشاركة في كل خطة يتعاون عليها - أقرب المقربين من صاحب الدعوة، وبينه وبين صاحب الدعوة عليه السلام صهر ومودة وقرابة ليست بالبعيدة.
وفي هذه الفترة التي تمرس فيها بشئون الدعوة وشئون الخلافة عرضت كل مشكلة وارتسمت كل خطة في معاملة الصحابة وسائر المسلمين، وارتسمت كذلك كل خطة في معاملة المشركين والمنافقين من مسالمين أو محاربين ومن أناس على المواربة بين السلم والقتال، واتضحت على هذا النحو حدود الإمام وحدود أحوال الرعية ومواضع الترخص والتشدد في جميع هذه الحدود على اختلاف أحوال اليسر والعسر أو أحوال التبسط والحرج، وكان خليقا به وهو مطلع على كل قدوة وكل سابقة أن يكون اطلاعه هذا عدة جامعة يستعد بها لولاية الخلافة وتدبير الولايات من قبلها، وصراطا يستقيم عليه فلا يعوزه الرأي الواضح ولا التصرف العاجل في أمر من الأمور.
وهذه هي المشكلة الكبرى.
بل هذه هي مشكلة المشاكل في عهد عثمان من قبل ابتدائه إلى ما بعد نهايته.
المشكلة الكبرى كما سوف تتراءى لنا أنه لم يعمل في خلافته عملا قط على غير سابقة تشبهه في كل شيء إلا في ظروفه وملابساته؛ فقد تغيرت كل الظروف والملابسات وهي هي بيت القصيد في كل استعداد لها بالقدوة السابقة.
لقد كانت له سابقة في كل شأن من شئونه حتى في شئون زواجه ومصاهرته، وحتى في شئون تمييزه وتأليفه لذويه ولأعدائه، ولكن مع هذا الفارق الواحد الذي هو في الحقيقة جامع لكل فارق يخطر على البال، وهو فارق الظروف والملابسات.
كانت تربيته السياسية عدة له وأي عدة، وكانت مع هذا هي مشكلة المشكلات بين الاستعداد بها والتصرف فيها وفاقا لما اختلف من ظروفها وملابساتها.
عدة ولا عدة.
وهذه هي إحدى النقائض الكبرى التي تأصلت في عهد هذا الخليفة الشهيد.
ونقيضة أخرى من نقائض عهده تعود إلى مزيته العظمى في إسلامه قبل عامة قومه.
فهذه المزية العظمى، ما معناها إذا نحن عبرنا عنها بعبارة أخرى لا تخرج عنها في لبابها وقشورها؟
معناها القريب البسيط أن قومه تأخروا في الإسلام، وأنه كان مسلما من صفوة المسلمين؛ إذ كان قومه عامة على لدد الكفر وإسرار العداوة بينهم وبين النبي وصحبه الأبرار، وكان منهم من يعوذون به وهم كافرون أو مرتدون؛ فيبدو ذلك نكيرا منفردا بين جلة الصحابة؛ لأنه كان وحده منفردا بالمزية التي لم ينفردوا بها مثله، وهي سبقه إلى الإسلام بين أسرة مصرة على المكابرة والعداء.
ولقد كان العربي يلوذ بالعربي وهما في المعسكرين المتناجزين، وكان عثمان مسلما يوم أوفده النبي إلى مكة وتلقاه أهلها بالأذى فتصدى لنصرته بعض أبناء عمومته المشركين، ومضى ذلك في حينه ولم يلتفت إليه ملتفت في ذلك الحين؛ لأنه لم يكن بدعا من عادات القوم قبل الإسلام ولا بعده، وكان مشركو مكة يهابون المساس بصاحب الدعوة نفسه؛ لعلمهم أن عشيرته تغضب له إذا جد الجد وأصابه المكروه في سبيل الدين.
فلما انتهى أمر الشرك، وانتهى عرفه وعاداته، وبقيت مفاخر الإسلام وسوابقه أصبحت المزية العظمى نقيضة من جانبها الآخر، وبغير هذا الجانب الآخر لم تكن مزية على الإطلاق.
يحضرنا في هذا الصدد مثل يستوحيه الذهن قسرا في موقعه من هذه السيرة، وهو مثل الرؤيا التي فسرها المنجمون للملك تفسيرا قضى عليهم بالعقاب، ثم فسرها له غيرهم تفسيرا أغدق عليهم النعمة والثواب، ولا فرق بين التفسيرين في المدلول.
قال له المنجمون أولا: إن الرؤيا مشئومة؛ لأنها تريهم أعزاءه يهلكون واحدا بعد واحد، ثم لا يلبث الملك أن يهلك على آثارهم.
ثم قال له المنجمون آخرا: إنها لرؤيا سعيدة تبشره بالعمر الطويل، وإنه لأطول عمرا من قومه أجمعين.
والتفسيران واحد في المدلول، ولكن الأول يسخط ويسوء، والثاني يرضي ويسر، ولا فارق بينهما في غير التعبير.
وعثمان رضوان الله عليه كان أسبق قومه إلى الإسلام فهذه مزيته العظمى.
وكان كل أهله على الشرك ما عداه، وهنا تتغير الصفحة في النظر بعد ذهاب الشرك وأهله، وما بدا في الصفحة الأولى إلا الذي بدا في الصفحة التالية: قريب من قريب. •••
ليس من المألوف في أيام عثمان أن يكون الزواج مسألة من مسائل المجتمع، فإنما كانت شئون الزواج تجري على وتيرة واحدة بحكم العادة، كأنها من شئون الزوج والزوجة التي لا تعني أحدا غيرهما، ولكن زواج عثمان لم يجر على هذه الوتيرة سواء قبل الخلافة أو بعدها ... فكان زواجه على التعاقب من بنتين للنبي عليه السلام تاريخا في علاقات الزواج يكفي من ندرته أنه عرف في كنيته على قول من أشهر الأقوال.
ولم يختلف بعد وفاة السيدة أم كلثوم عن سنة أمثاله في الزواج من عقيلات البيوت على الأغلب إلى أن توفي عن زوجاته الثلاث: رملة وفاختة ونائلة، إلا أن زواجه من نائلة بنت الفرافصة كان من قبيل الزواج الذي يقال فيه: إنه مسألة من مسائل المجتمع في حينه؛ فقد كان زواج الصحابة من غير المسلمات خارج الحجاز أحد الطوارئ التي جدت في المجتمع الإسلامي بعد فتوح العراق والشام ومصر، وكان لها أثرها البعيد في تطور البيت العربي واختلاف أنماط المعيشة بين ذوي البيوتات من جلة الصحابة، وبعضها مما دخل على المعيشة العربية بعادات للأمم الغريبة لم يتعودها العرب قبل مخالطتهم تلك الأمم مخالطة الصهر والمعاشرة البيتية.
وتتعدد الروايات في الباعث إلى خطبة عثمان لنائلة بنت الفرافصة كما هو الغالب في أخبار العصر كله، وأشهرها أنه سمع بزواج سعيد بن العاص والي الكوفة من أختها هند، وتناقل ذوو قرباه الأحاديث عن كياستها وجمالها وحسن قيامها على أمور بيتها؛ فكتب إلى سعيد يخطب أختها ولا يعرفها، وكان ضب بن الفرافصة قد أسلم، فأمره أبوه أن يزوجه أختها نائلة، وكانت أديبة ذكية تنظم الشعر وتحسن القول، ولها في زواجها من عثمان أبيات مما تغنى به ابن عائشة في بعض ألحانه، ومنها قولها تخاطب أخاها:
ألست ترى يا ضب بالله أنني
مصاحبة نحو المدينة أركبا
إذا قطعوا حزنا
1
تخب ركابهم
كما حركت ريح يراعا مقتبا
لقد كان في فتيان حصن بن ضمضم
لك الويل ما يغني الخباء المطنبا
2
ثم قولها تخاطب نفسها:
قضى الله حقا أن تموتي غريبة
بيثرب لا تلقين أما ولا أبا
وغادرت قومها في بادية الشام وحواضرها على كره منها إلى مسكنها الغريب، وسألها عثمان حين رآها: «لعلك تكرهين ما ترين من شيبي؟» قالت: «والله يا أمير المؤمنين إني من نسوة أحب أزواجهن إليهن الكهول.» قال عثمان: «أنا قد جزت الكهول، وأنا شيخ، ولن تجدي عندنا إلا خيرا.»
على هذه النفرة بعد هذه الغربة توثقت المحبة بين الزوجين؛ حتى كرهت الزوجة الفتية بعد مقتل عثمان أن تتزوج من أحد بعده كائنا ما كان قدره ونسبه، وتكاثر خطابها فأحبت أن تصرفهم عنها وتصرف نفسها عنهم، فعمدت إلى حجر فهتمت به ثناياها، وردت معاوية بن أبي سفيان حين خطبها قائلة لرسوله: «ماذا يرجوه من امرأة جذماء؟»
ونائلة هي التي كتبت إلى معاوية تصف مقتل زوجها، وقالت من خطابها الذي تواترت نسبته إليها: «من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد ... فإني أدعوكم إلى الله الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر ونصركم على العدو وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وأنشدكم الله وأذكركم حقه وحق خليفته أن تنصروه بعزم الله عليكم، فإنه قال:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله (الحجرات: 9) وإن أمير المؤمنين بغي عليه، ولو لم يكن لعثمان عليكم إلا حق الولاية لحق على كل مسلم يرجو إمامته أن ينصره، فكيف وقد علمتم قدمه في الإسلام وحسن بلائه وأنه أجاب داعي الله وصدق كتابه واتبع رسوله؟! والله أعلم به إذ انتخبه فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة ...»
ثم استطردت تقص خبر مقتله، وتتهم المقصرين عن نجدته. فما كان صوابها بأدل على الوله والحزن من خطئها فيما اتهمت، ومن تخبطها فيما زعمت، فإن خطبا أهون من خطبها الذي شهدته بعيني رأسها ليذهل الحزين عن سداد رأيه كما قال حكيم المعرة فيما دون ذلك:
ربما أذهل الحزين جوى الحزن
إلى غير لائق بالسداد
مثلما فاتت الصلاة سليمان
فأنحى على رقاب الجياد
وقد كان لها عند عثمان مثل هذا الحب وهذه الحظوة، بل كان له من الثقة بنصحها ما لم يكن له في مروان بن الحكم أقرب المقربين ... وكانا يتلاحيان كثيرا في محضره، وعيرها مرة أباها «الذي لا يحسن الوضوء»، فقالت له تعرض بأبيه - وهو عم عثمان - «أما والله لولا أنه عمه وأنه يناله غمه لأخبرتك عنه ما لم أكن أكذب عليه»؛ وغضب عثمان فتوعد مروان لئن تعرض لها ليسودن وجهه، ثم قال له: «والله لهي أنصح لي منك ...»
إن خلق الرجل لا يقاس بمقياس أصدق من المرأة وأسبر منها لأغوار طبعه، وقد يعز على هذا المقياس - مقياس المرأة - أن يسبر لنا أغوار عقله وأعماق بديهته، ولكنه لا يعز عليه أن يفرق بين الرجل الذي يحب ويطاع ويهاب، والرجل الذي تنزل به الألفة منزلة الوهن والعجز في نظر من يألفونه قبل من يعرفونه على البعد أو لا يعرفون منه إلا القليل.
وهذا مقياس صادق من هذا الزواج الغريب أو الطارئ على المجتمع الإسلامي بعد فتوح العراق والشام وسائر الفتوح الأسيوية والإفريقية، وهو مقياس قيس به رجال من النابهين على نحو واحد، فلم يكن بينهم من هو أرجح فيه من عثمان.
ولا سيما مقياس الشخصية الغالبة التي تؤثر فيمن يعاشرها، وتصبغه بصبغتها، كما تأثرت السيدة نائلة بإيمان عثمان وتقواه وكرم نفسه؛ فنسيت نفرتها واختلاف عقيدتها وبيئتها وتحنفت على سنة زوجها كما قال من وصفوها في حياته وبعد مقتله.
وفي ذلك العصر نفسه تزوج أناس من ولاة الدولة العربية بالعقائل والجواري في الحاضرة والبادية، فكان منهم من تعود عاداتهن من الشراب على الطعام، وسوغه لنفسه باختلاف المختلفين في الخمر وأنواعها، وكان أمر هؤلاء ومن شاكلهم يرفع إلى الفاروق قبل خلافة عثمان؛ فيحسمه على دأبه بتأديب من عصى والتنكيل بمن أصر على استباحته الشراب المحظور.
ومن لم يبلغ من ضعفه أن ينقاد هذا الانقياد لم يبلغ من شخصيته الغالبة على ذوي جواره وعشرته أن يصبغهم ويحولهم إلى معيشة كمعيشته، وهذه ميسون بنت بحدل الكلبية من قبيلة نائلة بنت الفرافصة قد تزوجت بمعاوية، وداره إلى جانب دارها، ومقامه في دمشق أقرب على باديتها؛ فلم تلبث أن سئمت مقامها وعافت القصر الذي تسكنه زوجة لأمير المؤمنين وأما للأمير بعده، ونظمت أبياتها التي جرت مجرى المثال على لسان كل زاهد في مقامه حنينا إلى مآلف عيشه الأولى، وإن كانت دون ذلك المقام في الرغد والنعيم.
قالت ميسون تذكر القصر والبادية:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحب إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف
وقالت تشير إلى زوجها:
وخرق
3
من بني عمي نحيف
أحب إلي من علج عليف
فما أبغى سوى وطني بديلا
فحسبي ذاك من وطن شريف
وذلك مع الفارق البعيد بين قصور الشام وبيوت الحجاز وبين سن معاوية وسن عثمان، وبين ما ترجوه زوجة الخليفة بعد موته، وما ترجوه زوجة معاوية وأم يزيد وأم شقيقته «أمة رب المشارق» وسيدة القصر تكاد أن تنفرد فيه وأن تغدو وتروح بين الحاضرة والبادية حين تشاء. •••
هذه لمحة من ملامح «الشخصية العثمانية» لا تهمل في مكانها من سيرته الخاصة، ولعلها أهدى للمؤرخ من شيم كثيرة توضح له خلائقه التي يؤثر بها فيمن حوله، ولا شك أنها تزداد وضوحا إذا اتضحت معها ملامح الشخصية التي تأثرت بهذا الأثر، وهي السيدة نائلة التي جاءته نافرة تنعي غربتها وزواجها من غير بني عمومتها ولم تلبث أن تحنفت وأخلصت لبعلها في وفائها واعتقاده.
فهذه شخصية قوية من بيئة عريقة في القوة والاعتزاز بالعرف والقوة، وقومها بنو كلب إحدى القبائل التي هجرت موطنها قديما في الجزيرة العربية وحافظت على أرومتها وعصبيتها وفصاحتها؛ فكانت إلى ما بعد الإسلام بعدة قرون مرجعا لمن يتقصى أساليب الفصحى أو يريد أن ينشئ أبناءه على خشونة البادية وصحتها، ومهما نصعد مع أصولها في القدم نجد في أخبارها - بل في أسمائها - لونا من ألوان هذه العصبية وهذه الخشونة وهذه العراقة البدوية التي لا يسهل على أبنائها وبناتها أن يتخلقوا بخلق غيرها.
وتنسب هذه القبيلة على وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، ويقول النسابون: «إن وبرة ولد له كلب وأسد ونمر وذئب وثعلب وفهد وضبع ودب وسيد وسرحان»، ثم يزيدون على ذلك بعد الإسلام: «إن من أشراف كلب الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة، وهو الذي تزوج عثمان بن عفان ابنته نائلة بنت الفرافصة، ومنهم زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة ، ومن أسلافهم في الإسلام دحية بن خليفة الكلبي وهو الذي كان جبريل عليه السلام ينزل في صورته، ومنهم حسان بن مالك بن جذيمة ...»
ويؤخذ من بعض أخبار الكنيسة الشرقية أن رؤساءهم دانوا بالمسيحية؛ تلبية لدعوة الرسل الأولين في بادية الشام قبل أن تدين بها الدولة البيزنطية، خلافا لما قد يظن من أنهم دانوا مع الدولة القائمة في بلاد الروم.
وأيا كان مقطع القول في ذلك، فلا مراء في قوة هذه القبيلة وعراقتها واعتزازها بأصولها واعتدادها بأنفتها وخشونتها كأنها ضرب من الإيمان أو آصرة من أواصر الأنساب، وقد عجزت قصور الملك في دمشق أن تروض أم يزيد على البقاء مع بعلها في القصر المنيف؛ فلم يسع معاوية إلا أن يرسلها وابنها إلى باديتها؛ عسى أن يستفيد من تلك النشأة منعة في الخلق تواتيه يوم ينهض بأعباء الدولة التي أعدها له من صباه.
فإذا كانت خلائق عثمان هي التي حببت إلى زوجته من تلك العشيرة أن تفارق النشأة التي عزت مفارقتها على أترابها؛ فلن يرد على الخاطر أنها خلائق رجل إمعة أو رجل هزيل يذهب به من يذهب ويجيء به من يجيء، ولا بد لتردده وحيرته حين يقع منه التردد والحيرة أن يثاب بهما إلى باعث يعمل عمله في طبائع الأقوياء وغير المستضعفين، ولا ينحصر عمله في النفوس التي برئت من القوة وخلصت للضعف والهزال.
وقد ولدت له نائلة بنته مريم؛ فكان مما يخطر على البال أن هذه التسمية من إيحاء أمها ومن بقايا حنينها إلى عقيدتها الأولى، ولكن اسم مريم كان من الأسماء المحببة إلى عثمان، وقد سمى به بنته من أم عمرو بنت جندب، وهو أشبه أن يكون تحية للزوجة المخلصة من أي يكون متابعة لها فيما لا تعاب المتابعة فيه. •••
تزوج عثمان على التعاقب تسعا من النساء، ومات عن ثلاث منهن هن: نائلة وفاختة ورملة، إذا صح أنه طلق أم البنين وهو محصور.
وقد ولد له تسعة من الذكور وسبع من الإناث، ولم يولد له من بنتي رسول الله رقية وأم كلثوم غير عبد الله ابنه من رقية، عاش إلى السادسة ثم نقر عينه ديك فورم وجهه ومات، وسائر أبنائه من زوجاته الأخريات لم يؤثر عنهم أمر ذو خطر في التاريخ، وهي حالة من حالات السلالة الأموية لا نجزم بتعليلها على وجه واضح، فهم على خلاف بني هاشم الذين بقيت فيهم بقايا النجابة والعزيمة على استمرار القتل في أصولهم وفروعهم، وإنما كان بنو أمية في المشرق والمغرب يعقبون كأنما يأتي العقب منهم على قدر الضرورة، مع أنهم قد اتخذوا الجواري إلى جانب زوجاتهم، وتزوجوا من قريباتهم وغير قريباتهم، فإذا تسلسل النسب منهم جيلا أو جيلين لم يمض على سوائه في الجيل الثالث، أو يرزقون الولد ولا يرزقون فيه النجابة والنبوغ؛ وربما كان للنسب الدخيل في أصولهم الجاهلية أثر في هذه الحالة المتلاحقة، وأقرب من ذلك إلى التعليل المقبول أن أولئك الأصول في الجاهلية لم يتصونوا في المخادنة والمعاشرة كما شاع عن بعضهم؛ فأصابهم من الآفات الجنسية ما كمن في أعقابهم وتداركوه بالتبني تارة والاستلحاق تارة والتماسك بين ذوي القربى حيث لا موضع للتبني والاستلحاق.
ونحن نومئ إلى هذه الملاحظة بسبيل الكلام على ذرية عثمان؛ لأنها ملاحظة شوهدت في تاريخ الأصول الأموية وشوهدت في نسله وعشيرته، وشوهدت في أعمال خلافته، فلها محل فيما خص أو عم من سيرته وتاريخه.
شئون المجتمع
منذ أسلم عثمان إلى أن تولى الخلافة تغير المجتمع العربي في نطاق واسع، وأصبحت الصبغة الإسلامية نوعا من الصبغة العالمية يكاد أن يقرب بين أساليب المعيشة في جميع أمم الحضارة الشرقية والغربية.
أسلم عثمان والدعوة الإسلامية محصورة في آحاد معدودين يلتمسون النجاة بعقائدهم وأنفسهم وذويهم من مجتمع إلى مجتمع ومن بلد إلى بلد، وصاحب الإسلام في جهاده وفتوحه؛ حتى عم الجزيرة العربية قبيل وفاة النبي عليه السلام، وأصبح بذلك دينا عربيا يجمع بين قبائل العرب على اختلاف الأنساب والطبقات.
ثم صاحب الإسلام في جهاده وفتوحه أيام حروب الردة وفتوح العراق وما جاوره من أرض فارس والروم، ثم صاحبه في جهاده وفتوحه؛ حتى أوشكت هذه الفتوح أن تحيط بالعالم المعمور يوم تسلم زمامه من سلفه العظيم عمر بن الخطاب.
ولم تمض سنوات من خلافة عثمان؛ حتى أحاط العالم الإسلامي بالعالم المعمور كله إلا ما كان منه في أقصى المشرق أو أقصى المغرب؛ فأصبحت الصبغة الإسلامية كما أسلفنا صبغة عالمية تشمل: العربي، والفارسي، والرومي، والمصري، والبربري، وتسلكهم كلهم في دولة واحدة لأول مرة في التاريخ.
وليس الذي طرأ على المجتمع العربي خاصة أنه عرف الترف ولم يكن يعرفه، أو عرف الثروة وكان محروما منها، فإن الترف والوفر قديمان في الجزيرة العربية، وزيادة المقدار لا تحسب من التغير الجوهري في المجتمع إن لم تكن مصحوبة بالتغير في نظرة الإنسان إلى الحياة، وهذا الذي غير المجتمع العربي، وغير المجتمع الإسلامي، بعد اتساعه وامتداده إلى أقصى مدى في خلافة عثمان.
