ويختلف طول المراحل من حيث المكان: أطولها مرحلة 167 شارع الحجاز (1970-1995م) خمسة وعشرين عاما، ثم مرحلة باب الشعرية (1935-1956م) واحدا وعشرين عاما في شارع البنهاوي، درب الشرفا، عطفة البنهاوي رقم 4، ثم مرحلة مدينة نصر (1995-2018م) ثلاثة وعشرين عاما في 18 شارع لوزاكا متفرع من أحمد فخري، ثم مرحلة فرنسا (1956-1966م) عشرة أعوام، ثم مرحلة العباسية الشرقية (1966-1970م) مع الوالدين 13 شارع الجنزوري منذ العودة من فرنسا 1966م حتى الزواج 1970م. إلا أن أكثرها عمقا في استدعاء الذكريات الماضية والأحلام الحاضرة هي المرحلة الأولى (1935-1956م) مرحلة الميلاد والكتاب والمدارس الأولية والابتدائية والثانوية والجامعية؛ فما زالت الشقة التي ولدت فيها، والغرفة التي ذاكرت فيها، وكنت فيها مع أخي سيد وأعز الأصدقاء محمد وهبي عبد العزيز هي أعمق الذكريات، وتعود دائما أكثر من أطولها في شارع الحجاز (1970-1995م)؛ فذكريات الطفولة أكثر عمقا في النفس من ذكريات الشباب في فرنسا أو الرجولة بعد الزواج أو الكهولة في مدينة نصر.
وكانت الذكريات في الصياغة الأولى تسترسل دون جهد كبير؛ فالخطوط العريضة تظهر، والمراحل الزمنية لا شك فيها. وفي الصياغة الثانية بدأت تظهر ما أسقطه النسيان في الصياغة الأولى؛ فبدأت بتجسيد أكثر، يملأ فراغاتها. وفي القراءة الثالثة بدأت تظهر موضوعات جديدة من دائرة النسيان إلى دائرة التذكر. ولو كانت هناك قراءة رابعة لخرجت بعض الذكريات من جوف النسيان؛ فالذكريات بئر له أعماق متعددة، وكلما نزل الدلو أعمق أخرج الماء؛ لذلك يستطيع من عاصروا الأحداث من الأقارب والأصدقاء، التلاميذ والزملاء، بالقراءة الجماعية، أن يصححوا أو أن يزيدوا ما نسيت؛ فالذكرى بارق يلمع ثم يختفي كما صور أحمد رامي في الإهداء. وما كنت أحاول أن أتذكره بالإرادة في قراءة أولى يأتي طواعية في القراءة الثانية؛ فتسلسل الذكريات ليس فعلا إراديا بل هو تيار جارف يأتي ويذهب. وهناك فرق بين الذكريات السطحية؛ أي مجرد تسجيل الأحداث، والذكريات العميقة التي أثرت في الوجدان، وتركت آثارا في الشخصية. الأولى سرعان ما يأتيها النسيان، وتكون على هامش الذاكرة. والثانية تكون في أعماق الذاكرة ولا تنسى، وتكون جزءا من الشخصية.
وهناك إشكال يظهر خاصة في الجزأين الأخيرين وهو: هل تستدعي الذكريات الأحياء مع الأموات، الحاضرين مع الراحلين؟ لا حرج في استدعاء ذكريات الراحلين، ولكن ماذا عن ذكريات الحاضرين؟ وكيف تستدعي ذكريات الحاضرين وقد تكون بعض المثالب مما يستدعي الحرج أو ما يظن أنه تجريح وتعرض بالمذكور؟ وكلهم أصدقاء وزملاء في الظاهر أو في الظاهر والباطن. ويصعب ألا يتعرف عليهم، بالرغم من عدم ذكر أسمائهم. والحل الوسط ذكر النماذج الجامعية دون إشارة إلى أحد بالاسم، ومع ذلك يمكن تعيين الأسماء بهذه الطريقة عن طريق هذه العلاقات مثل التخصص أو النشاط العلمي أو العلاقات الاجتماعية. ومع ذلك ظل استدعاء أسماء الأعلام مسألة مثارة لا أدري ماذا أفعل فيها رغبة في أكبر قدر من العمومية، ورفعا للإحراج، والزمالة الطويلة التي تجاوزت نصف القرن؛ فإذا ذكرت أحرجت، وإن لم أذكر تاهت الذكريات ووقعت في ضبابية، وهي مصدر المعرفة. وسألني أحد الأقارب أو الأصدقاء: لماذا لم تذكرني؟ ذكرت ثم شطبت ثم عدت إلى الذكر من جديد؛ فالأفضل أن يكون الإحراج لي وليس إلغاء الحوادث والأشخاص التي نشأت فيها الذكريات. ثم أحسست في قراءة ثالثة أنه لا بد من ذكر الأعلام حتى تتضح الذكريات في الراحلين فقط دون الحاضرين، ولكن في الهامش؛ نفورا مني من وضع أسماء الأعلام في النص. وأخيرا في قراءة رابعة وأخيرة عدت إلى الخيار الأول بإعادة أسماء الأعلام إلى المتن بمحاسنها وعيوبها؛ ففي العلوم الإنسانية لا يوجد صواب مطلق أو خطأ مطلق . وقد استدعى ذلك إسقاط الألقاب ورموزها مثل «أ.» للأستاذ، «د.» للدكتور، «أ.د.» للأستاذ الدكتور؛ فالذكريات لنماذج بشرية وليس لشخصيات اجتماعية تحرص على ألقابها. ويظل التردد حتى الآن قبل أن أدفع الكتاب إلى المطبعة، وربما يوجد حل نهائي. ووصلت إلى حل وقتي، وهو ذكر أسماء الراحلين دون أسماء الحاضرين، ثم تبرز قضية تلميذي نصر حامد أبو زيد، هل هو من الراحلين أو من الحاضرين؟ هل يدخل في النماذج أم إنه لا تصنيف له؟
