ويحمر وجهه من الغيظ، ويدرك أن النكتة ستلاحقه طول حياته، وأن مصر جميعها سترددها، ويحدث ما توقعه، ولا يبقى من السباب الذي راح ينحدر من فمه شيئا.
كنت في العاشرة أو أقل في هذه الأيام التي كانت السيدة أم كلثوم فيها عندنا في إحدى زياراتها. ولا أستطيع أن أنسى ليلة فيها اجتمعنا كلنا حولها أبي ووالدتي وعمي عبد الله والسيدة زوجته التي كنا ندعوها تيتا. وراحت أم كلثوم تغني دون أن يطالبها أحد بذلك؛ فقد كانوا جميعا يقدرون أنها جاءت إلى غزالة لتكون على كامل حريتها، وكأنها في بيتها. وهكذا طاب لها هي أن تغني فغنت، وبغير موسيقى، وأشعر يومذاك أني أحسست وأنا في سني الصغير هذه أنني انتقلت إلى عالم سماوي، وأصبحنا جميعا مع هذا الصوت الذي حسبت أنه قادم من السماء مباشرة، وكأنما أدركت الفنانة الملهمة المشاعر السماوية التي أحاطت بنا، فإذا هي تبسمل وتستعيذ من الشيطان الرجيم، وتبدأ في قراءة القرآن. الملائكة في هذه الساعات حولنا، والظلام الذي يلف الكون أصبح نورا إلهيا ما شهدنا مثيلا من قبل، ولم نشاهد له مثيلا من بعد، وظلت هذه المعجزة الربانية، وتصاعد بنا إلى السموات حتى الفجر وأنا طفل مفيق لا أفكر في النوم، وأن يظل طفل ملأ يومه باللعب والجري طول اليوم يقظا مفيقا، حتى مطلع الفجر أمر لا يحدث إلا أن ذلك الطفل يشهد معجزة لا عهد للبشر بها.
وكانت نهاية تلك الليلة جديرة بها. فإن أم كلثوم حين أدركت أن الفجر قد شق اليوم الجديد قامت وقمنا وراءها، وخرجت إلى شرفة البيت، وبأجمل صوت سمعناه أذنت أم كلثوم لصلاة الفجر. وبيتنا في القرية يبعد عن بيوت القرية بمسافة لا تقل عن الكيلو متر، ولكن أهل القرية استيقظوا على صوت داعية السماء المعجزة، وتقاطروا تتقاطر منهم مياه الوضوء، ووقفوا صفوفا يستمعون إلى أجمل أذان سمعوه في حياتهم، ثم اتجهوا إلى مسجدنا في القرية، وأقاموا الصلاة، وظلت صلتنا بالسيدة المعجزة وطيدة طوال حياتها.
وأذكر أن أبي قبل الحرب كان يحلو له أحيانا أن يقضي جانبا من الصيف في أوروبا ليعالج الروماتيزم في بلاد تخصصت في ذلك، فكان عمي عبد الله فكري يستدعيني أنا وأخي شامل؛ لنقضي الصيف معه في رأس البر. وكانت السيدة أم كلثوم تصطاف في ضيافة السيدة زوجته، وكان يصحبها ابن أخيها صديقي محمد دسوقي وأخته. وأذكر واقعة تدلك على قيمة الجنيه المصري في ذلك الحين. حدث أن دعيت أم كلثوم لإقامة حفل زفاف في القاهرة قبيل انتهاء الصيف. وأرادت أن تعتذر فقد كان عندها رغبة شديدة أن تكمل مصيفها. وتداولت الأمر مع عمي عبد الله، وانتهى رأيها أن تطلب مائة وخمسين جنيها لإقامة الليلة، وكان هذا الطلب على سبيل التعجيز لأصحاب الفرح. وكنا في منتصف الثلاثينيات قبل الحرب العالمية الثانية ببضع سنوات، ولم يكن في رأس البر كلها إلا تليفون واحد له كابينة على النيل، وطلب عمي عبد الله أن أذهب في الموعد المضروب إلى هذه الكابينة، وأنتظر تليفونا من القاهرة يطلب أم كلثوم، وأجيب الطالب، وأذكر له أن الآنسة أم كلثوم تقبل أن تقيم الحفل، بشرط أن يدفع لها مائة وخمسين جنيها. وتم الأمر على هذه الصورة، فإذا الرجل الذي يحدثني يقبل دون ريث من تفكير، وأخبرها بذلك وتوافق وهي تحتسب الله في المصيف.
