وكان هناك رجل طويل القامة، أحول العين، يضع طربوشا مائلا على رأسه كما يفعل الأفندية الكبار، كان زميلا لشقيقتي الكبرى في دشنا بمحافظة قنا، أتى إلى القاهرة في الصيف؛ ليتعرف على أسرتنا قبل أن يطلب يدها للزواج، وكان كريما يحضر لنا الهدايا، خاصة الحلوى للصغار، واعترضت والدتي على هذا الزواج الذي يجعل ابنتها البكر تعيش بعيدا عنها في أقصى الصعيد؛ فرفضت.
وكان لي أخ صغير توفي بعد ولادته، وليست لنا مقابر في القاهرة؛ فأخذته جارتنا، ودفنته في مقابر أسرتها، وبكت عليه بكاء مصطنعا. وكان زميل شقيقتي الكبرى حاضرا في مراسم الدفن، ويبدو هو الآخر متأثرا بما حدث، وكان اسم الطفل «علي».
كانت هذه الجارة تسكن في الطابق الأرضي، في غرفة تقع على مدخل الباب الأيمن، مع أسرتها وبلا رجال، كانت الغرفة أقرب إلى الظلام منها إلى النور، يبدو أنها كانت غرفة لسكن البواب، ولكن لم يكن هناك بواب. ولما تعددت أفراد الأسرة أخذوا مكان تحت بير السلم وجعلوه غرفة ثانية. وكان به دورة مياه، كنت أخاف ممن يسكن تحت بير السلم، فقد كانت الأساطير تقول يومئذ إن العفاريت يخرجون منه للقبض على من يصعد. فعجبت كيف يعيش هؤلاء وينامون في هذا المكان المسكون بالعفاريت!
ولما علمت والدتي أن جارتنا الأخرى قد حركت بلاطة من أرض الغرفة أو بلاطتين كي تصطاد صفائح السمن من المخزن أسفل شقتها، وبعد أن عرف صاحب تجارة الجملة وأحضر الشرطة للتحقيق، فوجدوا أن البلاط قد خلع من الشقة التي فوقها، ولما علمت والدتي بهذه الواقعة استخدمتها في مشاجراتها مع صاحبة الشقة، كما هي العادة في الأحياء الشعبية عندما يتشاجر النساء لأتفه الأسباب لكي تبين كل واحدة مهارتها في السباب كما يبين الرجال مهاراتهم في الضرب بالعصا.
وفي صبيحة يوم خرج والدي إلى الشارع كي يشتري شيئا ما، وفي الوقت نفسه الذي خرج فيه زوج الجارة سارقة صفائح السمن من المخزن، خافت والدتي أن يصطدم الرجلان، وقفت تنتظر وتنظر من الشباك عودة والدي، وبالفعل كان والدي ضخم الجثة لكنه طيب القلب، لا يعرف متى يتشاجر؟ ومتى يبتعد عن المشاجرة؟ ولما رأى والدي زوج المرأة السارقة يتقدم إليه ليعاتبه على هذه المشاجرة وكان الزوج قويا يعمل بمعسكر الإنجليز قال لوالدي: «أنت مجرد عنزة» فاضطرب ولم يكن ينتظر مثل هذا القول. وعاد إلى المنزل، وفرحت والدتي بعودته سالما تماما؛ إذ إنه شعر بالإهانة وهو الشاويش بالجيش، له زملاء وطلبة كثيرون علمهم العزف على «الترمبون» ومنهم «علي إسماعيل». فشعرت أنا أيضا بالإهانة لأنني كنت أحترم والدي، وأكره الجارة السارقة بالرغم من جمالها وبياض بشرتها.
وفي مرة من المرات في حوش المنزل رأيت عدة دجاجات تلتقط حبات الذرة الكثيرة والمفروشة على الأرض؛ فرشت جلبابي وأخذت ما تبقى من حبات الذرة كي نطبخها ونأكلها. رأتني صاحبة الدجاجات التي تسكن بالغرفة الأرضية وقالت لي: «عيب يا ابن الباش شاويش» فألقيت بحبات الذرة التي كانت في جلبابي، وصعدت إلى أعلى حيث نسكن في الطابق الأول وأنا أشعر بالحزن لما فعلت. فهل أنافس الدجاجات في حبات ذرتها وأنا أكثر منها قدرة على جلب الطعام لنفسي؟
وكان والدي لا يترك شقيقاتي الصغيرات يذهبن إلى دور السينما بمفردهن، فيطلب مني أن أصاحبهن؛ فتفرح البنات، ويلبسن أجمل ما عندهن، ويتزين ويفرحن لرؤية الشارع والخروج. كنا بمجرد خروجنا من باب المنزل يرفعن التنورات ويربطنها بالحزام حتى يقصرن من طولها، ويرقصن على السلم طربا وفرحا يهتفن «هانروح السينما.» وفي سينما مصر بشارع العباسية كان الزحام أمام شباك الرجال أكثر من شباك النساء اللاتي كن يدخلن من باب السينما، ويقطعن التذاكر بعد الدخول حرصا عليهن من زحمة الرجال. ولما نقرت على الباب وفتح لي المسئول ورأى رجلا وأنا مجرد صبي. قلت له «معي نساء» وأشرت إلى شقيقاتي، فأدخلنا من باب النساء، واشترينا بطاقات الدخول للسينما، وسعدنا بالفيلم، وكان عرضا صباحيا.
وأثناء العودة يفك شقيقاتي الأحزمة فتطول التنورات من جديد، وندخل المنزل وكأن لم يحدث شيء قبل دخولنا، وينشرح وجه والدي؛ لأننا عدنا بسلام.
وكان ابن الفران غير موفق في دراسته ويرسب باستمرار على العكس منا، وذات مرة ضربه والده فأحس بالإهانة، وسكب الجاز على نفسه وأشعل النار؛ فأسرعت الأسرة بإطفاء النيران، ولكنها كانت قد تمكنت منه فاحترق ساعداه ووجهه، أخذوه إلى صيدلية الحارة، عالجوه بالزيت، ونصحوه بألا يعرض نفسه للمياه، وهم يربطون ساعديه، ويضعون القطن والشاش على وجهه، أقسم الابن ألا يعود للمنزل من جديد، وكانت له عمات أو خالات يسكن في شارع البنهاوي على مدخل الحارة، فقمنا بزيارته هناك، أكد لنا على عدم عودته بسبب الإهانة التي تلقاها من والده، أجبناه أن الثمن الذي دفعه كان غاليا.
كانت له شقيقة جميلة سمراء ذات صدر بارز، تبدو عليها الجدية، كنت أود أن أقبلها ولكني لم أستطع ولم أعرف كيف.
Unknown page