إن الغني المترف من عرب الجاهلية لم يكن يخجل من ترفه، ولم يكن يحسب أنه يختلس به شيئا ليس من حقه ويستمتع بشيء لا ينبغي لمروءته، بل كان يبذخ في ترفه ويفاخر نظراءه ببذخه، ومن لم يدرك من الترف والبذخ حظا كحظه فهو متطلع له، حاسد عليه، ناظر إليه كما ينظر إلى أمنية الحياة، إن فاتته فقد فاته من حياته خير ما يتمناه.
تغير هذا بعد الإسلام كل التغير، وأصبح الترف رذيلة مزدراة كائنا ما كان نصيب المترف من الجاه والثراء، وأصبح الثراء نعمة دون النعمة الكبرى التي يتطلع إليها المسلم في حياته الجديدة، فهو وسيلة دون غاية ومتاع في حاجة إلى تسويغ، ثم لا مسوغ للترف فيه بأية حال.
وعلى هذا كبر مقدار الثروة التي ينعم بها أصحابها بعد أن تغير النظر إلى كثيرها وقليلها ومسوغاتها ومحظوراتها، فربما بلغت ثروة الرجل الواحد في خلافة عثمان ما يعدل ثروة السادة المترفين جميعا على آخر عهد الجاهلية، وما يحسب حتى في زماننا هذا غنى مفرطا عند أغنى الأغنياء.
قيل في مصادر متعددة: إن عبد الرحمن بن عوف خلف ذهبا كان يقطع بالفئوس حتى تمجل أيدي الرجال، وترك ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس، وقسم ميراثه على ستة عشر سهما فبلغ السهم ثمانين ألف درهم، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحا ويتجر فيكسب من التجارة مئات الألوف.
وكان كلما اجتمع له من الربح مدخر كثير فرقه على الغزاة وتصدق به على الفقراء. قال ابن عباس: «مرض عبد الرحمن بن عوف فأوصى بثلث ماله، فصح فتصدق به، ثم قال: يا أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كل من كان من أهل بدر له على أربعمائة دينار، فقام عثمان وذهب مع الناس، فقيل له: يا أبا عمر! ألست غنيا؟ قال: هذه وصلة من عبد الرحمن لا صدقة، وهو من مال حلال؛ فتصدق عليهم في ذلك اليوم بمائة وخمسين ألف دينار.»
وكان كلما اجتمع له عدد من العبيد أعتقهم ووصى لهم بما يكفيهم.
ولما مات الزبير بن العوام طلب أبناؤه ميراثه، فأبى عبد الله أن يقسم بينهم حتى ينادي بالموسم أربع سنين من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه؛ لأنه كان يؤتمن على الودائع ممن يترددون على الحجاز للتجارة، فلما انقضت أربع سنين قسم بينهم ما بقي من ماله خالصا فإذا هو خمسون ألف ألف ومائتا ألف.
وكان طلحة يغل بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، ويغل بالسراة عشرة آلاف دينار، وكان لا يدع أحدا من بني تميم عائلا إلا كفاه مئونة عياله، ويزوج أياماهم ويقضي دين غارمهم، وأخرج صاحب الصفوة فيما أخرج من أخباره أنه باع عثمان أرضا بسبعمائة ألف حملها إليه، فلما جاء بها قال: إن رجلا تبيت هذه عنده في بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله لغرير بالله ... فبات ورسله تختلف في سكك المدينة حتى أسحر وما عنده منها درهم.
وعن سعدى بنت عوف امرأته أنها دخلت عليه يوما فرأته مغموما فسألته، ما شأنك؟ قال: المال الذي عندي قد كثر وأكربني، قالت: وما عليك؟ اقسمه. فقسمه حتى ما بقي منه درهم، وقال خازنه: كان المال الذي فرقه يومئذ أربعمائة ألف.
ونحن لا نشك في عظم هذه الثروات التي توافرت لهؤلاء النخبة من أجلاء الصحابة شيئا فشيئا من أيام النبي عليه السلام إلى ما بعد قيام الدولة الأموية، ولا نجري على عادة المحدثين الذين يتلقون أخبار العصور الماضية جملة واحدة بالشك أو بالنفي من غير بينة؛ فإن الرفض المطلق كالتسليم المطلق كلاهما من الآليات التي تحكم حكمها بغير تصرف ولا انتقاد، ومن الجائز أن الناقلين لم يتحروا الدقة في حساب الأرقام بالملايين والألوف والمئات كما نحسبها اليوم، ولكن الذي نعتقده أن مقادير تلك الثروات أكبر وليست أقل مما توحيه تلك الأرقام؛ لأنها اجتمعت من أربح التجارات في جميع العصور، وهي التجارة المتبادلة بين الشرق والغرب من طريق العراق والشام والجزيرة العربية مجتمعات. •••
لقد كان الملأ من قريش أغنياء مفرطين في الغنى أيام الجاهلية، وكان موردهم كله من مواصلات الحجاز بين اليمن والشام، ولم يكن لهم فوق ذلك سلطان على بقعة وراء الحجاز، بل كان سلطانهم في الحجاز نفسه عاجزا عن تأمين قوافلهم بغير المساومة بينهم وبين قبائل الطريق.
فلما استقر الأمن في الجزيرة العربية وامتدت الفتوح إلى العراق والشام وفلسطين ومصر، واطمأنت القوافل على هذه الطرق شرقا وغربا وإلى الشمال والجنوب، واتسعت مواصلات التجارة العالمية في تلك البقاع لم يكن مورد في العالم قط أعظم ولا أربح من هذا المورد الذي تهيأ لبيوت التجارة العريقة في قريش، ويكفي أن يسلم هذا المورد سنة في كل سنتين أو ثلاث؛ ليغنم منه التاجر الكبير ألوف الألوف، ويأخذ من ربح سنة ما يعوض وقف التجارة سنوات.
ومن المعلوم في العصور الحديثة أن شركة الهند الشرقية جمعت الملايين من أرباح تجارة دون هذه التجارة في السعة والضمان؛ إذ كانت تؤدي الضرائب والإتاوات في البحر والبر. ولا تملك خطوطا من المواصلات كتلك الخطوط التي تمهدت لأصحاب التجارات في الحجاز، أما أصحاب هذه التجارات فلم تكن عليهم ضريبة مفروضة غير الزكاة ونفقات الحراسة، وكانت أرباحهم معدنا خالصا أو عملة مقبولة في كل جهة من جهات العالم يومذاك، دون أن تتعرض لتقلب المضاربات في الأسواق بين أقصى المشرق في الهند وأقصى المغرب على الشواطئ الأطلسية.
فإذا قام على هذه التجارة العالمية عشرون بيتا أو ثلاثون بيتا من بيوت التجارة العريقة في مكة والمدينة؛ فليس من المبالغة أن يقال عنها: إنها كانت تملك الملايين وتعمل الفئوس في حطام الذهب والفضة، فربما كانت المبالغة هنا إلى القلة لا إلى التزيد في التقدير.
ويهمنا أن نلتفت إلى مصدر الثروات من التجارة تصحيحا لوهم الواهمين أنها قد اجتمعت كلها من غنائم القتال؛ فإن عطاء المقاتلين لم يكن يتفاوت هذا التفاوت في الأنصبة بين أكبر عطاء وأصغر عطاء، ولم يكن في وسع طلحة ولا الزبير ولا عبد الرحمن بن عوف أن يجمعوا من أنفال القتال ثروة تزيد على نصيب الأجناد بمثل ذلك الفارق الكبير.
وليس هذا كل ما يهم من تحقيق مصدر الثروة أو من الرجوع بأكثره إلى التجارة دون غنائم القتال؛ إذ المهم في الواقع أن المجتمع الذي تدور ثروته على الأعمال التجارية غير المجتمع الذي تدور ثروته على أعطية الجند من غنائم القتال دون سواها، فهما مجتمعان متغايران في آداب المعاملة وفي موازين الأخلاق وفي النظر إلى متع الحياة، وإذا التقيا معا في أقل من عمر الرجل الواحد فلا قرار ولا تفاهم بين موازين التجارة وموازين الجهاد إلى حين.
قال محمد بن سيرين: «كثر المال في زمن عثمان فبيعت جارية بوزنها وفرس بمائة ألف درهم، ونخلة بألف درهم.»
وهذا الذي كان يقال عنه في الزمن الماضي: إنه وفرة الخير ودرة الرزق. وهذا الذي نقول عنه اليوم: إنه آفة «التضخم» في النقد مع فارق بعيد بين أحوال عصرنا وأحوال العصور الماضية: ذلك هو الفارق بين عملة الورق وعملة الذهب والفضة، فإذا رخص الذهب والفضة كما حدث في ذلك العصر؛ فقد رخص المال في جوهره ولم تكن ثمة غرابة في كتل الذهب التي تقسمها فئوس العبيد، ولا حيلة في مثل تلك الحالة لمن يعيش على مورد محدود ولا يقتني من الذهب والفضة ما يكفيه من الكفاف، وليست كذلك أزمة التضخم من عملة الورق وما جرى مجراها؛ إذ يقل الشراء لقلة ما يشترى من المتاع المطلوب، وبعضها يطلب ولا يوجد عند طلبه في الأسواق.
هذه الأزمة بلغت غايتها في خلافة عثمان، ولكنها بدأت بعد الهجرة إلى المدينة واستئناف مسير القوافل إلى رحلتي الصيف والشتاء ببضع سنوات.
والإسلام لا يمنع التجارة ولا ينكر الثروة، ولكنه يمنع الترف وينكر كنز الذهب والفضة، ويأمر بإنفاق المال في المنافع والمرافق، كما جاء في القرآن الكريم
كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم (الحشر: 7) ويتقي أشد التقية أن يترف أناس ويعدم أناس آخرون. •••
ولم يصعب على المجتمع الإسلامي تدبير مشكلة الثروات الكبيرة في السنوات الأولى من الدعوة، أو على الأصح أن الثروات الكبيرة لم تكن مشكلة من مشكلات المجتمع في تلك السنوات، سواء من جانب الأغنياء أو جانب الفقراء، فإن أصحاب تلك الثروات كانوا يتعوذون منها ويشفقون من فتنتها، ويسارعون إلى تفريقها على مستحقيها من الغزاة والمجاهدين وعلى المحرومين والمعوزين، وكان تخصيص الغزاة بالصلات التي تأتيهم من فيض تلك الثروات تشريفا لهم يتنافسون عليه ولا يأنفون منه، بل كان منهم من يأبى أن تفوته هبة يراد بها أهل بدر أو غيرهم من أصحاب المغازي والسرايا، كأنه يرى في ذلك إنكارا لصفته وكرامته وسابقته في جهاده، وقد تقدم أن عثمان ذهب مع الناس إلى عبد الرحمن بن عوف ليأخذ حصته من العطاء الذي نذر تفريقه على البدريين، وموقف عثمان هنا خاصة - ونحن بصدد ترجمته - يصور لنا شعور الغني والفقير يومئذ بشرف العطاء الذي يخص به البدريون ومن حذا حذوهم في غزوات الجهاد، فقد كان عثمان رضي الله عنه يفرق أضعاف ما أخذه من عبد الرحمن بن عوف، ولكنه أشفق أن يدخل البدريون في حساب ولا يكون هو مثلهم من الداخلين فيه، وبخاصة حين عيره بعضهم أنه تخلف عن غزوة بدر، ودفع عنه هذا التعبير بما اعتذر به من إذن النبي له بالتخلف ومن حسبان سهمه في الغنيمة وهو غائب ، فمثل هذا الشعور الذي يشمل الواصل والموصول من الغزاة والمجاهدين لا يجعل الثروة الكبيرة مشكلة يضيق بها المجتمع بين أغنيائه وفقرائه؛ إذ هي ودائع عند الأغنياء يحرصون على تفريقها ولا يحرصون على اكتنازها واستبقائها، ثم هم لا حاجة لهم إلى اكتنازها واستبقائها؛ لأنهم كانوا يعافون الترف ويعرضون عنه إعراضهم عن وصمات الخلق التي لا تجمل بالرجل في دينه ولا في دنياه، وكان أحدهما يشكو الحكة فلا يسمح لنفسه بلبس الحرير وهو قادر عليه إلا أن يستأذن في ذلك رسول الله؛ فيأذن له على سبيل الفتيا لا على سبيل التسلط من الرسول في لباس المسلم وطعامه، فما كان هذا التسلط مما يفرض الرسول لنفسه أو يفرضه المسلمون للرسول في غير ما يتولاه من التبليغ والتشريع، وقد كان الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ممن أذن لهم الرسول بلبس قميص من الحرير في بعض الغزوات ضرورة لا ترفا ولا سرفا، والمقام غير مقام الترف والسرف في شكة الجهاد.
وابتدأت الخلافة الأولى على عهد الصديق ومشكلة الثروات الكبيرة مكبوحة الجماح مملوكة الزمام، ثم أحس الخليفة الأول بزمامها يضطرب في يديه بعد اتساع التجارة وامتداد الفتوح؛ فاتخذ الحيطة لفتنتها واستبقى عنده كبار الصحابة ليجمع بين معونتهم له في الرأي والعمل، وبين تجنيبهم الفتنة ومآزق الولاية، وكان يتذمر من ترخص بعض الصحابة في أمور تؤذن بما بعدها، فقال لعبد الرحمن بن عوف وهو على سرير الموت: «ما لقيت منكم أيها المهاجرون أشد من وجعي، إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتى يألم أحكم بالاضطجاع على الصوف الأذربي - أي المنسوب إلى أذربيجان - كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان.»
ثم قال يعظه ويحذره: «والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه خير له من أن يخوض غمرات الدنيا، ثم أنتم غدا أول ضال بالناس يمينا وشمالا. ولا تضيعوهم عن الطريق. يا هادي الطريق جرت!»
ولم يكن عمر بحاجة إلى التحذير من عواقب انطلاق الصحابة في الأقطار، بل ربما كان يحذرها حيث لم يحذرها صاحبه، ولكن الصديق رضوان الله عليه لم ينس تحذيره في موقف الأمانة، فقال له وهو يجود بنفسه: «واحذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الذين انتفخت أجوافهم وطمحت أبصارهم، وأحب كل امرئ منهم لنفسه وإن منهم لحيرة عند زلة واحد منهم، فإياك أن تكونه، واعلم أنهم لن يزالوا منك خائفين ما خفت الله ...»
كلمات لا ندري كيف نحيط بما فيها من فهم لكل شيء في إبانه وقبل موقعه: فهم لطبائع الناس، وفهم للخطر كيف يأتي، ومن أين يبدأ، زلة واحد تتبعها حيرة من الكثيرين، وماذا يصد ذلك الخطر من الزلة ومن الحيرة؟ تصده القدوة بولي الأمر، فلن يزالوا خائفين منه ما خاف الله.
وهكذا قد كان. •••
على أن المشكلة ظلت في قبضته الزمان على عهد عمر، بين قوة الخليفة وتورع الأجلاء من الصحابة، وشواغل الجهاد والفتح قبل استفحال قضاياه ونقائضه، وما برح الصحابة الكبار يتورعون من الشغلان بالثروة إلى ما بعد أيامه؛ فكان أقدرهم على التجارة وتثمير المال عبد الرحمن بن عوف يخجل أن يراه أحد منصرفا إلى شئون متاجره ومزارعه، وحدث ابنه إبراهيم عنه فقال: «إن رجلا زار المدينة ليلقى أصحاب رسول الله فلقيهم جميعا إلا عبد الرحمن بن عوف، وسأل عنه فقيل له إنه في أرضه بالجرف، فلما جاءه ألفاه واضعا رداءه وبيده مسحاة يحول بها الماء؛ فاستحى عبد الرحمن وأخذ رداءه وألقى المسحاة.»
قال إبراهيم: «فسلم الرجل ثم قال: جئتك لأمر ثم رأيت أعجب منه ... هل جاءكم إلا ما جاءنا وهل علمتم إلا ما علمنا؟ قال عبد الرحمن: ما جاءنا إلا ما جاءكم وما علمنا إلا ما علمتم، فقال الرجل: فما لنا نزهد في الدنيا وترغبون فيها ونخف إلى الجهاد وتتثاقلون عنه، وأنتم خيارنا وسلفنا وأصحاب نبينا
صلى الله عليه وسلم ؟ فعاد عبد الرحمن يقول: إنه لم يأتنا إلا ما جاءكم ولم نعلم إلا ما قد علمتم، ولكنا ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر.»
وقد دعا الأمر بعد قيام الفاروق بالخلافة إلى مضاعفة الحيطة في كل تدبير لجأ إليه الصديق على اتفاق مع صاحبه؛ لاتقاء الفتنة ومصاحبة التغير الطارئ بالسياسة التي تلائمه، وجعل يشتد في حيطته كلما تباعدت المسافة بين المجتمع الإسلامي في أوائل عهد الدعوة وبين هذا المجتمع بعد افتتاح العراق وأقاليم فارس الغربية والشام ومصر إلى حدود إفريقية الشمالية والسودان.
فمن سياسته في ذلك أنه ثابر على استبقاء كبار الصحابة إلى جواره في المدينة، وكان منهم من يسأله الخروج للغزو وللجهاد فيثنيه عن ذلك ويلقي في روعه معذرته المشهورة: «إن له في غزوه مع رسول الله ما يكفيه ويبلغه ... وهو خير له من الغزو اليوم»، ثم يقول له: «خير لك ألا ترى الدنيا ولا تراك ...»
وانتهج في محاسبة الولاة خطة حاسمة لا هوادة فيها مع أحد ممن أحسن أو أساء، فراقبهم جميعا أشد مراقبة، واتخذ موسم الحج موعدا لمراجعتهم وسماع أخبار الرعية عنهم، ومنهم من كان يعزله ويستدعيه إليه لغير جريرة يؤخذ بها إلا أنه لا يريد - كما قال غير مرة - أن يحمل فضل عقله على الناس، وأنه يخشى أن يفتتن الناس به إن لم يفتتن هو بالناس مع فتنة السلطان وفتنة النجاح.
وحظر على المقاتلين أن يملكوا الأرض والعقار، وكان له - كما قلنا في عبقرية عمر - نظام اقتصادي يوافق مصلحة الدولة في عهده، فكان يحض على التجارة ويوصي القرشيين ألا يغلبهم أحد عليها؛ لأنها ثلث الملك، ولكنه أبقى الأرض لأبنائها في البلاد المفتوحة، ونهى المسلمين أن يملكوها على أن يكون لكل منهم عطاؤه من بيت المال كعطاء الجند في الجيش القائم، وإذا أسلم أحد الذميين أخذت منه أرضه ووزعت بين أهل بلده وفرض له العطاء، وكان غرضه من ذلك أن تبقى لأهل البلاد موارد ثرواتهم، وأن يعتصم الجند الإسلامي من فتن النزاع على الأرض والعقار، ومن فتن الدعة والاشتغال بالثراء والحطام، وربما أغضى عن كثير في سبيل الإعانة على تعمير البلاد بأهلها؛ فصفح عن أهل السواد - العراق - ليأمنوا البقاء فيه ... مع أنهم حنثوا بالعهد وعاونوا الفرس على المسلمين في أثناء القتال، ويلوح من كلامه في أخريات أيامه أنه كان على نية النظر في تصحيح النظام الاقتصادي وعلاج مشكلة الفقر والغنى على نحو غير الذي وجدها عليه فقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على الفقراء»، ولم يرد في كلامه تفصيل لهذه النية، ولكن الذي نعلمه من آرائه في هذا الصدد كاف لاستخلاص ما كان ينويه، فعمر على حبه للمساواة بين الناس كان يفرق أبدا بين المساواة في الآداب النفسية والمساواة في السنن الاجتماعية، فكتب إلى أبي موسى الأشعري:
بلغني أنك تأذن للناس جما غفيرا، فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين، فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة.
ولكنه لما رأى الخدم وقوفا لا يأكلون مع سادتهم في مكة؛ غضب وقال لسادتهم مؤنبا: ما لقوم يستأثرون على خدامهم؟ ثم دعا بالخدام فأكلوا مع السادة في جفان واحدة.
فالمساواة في أدب النفس لم تكن عند عمر مما ينفي التفاضل بالدرجات، ولم يكن يرضيه كذلك أن يعتمد الفقراء على الصدقات والعطايا ويعرضوا عن العمل واتخاذ المهنة؛ فكان يقول لهم في خطبه: «يا معشر الفقراء ارفعوا رءوسكم! فقد وضح الطريق فاستبقوا الخيرات ولا تكونوا عيالا على المسلمين.» وكان يوصى الفقراء والأغنياء معا أن يتعلموا المهنة، فإنه يوشك أن يحتاج أحدهم إلى مهنة وإن كان من الأغنياء؛ فيسوغ لنا أن نفهم من هذا جميعه معنى ما انتواه من أخذ فضول الغنى وتقسيمها في وجوه البر والصلاح ... على أن عمر يصح أن يسمى مؤسسا لديوان الوقف الخيري على الوجه الذي نعهده الآن؛ فقد أنشأ بيت الدقيق لإغاثة الفقراء الذين لا يجدون الطعام، وأصاب قبل خلافته أرضا بخيبر فاستشار النبي
صلى الله عليه وسلم
فيها، فاستحسن له أن يحبس أصلها ويتصدق بريعها، فجعلها عمر لا تباع ولا توهب ولا تورث، وينفق منها على الفقراء والغزاة وغيرهم، ولا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف ويطعم صديقا فقيرا منها.
