إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ، وأن نظام الحكم في الإسلام شورى، وأن مقاومة الحاكم الظالم جزء من واجب العلماء بناء على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فغادر بعض الأساتذة من الصفوف الأولى، ولم أفهم ما السبب. وأضفت أنه لا يجوز تقبيل يد الحاكم أو قدمه أو حافر حصانه لأن قدره لم يصل بعد إلى تقبيل القدم. وجاءت الشرطة إلى المنزل لاستجوابي في قسم الشرطة، وسألوني: إذا كنت أقصد فعلا ملكا بعينه؟ ألا أقبل يد الوالد أو الوالدة؟ فأجبت بالنفي. وما كان أسهل من الرد علي بالقول بأن سياق هذه الآية هو النظام الفارسي، نظام الكياسرة، والنظام الروماني، نظام الأباطرة! وقد كان داود ملكا على بني إسرائيل، وكانت سبأ ملكة على شعب اليمن وآمنت بنبوة سليمان، ولكن «اللي على رأسه بطحة يحس بها» أو «لك الكلام يا جارة». وظللت تحت الاستجواب، ورفضوا أن أتصل بالأسرة لأطمئنهم علي خاصة وأن حادثة بن بركة في الأذهان. وظل محمود إسماعيل وطه المصري الأستاذ الذي كان لصيقا بالعميد الفاسي يبحثون عني. وأخيرا جاء القرار بأن أترك البلاد في ظل أربع وعشرين ساعة، ثم أفرج عني، وذهبت إلى المنزل والأسرة تبكي. وهنا ذهب محمد عزيز لحبابي إلى بن سودة المسئول عن الجامعات في القصر، وأخبرهم أنها ستكون فضيحة لو طرد هذا الأستاذ الكبير من المغرب، فطلبوا مني الاعتذار، وعن أي شيء أعتذر؟ عن آية قرآنية لست مؤلفها؟ وأخيرا رضي الملك أن يؤخر مغادرة البلاد حتى 30 يونيو نهاية العام الدراسي من أجل الأولاد في المدارس، وطلبوا من زوجتي التي كانت تدرس اللغة الإنجليزية الاستقالة، واشترطوا علي ألا أتكلم خارج الجامعة. ووقعت مظاهرات الشمال، في الحسيمة والناضور يناير 1984م، مظاهرات الفقراء مثل 18-19 يناير 1977م في مصر، واتهم الملك من جديد الأساتذة المشارقة، مصريين وسوريين وعراقيين بنشر الأفكار الاشتراكية في البلاد، أمر بطردهم جميعا في نفس التاريخ. وأنا أعد العدة للرحيل أعددت بيانا لشعب المغرب: «أتيت المغرب طائعا، وأتركه مكرها». وزع على جميع الطلاب والجامعات. وأرسلت الأولاد الثلاثة: حازم، حاتم، حنين جوا إلى القاهرة، بالرغم من رغبة حازم العودة معنا بالعربة. ولما كنا نخاف عليه وعلى أنفسنا فرجوناه أن يعود مع إخوته بالطائرة. وقد أخبرني المؤرخ الاجتماعي والمؤرخ المغربي علي أومليل الذي أصبح سفيرا لبلده في لبنان أن الفكر الفلسفي يؤرخ قبل قدوم حسن حنفي وبعد مغادرة حسن حنفي، وما زال أثري في المغرب مشهودا، أتلقى اتصالات هاتفية، أساتذة الفلسفة، وكانوا يوما ما طلابي في فاس، ينقلون رسالتي إلى طلابهم؛ فالمغرب هو البلد العربي الوحيد الذي درست فيه سنتين، وتحملني النظام السياسي على مضض هذه المدة. وما زلت أرى أن الطالب المغربي هو أفضل من رأيت من الطلاب العرب. أتوق للحياة في المغرب، أنا والأسرة، ونعتبر هاتين السنتين أجمل عمر قضيناه من حياتنا. بنيت منزلي تقريبا أندلسيا، والسكسك والبسطيلة أحضرهما معي كلما دعيت إلى المغرب. لم أوضع على القائمة السوداء ليحجزوني في