واستمرت الصلة وكبرنا وتوفي عمي عبد الله، ولكن صلة الأسرة بأم كلثوم بقيت كما هي. وحدث في الستينيات أن كلفني الأديب الكبير المرحوم عبد الحميد جودة السحار، وكان في ذلك الوقت رئيس مجلس إدارة مؤسسة السينما أن أكتب فيلما سينمائيا معتمدا على مجنون ليلى لأحمد شوقي، وأن أختار من رواية شوقي قصائد لم يسبق لها أن غنيت، واتفق مع أم كلثوم وعبد الوهاب أن يغنيا هذه الأغاني على أن يقوم بتمثيل دوريهما ممثلة وممثل، وأعجبتني الفكرة ونفذتها مع الفنان الكبير يوسف فرنسيس ككاتب للسيناريو، وتوليت أنا تأليف القصة وكتابة الحوار، واختارت المؤسسة المخرج العظيم كمال الشيخ.
وأتممنا العمل، ولم يبق إلا موافقة أم كلثوم وعبد الوهاب، وأنا على صلة بمعجزة الموسيقى والغناء العربي عبد الوهاب منذ عام 46 تقريبا، وهو صديق لكثيرين جدا من أسرتنا. وليس عجيبا أن يوطد صلتي به حبي الذي لا حدود له لأمير الشعراء الذي يعتبره عبد الوهاب أباه الروحي. كلمت موسيقار الأجيال في التليفون، وأرسلت إليه السيناريو وفيه الشعر الذي اخترته وسعد به غاية السعادة.
وأخذنا موعدا من المعجزة الأخرى أم كلثوم، وأذكر أنني ذهبت إليها ومعي السحار وكمال الشيخ لنعرف رأيها في السيناريو بعد أن كنا قد أرسلناه إليها قبل الموعد ببضعة أيام.
ووافقت هي الأخرى عليه دون ملاحظات، ثم رحنا نخوض في أحاديث عامة. وأذكر أنها قالت في هذا اليوم جملة ما زلت معجبا بها حتى اليوم: لقد حاولت الصحافة أن تصنع مني بطلة سياسة بعد ثورة يوليو، فرفضت هذا تماما، وقلت في تصريح لي إنني فنانة لا أتدخل في السياسة، ولو كان الملك فاروق قد دعاني لأغني في قصره يوم 26 يوليو عام 1952م للبيت الدعوة وأنا سعيدة.
ولعل هذه الجملة من سيدة لم تعرف عنها إلا كل ما هو نقي وشريف ورفيع من الخلق تكون درسا للمهرجين الذي يحاولون في أقلامهم أن يجعلوا الراقصات والساقطات معالم مصر التاريخية.
وكان من أعظم ميزات أم كلثوم حبها للأدب، وحفظها للشعر وحساسيتها الراقية في اختيار أغانيها، وتلك ميزة يتمتع بها محمد عبد الوهاب. كنت معه في بيته عش البلبل الذي بناه في الهرم، وطلبه مؤلف أغان، وراح يسمعه كلمات في التليفون، وطبعا لم أكن أسمع شيئا مما يقول، ولكنني أخذت بعبد الوهاب وهو يقول لمحدثه: «يا أخي مش عارف ليه كلمة دمعة اللي بتقولها بتفكرني بالملوخية؟»
Unknown page