وكان عمر يستقصي عادات المسلمين في معيشتهم حيث تفرقوا من بقاع الدولة الإسلامية، فسأل من عنده من أجلاء الصحابة: أن الناس قد دنوا من الريف فما ترون في حد الخمر؟ وكان ممن سألهم عبد الرحمن بن عوف، فقال: نرى أن نجعله كأخف الحدود؛ فجلد فيه ثمانين. •••
ثم انتهت خلافة عمر والمجتمع الإسلامي مجتمعان: أحدهما ماض ولما يمض بأجمعه، والآخر مقبل ولما يقبل بأجمعه، وأوشك عمر على قوته أن يحار في تدبيره، وقال الشعبي كما تقدم: إنه قضى وقد أوشكت قريش أن تمله لشدته ووقوفه لها بحيث وقف حائلا بينها وبين نزعاتها ومطامحها في دنياها الجديدة، بين ماض ينصرم، وحاضر يتقلب ويكاد أن ينهزم، ولكن الثقة به لم تضعف مع طوالع المجتمع الجديد؛ بل زادته هذه الطوالع المتقلبة تمكينا على تمكين، وجعلت من يخالفه يخجل من مخالفته، لمكان تلك الثقة القوية ولاستطاعة النفوس أن تغلب محن الحوادث ولا تستسلم لغوايتها. ولعلنا لا نجد لهذه المغالبة مثلا يبرزها كما يبرزها مثل عبد الرحمن بن عوف الذي بلغ غاية النجاح في المجتمع الجديد، وكان قطبا من أعظم الأقطاب في مجتمع الدعوة والخلافة الأولى، فإنه شهد بدرا والمشاهد كلها، وكتبت له حصة وافية من أنفال الغزوات وغنائمها، وفاضت ثروته من التجارة والزراعة حتى فرقها بعد مرة، وعاش إلى أيام عثمان وكان صاحب القول الفصل في اختياره للخلافة؛ لأنه ارتضى أن يخلع نفسه منها ليكون له الرأي فيمن يختار من المرشحين لها، فهو بحق مثل نادر للمغالبة النفسية بين ما استقبل واستدبر من حياته على عهد النبي صلوات الله عليه وعهد عمر وعهد عثمان، وقد كان - كما أخرجه البخاري - يقول كلما رأى وفرة المال عنده: «خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا.» وكان يصوم ثم يؤتى له بالطعام فيقول: «قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا.»
فهذه المغالبة لمحنة المجتمع الجديد، وتلك الثقة بالفاروق، وتلك القوة فيه، قد حفظت زمام الدولة في قبضة وليها، ولم تذهب بالمخالفة له إلى مدى أبعد مما سماه الشعبي بالملل وأحسن في وصفه، فلو لم تكن هناك ثقة مكينة لجاوز الأمر الملل إلى السخط والتمرد، وألفي هنالك من يتمرد ليمضي مع الماضي ومن يتمرد ليقبل مع المستقبل، ولكنها حالة لم تدم طويلا بعد خلافة الفاروق؛ إذ كان في الناس من يغضب باطلا ولا يخجل من غضبه بالباطل، وكان منهم من يغضب حقا وليس هو على يقين أن ولاة الأمر أحق منه وأجدر بالفضل والطاعة، وكان منهم من يحار بين الفريقين ولا يدري كيف يهتدي في حيرته إلى الصواب.
الفصل التاسع
المبايعة
إذا لخصت سنة الصديق أو سنة الفاروق في تولية العهد بعدهما، كانت خلاصتها أنها إبراء للذمة أمام الله؛ درءا للخلاف وحرصا على الوحدة الإسلامية.
ولا بد من استحضار هذه الحقيقة لمنع كل شبهة، وتأويل كل قصد، ودفع كل فرية عند تعليل الطريقة التي اختارها كلاهما لتحقيق هذه البغية واختلفا فيها ظاهرا، ولا اختلاف بينهما باطنا فيما قصدا إليه.
فلا تدبير هناك ولا احتيال لغاية يرميان إليها غير تلك المصلحة أو تلك الوحدة، ومن ظن أن الصديق قد اختار عمر ليقصي عن الخلافة غيره، أو ظن أن عمر قد اختار جماعة الشورى ليرجح الكفة في جانب واحد منهم على سواه؛ فهو ينكر عليهما الإسلام ولا ينكر عليهما حسن النية أو حسن التدبير وحسب، فإن أحدا يؤمن بأنه محاسب على نيته وعمله إذ يودع الدنيا ويستقبل الآخرة؛ لن يحتال ولن يدبر لهواه وهو يعلم أنه يغضب الله بما يفعل، ولو كان لأحدهما هوى في أحد لاختار أبو بكر من بني تيم، واختار عمر من بني عدي أو بني الخطاب، وما كان ينبغي لهما الهوى وهما في سطوة الدنيا وجاه الولاية، فكيف ينبغي لهما وهما مقبلان على الموت مؤمنان بحساب لا شك فيه؟!
لم يكن هناك نظامان دستوريان كما وهم بعض المحدثين، الذين أرادوا أن يعينوا بلغة الدساتير العصرية نظاما لتولية العهد في سابقة الصديق أو سابقة الفاروق، وإنما هما نظام واحد يتبعه كلاهما في موضع صاحبه، فما نحسب أن أبا بكر كان مسميا أحدا بعينه لو كان في موضع عمر، وما نحسب أن عمر كان محجما عن التسمية لو كان في موضع أبي بكر، وليس البحث عندهما أي أولياء العهد أفضل وأحب إليهما، ولكنما البحث الذي يعنيهما ويشغلهما: أيهم أحب إلى المسلمين وأقمن أن يجمعهم على بيعة واحدة وكلمة متفقة، ولا يعقل أن أحدا منهما كان يعلم في طويته أن ثمة وسيلة غير الوسيلة التي اختارها لتحقيق الوحدة المنشودة ثم يعدل عنها؛ ليأثم في حق ربه وحق دينه وحق رسوله وحق المسلمين كافة، تبرعا منه بالإثم حيث لا حاجة ولا مصلحة ولا فرصة بعدها للندم والتوبة.
حضرت الوفاة أبا بكر، فسأل نفرا من نخبة الصحابة عمن يتولى أمور المسلمين بعده، فذكروا عمر وأشار بعضهم إلى شدته، فقال لهم: إنه كان يشتد؛ لأنه يراني رقيقا فإذا وكل إليه الأمر فلا خوف من شدته. وروى محمد بن سعد أن جماعة من الصحابة دخلوا عليه لما عزم على استخلاف عمر، فقال له قائلون منهم: «ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟» فقال أبو بكر: «أجلسوني» ثم جلس فقال: «أبالله تخوفونني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: لأنني قد استخلفت عليهم خير أهلك. أبلغوا عني ما قلت لكم من وراءكم.»
ثم اضطجع وجاء عثمان بن عفان، فجعل يملي عليه: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا وأطيعوا، فإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا، فإن عدل فذاك الظن به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا علم لي بالغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.»
وكان يملي وتدركه غشية، فلما قال: «استخلفت بعدي» ولم يذكر اسما أتم عثمان وصيته باسم عمر بن الخطاب. ثم أفاق أبو بكر فسأله: ماذا كتبت؟ فأعاد عليه العبارة كما زادها، فدعا له وبارك عليه، وقال له: «هكذا الظن بك، لو كتبت اسمك لكنت لها أهلا.»
والقوم في معرض المحاسبة لأنفسهم أمام الأمانة العظمى لا يصطنعون زخارف المجاملات التي يتلهى بها طلاب الظرف ورواد الأندية في زماننا هذا وقبل زماننا، فما كان عمر ليتنحى عن الأمانة وقد اختير لها وهو يعلم أنه أقدر عليها؛ فإنه محاسب على إنكاره حقه كما يحاسب على إنكار حق غيره إذا اجتمعت له صفة الولاية دونه. فكان يتولى الخلافة وهو يقول: «لو علمت أن أحدا أقوى على هذا الأمر مني، لكان أن أقدم فتضرب عنقي، أحب إلي من أن أليه.»
ثم حضرته الوفاة فلم يعهد في بادئ الأمر لأحد، ونقل إليه حديث الناس إذ يقولون: «إنه غير مستخلف، ولو كان له راعي إبل أو راعي غنم ثم ترك رعيته كان قد فرط في أمانته، فماذا يقول لله عز وجل إذا لقيه ولم يستخلف على عباده؟» فأصابته كآبة ثم نكس رأسه طويلا، ثم رفعها وقال: «إن الله تعالى حافظ الدين، وأي ذلك أفعل فقد سن لي، إن لم أستخلف فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم يستخلف وإن أستخلف فقد استخلف أبو بكر.»
وعاوده في هذا الحديث فجعل يسأل كأنما يسأل نفسه: «من أستخلف؟» وروى عمر بن ميمون الأودي أنه قال بعد ذلك: لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته، وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: إن سالما شديد الحب لله تعالى.» فقال له المغيرة بن شعبة: «أدلك عليه؟ عبد الله بن عمر.» فنهره قائلا: «قاتلك الله! والله ما أدرت الله بهذا. ويحك! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته؟! لا أرب لنا في أموركم، فما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن كان شرا فقد صرف عنا. بحسب آل الخطاب أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد. أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي، فإن نجوت كفافا لا وزر ولا أجر إني لسعيد ...»
ثم قال: «انظر، فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ولن يضيع الله دينه.»
وراجع نفسه وروجع في الاستخلاف مرة بعد مرة، فقال: «ما أردت أن أتحملها حيا وميتا. عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إنهم من أهل الجنة، وهم: علي، وعثمان، وعبد الرحمن، وسعد، والزبير، وطلحة؛ فليختاروا منهم رجلا، فإذا ولوا منهم واليا فأحسنوا مؤازرته وأعينوه.»
ثم دعا بهم فحضروا إلا طلحة كان غائبا، فقال لهم: «إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو عنكم راض، وإني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم، ولكني أخافكم فيما بينكم فيختلف الناس.»
ووضع رأسه وقد نزفه الدم، فتناجوا بينهم حتى ارتفعت أصواتهم، وقال عبد الله بن عمر: «سبحان الله! إن أمير المؤمنين لم يمت بعد!» فسمعه فانتبه، وقال: «أعرضوا عن هذا، فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام، وليصل بالناس صهيب، ولا يأت اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة فامضوا.»
والتفت سائلا: «ومن لي بطلحة؟!» قال سعد بن أبي وقاص: «أنا لك به ولا يخالف إن شاء الله تعالى.»
وقال لأبي طلحة الأنصاري: «يا أبا طلحة، إن الله طالما أعز بكم الإسلام؛ فاختر خمسين رجلا من الأنصار، فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم»، وقال لصهيب: «صل بالناس ثلاثة أيام، وأدخل هؤلاء الرهط بيتا وقم على رءوسهم، فإن اجتمع خمسة وأبي واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة وأبي اثنان فاضرب رءوسهما، وإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع فيه الناس.» •••
على هذا الوجه أبرأ عمر ذمته من قضية الاستخلاف.
وعلى هذا الوجه نرى عقل رجل من أولئك الرجال الأفذاذ يعمل في تفصيلات هذه القضية التي واجهته بجميع عقدها ومخاطرها لأول مرة في حياته، وهو يفارق تلك الحياة: يقلبها على جميع الوجوه، ويفرض لها جميع النتائج، ويطرق أبوابها فيفتح منها ما ينبغي أن يفتح، ويغلق منها ما ينبغي أن يغلق، ويلاقي من جانب ما يخشاه من جانب، ويختار الرجال ثم يختار الخطط على كل احتمال من إحسان أو إساءة ومن وفاق أو شقاق، ويفعل ذلك في غمرات الموت بين صرعات الألم من جراحه القاتلة، ويعالج به أمرا لم يعالج من قبل على هذا المثال أو على مثال غيره، وكأنما هو من خبراء الاختصاص في دساتير الحكم، درسها وتلقى دروسها من أساتذتها الذين سبقوه إلى تقريرها وتدوين وقائعها ومواقعها، وجلس ليوازن ويقابل، ويطابق ويوافق، ومن حوله الأعوان يلبون ما يطلب ويستدركون ما يفوت، وينتهون في سعة من الوقت إلى قرارهم وهم وادعون آمنون أن يصيبهم مكروه من مغبة ما قرروه.
ولو كان تفكيره لعذر يتكلم به أو لحجة يسكن إليها لقد كان حسبه أن يبرئ ذمته بالطمأنينة إلى الدين في حراسة الله، أو كان حسبه أن يبرئ ذمته بما جرى عليه الأمر في عهد رسول الله، ولكنه لا يلتمس عذرا يقال وحسب، أو حجة تقنع وكفى، بل يسأل نفسه ويحاسبها على اختلاف الأمور بين عهد وعهد، وتباين الأعذار من حال إلى حال؛ فلا يدع من جوانب القضية شبهة يوردها من يحاسبه إلا أوردها لنفسه، كأنما هو حامل الميزان.
فمن سأل عن معجزات العقائد في كواكب السماء أو أطواد الأرض؛ فهذه معجزة المعجزات التي تأتي بها العقيدة في نفس الإنسان: تخرجه من جوف الصحراء كفؤا لأعضل المعضلات بخلقه، وكفؤا لها بعقله، وكفؤا لها بعمله، ونمطا من الشعور بالتبعات لا يجارى، ونمطا من القدرة على النهوض بها يطول الزمن بأبناء الحضارات قبل أن يبلغوه وقبل أن يعرفوه.
ومن آيات بعد النظر في سبر أغوار الرجل أنه جعل للترجيح بين أصحاب الشورى رجلين: هما عبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، فأما عبد الله بن عمر فهو الذي نحاه عن المشاركة في الخلافة، وأعده للترجيح بين المختلفين وليس له من الأمر شيء، وأما عبد الرحمن بن عوف فلم يلبث أن نحى نفسه ليقبل حكمه؛ فكان بحق أصلح المتشاورين لترجيح إحدى الكفتين.
ومن آيات بعد النظر في الاختيار وسبر الأغوار أنه أقام أبا طلحة الأنصاري على رأس خمسين ممن يختارهم لقمع الفتنة في مهدها إذا اختلف المتشاورون؛ فكان أبو طلحة عند ظنه حزما وتقية قال للقوم وقد تنازعوا الرأي: «لقد حسبتكم تتدافعونها ولا تتنافسونها»، ثم أقسم لا يمهلهم لحظة بعد الأيام الثلاثة، ثم هو صانع بهم ما أمر به أمير المؤمنين.
ومن آيات بعد النظر في الاختيار أنه اختار صهيبا للصلاة بالناس، فهو الإمام الذي لا تخشى له دعوة من تقديمه للصلاة، ولا يأبى الناس أن يأتموا به وقد أمهم قبل ذاك.
ومن آيات بعد النظر في الاختيار وسبر الأغوار أنه اختار طلحة مع الستة وهو غائب من المدينة، أوما كان في الخمسة المقيمين بالمدينة غنى وكفاية؟ أوما كان لطلحة بديل من سائر الصحابة المقيمين؟ جواب ذلك عند التاريخ في نهاية عهد عثمان، وعند التاريخ في بداية عهد علي، وعند عمر قبل ذلك باثنتي عشرة سنة.
وآية الآيات دستوره في اختيار الستة دون سائر الصحابة من الأنصار والمهاجرين.
أتراه اختارهم جزافا كما شاء؟! ذلك دستور لا يلزم الناس جميعا ولا حجة له عليهم فيه إذا سألوه عن فضل المختارين على غير المختارين؟
أتراه اختارهم من قبائل قريش؛ ليكون كل منهم نائبا عن قبيلة منها أو متكلما باسم بيت من بيوتات الرئاسة فيها؟! تلك هي العصبية يحييها في أسوأ أوان لإحيائها، حيث تراد الوحدة والغيرة على العقيدة، ولا تراد العصبيات الجاهلية أو لا يراد الاعتراف بها إذا تيقظت على غير إرادة.
أتراه اختارهم من البدريين وذوي السوابق في الجهاد؟ لقد كان من هؤلاء عند وفاة عمر نفر غير قليل. لو جمعهم كلهم لكثروا، ولو فاضل بينهم؛ لما وضحت لهم أسباب المفاضلة، ومنهم من هو ذو فضل وليس بذي رئاسة تتبع، ومنهم من ذوي الفضل والرئاسة من لو اجتمعوا لاختل ميزان الترجيح وبطل معنى الاختيار.
فلا بد من اختيار ولا بد من دستور يثاب إليه في الاختيار، وكان الدستور الذي ثاب إليه عمر - حيث يعجل المرء عن الروية - غاية في الروية والدقة في الموازنة بين جميع الوجوه.
كان دستوره أن أصحاب الشورى هم الذين ذكروا بأسمائهم في خطبة النبي عليه السلام بعد حجة الوداع، وهم الذين يتفق الناس على من يقع عليه الاختيار منهم؛ فتكون له حجته على أصحاب الشورى وتكون لهم حجتهم عليه.
وعمر يعلم أن طلحة كان يطمح إلى استخلافه بعد أبي بكر، وكلاهما من عشيرة واحدة وهي قبيلة تيم، فقال له أبو بكر: «أما والله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك، ورفعت نفسك فوق قدرها؛ حتى يكون الله هو الذي يضعها ...»
وما كانت تخفي على عمر فضيلة في واحد من الستة ولا نقيصة، وما كان يغمط لهم فضلا ولا يغضي على نقص، وأولهم عبد الرحمن بن عوف الذي أقامه بينهم مقام الحكم الذي يرجح بين العدلين، فقال له: إن إيمانه يرجح بنصف إيمان الأمة، وقال عنه لابن عمر: نعم المرء ... ذكرت رجلا صالحا إلا أنه ضعيف، وهذا الأمر لا يصلح له إلا الشديد من غير عنف، اللين من غير ضعف، الجواد من غير سرف، الممسك من غير بخل.
ورأيه في الزبير أنه مؤمن الرضا كافر الغضب، وقد صارحه برأيه فيه فقال له: «لعلها لو أفضت إليك ظللت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير ...»
ورأيه في سعد أنه أهل لها ... فإن تولوه فهو أهل، وإلا فليستعن به الوالي فإني لم أعزله عن ضعف ولا خيانة، وكان يقول: «إذا روى سعد حديثا فلا تسألوا عنه غيره لصدقه وأمانته.»
وكان يظن مع هذا أنه لا يليها «إلا أحد هذين الرجلين: علي وعثمان، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة وأحرى به أن يحملهم على الحق.»
وقال لعثمان: «كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك؛ فحملت بني معيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفيء.» وقال لعلي مثل ذلك عن بني هاشم ولم يذكر الفيء، وإذا صح ما جاء في إحدى الروايات
1
أنه قال لعثمان بعد مقالته الأولى: «فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحا»، فإنها لمن نبوءاته التي جعلته من المحدثين، أي من الذين يتحدث إليهم بلسان الغيب، كما قال عنه النبي عليه السلام.
ولا خوف عليهم من الناس إذا اتفقوا كما قال لهم حين دعاهم للمشاورة وانتخاب واحد منهم للخلافة، فليس أسلم عاقبة ولا أصدق حجة من اتفاقهم على إسناد الخلافة إلى أحدهم، فإن اتفق أكثرهم فأبو طلحة مأمور بحسم الفتنة قبل أن تنجم والقضاء على المخالفة قبل أن يبرح مجلس الشورى، فإن لج الخلاف مع هذا وبعد هذا فلا حيلة فيه.
وقد روى الثقات حديث النبي عليه السلام حين عاد من حجة الوداع قبيل وفاته، فقال: «أيها الناس إن أبا بكر لم يسؤني قط فاعرفوا له ذلك، يا أيها الناس إني راض عن: عمر، وعلي، وعثمان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن مالك، وعبد الرحمن بن عوف، والمهاجرين الأولين، فاعرفوا لهم ذلك ...»
فحسب عمر أن يرتضي للمشاورة في أمر الخلافة من رضي النبي عليه السلام عنهم قبيل وفاته، وحسبه مع هذا أن يكون هؤلاء النفر الكرام المرضي عنهم هم ملتقى الآراء بين خاصة المسلمين وعامتهم، فلا يسمون خليفة إلا كان واحدا من هؤلاء، ولا يحاول أحد في ذلك العصر أو في عصرنا هذا أن يزيد عليهم علما من أعلام الإسلام يومئذ إلا اعترضه مانع أو كان مستنده إلى سبب غير جامع، فقد كان العباس بن عبد المطلب حيا في ذلك الحين فلم يدخل في أصحاب الشورى، وقال ابن جرير الطبري في تعليل ذلك: «أنه - أي عمر - إنما جعلها في أهل السبق من البدريين والعباس لم يكن مهاجرا ولا سابقا ولا بدريا ...»
ولكن الواقع أن العباس لم يذكر في خطبة الوداع، ولم يكن من المرشحين للخلافة مع وجود علي، وهو نفسه قد تقدم لمبايعة علي ثم أشار عليه ألا يدخل في جماعة الشورى فليس في استثنائه تعسف من عمر، وإنما التعسف أن يختاره لسبب ولا يختار معه كل من يشاركونه في هذا السبب، وذلك هو الاستثناء الذي لا يغني شيئا ولا يطاع بسند شامل براء من التحكم والجزاف. •••
ولقد علمنا فيما علمناه وألممنا به آنفا من آراء المعقبين على خطة الصديق وخطة الفاروق، أن بعضهم ود لو كان الفاروق قد نهج على منهاج سلفه في اختيار خلفه، وأنهم عابوا عليه أن يكل إلى الستة أن يتشاوروا في انتخاب واحد منهم؛ لأنهم تولوا هذه المهمة فداخل كلا منهم الأمل في الخلافة والإيمان بصلاحه لولايتها، فانفتح بينهم باب التنافس وتطرقت إليهم نوازع الشقاق في هذا الباب.