المطار كما حدث في تونس في عصر زين العابدين بن علي أو في وقت ما في مصر قبل ثورة 2011م، خاصة إذا كنت عائدا من إيران. وما زال الجلباب المغربي لي ولزوجتي أفضل ما ترتديه في القاهرة. وبعد ذلك بعشر سنوات دعيت إلى عمالة فاس لألقي محاضرة، وكنا كأننا في مظاهرة بميدان التحرير. بعدها دعتني عاملة فاس وكانت من حزب الاستقلال للزيارة في لقاء مفتوح مع طلابي القدامى، وأهدتني إبريقا وصينية وأكوابا ستة فضية، وقالت: إن جلالة الملك يهديك التحية، ويهديك ذلك ليعتذر لك عما بدر منه من عشر سنوات. وأقبل الدعوة لزيارة المغرب دائما، مثل ذكرى الأربعين لصديقي محمد عابد الجابري التي أقامها له الحزب الاشتراكي. وكان الطلبة يصفقون ويهتفون كلما ذكرت مثلا اشتراكيا من القرآن الكريم مثل الأخ الذي له تسع وتسعون نعجة ويريد أن يأخذ نعجة أخيه الوحيدة حتى يستولي على كل شيء. رأيت للأسف بعض الأصدقاء الشيوعيين وقد مالوا إلى الحكومة، وتركوا المعارضة، كما رأيت انتشار الحركة السلفية، ووضع بوابات حديد بين طرقات الجامعة لمنع الطلاب من التجمع مثل الحواجز الحديدية في حرم جامعة القاهرة. وفي عام 1984م قبض على ثمان وثلاثين من طلبة السنة الرابعة من قسم الفلسفة لأول مرة، وكنت أهرب لهم الكتب داخل السجن لعل وعسى. وتلقيت دعوة أخرى للاحتفال بمحمد شكري صاحب «الخبز الحافي»، وكنت من أوائل من كتب عنه بعد أن زرته في طنجة ولكني لم أستطع الذهاب؛ فقد كبر السن، وضعف الجسد، وأصبحت جالسا على كرسي متحرك: غادرت المغرب ولكنه لم يغادرني.
وتلقيت دعوة في الصيف لزيارة اليابان، جامعة طوكيو، زميلا لإيزوإتاجاكي لتدريس فلسفة الغرب والشرق، دراسة مقارنة، ويركز هو على تدريس الفكر الإسلامي في الوسط، فذهبت أنا وزوجتي وأولادي الثلاثة إلى طوكيو. دخل حازم وحاتم المدرسة الفرنسية ذاهبين بالمترو، وحنين إلى الحضانة نوصلها على دراجة مثل معظم اليابانيين. وسكنا في بيت للجامعة، وفي البيت المجاور إيراني وزوجته من المعارضين للثورة. وعجبت من سهولة الحياة، بجوارنا ست أوان، في كل آنية نوع من المخلفات: الزجاج، البلاستيك، الكانز، الكارتون، الجرائد، ثم مخلفات المطبخ. وهذا يسهل على تدويرها لإعادة استعمالها. والمواصلات في طوكيو عن طريق المترو تحت الأرض، وتذاكر إلكترونية تفتح البوابات آليا، لا أحد يدفع أحدا أو يسابقه، لا أحد يعاكس أحدا أو يتحرش به، الشوارع نظيفة، وكل ياباني يكنس الرصيف أمام بيته بمن في ذلك رئيس الوزراء. والمطاعم وما أكثرها! بين كل مطعم ومطعم مطعم، وأمامنا كرة حمراء معلقة، والأكلة الشهيرة إسباجيتي بالمرقة، تؤكل بالعصايتين الشهيرتين. والياباني لا يأكل مع زوجته رسميا إلا في نهاية الأسبوع عندما يلبس الكيمونو الياباني، ويذهب الجميع إلى المعبد. والطالب الياباني يستمع جيدا للأستاذ ويدون ملاحظاته، ولكنه لا يناقش ولا يعبر عن تساؤلاته للأستاذ، بل لرئيس الشركة التي يأتي منها؛ فالفائدة عملية له وليس نقاشا حرا بغية العلم مع الأستاذ، والبحث عن الحقيقة أو كيفية البحث عنها؛ فالأستاذ يحاضر وكأنه يكلم نفسه.