وتتفاوت الذكريات في الأعماق. الذكريات الأولى هي الخطوط العامة للسيرة الذاتية والتي تأتي في القراءة الأولى، وعادة تكون ذكريات الطفولة. والثانية ذكريات فرنسا التي كونت الشخصية بعد ثقلها من اختيار النص إلى اختيار الواقع، ومن التقليد إلى الاجتهاد. والثالثة ذكريات العودة إلى مصر خاصة ذكريات الفترة الأخيرة بعد السفر إلى أمريكا والمغرب واليابان، وبعد مزيد من التعرف على الوطن العربي. وأعمق الأعماق هي الطفولة الأولى ومحل الولادة والسكن قبل المغادرة إلى فرنسا، وهي مرحلة الأمل في الاستقلال أو الموت الزؤام ومقاومة الاستعمار والفقر والإقطاع قبل أن تنقلب على نفسها في المرحلة الأخيرة في قرب النهاية؛ مرحلة اليأس بعد عديد من تجارب الإحباط في محاولات النهضة والإصلاح والتجديد والثورة إلى مرحلة الاستبداد والاعتراف بإسرائيل وإقامة كافة العلاقات معها والارتماء في أحضان أمريكا والخليج ووضع نفسها في صفقة القرن.
والخطورة في الذكريات أن يتناولها أحد بالزيادة والنقصان؛ زيادة ما يحب، وإخفاء ما لا يحب؛ الكشف عما يريد أو التستر على ما لا يريد ظانا منه أنه يحافظ على مركز صاحب الذكريات. ويتم ذلك إراديا وليس بالفعل الطبيعي للذاكرة والنسيان، بل إن إكمال الصورة وإبرازها على نحو غير ما هي عليه يقرب من المغالاة؛ فقد توصف بالكذب إذا زادت عن حدها، وأصبحت أكبر من جزء للصورة الأولى، تعظيما للنفس أو إقلالا من شأن الآخرين.
ومن القضايا المنهجية الصلة بين الخاص والعام؛ فهل كل ما يحدث وتستدعيه الذاكرة هي ذكريات؟ وماذا يفيد الناس أنني جعت أم شبعت، نمت أم استيقظت، عريت أم لبست؟ لا يهم إلا ما له من دلالة على الفقر، ونشأة الوعي مبكرا؛ فالذكريات هو مجموع الدلالات للأحداث وليس الأحداث ذاتها كما يفعل الخبر الصحفي للناشئين. لا يهم إلا ما له علاقة بالفكر أو الوطن كما عرضت في «هموم الفكر والوطن»، وهو ما يشغل كل الناس في اللاشعور بعد أن انشغل الشعور بمشاكله في الحياة اليومية كالغذاء واللباس والإسكان والمرض، وكيفية تكييف حاجاته مع دخله المحدود. ومع ذلك لا تنفصل الذكريات عن البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي نشأت فيها؛ فهي أقرب إذن إلى علم النفس الاجتماعي عن الوصف التقريري.
والخطورة أيضا في عدم ضبط الميزان بين الذاكرة والخيال؛ فقد يتذكر الإنسان شيئا إلى المنتصف دون النصف الآخر، فيأتي الخيال لتكملة الصورة؛ فالموضوع نصفه ذاكرة ونصفه خيال. والسؤال هو: هل الخيال يكمل الذاكرة أم إنه يفارق الذاكرة بدافع الإبداع الفني؟ نصفه فلسفة ونصفه فن، بدايته صدق ونهايته أقل صدقا ولا أقول كذبا؛ فالذاكرة تحتاج أحيانا إلى ضبط وتوضيح وإكمال. لا يطبق على التذكر مقياس الصدق في العلوم الطبيعية المتطابق مع التجربة ولكن الصدق مع النفس. لا يعني ذلك وجود منطق للتذكر فإنه يظل فعلا حرا يقوم على الاستبطان والتداعي، بصرف النظر عن الترتيب الزماني، وهذا سبب التكرار أحيانا كما هو الحال في الموسيقى؛ إذ يتكرر اللحن من المقدمة إلى الوسط إلى النهاية. وكما هو الحال في القرآن الكريم مثل
فبأي آلاء ربكما تكذبان
في سورة الرحمن؛ لذلك يصعب ذكر فهرس تفصيلي بحوادث معينة؛ لأن ذلك يفصل المتصل كما يقول برجسون. يكفي المراحل الكبرى التي تختلف الذاكرة عليها.
وبالرغم من حرصي الدائم على التوازن الكمي بين الأبواب والفصول إلا أن الذكريات حكمت نفسها بنفسها؛ فهناك تجارب شكلت شخصيتي مثل إقامتي في باريس عشر سنوات ورئاستي للقسم ومحاولة تأسيس مدارس فكرية ولا أقول فلسفية، وتعمقت في شعوري وأصبحت لا تنسي، في حين كانت أجزاء أخرى أصغر مثل أحزان خريف العمر وتمنياتي المتفائلة، والمستقبل المفتوح.
Unknown page