ومعاوية بن أبي سفيان كان على رأس القائلين بهذا الرأي وهو نفسه حجة على نقيضه؛ لأنه قد اشرأب إلى الخلافة وتصدى للمبايعة بها، وليس هو من الستة ولا من كان يطمع في إسنادها إليه بوصية من الفاروق لو اختار الفاروق أن يعهد بعده لخليفة يسميه باسمه، وقد نادى معاوية بولاية العهد لابنه يزيد وبويع عليها طوعا أو كرها لم يحسم بذلك خلافا بين المسلمين عامة ولا بين بني أمية أو أبناء بيت أبي سفيان.
وما نحسب أن عمر كان يؤمن بترجيح واحد من الستة على الآخرين وإجماع المسلمين على مثل رأيه فيه، وأنه قادر على رد المخالفين له إلى الإجماع إن كان من الناس من يخالفه قبل المبايعة، وليس البحث في هذا المقام عن فضل العلم أو فضل البأس والفروسية، فربما قل الخلاف على صاحب الفضل فيهما بين أصحاب الشورى ورؤساء المهاجرين والأنصار كافة، وإنما البحث فيمن يجمع الناس إلى حكمه وفضله، وهو بحث لازم لا غنى عن المشاورة يومئذ فيه، ولو استغنى عنه أحد لاستغنى عنه عمر ولم يبال إن كان يحكم برأيه في ولاية العهد على يقين.
ولا ريب أنه حصر المرشحين بعده للخلافة؛ فأحسن حصرهم ولم يدع واحدا منهم خارجا من زمرتهم، فهم مرشحون لها عند أنفسهم وعند أنصارهم قبل أن يندبهم للمشاورة فيها، فإن صارت إلى واحد منهم باتفاقهم كان هذا ألزم لهم وأوجب؛ لتحرجهم من الخروج على من ولي الأمر باختيارهم، وكان أوجب لتحرجهم كذلك من الخروج على مشيئة عمر التي أملاها ورتب لها نتائجها.
كان ولي الأمر في ذلك المجتمع الوليد كفؤا لأمانة الخلافة إلى النفس الأخير من أنفاس حياته المباركة؛ فأوصى وصيته المحكمة التي نظر فيها نظرته الشاملة، ولم يدع فيها بقية لنظرة ثانية، ولكن الوصايا مهما يبلغ من إحكامها وإلزامها لا تنفذ بغير منفذين يقدرون على تنفيذها ويصدقون النية فيه، فلو لم يكن أصحاب الشورى وقائد الجند وإمام الصلاة في الأيام الثلاثة أهلا لأمانتهم؛ لما أغناهم حزم الخليفة الراحل شيئا في تلك المهمة المعجلة التي يوشك أن يفسدها كل خطأ في القيام عليها وكل تأخير عن موعدها، وقد أدى الخليفة واجبه وبقي واجب المنفذين الذين ائتمنهم على الأمة بعد حياته، فمن حقهم على التاريخ أن يسجل لهم أداءهم لواجبهم وتصريفهم لأمانتهم على أتم الوجوه الميسرة لهم في تلك المهمة المحرجة ... وفي زمرتهم قبل غيرها بعض محرجاتها، بل أعضل محرجاتها.
تنافسوا بينهم ولا جرم أقل من منصب الخلافة في الدنيا والدين يتنافس عليه المتنافسون، ومن المروءة أن يستشرف المرء إلى مقام الفاضل ويأبى لدينه ودنياه مقام المفضول، فإن لم يكن تنافسهم على مكانة عالية فهو تنافس يربئون به عن مظنة التخلف والقصور.
ثم ألهم أحدهم أول حل للمشكل تتبعه لا محالة سائر الحلول: واحد ينزع نفسه منها باختياره وينوب عن سائرهم في التوفيق بين المختلفين.
سبقهم إلى هذا الحل عبد الرحمن بن عوف، ولم يسبقهم إليه نزولا بقدره عن أقدارهم، بل نزولا به عن قدر الصديق والفاروق، فقد علم أن الرضى عن خليفة بعد هذين مطمع بعيد، ولم يشأ أن ينزل بنفسه منزلا لا يرضى له ولا يرتضيه.
ولم يخطر له أن يخلع نفسه بادئ ذي بدء قبل أن يرى منهم من عساه يصنع مثل صنيعه، فإن كان منهم من يخلع نفسه على أن يختار غيره فقد ضاقت بينهم شقة الخلاف، وإن لم يكن؛ فلينظر بعد ذلك فيما يلي خطوته الأولى من خطوات.
قال: «أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟» فلم يجبه أحد فقال: «فأنا أنخلع منها»، ثم تقدم إلى الخطوة التالية فلم يخطئها، ووصل منها إلى حصر الخلافة في واحد من اثنين: علي وعثمان.
لقي كلا منهما فأراه أنه يعلم حجته ودعواه، قال لعلي: «تقول يا أبا الحسن إني أحق من حضر بهذا الأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين، ولم تبعد في نفسك، ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق به؟» قال: «عثمان».
ولقي عثمان فقال: «إنك تقول: شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله وابن عمته، ولي سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عني؟! لكن لو لم تحضر، فأي هؤلاء الرهط تراه أحق؟» فقال: «علي»!
وتختلف الروايات فيمن اختاره الزبير وسعد، ولكن الراجح منها أنهما ذكرا عثمان بشرط ولم يقطعا برأي في إيثار علي عليه.
فلما انحصر الترجيح بين عثمان وعلي؛ خرج يسأل من يلقاه من غير أصحاب الشورى؛ فيذكر له بعضهم عثمان وبعضهم عليا، ويزيد المختارون لعثمان على المختارين لعلي، وهو أمر لا غرابة فيه مع المعهود من طبائع الناس، وأنهم لا يجنحون إلى العظمة النابغة جنوحهم إلى الطيبة والسلامة، ولا ينفسون على الشيوخ ما ينفسونه على الفتيان والكهول.
كل أولئك وأبو طلحة الأنصاري رئيس الجند ينذرهم ويقسم لهم «بالذي ذهب بنفس عمر» لا يزيدنهم على الأيام الثلاثة، ثم يجلس في بيته فينظر ماذا يصنعون، وينفذ الأمر فيمن خالف وأصر على الخلاف. •••
ولئن كان عمر موفقا في اختيار كل لعمله لقد كان اختياره لأبي طلحة أوفق ما في هذا التوفيق. إنه الرجل الذي آخى النبي عليه السلام بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح أولى الناس في رأي عمر بالخلافة لو عاش، وهو البطل الذي ثبت في وقعة أحد يوم انهزم أشجع الشجعان، ولزم النبي في ذلك اليوم المشهود يقف بينه وبين السهام والسيوف، ويتطاول بصدره ليدفع عنه ضربات المشركين الذين عرفوه وتعمدوه؛ ليصيبوا الدعوة في مقتلها إذا أصابوه، وشهد أبو طلحة وقعة حنين فبارز عشرين خصما وصرعهم وصاح صيحته التي كان عليه السلام يقول: «إنها في الجيش خير من مائة رجل»، ولم يكن يبالي الموت وهو في سعة من دنياه، ولم يعرف غير الجد فيما يعمل أو يقول.
وقد أوفى بأمانته في أيام الشورى، فلم يدعهم حتى فرغوا من عملهم في صبيحة اليوم الثالث، وكان فيه فصل الخطاب.
في تلك الليلة أتى عبد الرحمن بن عوف منزل المسور بن مخرمة، فأيقظه وأرسله يدعو الزبير وسعدا، ثم بدأ بالزبير فقال له: «خل بني عبد مناف وهذا الأمر» قال الزبير: «نصيي لعلي»، ثم قال لسعد: «اجعل نصيبك لي فنحن كلالة» أي: أبناء عم من بعيد، وكلاهما من بني زهرة. فقال سعد: «إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعلي أحب لي.» ثم قال: «أيها الرجل بايع لنفسك وأرحنا وارفع رءوسنا»؛ فاعتذر عبد الرحمن لأنه خلع نفسه منها، وأعاد عليه مقالته: أنه لا يقوم مقام أبي بكر وعمر أحد بعدهما ويرضى الناس عنه.
ثم كان علي وعثمان آخر من دعاهم في تلك الليلة: دعا عليا فناجاه طويلا، ثم دعا عثمان فناجاه إلى صلاة الصبح، ويظن أنه سأل كلا منهما عما ينويه إذا ولي الخلافة، وعن وصية عمر بعمال الولايات أن يتركوا في ولاياتهم عاما بعد وفاته، ثم يصنع الخليفة ما بدا له من إقرار أو عزل على حسب أحوالهم وأحوال ولاياتهم، وأنه سأل كلا منهما عن سياسته عامة وخاصة في شئون: الأفياء والأرزاق والأجناد والسرايا والمغازي وسائر ما يتولاه من أمور الخلافة، ولا يقطع أحد بما دار بين عبد الرحمن وبين كل من علي وعثمان على حدة، وأغلب الظن أن الذين ذكروا شيئا من هذا إنما ذكروه مستنبطين، ولم يذكروه نقلا عن عبد الرحمن أو عن علي وعثمان. قال عبد الله بن عمر: من أخبرك أنه يعلم ما كلم به عبد الرحمن بن عوف عليا وعثمان، فقد قال بغير علم.
وحانت صلاة الصبح فصلوا في المسجد، وجمع عبد الرحمن رهط الشورى، وبعث إلى من كان بالمدينة من أهل السابقة والفضل من الأنصار وأمراء الأجناد فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله، وقام عبد الرحمن فقال: «أيها الناس، إن أهل الأمصار قد أحبوا أن يلحقوا بأمصارهم وقد علموا من أميرهم»؛ فصاح به سعيد بن زيد أحد ذوي السابقة الأولى في الجهاد: «إنا نراك أهلا لها.» قال عبد الرحمن: «أشيروا علي بغير هذا.» قال عمار بن ياسر: «إن أردت ألا يختلف المسلمون فبايع عليا.» وقال المقداد بن الأسود: «صدق عمار. إن بايعت عليا، قلنا: سمعنا وأطعنا.» وإذا بعبد الله بن أبي السرح يناديه: «تبايع عثمان فلا تختلف قريش.» ويثني عبد الله بن أبي ربيعة فيقول: «صدق، إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا.» فتنابز عمار وابن أبي السرح، واختلط القول بين بني هاشم وبني أمية، فعاد عمار يقول: «أيها الناس، إن الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه، فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم؟» وبادره رجل من آل مخزوم شاتما: «لقد عدوت طورك يا ابن سمية. وما أنت وتأمير قريش لأنفسها؟»
وضاق سعد بن أبي وقاص صدرا بهذه المنابذة وهذا الصخب فصاح بعبد الرحمن: «يا عبد الرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس .»
ولا ندري هل تعمد عبد الرحمن هذا التمهل قبل إعلان البيعة، أو أنه سكت حين اعترضه المعترضون باللجاج والمنابذة، فالغالب من تصرفه في أمر الشورى أنه كان يخطو الخطوة، ثم يتبعها ما بعدها بحساب وأناة، وآخر ما كان من ذلك أنه أرجأ محادثة الاثنين اللذين انحصرت فيهما الأقوال حتى كانا آخر من تحدث إليه، وأنه لما دعاهما دعا عليا ثم ثنى بعثمان.
فإن كان قد تمهل في المسجد على عمد فقد أحسن الروية؛ لأنه سكت حتى أيقن الحاضرون بما رأوه وما سمعوه أن الفتنة موشكة أن تكشر عن نابها إن لم ينته الناس من مبايعة خليفتهم تلك الساعة! هذا يذكر اتفاق قريش، وهذا يشترط، وهذا يقابل شرطه بمثله، وهذا يتكلم عن بني هاشم، وهذا يتكلم عن بني أمية. فلما صاح سعد صيحته بعبد الرحمن: افرغ يا عبد الرحمن قبل أن يفتتن الناس، كان صوته في تلك اللحظة كأنما هو صوت المسجد كله يتكلم بلسان واحد.
وأسرع عبد الرحمن فقال: «إني قد نظرت وشاورت؛ فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا.» ودعا عليا وقال: «عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده.» فقال: «أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي مع اجتهاد رأيي.» ودعا عثمان فقال له كذلك: «عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده.» فقال: «نعم.»
فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال: «اللهم اسمع واشهد ... أني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان.» ثم بايعه بالخلافة، وبايعه بعده المهاجرون والأنصار.
وجاء في بعض أخبار ذلك اليوم أن عبد الرحمن بن عوف لما بايعه؛ ازدحم الناس عليه يبايعونه حتى غشوه عند المنبر، فقعد عبد الرحمن مقعد النبي صلوات الله عليه، وأقعد عثمان على الدرجة الثانية فجعل الناس يبايعونه، وأبطأ علي فقال عبد الرحمن:
فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (الفتح: 10). فرجع علي يشق الناس حتى بايع وهو يقول:
فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (يوسف: 18).
وقد بايع رهط الشورى عثمان في المسجد ما عدا طلحة، فإنه كان غائبا فقدم بعد ذلك وعلم بالبيعة فسأل: «أكل قريش راض به؟» ثم قال له عثمان حين ذهب إليه: «أنت على رأس أمرك ... إن أبيت رددتها.» قال طلحة: «أتردها؟» قال: «نعم» ... فسأله: «أكل الناس بايعوك؟» قال: «نعم» قال: «قد رضيت، لا أرغب عما قد اجتمعوا عليه.»
ولا نلتفت هنا إلى زوائد الأقاويل عما خدع عليا وعمن خدعه؛ فإن ما أجملناه هنا من شتى الروايات هو الأشبه والأمثل بهم أجمعين.
ولكننا نلم بطرف من تلك الأقاويل حيث يزعم بعض الرواة أن عليا بايع وهو يقول جهرة: «خدعة وأي خدعة»، وأنه يعني بذلك أن عمرو بن العاص خدعه فانخدع، وأن ابن العاص لقيه في ليالي الشورى، فألقى في روعه أن «عبد الرحمن بن عوف رجل مجتهد، وأنك إن أعطيته شرطه، زهد فيك ... ولكن تقبل على الجهد والطاقة»، ويزعم أصحاب هذه القصة أيضا أن ابن العاص لقي عثمان، فقال له: «إن عبد الرحمن رجل مجتهد، وليس والله يبايعك إلا بالعزيمة» أي وفاقا لشرطه، فاقبل منه عزيمته يبايعك عليها.
فهذه القصة وما هو من قبيلها ضرب من ضروب المخترعات المألوفة ممن يحبون أن يسندوا كل شيء إلى دهاء الدهاة وخديعة المخدوعين، فما كان علي بالذي يعتقد أن عمرو بن العاص يتآمر معه على عبد الرحمن وعثمان، وما كان عثمان بالذي يتلقى سر عبد الرحمن من عمرو بن العاص، وما تخطر هذه الخواطر إلا على بال الذين يتعشقون بطولة الدهاء؛ فيضعون عمرو بن العاص بحيث يعرف سر عبد الرحمن، ويعرف الشرط الذي سيعرض به الخلافة على علي وعثمان، ويجعل هذا يقول: «نعم» ويجعل ذاك يقول «لا» كما يشاء.
والأشبه والأمثل بهم جميعا أن يكون عبد الرحمن بن عوف وغيره يشترطون ذلك الشرط بعينه على من يقبل أمانة الخلافة في تلك الآونة، وأن عليا وعثمان يقولان ما قالاه في جوابه، ولا حاجة إلى دهاء ولا إيحاء من النصحاء والوسطاء. •••
إن حكم الحال أصدق من حكم المقال في جميع الأخبار، وهو كذلك على التخصيص في أخبار هذه المبايعة، إن لم يكن في رواية الأقوال والحوادث ففي رواية الشعور الذي كان يخامر الصدور ويتجمع فيها منذ زمن بعيد: شعور بحال لا تدوم، وخوف من تغيير وتبديل، واجتهاد في منع التغيير والتبديل أو في اجتناب الضرر منهما جهد المستطاع.
ومن الأحاديث التي رويت عن النبي صلوات الله عليه أن الخلافة ثلاثون سنة، ثم هي بعد ذلك ملك عضوض.
ومن كلام أبي بكر في معارض شتى أن الدنيا موشكة أن تغير من النفوس مالا يحمد تغييره، ومن كلام عمر وعمله في أيامه جميعا ما ينم على حذر كهذا أو أشد من خطر الدنيا على نفوس الأقطاب الكبار فضلا عن الدهماء وسواد الدنيا.
وكانت لهذا الشعور أحيان يشتد فيها ويغلب على الناس عامة؛ حتى كأنه بديهة حاضرة لا تحتاج إلى تفكير، ومن هذه الأحيان فترات التوجس والترقب بين عهد وعهد منذ أيام النبي عليه السلام: بين وفاة النبي وقيام أبي بكر، وبين وفاة أبي بكر وقيام عمر، وبين وفاة عمر خاصة وقيام عثمان.
ولما حدثت فتنة الردة في أوائل عهد أبي بكر دهش الناس ولم يدهشوا: دهشوا لأنهم فوجئوا، ولم يدهشوا لأنهم - وقد وقع الذي وقع - لم يستغربوه، ولم يستكثروا حدوثه بعد صدمة كتلك الصدمة الهائلة، وبعد غياب صاحب الدعوة ومتعهدها وصاحب المنزلة التي لا تدانيها فيهم منزلة، ثم أصبح التوجس والترقب ديدنا لهم في كل فترة من قبيلها، فتساءلوا بعد موت أبي بكر: ماذا عسى أن يكون بعد هذا الخليفة الرفيق الرقيق؟! ولعله تساؤل لم يعنتهم كثيرا ولم يطل بهم أجله غير قليل؛ إذ كان أبو بكر لا يبرم أمرا بغير مشورة عمر، وكانت سياسة الشيخين سياسة واحدة تلين معهما تارة وتشد تارة أخرى، فلما أشفق الناس بعد وفاة أبي بكر لم يشفقوا من تبديل سنة مرعية أو خروج على جادة متبعة، ولكنهم أشفقوا من شدة فيها وصرامة في حمل الناس عليها، ثم ذهب عمر بغتة والناس يستعظمون الخطوب ويلمسون بوادر التغير من بعيد ومن قريب، فعادوا إلى ديدنهم في أمثال هذه الفترة، وخيل إليهم أن كل أمر جائز، وكل خطر متوقع خلال هذه النقلة مما علموه إلى ما يجهلونه ويوجسون منه ويترقبونه.
وفي كل كلمة بدرت، وكل وصاة قيلت في هذه الفترة، إعراب مقصود أو غير مقصود عن هذا الشعور الغالب الذي بلغ أقصاه يومذاك: شعور بحالة يخشى ألا تدوم، وخوف من تغير لا يدرى كيف يتقى.
عمر يوصي ببقاء الولاة عاما، ويتوقع الفواجع من الأثرة والإيثار، ويريد «من يحمل الأمة على الحق»، ومن يشتد في غير عنف ويلين في غير ضعف. وعبد الرحمن يعلم أنه لا رضى عن أحد بعد الصديق والفاروق، ولا طمأنينة للناس إلا أن يطمئنوا إلى سيرة كالسيرة الأولى، وهم لا يعلمون من أين يأتي التبدل والانحراف.
إن تقرير هذه الحالة النفسية أهم من إحصاء مئات الحوادث والأقوال التي انحدرت إلينا من تلك الفترة؛ لأن الحوادث والأقوال لا تفهم بغير فهم تلك الحالة النفسية، ولعل تلك الحالة في كثير من الأحيان هي مبعث الحوادث وأقوال القائلين فيها، فما كان أحد يعيب سياسة عثمان مخلصا أو غير مخلص إلا كان الحذر من تبديل السنن ونقص السوابق حجة له يسوقها في خطابه للخليفة أو خطابه للخاصة والعامة من رعيته، وأصبح حضور هذا الحذر في الأذهان من دواعي المبالغة في تعظيم المخالفات وخلقها من غير شيء على نية حسنة عند بعضهم وعلى نية سيئة عند الأكثرين؛ لأنها نغمة العصر التي تفتح الآذان، وتتأهب الآذان لاستماعها في كل مكان.
وأهم من ذلك أن عثمان على رأس المسلمين قد ساوره ذلك الشعور، وداخلته تلك الحالة النفسية وجثمت في سريرته؛ حتى تمكن منه التسليم والاستسلام لما هو كائن لا محالة، فكان يقول لمحدثيه كما يقول في خطبه: إن ما تبتلى به هذه الأمة قدر واقع لا يدفع، وإن فتنة الدنيا طغت على النفوس طغيانها الذي لا تجدي فيه الحيلة أو المحاولة. وذلك كله مما نلمسه في استسلامه آخر أيامه، وتركه المحاولة أو عدوله عنها بعد المضي فيها، ونلمسه كذلك في شكه واسترابته في صدق العاملين وتعويله من أجل ذلك على أقربائه وخاصة ذويه عسى أن يصدقوه في رعاية السنن والمواثيق.
وتظهر تلك الحالة النفسية من خطبه الأولى كما تظهر من خطبه الأخيرة، فلما بايعه أصحاب الشورى خرج فيهم وهو أشدهم كآبة حتى أتى منبر رسول الله وقام يخطب الناس فأرتج عليه، وجاء في كلام من روى خبر الإرتجاج عليه أنه قال يومئذ: «أيها الناس، إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، وما كنا خطباء وسيعلمنا الله ...»
مقام أدل من المقال، يدل على كثير.
وأول ما يدل عليه أنه لا تدبير ثمة ولا تحضير، فلو كان عثمان على علم باختياره للخلافة لما أعياه أن يعد لهذا المقام كفايته من المقال البليغ، ولكنها قد جاءته وهو لا يستبعد أن تفوته، ولا يزال يخشى في ذات نفسه أمام الله أن يتعجلها بالتحضير والتدبير، وأن يطوي في سره منها ما لم يكن له أن يبديه في العلانية.
ثم خطب فاتفقت الأقوال أو كادت على نصوص خطبه الأولى، وكان مدارها على: فتنة الدنيا، والوعد باتباع السنن واجتناب البدع، وتهدئة النفوس من قبل ما تخافه، ولا تخاف خطرا أكبر من خطره.
قال في خطبته الأولى: «إنكم في دار قلعة، وفي بقية أعمار؛ فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه. فلقد أتيتم، صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا فإنه لا يغفل عنكم. أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلا؟ ألم تلفظهم؟! ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها ...»
وقال في أوائل خطبه: «... إني قد حملت وقد قبلت، ألا وإني متبع ولست بمبتدع. ألا وإن لكم علي بعد كتاب الله عز وجل وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم
ثلاثا : اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسن سنة أهل الخير فيما لم تسنوا عن ملأ، والكف عنكم إلا فيما استوجبتم. ألا وإن الدنيا خضرة قد شهيت إلى الناس ومال إليها كثير منهم؛ فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها ...»
إن أقرب الأخبار إلى الصدق ما تهم بأن تنفيه؛ فيحمي صدقه بآية من دواعيه قبل النفس وقبل الواقع، وكل ما كان خليقا أن يحدث عند مبايعة الخليفة الثالث قد حدث على وجهه الذي يطابق الواقع والمتوقع، وفي هذه الخطبة مطابقة لما يتطلبه الموقف من المعدات والعهود، وفيها زيادة وعد «بالكف عن الناس إلا فيما استوجبوه»، ولعلها الزيادة التي أتت في أوانها بعد ما تململ منها القوم من صلابة عمر ومنعه إياهم أن ينساحوا في الدنيا خوفا عليهم منها وخوفا منهم عليها.
أما المكائد التي أبدعتها أوهام المتوهمين فقد يبطلها قبل كل شيء أنها ليست بمكائد تعمل عملا ينفع من يكيدها.
ومن هذه المكائد ما يخيل إلينا أن مخترعيها وضعوا حين وضعوها «قصة مسرحية» يعطون كل بطل من أبطالها دوره في الكلام ودوره في الدخول والانصراف، ومنها ما يخيل إلينا أن أصحاب الشورى كانوا عصبة محضرة مستعدة على مصارحة بينها لحرمان هذا واجتباء ذاك، وإحدى هذه الخيالات خيالة المستشرقين الذين توهموا أن أصحاب الشورى خصوا عثمان باختيارهم؛ لأنه شيخ يدلف إلى منيته فكلهم يطمع فيها بعد موته، أفحدث حقا أنهم خصوه وعرفوا يقينا قبل أن يبايعه عبد الرحمن من سيكون مختاره ومجتباه؟!
وفي مكيدة أخرى من هذه المكائد التي «يمسرحها» المخترعون لها أن اختيار عثمان قرر الملك لبني أمية على نية مبيتة، فهل هي مسرحية يكتبها التاريخ نسخة بعد نسخة، ويريد هنا غير ما يريد هناك؟!
ولماذا تطمع القبائل أن تتداول الخلافة بعد خليفة من بني أمية، وهم أقدر على احتجانها وأرغب في الاستئثار بها بعد مآلها إليهم في صدر الإسلام؟!
كل هاتيك حيل مسرحية توضع لها أدوارها وأعمالها حسب منهاج التأليف. وأولاها بالشك فيه ما لاح عليه الإحكام والتوفيق بين الأدوار والأعمال، وأولاها بالقبول ما ليس وراءه تحضير ينتظم كما ينتظم التحضير في المسرحيات: شيء يراد وشيء لا يراد، ويعالجه فيستطيعه تارة ويعيي به تارة؛ فينقلب على غير ما تعمده وانتحاه.
وعلى هذا النحو المطبوع آلت الخلافة إلى عثمان.
الفصل العاشر
الخلافة
بين هذه النذر قامت أصعب خلافة تولاها خليفة قط في صدر الإسلام، وقد كانت ثورة المرتدين في أول خلافة الصديق محنة شديدة نهض لها المسلمون جميعا متساندين متآزرين؛ فابتلي عثمان في أول خلافته بما يشبه تلك الثورة ويزيد عليه: الخلاف في الداخل، والتغير في الدواعي النفسية، وهو أخطر المصاعب جميعا في خلافة عثمان.
كانت هيبة عمر تملأ الجزيرة العربية وما حولها، وكان أصحاب الدولتين الكبيرتين من الروم والفرس أهيب له من رعيته في الجزيرة؛ لأن هذه الرعية تعتصم من هيبته بحق يعرفه لها وتعرفه لنفسها، ولم تكن للروم والفرس عصمة من هيبته إلا بالحذر والدسيسة، ورستم بطل الفرس المشهور الذي كاد أن يصبح من أبطال الأساطير هو القائل عن عمر: «أحرق كبدي عمر، إنه يكلم الكلاب فتفهم عنه!» يعني أنه جعل من عرب البادية الذين ازدراهم الفرس أبطالا كالأسود بفضل ما يسدى إليهم ويستمعون إليه من نصيحته والاقتداء بسيرته، وقد خطر للمؤرخين في صدر الإسلام أن الهرمزان كان من المتآمرين مع أبي لؤلؤة على قتل عمر، وهو خاطر قريب إلى الذهن، ولو لم يعتمد فيه المؤرخون على غير القرائن التي شهد بها يومئذ شهود الفاجعة قبل وقوعها، ولكننا نحسب أن المؤامرة أكبر جدا من ظواهرها التي تحصرها في أبي لؤلؤة والهرمزان، وأن تدبيرها في معسكرات فارس وبلاط يزدجرد وحاشيته أقرب إلى الخاطر وأدنى إلى المنظور في مجمل الأحوال.
فما هو إلا أن ذاع في ساحات المشرق والمغرب مقتل عمر؛ حتى تلاحقت الثورات والفتن كأنما كانت على موعد، وتمرد من قبائل الفرس والترك والروم من كان قد أذعن وتعاقد مع قادة الحرب على الصلح والطاعة، ونقضت دولة الروم صلحا فأغارت على الإسكندرية برا وبحرا وأرسلت أساطيلها إلى شواطئ فلسطين، وأطلقت في الميادين خفية من يبث فيها الوعد والوعيد ويغري المطيع بالعصيان، وأحصى المؤرخون البيزنطيون عدة السفن والجيوش التي اشتركت في حركات الثورة والانتقاض فقال بعضهم: إنها جاوزت خمسمائة سفينة ومائة ألف مقاتل، وسرعان ما تسايرت الأنباء بهذه الزحوف بين الخزر والأرمن ومن وراءهم من الشعوب الآسيوية؛ فهبوا يتعللون بالذرائع لنقض الصلح، أو ينقضونه بغير ذريعة وينتهزون الفرصة التي علموا أنها لا تسنح مرة أخرى إذا استكانوا للطاعة المسالمة.
لقد كانت محنة كمحنة الردة أو أكبر منها في اتساع ميادينها وتباعد أطرافها.
وكان عثمان كفؤا لها بالعزم والرأي والسرعة في تصريف الأمور وتسيير النجدات وإسناد كل عمل إلى من يحسنه ويسد فيه أحسن سداد.
ولقد درج العاذرون واللائمون في تاريخ عثمان على التسليم بضعفه كأنه حالة لا تفارقه في جميع أعماله، أو كأنه حالة لم تفارقه قط في عمل مما تولاه.
فالذين آمنوا منه بحسن القصد، كانت معذرتهم له بالضعف واللين أسبق معاذيرهم إلى ألسنتهم حيث يوفقون بين خطته وحسن قصده، والذين أفرطوا في اللوم جعلوا من ذلك الضعف خطلا في الرأي قد يغطي على حسن النية لو افترضوه وسلموه، وهؤلاء وهؤلاء يستغربون أن يقال: إنه كان كفؤا لتلك المحنة بعزيمته وأصالة رأيه، ويخيل إليهم أن كلمة «الضعف» تلغي كل قوة وتبطل كل عزيمة، أو ينسون أن الضعفاء لا يتساوون، وأن الضعف لا يلازمهم في كل ما يعملون، وأن الضعف كالمرض تتفاوت فيه مناعة الأبدان ومناعة النفوس، فقد يعدي القوي الركين وإلى جانبه النحيل الهزيل لا تسري إليه عدواه، وقد يكون القوي في حالات أضعف من الضعيف في حالات، وهذا مع التسليم بضعف عثمان على العلات، وهو قول لا يقبل على إطلاقه؛ إذ لا نرى من علامات ضعفه إلا ما يظهر فيه الضعف بالنسبة إلى موقف من المواقف قد يحار فيه الأقوياء كما يعيى به الضعفاء.
فلا تنس أن عثمان قد ولي أعمالا ناجحة في الجاهلية والإسلام، وأن من هذه الأعمال قوافل تترحل في الصيف والشتاء، وتوافق مطالب اليمن في الجنوب والشام في الشمال، وإنه استطاع أن يصرف هذه القوافل ويوائم تلك المطالب وهو مقيم في مكة أو المدينة، وأنه تعود أن يستشار فيما يحضره ويغيب عنه، وأنه تعود كذلك أن يعرف مشورة غيره في مثل عمله، وأن يعرف أخبار من تقدمه ومن عاصره من نظرائه، وأنه بعد الإسلام قد لازم ولاة الأمر في السياسة والحرب من عهد النبي عليه السلام إلى عهد الفاروق، وشاركهم في كثير، وسمع أوامرهم وحضر مشاوراتهم في كثير.
فلا تكونن كلمة الضعف حاضرة في الذهن كلما حضرته حادثة من حوادث سيرته أو آية من آيات عزمه وتدبيره، وليكن للضعف محله فلا يشغل كل محل في معارض هذا التاريخ العجاب.
إن علاج عثمان لمشكلات الدولة «الخارجية» التي فاجأته بعد ولايته قد كان كأحسن علاج يتولاه خليفة في تلك الآونة: عزم وسداد وسرعة، مع الحيطة والأناة والرفق في سياسة الأولياء والخصوم.
ولا شك أن الخليفة كان معانا على عمله، ولم يكن منفردا بعبئه في تلك المحنة الجائحة: كان معانا عليه بحمية الجند وكفاية القادة، وكانت حمية الدين التي حفزت دعاة الإسلام من نصر إلى نصر، ومن عزمة إلى عزمة، وصحبتهم من بدر إلى القادسية وتبوك وبابليون، صامدة على سمتها كأقوى وأقوم ما كانت في يوم من أيامها، بل لعلها في حروب الفرس والروم كانت أقوى وأقوم من حروبها في الجزيرة العربية؛ إذ كانت أنفة العربي أن ينهزم أمام المتعجرفين عليه من الأعاجم كفيلة أن تنفث في قلبه الغضبة القوية التي لا تثيرها حرب العربي للعربي والشبيه بالشبيه.
كان حبيب بن مسلمة الفهري يقاتل الروم في ميادين سورية وفلسطين، فاستعان بمدد من الجزيرة فوصل إليه، واستعان بمدد من الكوفة فأبطأ عنه، فلما أقبلت الروم قبل وصول المدد وهم لا يتوقعون القتال مع قلة الجند في معسكر العرب أتاهم حبيب من حيث لم يتوقعوا وبيتهم بليل. فانتصر وانهزموا.
وإن الدهشة من هذه الجرأة لتغمرها؛ حتى لتكاد تمحوها دهشة أخرى من دهشاتها التي لا عداد لها في كل وقعة من وقعاتها: كانت أم عبد الله امرأة حبيب معه وهو ينوي الهجمة بليل قبل أن يسفر نور الصبح ويأتي المدد المرتقب، فسألته: أين الموعد؟! قال: سرادق «الموريان» أو الجنة فوجدها عند السرادق سبقته إليه.
وقبل هذا أعين الصديق والفاروق بحمية الأجناد وكفاية القواد، ولكن أعباء الجهاد في أوائل أيام عثمان كانت أشق وأكبر وأحوج إلى التوجيه الناجز والتصريف الذي لا يغني الإجمال فيه عن التفصيل، على حسب الأطوار المتجددة والطوارئ المتقلبة، لامتداد خطوط القتال وتعدد الفتن وتباعد المسافات بين البلدان وتكاثر العناصر والأجناس في جيوش المسلمين؛ فقام الخليفة الشيخ بأعبائه الجسام على أحسن ما يقام بها في تلك المحنة الجائحة، وكان له ولا شك أكبر الفضل في تثبيت مهابة الدول الجديدة بعد ما أصابها من الوهن والتخلخل عند مقتل عمر، فوقر في أخلاد الأمم المحيطة بها أنهم ينازلون قوما لا يقدح في قوتهم موت خليفة أو تبديل قائد، وأنهم منتصرون مستميتون في سبيل النصر على اختلاف القادة والرؤساء، فقتل بعد هذه التجربة عثمان، ثم قتل علي، ثم مات معاوية، ثم مات يزيد وتخلى معاوية الثاني عن الملك، وانقسم المسلمون على أنفسهم، ولم تقم للثورة عليهم قائمة في بلاد الروم أو بلاد الفرس إلا ما كان من شغب متفرق على غير وجهة، يعرو الدول من داخلها ومن خارجها بلا انقطاع ولا يخاف منه على دعائمها وأركانها. •••
ولم يقنع عثمان بتسكين الثورات حيث يكفي فيها التسكين أو قمعها حيث تحتاج إلى القمع في بلاد الطغاة والمتجبرين؛ فصالح من صالح وحارب من حارب، ثم أمر قواده بمجاوزة البلاد التي نشبت فيها الثورات إلى ما وراءها منعا لارتداد الهاربين إليها وانبعاث الفتن والدسائس من قبلها، فتقدمت جنوده شرقا إلى حدود الهند والصين، وشمالا إلى ما وراء بحر الخزر، وغربا إلى أبواب القسطنطينية وتخوم الأندلس، وجنوبا إلى السودان وجوانب الحبشة، ولم يؤخذ عليه قط وناء في إنفاذ نجدة أو تسيير مدد أو تدارك خطر في أوانه من أقصى تلك البقاع إلى أقصاها.
وعرضت له مسألة عسيرة من المسائل التي استطاع الفاروق إرجاءها ولم يكن ثمة بد من عودتها في أوانها.
عرضت له غزوة قبرص ورودس وجزر بحر الروم، وإعداد العدة لدفع الغارات البحرية عن شواطئ مصر والشام والقيروان، فكانت بحق مسألة - بل مشكلة - من المشكلات التي لم تستحكم قبل أيامه ولم تتطلب الحل السريع من ولي لأمر المسلمين في الجزيرة العربية، أو في البقاع التي انتهت إليها الفتوح.
وكان من سياسة عمر ألا يجعل بينه وبين جيش من المجاهدين بحرا ولا جسرا ولا قنطرة، وأن يجنبهم ركوب البحر ما استطاع، وكان معاوية يلح عليه في غزو الروم بحرا، ويهون عليه خطب هذه الغزوات، ولا يفتأ يحضه على ذلك، ويقول فيما قاله حضا عليه: «إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم» يعني جزيرة أرواد.
فكتب عمر إلى عمرو بن العاص يسأله أن يصف له البحر وراكبه ويقول له: «إن نفسي تنازعني إليه.»
فكتب إليه: «إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء. إن ركد خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد به اليقين قلة والشك كثرة، وهم فيه دود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق ...» إلى آخر ما هول به عليه؛ فأقسم عمر لا يحملن عليه مسلما أبدا، ورضي من ملك الروم بترك القتال، ثم زاد ملك الروم فكاتبه وقاربه وبادله الهدايا وأرسل مع البريد هدية من الملكة إلى السيدة أم كلثوم زوجة عمر تحتوي فيما احتوته عقدا فاخرا يقوم بأضعاف أضعاف هدية الطيب التي أرسلتها إليها أم كلثوم؛ فباع عمر العقد وأودعه خزانة بيت المال، وكتب إلى معاوية يحذره من القتال وينذره أن يصيبه منه ما أصاب العلاء الحضرمي إذا هو أقدم عليه بغير إذنه. •••
أما قصة العلاء هذه فقد كان لها أثرها الذي لم ينسه عمر، ولم يزل عالقا بذهنه يعاوده كلما عاوده بذكر البحر وغزواته، وخلاصتها أن العلاء الحضرمي والي البحرين كانت بينه وبين سعد بن أبي وقاص منافسة في الجهاد، فبرز اسم العلاء في حروب الردة، ثم غلبه سعد فضلا وهمة في وقعة القادسية «وأزاح الأكاسرة عن الدار وأخذ حدود ما يلي السواد» قال ابن الأثير: «فأراد العلاء أن يصنع في الفرس شيئا ... وقد كان عمر نهاه عن الغزو في البحر، فعبرت الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا إلى إصطخر وبإزائهم أهل فارس، وعليهم الهربذ، فحالت الفرس بين المسلمين وبين سفنهم ... واقتتلوا قتالا شديدا بمكان يدعى طاوس، وقتل من أهل فارس مقتلة عظيمة، ثم خرج المسلمون يريدون البصرة ولم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلا، وأخذت الفرس منهم طرقهم فعسكروا وامتنعوا ...»
قال ابن الأثير الذي تلخص منه قصة هذه الغزوة: «ولما بلغ عمر صنيع العلاء أرسل إليه عتبة بن غزوان يأمره بإنفاذ جند كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا ... وأمر العلاء بأثقل الأشياء عليه وهو تأمير سعد عليه؛ فشخص العلاء إلى سعد بمن معه» ولم يكن أشد على نفسه من هذا العقاب الأليم، وما كان ليطيعه لولا إيمانه وتقواه وأنه استحقه بمخالفته من لا ينجو من عقابه مخالف كائنا من كان.
وبقيت عبرة هذه الغزوة لا تنسى ولا تغيب عن فكر عثمان بعد عمر، وأوشكت مصائبها جميعا أن تعزى إلى البحر وإلى كل ماء من بحار فارس والروم، ثم عادت المسألة - أو المشكلة - إلى عثمان فوجب أن يفصل فيها برأيه وهو على ذكر من سياسة عمر وسياسة أبي بكر من قبله: لا يحملن أحدا من المسلمين على ركوب البحر، أو على ركوب الغرر - في قتال.
ونظرة عثمان في هذه المشكلة من أدل أعماله على نصيبه من الاجتهاد ومن الاقتداء، ومن أدل الأمور على إقدامه حيث يحجم من هم أشهر منه بالإقدام.
إن المشكلة هنا قد تغيرت ولم يبق بينها وبين مجازفة العلاء الحضرمي غير شبه قليل.
تغير من ركوب البحر أنه أصبح اليوم ضرورة لا محيد عنها، بعد إذ كان مجازفة لا حاجة إليها.
فقد أصبحت قبرص ورودس وجزر الشاطئ القريب ملتقى تتربص فيه الأساطيل المتجمعة من أقطار دولة الروم، وأصبح امتناع السفن المغيرة بها خطرا على الشام وفلسطين ومصر والقيروان، لا يؤمن على غرة، ولا على استعداد وأهبة، ثم كان ما كان من اختيار المسلمين ركوب البحار اضطرارا وتجربتهم للسفن كبارها وصغارها، فذللوا المركب العصي الذي طالما تجنبوه، وتغيرت المشكلة ولم يبق بينها وبين مجازفة البحرين غير شبه قليل.
وعلى هذا الشبه القليل بين الأمس واليوم لم تزل شبهة التغرير بالناس قائمة لا تدفع إذا خيف الضرر ووقع الخطر، وقيل: إن ولاة الأمر لم يحذروا ما كان حذرهم منه عمر وأوجب الحذر منه على أتباعه وتابعيه.
وعسير أن يمنع غزو البحر، وعسير مثله أن يباح، فخرج عثمان من العسرين خير مخرج، وكتب إلى معاوية يأذن له ويشترط عليه «ألا ينتخب الناس ولا يقترع بينهم، وأن يخيرهم فمن اختار الغزو طائعا حمله وأعانه ...»
وعلى هذا الشرط غزا عبد الله بن قيس الجاسي قائد الأسطول خمسين غزاة «بين شاتية وصائفة في البر والبحر ولم يغرق أحد ولم ينكب ...»
واتفقوا مع أهل الجزر على شروط تحميهم الغرة وتبيحهم أن ينزلوا بها؛ ليمنعوا نزول العدو بأرضها واحتماء الأساطيل المغيرة بمرافئها، ورتبوا الحملة عليها من مصر والشام تأمينا للطريق من شرقها وغربها وجنوبها، فأمنوا البحر وأمنوه لمن يسلكونه من المسلمين والمسالمين، ولو أنهم تركوا البحر وشأنه لاستعصى عليهم بعد ذلك أن يدفعوا غارة الروم من قبل البحر كما دفعوها، وأن يسيطروا على سبل الملاحة خلال سنوات معدودات كما سيطروا عليها.
وكانت هذه الهمة من عثمان في علاج الأخطار الخارجية حلا نافعا في شئون الدولة الداخلية إلى حين؛ لأن مدافعة الأخطار من الخارج شغلت الناس زمنا عن شواغل السلم والدعة التي تفرقهم وتفرغ أوقاتهم للنقاش والجدال فيما يعنيهم أو لا يعنيهم، ولكن مواقع الجهاد اختلفت واختلف عدد المجاهدين فيها ونصيب كل مجاهد من غنائمها وأنفالها ومن رواتبها وأعطيتها.
وبدأ ذلك في عهد عمر، كما تبدأ مشكلات الميادين التي لا تستقر على قرار، بين الكر والفر، والإقامة والترحال ، وتعاقب الأمراء والقادة في ميادين القتال، فمما حدث في عهد عمر من ذلك أن أهل البصرة شكوا عجز خراجهم على كثرتهم، وأن أناسا يشاركونهم فيه ممن أقاموا معهم بعد تمام الفتح؛ فاختصم أهل البصرة وأهل الكوفة «وادعى أهل البصرة قرى افتتحها أبو موسى دون أصبهان، أيام أمد به عمر بن الخطاب أهل الكوفة، فقال لهم أهل الكوفة: أتيتمونا مددا وقد افتتحنا البلاد؛ فأنشبناكم في المغانم، والذمة ذمتنا، والأرض أرضنا. قال عمر: صدقوا. فقال أهل الأيام والقادسية ممن سكن البصرة: فلتعطونا نصيبنا مما نحن شركاؤكم فيه من سوادهم وحواشيهم؛ فأعطاهم عمر مائة دينار برضا أهل الكوفة، أخذها من شهد الأيام والقادسية ...»
وقد عزل عمر والي الكوفة عمار بن ياسر واستعمل عليها أبا موسى، وكان أهل الكوفة يشكون عمارا ويقولون لعمر: إنه لا يدري علام استعملته، فسألهم: ومن تريدون؟ قالوا: نريد أبا موسى، فولاه عليهم، فأقام عليهم سنة، ثم باع غلامه العلف فشكوه؛ فعزله وصرفه إلى البصرة.
ولبث عمر مهموما مغمورا بأمر هذه الشكايات، حتى اضطجع يوما بجانب المسجد وهو يفكر فيها واستيقظ وهو مكروب بادي الأسى، فقال له المغيرة بن شعبة: ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين إلا من عظيم، فقال: وأي شيء أعظم من مائة ألف لا يرضون عن أمير ولا يرضى عنهم أمير؟ وأتاه أصحابه وهو بتلك الحال من الغم والأسى فسألوه: ما شأنك؟ فقال: إن أهل الكوفة قد عضلوني. واستشارهم فيمن يوليه، فأشاروا عليه بتولية المغيرة، فولاه، وأقام واليا عليها أكثر من سنتين إلى مقتل عمر، وكان من رأي المغيرة الذي استمع إليه عمر أن الوالي القوي المسدد أصلح من الضعيف التقي «أما الضعيف المسلم فإن إسلامه لنفسه وضعفه عليك وعلى المسلمين، وأما القوي المسدد فإن سداده وقوته لك وللمسلمين.»
ولم ينحسم هذا الخلاف في عهد عمر ولا في عهد عثمان ولا في عهد علي إلى أيام الدولة الأموية، فكان معاوية يأخذ لجند قنسرين بنصيب من فتوح العراق وأذربيجان والموصل والباب، وهكذا كان يحدث في الميادين عامة بين من ظفروا فيها، ثم تحولوا عنها إلى غيرها، وبين من أقاموا فيها ولم يشهدوا فتوحا، ولا ظلم ولا غبن في التقسيم والتقدير، وإنما هي جرائر السعة واشتباك النظم والولايات وكثرة الأمداد التي تنتقل من ميدان إلى ميدان ومن ولاية إلى ولاية، ولنا أن نقول: إنها جرائر الاختلاف من نظام الخلافة إلى نظام الملك، والدولة التي تواجهها كل يوم قضية من قضايا المعيشة مقرونة بقضايا الجهاد، أو قضية بين حالة عاجلة وحالة باقية على مدى الأيام، ولا ينفصل فيها نظام المعيشة ونظام الجهاد كل الانفصال.
وليس بالنادر بين هذه القلاقل أن يخف الجيش لنجدة جيش آخر فلا يصل إلى المكان المحصور أو المهدد إلا بعد الاستغناء عن نجدته، وليس بالنادر أن تتنافس الجيوش بالقادة والسمعة والسابقة؛ فينفس بعضها على بعض أن ينحاز لقيادته وأن يكون أميره تابعا لأمير آخر لم يعرفه قبل ذلك.
ومما اتفق من ذلك أيام عثمان أن حبيب بن مسلمة الذي سبقت الإشارة إليه كتب إلى عثمان يسأله المدد، فكتب عثمان إلى معاوية في الشام يأمره أن يشخص إليه من أهل الشام والجزيرة قوما ممن يرغب في الجهاد، وكتب إلى سعيد بن العاص في الكوفة يأمره بأن يمد حبيبا بجيش عليه سلمان بن ربيعة الباهلي، فسار سلمان في ستة آلاف من أهل الكوفة ولم يصل إلى حبيب إلا بعد فراغ حبيب من حملته الظافرة على الموريان.
ولقد كان كلاهما - حبيب وسلمان - من أشجع القواد وأخبرهم بفنون القتال، وكان كل منهما «غزاء» معروف السابقة في ساحات الجزيرة والشام، فلما أراد سلمان أن يلي إمارة الجيشين أبى عليه حبيب ذلك، ودخل جند القائدين في المنافسة، وقال أهل الشام لنضربن سلمان: إن أبى إلا الرئاسة علينا؛ فأجابهم أوس بن مغراء من جند سلمان بشعر يقول فيه:
فإن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم
وإن ترحلوا نحو ابن عفان فارحلوا
1
وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا
وهذا أمير في الكتائب مقبل
ونحن ولاة الثغر كنا حماته
ليالي نرمي كل ثغر وننكل
ولكن القائدين كانا أحكم وأكرم من أن تفسد عليهما هذه المنافسة عملا حاضرا بين أيديهما، فافترقا على أن يوغل حبيب في غرب أرمينية، وأن يوغل سلمان في شرقها، وأن يتلاقيا إلى الشمال بعد فتح المواقع بينهما؛ فدان لهما ما بين البحر الأسود وبحر الخزر، وصرفا بأسهما إلى العدو ضنا بقوة الجيشين أن تتفرق في المنافسة على الإدارة والسمعة، ولكنها منافسة كانت تحتدم في أيام السلم وبين سكان المدن؛ فلا تنتهي بغير خصومة ولا تنتهي الخصومة فيها بغير شر وعناد. •••
ومن مقابلة النقيض بالنقيض أن نستطرد من قصة حبيب وسلمان إلى قصة الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص اللذين تعاقبا على ولاية الكوفة في عهد عثمان، وقد أجمع المؤرخون على فداحة الخطر الذي نجم من هذه القصة على إمامة عثمان بين أهل الكوفة، ثم بين سائر الأمصار.
كان الوليد بن عقبة والي الكوفة قد اتهم بشرب الخمر؛ فعزله عثمان وأمر بإشخاصه إليه وأسند الولاية بعده إلى سعيد بن العاص؛ فغضب نفر من بني أمية على سعيد؛ لأنه غسل منبر المسجد قبل أن يخطب عليه، وعدوا ذلك تشهيرا بالوالي المعزول، وتربصوا به الدوائر يكيدون له بين رعيته ويغرون به من يلغط في مجلسه.
ونحن نقتبس من جملة المؤرخين، كالطبري وابن الأثير وغيرهما، زبدة هذه القصة التي كان لها كل ذلك الخطر من بدء الفتنة إلى مقتل عثمان.
وزبدة هذه القصة من مراجعها المتواترة أن سعيدا اختار وجوه الناس وأهل القادسية وقراء أهل الكوفة، فكان هؤلاء دخلته داخلا وأما إذا خرج فكل الناس يدخل عليه.
وسأل عن أهل الكوفة فأطلعوه على حالهم؛ فكتب إلى عثمان بما انتهى إليه كما أمره، وقال له فيما قال: «إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم وغلب أهل الشرف منهم، والغالب على تلك البلاد روادف ردفت، وأعراب لحقت، حتى ما ينظر إلى ذي شرف ولا بلاء من نازلتها ولا نابتتها ...»
فأتاه الجواب من عثمان أن يفضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها بسببهم تبعا لهم، إلا أن يكون أهل السابقة قد تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء، وليحفظ لكل منزلته ويعطيهم جميعا بقسطهم على سنة العدل والمعرفة بأقدار الناس.
وأرسل سعيد إلى وجوه القوم فقال لهم: «أنتم وجوه من وراءكم، والوجه ينبئ عن الجسد، فأبلغونا حاجة ذي الحاجة وخلة ذي الخلة، ثم أدخل معهم من يحتمل من اللواحق والروادف وخلص بالقراء والمتسمتين في سمره، فانقطع الذين لا سابقة لهم ولا قدمة بعضهم إلى بعض، وجعلوا يقعون فيه وفي عثمان، وكلما لحق بهم لاحق من ناشئ أو أعرابي أو مولى طليق أعجبه كلامهم؛ حتى غلب الشر وفشت القالة، فكتب سعيد بذلك كله إلى عثمان على ما تعوده الولاة من إبلاغ كل كبيرة أو صغيرة إلى الخليفة منذ أيام الصديق، فنادى منادي الخليفة إلى صلاة جامعة وخطبهم وتلا عليهم ما جاءه من سعيد، وذكر لهم أنه يريد أن يبعث إلى العراق بمن شاء النقلة إليه من أهل السابقة، ويأذن له في أن يبيع ما يملك بالحجاز عسى أن يستعين بهم سعيد على نصيحة الشاغبين من الروادف والأتباع.
على أن سعيدا لم ينقطع عن لقاء العامة إذا جلس للناس، فحدث في بعض هذه المجالس أن فتى غرا أثنى على طلحة بن عبيد الله فقال: ما أجود طلحة! قال سعيد: إن من كان له مثل بساتينه لحقيق أن يكون جوادا ... والله لو أن لي مثلها لأعاشكم الله بها عيشا رغدا ... فقال عبد الرحمن بن قيس، وهو فتى حدث: والله لوددت أن لك ما كان لكسرى على نهر الفرات؛ فانتهره أناس من الحاضرين وصاحوا به: أتتمنى له سوادنا! وهاج الشر بينهم وبين أهل الفتى، وسمع قومه من بني أسد بما أصابه فجاءوا وأحاطوا بالقصر، وعاذت القبائل بسعيد، فأقسم ألا يغشى مجلسه أحد من أولئك الشاغبين «فقعد أولئك النفر في بيوتهم وأقبلوا يقعون في عثمان.»
ونما خبر هذا الشغب إلى عثمان؛ فأذن لسعيد في إخراجهم إلى الشام، وكتب إلى معاوية: «إن نفرا قد خلقوا للفتنة فأقم عليهم وانههم، فإن آنست منهم رشدا فاقبلهم، وإن أعيوك فارددهم علي.»
فلما قدموا على معاوية أنزلهم كنيسة مريم وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق، وكان يتغدى ويتعشى معهم ويحادثهم ويستخبرهم عن شكاتهم عسى أن يقنعهم، فقال لهم في بعض الأحاديث: بلغني أنكم نقمتم قريشا، ولو لم تكن قريش كنتم أذلة. إن أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا عن جنتكم، وإن أئمتكم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المئونة. والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم السوء ولا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم.
قال رجل منهم - وهو صعصعة: أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلصت إلينا.
قال معاوية: عرفتكم الآن. وعلمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، ثم قال لصعصعة: أنت خطيبهم ولا أرى لك عقلا ... أعظم عليك أمر الإسلام وأذكرك به وتذكرني الجاهلية.
وطالت اللجاجة بينه وبينهم فأجمع رأيه على إخراجهم بعد الكتابة إلى الخليفة، وكتب إليه يصفهم ويقول عنهم: ... قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم ومخزيهم، وليسوا بالذين ينكون أحدا إلا مع غيرهم، فانه
2
سعيدا ومن عنده عنهم، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب ونكير.
وخرجوا قبل أن يخرجهم معاوية من الشام؛ فقصدوا إلى الجزيرة ولم يعودوا إلى الكوفة اتقاء الشماتة بهم، وسمع بهم والي حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد؛ فاستدعاهم منذرا متوعدا وقال لهم: يا آلة الشيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا ... خسر والله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم. يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم لا تقولوا لي ما بلغني أنكم قلتم لمعاوية. أنا ابن خالد. أنا ابن من قد عجمته العاجمات. أنا ابن فاقئ الردة ... والله يا صعصعة ... لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى.
ثم أقامهم شهرا كلما ركب مشاهم معه، وخافوه فاستقالوه وأعلنوا له توبتهم، وسرح أحدهم - وهو الأشتر - إلى عثمان فخيره عثمان أن يحل حيث شاء، فاختار العودة إلى ولاية عبد الرحمن.
وجرى في البصرة ما كان يجري في الكوفة من أشباه هؤلاء الروادف، وكان في بعض قرى الولاية قاطع طريق يسمى حكيم بن جبلة العبدي يصاحب الجيش، ثم يخنس عنه ويغير على أهل الذمة، فشكاه أهل الذمة ورؤساء المسلمين إلى عثمان؛ فكتب إلى ابن عامر والي البصرة أن يحبسه ومن كان مثله فلا يخرجن من البصرة «حتى تأنسوا منهم رشدا» فحبسه وتعقب خبره، فجاءه النبأ ذات يوم أن رجلا يدعى ابن السوداء نزل عليه وأخذ يصرح له ولأمثاله بالطعن في عثمان وخلافته، فدعا بابن السوداء هذا فإذا هو عبد الله بن سبأ، يهودي من أهل اليمن يقول برجعة النبي إلى الدنيا ويظهر التشيع لعلي، فسأله ابن عامر: من أنت؟ قال: رجل من أهل الكتاب رغبت في الإسلام وفي جوارك. ثم أخرجه من البصرة لما علم من لياذه بالمفسدين فيها، فذهب إلى الكوفة يلوذ فيها بأمثال حكيم بن جبلة فأخرج منها، وذهب إلى مصر فجعل يكاتب من تركهم في البصرة والكوفة. وأوى بمصر إلى حمران بن إبان وهو رجل موتور من عثمان، كان قد تزوج امرأة في عدتها؛ ففرق عثمان بينهما وضربه وسيره إلى البصرة، فسعى هناك في وقيعة بين الوالي ورجل من النساك، وافتضح كذبه عليه؛ فأخرج من البصرة، وذهب يتردد بين الشام والحجاز ومصر، فلقيه فيها ابن السوداء وأوى إليه وأدخله معه في مكاتباته وسعاياته، وكثرت السعاية بين أهل الأمصار من الروادف وأشباههم، فمن نزل منهم بالشام أرضاه معاوية أو أخرجه، ومن تحول عنها كاتب غيره للاجتماع في مكان لا رقابة عليهم فيه.
وحدث أن الكوفة خلت من واليها سعيد بن العاص وخلفه عمرو بن حريث، فإذا بجموع المكاتبين تلتقي فيها؛ وإذا بأناس منهم يشيعون في الناس أن سعيدا عائد إليهم، وأنه ذهب إلى الخليفة يراوده على نقصان رزق نسائهم إلى مائة درهم، ورد أولي البلاء من المجاهدين إلى ألفي درهم، ويزعم أن الفيء من العراق بستان قريش وأنها تأخذ منه ما تأخذ وتدع ما تدع، وطفق دعاة منهم يذيعون هذه القالة أيام الجمع والناس مجتمعون في المسجد؛ فيستخفون ألبابهم، ولا يستمعون لذي رأي يبطل لهم ما يذاع على كذب بينهم، وتصدى عمرو بن حريث - خليفة سعيد على الكوفة في غيابه - لتفنيد ما زعموا؛ فقام على المنبر في يوم جمعة ينصح لهم ويوصيهم بالطاعة ولا من سميع.
قال القعقاع بن عمرو: «أترد السيل على أدراجه؟ هيهات، والله لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية، ويوشك أن تنتضي ويعجون عجيج العيدان، ويتمنون ما هم فيه اليوم فلا يرده الله عليهم أبدا؛ «فاصبر» قال عمرو: «أصبر». وتحول إلى منزله لا يأمر ولا ينهي.
هذه بداية تتبعناها إلى نهايتها. بدأت في أوائل خلافة عثمان، وتتبعناها إلى نهايتها قبيل مقتله، وما يبلغ من خطب هذه الغاشية أن تفضي إلى مقتل رئيس دولة، لولا شذوذ في طبيعتها خرج بها عن سوائها وتعدى بها أطوارها.
نعم، هي غاشية هان خطبها لو أنها صادفت أميرا يعالجها بنظام الإمارة، وهان خطبها لو أنها صادفت واليا مسئولا عن نظام ولايته مطلق اليد في دفع شواجر الفتنة عنها، وقد عالج كل وال من ولاة ذلك العهد ما وقع منها في ولايته؛ فاستطاع أن يصرف عنه غائلتها، عالجها معاوية بنفي القائمين بها، وعالجها عبد الرحمن بن خالد بتأديب دعاتها، ولم يستفحل شرها في الكوفة إلا بعد أن غاب عنها واليها سعيد بن العاص، ووقف دونها خليفته عمرو بن حريث مكتوف اليدين وهو بعيد عن مشورة عثمان ومشورة أمير الولاية سعيد، ولو كان له أن يسكنها بالسيف كما قال القعقاع؛ لما كان تسكينها كثيرا عليه، ولكن القعقاع نفسه لم يشر عليه بامتشاق السيف على توقعه أن يعج عجيجها، وإنما أشار عليه أن يصبر فصبر، ولزم بيته لا يأمر ولا ينهى.
لقد كان خطب الغاشية هينا لو أخذها الآخذون بسلطان الولاية، ولكنها قد جرى الحساب فيها على سنة الخلافة في عهد لا هو بعهد خلافة ولا بعهد مملكة، تتقاصر فيه حقوق الخليفة ولما يتوطد فيه حق الملك، وهذه هي النكبة الكبرى في صميمها.
وفي أمثلة الشواجر التي أشرنا إليها في عهد عمر وعهد عثمان كذلك مجال للتفرقة بين طريقة الخلافة وطريقة الملك والإمارة في سياسة هذه الشئون، أو في سياسة جميع الشئون.
كان عمر أقوى من عثمان ولا مراء في ذلك، وتقدم أنه بدل ثلاثة من الولاة على الكوفة غير وال رابع كان يهم بإشخاصه إليها قبل مقتله، وشوهد مهموما مكروبا على قدرته التي لا تضيق بأزمة من أزمات السلم والحرب واضطلاعه بأعظم الأعباء التي عرضت له أيام خلافته: مائة ألف لا يرضون عن وال ولا يرضى عنهم وال، وهذه معضلة ثقلت عليه؛ حتى أحس ثقلها كل من كان يعرفه ويلقاه في إبان شكاياتها ومنازعاتها.
فما بال أزمة كهذه تثقل على الرجل الذي نهض بأفدح الأعباء وصغرت في عينيه مخاوف الدنيا ومطامعها؟
أتراه خاف من ثورة أصحاب الشكاية؟
لو كان هذا ما يخشاه لما أعضله ولا أعياه أن يعد له عدته ويفرغ منه على النحو الذي يريده.
أم تراه خاف على سلطانه، أو خاف على حياته أو خاف على مصلحة من المصالح الكبرى أو الصغرى تعنيه غير مصلحة الإسلام والمسلمين؟
كلا، فما في شيء من ذلك ما يخيفه، وإنما أعضله من أمر تلك الشكاية مخافة أمر واحد: مخافة الظلم أن يقع منه على شاك له حق في شكاة.
ذلك كل ما أعضل على عمر من شكايات أهل الكوفة، ولو لم يكن حساب نفسه على الظلم أعضل من كل معضلة؛ لما كان في شكايات القوم ما يكربه ويقلق نومه ويغيم على وجهه حتى يلمحه من ينظر إليه من عارفيه.
ولو أن عمر على يقين من افتراء الشاكين؛ لما أهمه أن يسخطهم ويخسر ثناءهم، ولا أعياه أن يؤدبهم ويردهم إلى طاعة وليهم، فإنما الشكاة بالحق هي التي تزعجه وتكربه ويشغله منها أن يبرأ من مظنتها غاية جهدهم، فإن عرف وجه الحق فما يبالي بعده من شكا أو ادعى، ولو زعم أنه يدعى باسم من شاء من الأكثرين أو الأقلين، وعلى هذا جرت سياسته وسياسة أبي بكر، وعلى هذا كان يقضي بين أبي بكر والشاكين منه حيثما سمعت الشكاية من الخليفة الأول، وبخاصة في مسائل الأعطية والأرزاق.
كان رزق أبي بكر الصديق حين استخلف خمسين ومائتي دينار في السنة، وشاة في كل يوم يؤخذ منها بطنها ورأسها وأكارعها؛ فلم يكن يكفيه ذلك ولا عياله، فخرج إلى البقيع يتجر، وجاء عمر فإذا هو بنسوة جلوس فسألهن: ما شأنكن؟ قالت بعضهن: «نريد خليفة رسول الله يقضي بيننا.» فانطلق يطلبه فوجده في السوق، فأخذ بيده وجذبه ليذهب به إلى حيث تنتظره النسوة. قال أبو بكر: «لا حاجة بي إلى إمارتكم. رزقتموني ما لا يكفيني وعيالي.» وسأله عمر عما يكفيه، فقدروه بثلاثمائة دينار في السنة وشاة كل يوم لا يؤخذ منها شيء، وجاء علي وهما على هذه الحالة، فلم ير ضيرا في الزيادة ووافقه عمر بعد مراجعة. قال أبو بكر: «أنتما رجلان من المهاجرين لا أدري أيرضى بقية المهاجرين بما رضيتماه أم لا.» ثم صعد المنبر واجتمع إليه الناس فقال: «أيها الناس، إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ منها بطنها ورأسها وأكارعها، وإن عمر وعليا كملا لي ثلاثمائة دينار والشاة، أفرضيتم؟»
فأجابه المهاجرون: «اللهم نعم، قد رضينا.» وصاح صائح من جانب المسجد؛ فإذا هو أعرابي يقول: «لا والله ما رضينا. فأين حق أهل البادية؟»
ولم يكن عسيرا على عمر ولا على أبي بكر أن يعلما أنها صيحة لا يصغى إليها، فمن التنطع أن يمنع رزق الخليفة الذي أقره ذوو الرأي من المجاهدين في انتظار سؤال البادية من حضرهم منها ومن لم يحضر، وكان جماع قولهم أن المهاجرين إذا ارتضوا شيئا؛ فإنما الغائبون من أهل البادية تبع للحاضرين، ولا يشتكي من ذلك مشتك بالحق كائنا ما كان ادعاؤه وكائنا من كان المدعون على غراره.
فلا حساب للخليفة إذا جاءته الشكاية غير حسابه لضميره وخشيته أن يكون قد ظلم أحدا، أو قمع شاكيا له مظنة صدق في شكايته، وغير ذلك حساب الملك والإمارة، فإنهما بين خوف الفتنة وخوف الضرر على سلطان صاحب سلطان، ويأتي الإنصاف في المرتبة بعد النظام والمصلحة إن كان له حساب.
ولقد شكا من الزكاة أيام الخليفة الأول أكثر أهل الجزيرة العربية، واستدعى قتالهم جهدا أكبر من جهد القتال مع الأكاسرة والقياصرة، فما وقع اليقين في نفس الخليفة أنه على الحق وأن الشاكين على الباطل؛ حتى أقدم على مكاره الحرب الداخلية وأقدم معه سائر المهاجرين والأنصار، ولو تكرر هذا لتكرر علاجه بما يقتضيه في غير مبالاة بكثرة الشاكين وقلة المجاهدين.
المثل الآخر الذي تفترق فيه خطط الخلافة وخطط الملك من جانب الرعية، قبل جانب الرعاة، هو مثل الخلاف بين القائدين سلمان وحبيب في حروب أرمينية. فقد وجد النزاع على الرئاسة ووجد التنافس بين الأتباع، ولكنهما وجدا في موقف جهاد؛ فأوحى الموقف إلى المتنازعين والمتنافسين خير ما يصنعون بغير حاجة إلى مشورة الخليفة، وهذه حادثة من حوادث عهد عثمان الذي اشتبكت فيه معالم الخلافة ومعالم الملك، وغلبت فيه معالم الملك على مطالب المعيشة أيام السلم، بعيدا من حمية الجهاد ومن خطر العدو المتحفز للانتقاض، وقريبا من شهوات الدنيا وبطالة الفراغ.
وقضى للخليفة الثالث، باتساع دولته ودرء الأعداء عنها، أن يتولى أصعب خلافة في صدر الإسلام.
كانت ثورة الفرس والروم والخزر والترك أول صدمة تلقاها، وأكبر بها من صدمة يتلقاها صاحب دولة في أول حكمه، ولكنه ظفر بها وجاوزها بالدولة سليمة منيعة؛ فأسلمه الظفر إلى الصدمة الكبرى، وهي صدمة الزلازل النفسية التي امتحن بها رعاياه في بحبوحة السلم والرخاء، وكانت كلها طورا جديدا في حياة أولئك الرعايا: فلا هم رعايا خلافة، ولا هم رعايا مملكة، متراوحين هنا تارة، وهناك تارة أخرى، بين بين، على غير نظام متبع في حالة واحدة أو في الحالتين.
وقد أتينا من قبل على فارق بين الخليفة والملك في محاسبة النفس على شئون الرعية، ونأتي الآن على الفارق الأصيل أو الفارق الشامل بين النظامين، وهو الفارق بين الثقة التي لا تحتاج إلى حماية وبين السلطة التي تحمي نفسها.
فالخليفة يعمل ما يشاء في ظل الثقة به والاطمئنان إليه، يعمل اليوم ما ينقضه غدا ولا ملامة عليه، ما دام عمله اليوم والأمس لغيره لا لنفسه، وللمصلحة العظمى التي لا يناله منها نصيب غير نصيبه المقدور، وقد يرضى هو لنفسه بأقل من ذلك النصيب.
رعية تثق بخليفتها وخليفة يثق برعيته، ولكنه لا يبالي ألا يثقوا به إن كان على طمأنينة بينه وبين ضميره وبينه وبين الله على السنة الإلهية التي يعلمها من أحكام دينه.
أما الملك فالسلطة هي قوامه عند ذويه سواء نعموا بالثقة طواعية أم خذلتهم هذه الثقة عن إكراه وكراهية.
وقد وصلت الخلافة إلى عثمان وهو أحوج ما يكون إلى هذه الثقة، وهي أعصى ما تكون عليه.
سبقه بالحذر من علية الناس خليفتان بلغت ثقة العلية والدهماء بهما غاية مبلغها، فأبو بكر كان يحذر الدنيا على أولئك العلية، وعمر كان يسلمهم منها ما يأمن عاقبته عليهم، ولا يقدرون على مخالفته؛ لأنهم لا يشكون فيه ولا الشك فيه مقبول منهم إذا هم قبلوه.
أما هؤلاء العلية فهم في خلافة عثمان منافسون ونظراء، وخلافته بينهم على شرط معرض في كل لحظة للتأويل والحساب العسير.
وأما سواد الناس فقد شغلوا أولا ثم فرغوا من الشغل للبطالة والملاحاة وكأنهم ورثوا من بيزنطية سلطانها ومعه محاك الجدل البيزنطي الذي تضرب به الأمثال، ولا يؤمن سواد الناس مع البطالة والفراغ للقيل والقال.
وقد كانت سياسة أبي بكر وعمر أن يستبقيا العلية عندهما، ويرسلا الجند والقادة على قدر إلى ميادين الجهاد، وكان عمر يقتضب الولاية على الولاة مخافة - كما قال - من أن يحمل فضل عقولهم على الناس.
أما سياسة عثمان فقد اختلفت باختلاف الأحوال: سياسة عثمان كانت ترمي إلى إطلاق العلية في الآفاق؛ إرضاء لهم وتوسلا بمقامهم بين الدهماء في كل قطر إلى تسديد النصيحة وحسن القيادة واتقاء الفوضى، وهو اجتهاد منه، له ولا ريب جانبه من الصواب.
وعزت عليه الطمأنينة إلى الولاة مع الفراغ للدنيا بعد الجهاد، فاختار للولاية أناسا من ذوي قرابته سبقت لهم ولاية في عهد الخليفتين السابقين؛ عسى أن يصدقوه العون بحكم القرابة إن لم يصدقوه العون خالصا لوجه الله.
ولما اضطر إلى هذه الخطة حاسب ضميره فعمل على تدارك الضرر منها؛ فذلك حين وفد الوفود لكل مصر من الأمصار عليه وال من ولاته الأقربين، فهم يعيشون في أمصارهم ويحضر منهم من يشاء في موسم الحج ليرجع إليه بما يراه موضعا للمراجعة من أحوال مصره، وهذه خطته التي آثرها للطمأنينة إلى ولاته والطمأنينة على رعاياه.
والذي شاع عن عثمان - وما أسهل الإشاعة - أنه كان يبالي ذوي الثراء ولا يبالي المقترين والضعفاء، والذي كان يحدث منه فعلا أنه يغضب الطامعين ويحمي المطموع فيهم من أهل الذمة وأهل الحاجة والمتربة، فمن أجل إبل الصدقة غضب الغاضبون حين حمى لها المرعى، وزاد في مرعاها على حسب زيادتها، ومن أجل أهل الذمة غضب الشطار من قبيل حكيم بن جبلة؛ لأنه أدبهم وأمر بحبسهم ونهاهم عن أموال أهل الذمة وهم يحسبونها حلالا مباحا لمن يسطو عليها، وكان رهط المبعدين من الكوفة إلى الشام يحاور معاوية في هذه الأموال فينهاهم عنها ويكتب عنهم إلى عثمان أنهم «لا يتكلمون بحجة وإنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة.»
فأما الرزق الحلال فقد فرض لأصحابه ضعف ما كانوا يأخذونه من الأعطية يوم تولى الخلافة، ولم يفعلها سياسة بل فعلها إيمانا بالصواب في هذه الزيادة، وقد كان هو في عهد الفاروق أول من قال بكثرة المال وأشار عليه برصد الأسماء وتوفية كل ذي حق حقه من العطاء خشية النسان والتكرار.
وقد تعود المؤرخون أن يقسموا عهد عثمان قسمين: قسم الصلاح والرضى، وقسم الخلل والشكاية، وهم على صواب في تقسيمهم هذا، وإن لم يصب منهم من قال إنهما قرينان لأيام الكهولة وأيام الشيخوخة في حياة عثمان.
فالواقع أن عثمان كان شيخا جاوز السبعين على أرجح الأقوال في كلا القسمين، ولكن الفرق الصحيح بين السنوات الأولى والسنوات الأخيرة من عهده أن الناس كانوا في شاغل بدفع الأعداء في السنوات الأولى، وأنهم فرغوا للجدل والملاحاة في السنوات الأخيرة، وأن اتهام الولاة أيسر من اتهام القادة في إبان القتال، وقد صارت الرئاسة كلها إلى الولاة بعد المشاركة بينهم وبين قادة الحروب.
ولم يأت هذا التغيير في أطوار النفوس من جانب واحد ولا من الرعية وحدها دون راعيها؛ فحسب طالب الحقيقة أن يعلم أنه لم يأت كله من جانب عثمان، وأن الرعية تغيرت فلم تصبح رعية خليفة، وهي تحاسب ولي أمرها بميزان الخلافة.
أما أن عثمان لم يشترك في هذا التغيير بعمل من عنده؛ فذلك هو الطرف الآخر من طرفي الباطل والادعاء.
إنما آفة عثمان أنه لم يخل من الأموية ولم يكن أمويا «كفاية».
فمن خلاله الأموية حب القرابة فهو مبالغ في إيثاره لذوي قرباه.
ومن خلال الأموية تلك «الطبيعة العملية» التي لم يكن للأسرة فكاك منها.
لقد كان أبو سفيان يخلط بين النبوة والملك فيقول للعباس: «لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما.»
وكان ينظر إلى مال الفيء بين يدي رسول الله؛ فيقول للرسول عليه السلام: «لقد أصبحت أكثر قريش مالا.»
وروي عن الحسن أن أبا سفيان دخل على عثمان رضي الله عنه حين صارت الخلافة إليه فقال: «قد صارت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أمية؛ فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار»؛ فانتهره عثمان وأخرجه مطرودا من عنده.
إن عثمان لأنزه نفسا وأطهر عقيدة من مثل هذه النزعة الدنيوية، ولكنه سلم من شر ما في «الأموية» ولم يسلم من ميراثها بأجمعه؛ فكانت له نظرة إلى الإمامة قاربت أن تكون نظرة إلى الملك، وكان يقول لابن مسعود كلما ألح عليه في المحاسبة: «مالك ولبيت مالنا؟!» وقال في خطبته الكبرى يرد على من أخذوه بهباته الجزيلة في إيتاء ذي القربى على رواية الطبري: «فضل من مال، فلم لا أصنع في الفضل ما أريد، فلم كنت إماما؟!»
فقد كاد في هذا المقال أن يرفأ الخلافة برقعة من الملك، ومالت به طبيعة العصر كله إلى بقية من النزعة الأموية؛ فكاد الملك والخلافة لديه يلتقيان في حساب الأموال. •••
على أنه مع هذا التوسع في فهم حقوق الإمامة لم يثبت أنه أنفق المال في غير مصالح الأمة كما يقدرها، ويوافقه على تقديرها الكثيرون من المحدثين الذين نشئوا في عصر الاقتصاد وتقسيم الموارد والمصروفات على حسب مرافق الدولة، وثبت على التحقيق أنه أنفق من ماله الخاص - قبل الخلافة وبعدها - لاستصلاح أمور عامة من خصائص بيت المال، وقد تحرج أشد التحرج من إنفاق المال على حرس يحميه في أسوأ أيام الفتنة، ولو أنه فعل لما خالف بذلك سنة الحكم في نظام من النظم الحكومية.
وكانت له «سياسة اقتصادية» يلاحظ فيها تدبير المرافق العامة وتيسير التجارة والعمارة، ومنها إصلاح ميناء جدة وتمهيد الطرق وإقامة الشرطة في المخافر وتنظيم الأسواق.
ومهما يقل القائمون عن ترخصه في العطاء وبذل الرواتب من بيت المال؛ فلا قول لأحد في حرمة الحياة عنده حتى فيما يخشى منه الجور على حياته، فما طاوعه ضميره قط على إيقاع حكم الموت بإنسان ممن استحقوا هذا الحكم بالشغب والعصيان، ومن لامه في هذا الباب فإنما يلومه؛ لأنه أفرط في الرحمة والأناة، ولا يلومه لأنه قسا فضلا عن الإفراط في القسوة.
والمشقة التي يلقاها المؤرخون في هذا الصدد عظيمة متبعة؛ لأن الغالب في المؤرخين أنهم يستسهلون الرأي كلما كتبوا عن رجل اشتهر بصفة من الصفات، وهم على دأبهم هذا قد يستسهلون الرأي في تقدير سياسة عثمان بعد السنوات الأولى من خلافته على الخصوص، فما كان عملا وتدبيرا فليس أسهل من إسناده إلى أعوانه، وما كان توانيا وتفريطا؛ فليس أسهل من إسناده إليه، وإن أسندوه إليه ليقولوا: إنه غلب عليه.
وتحضرني في هذا المقام مساجلة بين بعض الصحاب سمعناها عن ضعف عثمان وتسيير الناصحين له من حزبه ومن غير حزبه، إحدى الدلالات على ذلك أنه تاب ثم عدل عن التوبة مرات في عامه الأخير.
والأمر الذي نسيه أصحاب هذه الدلالة أن التوبة شيء لم يطلب قط من أحد في تلك الآونة إلا استجاب إليه، وما قيل لأحد قط: تب إلى الله، فأجاب على ذلك بغير التوبة والاستغفار، فما كان منهم من أحد يرى أنه غني عن الاستغفار وتكفير الذنوب في وقت من الأوقات، أو كان يستعلي عن الوقوف أمام الله موقف التوبة والندامة، ما كانت توبات عثمان إلا من هذا القبيل كلما دعي إليها في أيامه الأخيرة، فإنما هي توبة لله وأمام الله، ولا عليه أن يعيدها في اليوم مرات بعد مرات.
فمن تيسير المؤرخ على نفسه أن يحيل عمل عثمان وتدبيره على الأعوان والنصحاء، وأن يحيل التواني والتفريط إليه أو إلى غلبة الأعوان عليه، ولا سيما المسئول الأكبر في رأي الأكثرين عن أخطاء عثمان ابن عمه مروان.
فما كان لمروان هذا من القوة ما أسبغه عليه المداحون بعد قيام الدولة الأموية، ولم تكن له هذه القوة حتى في مطامع الملك وهمم السيادة والرئاسة، فإنه كان يزاحم معاوية فلم يستطع أن يبلغ معه كثيرا ولا قليلا، وراح يحرض عمرو بن عثمان ليناوئ معاوية ويقول له: إنه لم يأخذ الخلافة إلا باسم أبيك، ثم ينزوي ولا يجسر على الظهور. ولم يفارقه هذا الخمول بعد موت معاوية وابنه يزيد؛ فكاد أن يبايع عبد الله بن الزبير بالخلافة لولا النزاع بين اليمانية والقيسية في الشام.
وقد أودى حمقه بحياته بعد أن صارت الخلافة إليه ذلك المصير الذي لا فضل له فيه، فقد خشي أن يكبر خالد بن يزيد بن معاوية فينازعه سريره؛ فلم تهده حيلته إلى عمل يحتاط به لهذه المنازعة غير أن يتزوج أمه ليصغره ويلحقه بأتباعه، وأمعن في هذه الحيلة لما كبر خالد فقال له على مسمع من أشراف القوم: مالك ولهذا يابن الرطبة. فكان فيها حتفه، وقيل: إن خالدا أخبر أمه فقالت له: لا يعلمن أحد أنك أخبرتني، ثم وضعت على رأس مروان وسادة ولم ترفعها حتى مات.
فمروان هذا ليس بالعون الغالب الذي لا يخالف، وليس هو على الأقل بالذي ينسب إليه الرفق في تسيير الناس للقتال متطوعين، أو الرفق في محاسبة الخصوم والثائرين، أو بذل العطاء لمن ينافسهم وينافسونه من رؤساء بيت العاص أو بيت حرب في بني أمية، وغاية شأنه أنه المأمور الذي لا يستعاض عنه بمن هو أنصح منه وأقدر على الطاعة وأعرف بما كان وما هو كائن من أخبار العاصمة وأحوال الولايات لطول المراسلة والمعاشرة، ومن كان يحسب أن مشورته السيئة هي علة العلل في محنة عثمان، فعليه أن يلغي هذه المشورة ويفترض أنه لم يقل بها ولم تسمع منه، ثم لينظر ماذا يقدم هذا أو يؤخر من أزمة الحكم ومن فاجعة عثمان.
إنما المحنة كلها أنه زمن كان يحتاج حينا إلى ثقة الخلافة فلا يجدها، ويحتاج حينا آخر، أو في الحين نفسه، إلى سلطة الملك فلا يجدها، ولن يسلم حكم يحتاج إلى سند الثقة في موضعه أو إلى سند السلطة في موضعه؛ فلا يجد هذا ولا ذاك.
الفصل الحادي عشر
مصحف الإمام أو مصحف عثمان
ينفرد اليوم بين أعمال عثمان عمل جليل يوازنها جميعا، يذكر باسمه حيث يذكر المصحف الشريف، ويعلمه من يعلم أن المصحف «العثماني» منسوب إليه.
فقليل من الناس يعلمون اليوم أنباء الفتوح التي فتحها عثمان، وأنباء الغارات التي ردها عثمان، ومنها ما تلتبس فيه أسانيد المؤرخين؛ فيختلط السند الواحد بين البلد والبلد وبين السنة والسنة، ولا يعرف القول الفصل في ذلك كله إلا بعد معارضة ومقابلة بين الأنباء والروايات لا يشتغل بها أحد غير المختصين.
أما عمل عثمان في المصحف فهو ماثل معلوم حيث يقرأ المصحف وحيث يقال: هذا مصحف عثمان وكل مصحف اليوم هو مصحف عثمان؛ فلم تكن كلمة «المصحف» نفسها معروفة علما على الكتاب الذي يجمع آي القرآن الكريم، فعرف المصحف تارة و«الإمام» تارة منذ سميا باسميهما في أوائل خلافة عثمان.
وليس من مباحث هذا الكتاب تاريخ جمع القرآن منذ جمع لأول مرة في حياة النبي عليه السلام؛ وإنما نذكر منه ما يذكر في تاريخ عثمان رضوان الله عليه، وهو باتفاق الخالفين بعده ألزم ما كان لازما من أعمال العناية بحفظ القرآن الكريم.
جمع القرآن الكريم في حياة النبي عليه السلام بعد أن كان مفرقا في جريد النخل وصفائح الحجارة والعظام والجلود والرقاع، ولم يرتب يومئذ على حسب السور والموضوعات، وفي ذلك يقول الشيخ محمد العاقب الشنقيطي من أرجوزته المشهورة:
لم يجمع القرآن في مجلد
على الصحيح في حياة أحمد
للأمن فيه من خلاف ينشأ
وخيفة النسخ بوحي يطرأ
وكان يكتب على الأكتاف
وقطع الأدم واللخاف
فلما كانت أيام أبي بكر؛ قال له عمر: إن أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
باليمامة يتهافتون تهافت الفراش، وإني أخشى ألا يشهدوا موطنا إلا فعلوا ذلك وهم حفظة القرآن. فهلا جمعته وكتبته؟ فنفر أبو بكر أن يفعل ما لم يفعل رسول الله، ثم أرسل أبو بكر إلى كاتب الوحي زيد بن ثابت فقال له مشيرا إلى عمر: «إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه، وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه اتبعتكما وإن توافقني لا أفعل.» وتراجعا في الأمر حتى قال عمر: «وما عليكما لو فعلتما ذلك؟» فنظرا مليا ثم قالا: «لا شيء!»
فجمعت الآيات وروجع الحفاظ في كل آية، ولم يشتغلوا يومئذ بنسخ ما جمعوه وإرسال النسخ إلى الأمصار؛ لأنهم تتبعوا الآيات لجمعها لا لمخافة الاختلاف في قراءتها.
ثم حدث هذا الاختلاف بعد تفرق المسلمين في الأمصار على أيام عثمان، وبلغ من ذلك أن المعلمين والصبية كانوا يقتتلون في المكاتب؛ لأن الصبية يرجعون إلى آبائهم فيسمعون منهم غير ما سمعوه من معلميهم، وعاد حذيفة بن اليمان من قتال أرمينية، فلم يدخل بيته حتى أتى الخليفة فقال له: «أدرك الناس يا أمير المؤمنين قبل أن يختلفوا في الكتاب»؛ فلم يتوان عثمان بقية يومه، وأرسل إلى السيدة حفصة يطلب النسخة التي أودعها أبوها عندها قبيل وفاته وقبل أن ينتخب الخليفة بعده، وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها، ثم عارضها على ما يحفظه وهو يحفظ القرآن كله، وعارضها على ما يحفظ سائر الصحابة؛ فخلصت له النسخة المتفق على قراءتها وترتيب آياتها، فلم يحجم بعد ذلك عن أمر كان غيره خليقا أن يهابه، مذ رأينا أن أبا بكر قد تردد قبل أن يجيب عمر إلى مشورته وليس فيها أكثر من مجرد التفكير في جمع الآيات المتفرقات.
أمر بعد حصول هذه النسخة لديه فأباد كل ما عداها إحراقا ومحوا، وأخذ «العسب واللخاف والجلود» التي لم تختلف ولم تجتمع على ترتيب فدفنها بين القبر والمنبر، وأرسل من «المصحف» كما جمعه نسخا إلى الأمصار يعتمدونها ولا يقرءون في غيرها.
عمل من أخلق الأعمال أن يوصف بأنه «عمل عثماني» في الإقدام عليه وفي أثره.
فهذه الجرأة أحق شيء أن يلتفت إليه من كانوا يحسبون أن صفة الرحمة أو صفة الطيبة تحجب الشجاعة وتثني صاحبها عن تبعته إذا آمن بها.
وهذا العمل - في اختلاف تقديره وأثره - مثال من أعمال عثمان كافة، إذ كان معدودا عليه من أكبر السيئات، ولم تبق لعثمان أعظم منه في تاريخ الإسلام.
الفصل الثاني عشر
النهاية
قلنا في الفصل الأول من هذا الكتاب: «إن الصعوبة الكبرى أننا في هذه الفترة أمام حادثين يرجع كل منهما إلى أسبابه وعوامله، ويتكلم عنهما بعض المؤرخين كأنهما حادث واحد متحد الأسباب والعوامل، هذان الحادثان هما: التطور الاجتماعي، ومقتل عثمان رضي الله عنه، وأسباب هذا لا تكفي لتعليل ذلك وليس من الحتم أن تؤدي إليه.»
ومقتل عثمان لا يوصف بأكثر من أنه «مشاغبة دهماء» لم تجد من يكبحها.
أما التطور الاجتماعي فلا بد من التفرقة في تعليله بين لغط الألسنة في حينه وبين البواعث الحقيقية التي عملت فيه عملها الفعال، ولم تعمل فيه بداهة بألسنة اللاغطين في ذلك الحين.
إنهم لغطوا يومئذ بسيادة قريش، ولغطوا بالأموال التي أغدقها ولاة الأمر على الأنصار والأشياع، ولغطوا بإيثار الصنائع وذوي القربى.
ولم يكن شيء من هذا اللغط علة للتطور الاجتماعي الذي بدأ بعد دعوة الإسلام وانتهى بقيام الدولة الأموية.
فالذين شغبوا على عثمان جاءوا من البصرة والكوفة ومصر ليبايعوا واحدا من ثلاثة هم الزبير وطلحة وعلي، وكلهم من قريش.
ودولة بني أمية قامت بعد ذلك وهي دولة قرشية غالية في عصبيتها.
والذين ثاروا على بني أمية إنما ثاروا باسم بني هاشم وهم قرشيون، ومن بني هاشم قامت دولة العباسيين ودولة الفاطميين.
وبعد نحو مائة سنة من مقتل عثمان قام بالأمر في الأندلس «صقر قريش» عبد الرحمن بن معاوية بن هشام؛ فبايعه العرب والبربر لأنه من سلالة قرشية.
فلا يكفي أن يلغط بالنقمة على قريش سامرون في مجلس أو لاغطون في طريق؛ ليقال: إن التطور الاجتماعي أيام عثمان إنما كان مداره على الضجر من قريش والرغبة في الخلاص من سيادتها.
وقد غلا الأمويون في العصبية كما غلوا في كسب الأنصار والأشياع ببذل الأموال وإسناد الولايات؛ فوطدوا ملكهم وقهروا خصومهم، ولم يقتل منهم أحد من جراء ذلك كما قتل عثمان. •••
كان خراج السواد في عهد معاوية خمسين مليون درهم، ومعها مثلها من هدايا النيروز والمهرجان؛ فاحتجنها لنفسه وأنفقها في سبيل سلطانه ودولته.
ووهب خراج مصر كلها لعمرو بن العاص؛ جزاء له على معاونته إياه، وهو كان يربى على عشرة ملايين من الدراهم، وجعل عطاء الحسن والحسين مليوني درهم وكان عشرة آلاف درهم في عهد عمر بن الخطاب.
واقتفي يزيد آثار أبيه فسأل عبد الله بن جعفر حين قدم عليه: «كم عطاؤك؟» قال: «ألف ألف درهم.» قال: «قد أضعفناها لك.» فقال له عبد الله: «فداك أبي وأمي ما قلتها لأحد قبلك»؛ فضاعف عطاءه ثانية، ثم خرج عبد الله فقال جلساء يزيد له: «أتعطي رجلا واحدا أربعة آلاف ألف درهم؟» فقال لهم: «ويحكم! إني أعطيتها أهل المدينة أجمعين فما يده فيها إلا عارية!»
وهذه الهبات على عهد الدولة الأموية ربما بلغت في اليوم الواحد ما لم تبلغه هبات عثمان في سنوات، وأكثر هبات عثمان من خاصة ماله، وليس فيما وهبه من بيت المال عطاء واحد لم تكن له صلة بعمل من أعمال الفتح والجهاد.
فإذا كان الناس قد شغبوا على عثمان فلغطوا بسيادة قريش، أو لغطوا بالهبات والعطايا فليس هذا اللغط هو حقيقة البواعث والقوى التي عملت في التطور الاجتماعي وانتهت بقيام الدولة الأموية على دعائم من سيادة قريش وتقريب الأنصار والأشياع.
إنما تطور المجتمع الإسلامي بعد أيام الدعوة النبوية؛ لأن الدعوة النبوية قد رفعت مجتمعها إلى الأوج الذي لا تقوى النفوس البشرية على مداومة البقاء فيه، ولو لم تتغير أحوال المعيشة بإقبال الدنيا واتساع الفتوح، فإذا اتفق على النفس البشرية عسر البقاء في ذلك الأوج وفتنة المعيشة معا؛ فلا بد من تطور المجتمع حالا بعد حال.
وقد يسمى هذا التطور انقلابا من قبيل الترخص في التعبير، أما حقيقته فهي نقيض الانقلاب: حقيقته أنه رد فعل للانقلاب العظيم الذي طرأ على حياة الأمة العربية من أثر الدعوة النبوية؛ فارتفعت مع تلك الدعوة شأوا لا طاقة للنفوس البشرية بالدوام عليه، وثابت إلى طبيعتها بعد سكون تلك الوثبة، وغنمت منها القيم الجديدة التي دخلت في تقدير الرعاة والرعايا وحسبت في موازين الأخلاق والآداب، فأما دوام الغيرة الروحانية سنوات وأجيالا على قوة واحدة فذلك ما ليس فيه مطمع لطامع، وليس له سابقة ولا لاحقة من وقائع التاريخ.
هذا التطور الاجتماعي هو أحد الحادثين المختلفين اللذين يتلاقيان في سيرة عثمان، وفحواه التحول مع الزمن من وثبة النبوة إلى ثقة الخلافة إلى سلطة الملك، أيا كان القول في سيادة قريش وتوطيد الملك بالعصبية والهبات. •••
أما الحادث الآخر فلا صفة له أكثر من صفة المشاغبات التي يجمح بها الدهماء، ولا اختلاف بينهما وبين المشاغبات التي تعمل فيها: الأغراض الصغيرة، والغرائز الهوجاء، والدعاوي الملفقة، والصيحات التي تقبل بغير تمحيص، وتنطلق على غير مقصد وعلى غير هداية.
وأساس البلاء كله البطر على الحقوق التي كسبوها من الإسلام ومنها حق خولهم إياه عثمان، حين وفد الوفود، وندب طوائف منها للقائه في موسم الحج كل عام؛ لإبلاغه ما يشكونه من الولاة وما يطلبونه إليه، وقد رأينا أنهم استسهلوا الشكاية من العمال من أيام عمر، ثم زادها سهولة عليهم أنهم استطاعوا في عهد عثمان أن يقدحوا في انتخابهم ويشككوا الناس في كفايتهم للولاية لولا قرابتهم من الخليفة، وليس أدل على وهي الأسباب الحقيقية للشكوى من حاجتهم إلى نبش الماضي عن أسباب تثير الشعور ولا تستند إلى حجة غير المزاعم والأقاويل. ومن ذلك نبشهم عن سيئات عبد الله بن أبي السرح الذي ارتد في عهد الدعوة، ثم تاب وولاه عمر بعض ولاياته في مصر، فإنهم زعموا أن عثمان قد ولاه القيادة؛ لأنه أخوه في الرضاع، والصحيح أن عبد الله بن أبي السرح كان أكفى الكفاة في قيادته، وأنه انتصر حيث قاد جيشا في البر أو في البحر، ومع الروم أو مع أهل إفريقية، وزعموا أن عثمان نفل مروان بن الحكم بخمس الغنائم التي أرسلها ابن أبي السرح من إفريقية، وهو غير صحيح، وإنما الصحيح أن ابن أبي السرح أخرج الخمس من الذهب وهو خمسمائة ألف دينار؛ فأنفذها إلى عثمان وبقي من الخمس أصناف من الأثاث والماشية يشق حملها إلى المدينة، فاشتراها مروان وبقيت من ثمنها بقية عنده فوهبها له عثمان يوم بشره بفتح إفريقية، والناس على وجل من أخبار الغارات عليها.
وكقصة ابن أبي السرح قصة الحكم بن العاص الذي رخص له عثمان في العودة إلى المدينة بعد أن نفاه النبي عليه السلام عنها، فإنما أبى النبي أن يساكنه في المدينة، ثم وعد عثمان أن يعفو عنه، ولا حرج من مقامه حيث لا مساكنة له عليه السلام بعد وفاته، فقد أذن له بالمقام في الطائف حيث لا يسكن معه وهي أحب في سكنها وأشهى.
ومن هذه الشكايات التي يبحث عنها الباحث، أنه ولى الوليد بن عقبة لقرابته، ثم اتهم بشرب الخمر وثبتت عليه التهمة. فأما أنه هو الذي ولاه فغير صحيح؛ لأنه كان مولى من قبل عمر، وأما أنه شرب الخمر فقد أقام عليه عثمان الحد وعزله، ولا يطلب من الإمام أكثر من ذلك.
ولاموه؛ لأنه لم يقتص من عبيد الله بن عمر لقتله الهرمزان المتهم بالتآمر على قتل أبيه، وأيا كان وجه العدل في هذه القضية لقد كان لوامه على قتل عبيد الله لو أنه أخذه بالهرمزان أكثر من عاذريه، فما كان أكثر من يقول يومئذ إن عمر قتل بالأمس وابنه يقتل اليوم، وقد كان عذر عثمان في ترك عبيد الله أنه دفع الفتنة، فأطلقه ولما يمض على قتل أبيه أيام، ودفع الفتنة ولا ريب حق من حقوق الإمام.
وذكروا أنه أبعد أناسا من الصحابة عن مساكنهم أو عن أعمالهم، ولم يذكروا أنهم أغلظوا له في القول ولم يوقروه، وقد ضرب عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص؛ لأنه لم يقف له في مجلس الخلافة، وقال له: «إنك أردت أن تقول: إنك لا تهاب الخلافة، فالخلافة تقول: إنها لا تهابك!» ولم يعرف عن إنسان أنه اعتذر لصحابي من الإساءة إليه كما اعتذر عثمان لابن مسعود إلى يوم وفاته، وهو غاية ما يستطيع. •••
وإذا كان أساس البلوى كلها سهولة الشكوى، فيومئذ يظهر بالشكوى من كان حقه أن يتوارى بها من أصحاب الترات والذنوب، ولكن سماحة عثمان أطمعتهم في الظهور وسولت لمن شاء منهم أن يجترئ عليه مع الشاكين والمتذمرين، وأعجب العجب في هؤلاء قصته مع محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس قريب عثمان وربيبه في داره. فإن الناس قد ولعوا بالكلام على محاباة عثمان لأقربائه، وهذا واحد من أقرب الأقربين إليه أقام عليه الحد؛ لأنه أصاب شرابا، ثم جاءه يطلب منه ولاية فأباها عليه، وقال له: لو كنت أهلا لذلك لوليتك! فكان هذا زعيم الثائرين عليه في مصر ومعه نفر من ذوي قرباه.
ومنهم من عاقبه عثمان؛ لأنه كان يلعب بالنيرنجيات، ومن عاقبه لأنه تزوج بامرأة في عدتها، ومنهم من عزله كعمرو بن العاص، فكان أحكم من أن يجهر بالشغب عليه، ولكنه كان يدعوه جهرة إلى التوبة وهي دعوة أشبه ما تكون بالاتهام الصريح.
ومنهم من كان يزجره ولاة عثمان؛ لأنه كان يهذر في الدين بما لا يعلم، أو يهذر فيه بما يعلم أنه الباطل ويضمر من ورائه سوء النية، كعبد الله بن سبأ المشهور بابن السوداء، فقد أخرجه الولاة من بلد إلى بلد؛ لأنه كان يقول برجعة النبي إلى الدنيا وحلول روح الله في علي، وقد كان علي رضي الله عنه أشد على ابن السوداء هذا من عثمان وولاته.
وبين هؤلاء الشاغبين يسمع النصح الصادق من رجل كأبي ذر يروعه البذخ والترف؛ فيدعو إلى التقوى والصلاح، وينعي على الذين يكنزون الذهب والفضة ويحبسونهما عن الخير والصدقة؛ فتحسب صيحته على عثمان ولا قبل لعثمان بتغيير الزمن وتبديل الأوان، وقد حذر منه قبل أوانه الصديق، ثم حذر منه الفاروق وجلة الصحابة الأكرمين. ولا شيء يجنى من تلك الصيحة إلا أن تملي للشاغبين في شغبهم، وهم لا يصدقون صدق أبي ذر ولا يتقون تقواه.
ولقد أشير على عثمان بالضرب على أيدي الشاغبين، وكان عمرو بن العاص أول من قال له: إنه قد لان لهم في المقال، ولم يجزهم بما استحقوه من جزاء، ومن محنة الإمامة في ذلك الزمن أن يلام الإمام على النقيضين: على الرأفة بالشاكين، وعلى أنه أغضبهم ولم يجبهم إلى ما سألوه. •••
ولما جمع مجلسه للشورى كان من ناصحيه من أشار عليه بأن يشغل الناس بالجهاد؛ فلم يرض أن يكون الجهاد سياسة يحمي بها نفسه ويشغل بها الساخطين عليه.
وكان من ناصحيه من أشار عليه باتخاذ الحرس أو بالسفر إلى الشام؛ فلم يقبل هذا ولا ذاك.
وكان رأي علي أن يشتد في حساب الولاة، وأن يعزل منهم من نهج في الولاية منهجا لم يكن يرضاه قبله الفاروق ولا الصديق، ولو فعل لعزل معاوية أول من عزل، ولكن ولاية معاوية في الشام كانت أقل الولايات شغبا عليه.
وللسائل في أمثال هذه المآزق أن يسأل: «فعل عثمان هذا أو ذاك فسخطوا عليه، فهل يرضون عنه لو لم يفعل هذا وذاك؟!»
واليقين في رأينا أن الرضى عنه في أمثال ذلك المأزق مطمع لا يرام؛ لأن أساس البلاء كله سهولة الشكوى من الدهماء، ومتى سهلت الشكوى فالإعراض عنها محنة، واستجابتها محنتان؛ لأنها تغري بالشكوى من جديد، وتزيد البلاء بزيادة السهولة طمعا في دوام الإصغاء.
وتحسب على عثمان أخطاء وهنات جنت عليه، وساعدت من أراد أن يتجنى عليه بالحق وبالباطل، منها: توسعه في حقوق الإمامة، وتوسعه في معيشة الغنى بعد خليفتين كانا مثالا في التقشف والرضى بالقليل، وقد توسع كذلك في تقريب ذوي قرابته واصطفائهم لأعماله وبطانته، ولم يردعهم أن يجبهوا كبار الصحابة من أمثال علي وعبد الرحمن بن عوف بسوء المظنة والتهمة الجائرة؛ فجعلوهم في حيرة من أمرهم: إن دخلوا في أمر الفتنة على عزم وقوة لم يأمنوا التهم، وإن تجنبوا الأمر كله عزلوا عثمان حتى يشعر الناس بعزلته، وقد ظن من ظن بعد تفاقم الشر أن عثمان إنما صرف من تطوعوا لحراسته في داره؛ لأنه لم يكن على طمأنينة من جانبهم، فتفرقوا وأحس الشاغبون حول الدار من تفرقهم كأنهم خاذلوه. •••
ومن الإنصاف له أن يقال: إن تقصيره في حق نفسه كان أكبر من تقصيره في حق رعيته؛ فقد أفرط في المسالمة واغتفر ما لا يغتفر من العدوان عليه في حضرته، وتحرج غاية التحرج من البطش بمساعير الفتنة؛ لأنه لم يكن من الغرور بحيث يبرئ نفسه من تبعة سخطهم، ولم يكن من الأثرة بحيث يدرأ عن نفسه الخطر، وهو لا يبالي أكان على خطأ أم كان على صواب.
ولا نحسب نحن من أخطائه أنه أصر على الإمامة، وأبى أن ينزل عنها، وقال لمن أنذروه القتل إن هو لم يعتزل: إنه لا يخلع قميصا ألبسه الله إياه، فقد عزا بعضهم هذا الإصرار إلى وصية النبي له في مرض وفاته، وعزاه بعضهم إلى يقينه من الموت ويأسه من جدوى الاعتزال على رعيته، وأيا ما كان باعثه على الإصرار فهو الباعث الذي لا يعزى إلى الأثرة ولا يفسره إلا الإيثار في سبيل ما اعتقده واجبا عليه، حتى الإيثار على الحياة.
ومن الفضول في سيرة تدور على «تحليل الشخصية» أن نطيل في سرد أحداث الفتنة التي انتهت بمقتله، وأن نحصر أسماء من تكاتبوا ومن دعا منهم ومن أجاب، فكل ما رواه المؤرخون من هذه الأحداث يدل على مؤامرة مشتركة بين وفود الأمصار، عملت فيها الدعاية والاستثارة، وعملت فيها الشعوذة والضلالة المدبرة، ولم تكن قط في مصلحة رأس من رءوس الصحابة الكبار؛ فيميل الظن إلى اتهامه بالتدبير، فإن الفتنة التي يلغط فيها بالثورة على قريش لن تكون من تدبير القرشيين، وإن الفتنة التي يشعوذ بها أصحاب الضلالة ممن يزعمون أنهم من دعاة علي لن تفيد عليا عند المؤمنين، ولن يرضاها علي لدينه ولا لدنياه.
إنما هو شعب غوغاء لا رأس له ولا قدم، ووجود التدبير وراء هذا الشغب الأعمى هو الذي يوحي إلى المؤرخ أن يدا كانت تعمل فيه لمحض الشغب وإلى غير نتيجة؛ إلا أن يفسد الأمر على الدولة الإسلامية، وتحوم الشبهات من أجل هذا حول ابن السوداء ومن كانوا يستمعون إليه من شذاذ الأمصار الذين قيل فيهم: «لا ندري أعرب هم أم عجم ومسلمون هم أم مفسدون مدسوسون على الإسلام ...»
ثم بلغ الكتاب أجله بقصة ذلك الكتاب الذي قيل: إنهم وجده مع غلام لعثمان يأمر فيه والي مصر أن ينكل بقادة الوفد الذي عاد من عند عثمان.
عاد وفد مصر من عند عثمان موعودا بما يرضيه، ثم لم يلبث أن قفل ومعه كتاب مختوم بخاتم عثمان يأمر فيه بجلد «عبد الرحمن بن عديس، وعمرو بن الحمق، وعروة بن البياع، وحبسهم وحلق رءوسهم ولحاهم وصلب بعضهم ...»
ولم يعد وفد مصر وحده، بل عاد معه وفد الكوفة ووفد البصرة وهم مفترقون في الطريق، ولم يفت عليا أن يسألهم عن هذا الملتقى العجيب، إن صحت قصة الكتاب! •••
وحان المصرع الأليم الذي لا نحب أن نطيل النظر فيه، فإن تريثنا بعده هنيهة فإنما نتريث لنستخرج العزاء لبني الإنسان من الشر المركوز في طبيعة الإنسان.
لئن كان مصرع عثمان شرا مطبقا، لقد كان كجميع الشرور، ينطوي على خير يبقى بعد زوال الغاشية في حياة فرد أو أفراد.
كان الخير فيه ذلك الحق الذي آمن به من لا يحسنونه، فأراهم أنهم أهل لحساب ولي الأمر وهو يبسط سلطانه من تخوم الصين إلى بحر الظلمات.
وكان الخير فيه ذلك الإيمان الصادق الذي صمد به شيخ في التسعين للكرب المحيق به وهو ظمآن محصور في داره بغير نصير، ولو شاء لكان له ألوف من النصراء يريقون البحار من الدماء، حيث عزت قطرة الماء. •••
وإن وجبت كتابة السير، فأوجب ما يوجبها أن تكشف جانب الخير في أغوار النفس الإنسانية، لا قصيدة مديح كما يقال بل تحية صدق تمتحن بالنار والنور بين ظلمات الشرور. وهذه السيرة الرابعة من سير الخلفاء الراشدين لا نسميها بالعبقرية كما سمينا عبقرية عمر وعبقرية الإمام وعبقرية الصديق؛ لأننا لا نؤمن بالعبقرية لعثمان رضي الله عنه، ونؤمن في الحق أنه ذو النورين: نور اليقين، ونور الأريحية والخلق الأمين. ومن أبى عليه ميزانه أن يحابي في كلمة تستدعيها المجاراة لما سبقها من الكلمات لن ينظم قصائد المديح في محراب التاريخ، فحسب النفس البشرية أملا أنها غنية بالحق عن قصائد المديح في هذا المحراب.
Unknown page