وبعد أن انتهى عام جامعة طوكيو دعتني جامعة الأمم المتحدة، وهي الجامعة التي أنشأها يوتانت سكرتير عام الأمم المتحدة الفيتنامي من أجل ربط العالم الثالث بمجموعة من الباحثين الشبان، تنشر الجامعة أعمالهم، وتخرج الجامعات اليابانية من عزلتها، وليست جامعة طلاب وشهادات ودرجات علمية، كي أشرف على الأبحاث في العلوم الاجتماعية فيها، أنسق بينها بدلا من تناثرها، فذهبت لمدة عامين 1985-1987م. وكان هناك مشروعان كبيران: الأول لأنور عبد الملك بعنوان «البدائل الاجتماعية الثقافية»
Socio-Cultural Alternatives (SCA) . والثاني عن التنمية الوطنية لعالم نرويجي كبير استقر في اليابان وتزوج يابانية، ويدور على العالم شرقا وغربا، ويشرف عليه أزنييرو. وكان حسام عيسى قبلي في هذا المنصب، وكنت أزور مواقع البحث العلمي في أفريقيا وآسيا وفي أفريقيا في غانا حيث كان سمير أمين يقوم ببحث في المكتب التابع للأمم المتحدة. وكان هناك مكتبان: الأول في القاهرة يشرف عليه أبو سيف. والثاني في كوناكري-نانا يشرف عليه سمير أمين، يستعملان المنهج الماركسي، كانا لا يقبلاني بسهولة وأنا لست ماركسيا بل يساريا إسلاميا. قابلت سمير أمين في إحدى المسيرات الشعبية في روما ضد الاستعمار، وجها لوجه وكأنه لا يعرفني، وكنت في مكتب القاهرة كنت أشعر أنني غريب عنه، ولسان حاله يقول: ما الذي أتى به إلى هنا ؟ كان الأول معروفا برسالته للدكتوراه بعنون «النمو اللامتكافئ»
Unequal Development ، يأتي إلى مصر بين الحين والآخر، تستقبله دار نشر عين لعدة أسباب، علمية وغير علمية، كما عرف لبنانية كثيرة الكلام كمثقف لبعض هذه الأسباب. ويحمد له أن جمع حوله عديدا من الباحثين الشبان الأفارقة.
وفي الهند عند الباحثين الشبان الجدد، وفي مصر في المكتب التابع للأمم المتحدة. وكانت كل هذه البحوث تحت إشراف موشاكوجي، عالم ومفكر وباحث منفتح على العالم الثالث خاصة أمريكا اللاتينية. وكان رئيس الجامعة من إندونيسيا، المرشح لرئاسة الجمهورية. كان مفكرا من مفكري العالم الثالث. وفي كل مرة أذهب إلى أحد مراكز البحث في أفريقيا أمر على القاهرة لأرى الأسرة. ولم أنقطع عن طلابي فكان نصر حامد أبو زيد في أوساكا أستاذ اللغة العربية، وكنا نتهاتف كل يوم، وهو يكتب «مفهوم النص»، ودعوته إلى مؤتمرات الجامعة عن الثقافة العربية حول مفهوم النص. وبعد سنتين في جامعة الأمم المتحدة وسنة في جامعة طوكيو وسنتين في المغرب يكون المجموع خمس سنوات، وهو ما تسمح به قوانين الجامعة المصرية، فعدت. وكان يمكنني أن أجدد إقامتي بجامعة الأمم المتحدة باعتبارها مهمة قومية، وعلى صلة دائمة بسفير مصر في اليابان وبمستشارها الثقافي الذي كان لا صوت له تقريبا، والمعار من إحدى الجامعات المصرية خاصة قسم اللغة اليابانية بكلية الآداب. وكان أحد الماركسيين المصريين يحوم حول المنصب كي يخلعني مع تشجيع ومؤازرة من كانوا قبلي في المنصب. وكانت أسرتي قد غادرت طوكيو بعد عام واحد نظرا لأن ابني الكبير حازم قد وصل إلى مرحلة الثانوية العامة، وهي شهادة لا يمكن امتحانها في الخارج مثل باقي السنوات السابقة في السفارة المصرية. وكان أحمد عبد الحليم يراسلني في فيورباخ، وأرسل لي رسالته لقراءتها وإعداد الملاحظات عليها. وقبل العودة النهائية، عادت زوجتي إلى طوكيو لتساعدني في الإعداد للعودة النهائية. وأثناء العودة وبمصاحبة زوجتي بدأنا ببانجوك، والمعبد الكبير لبوذا ثم مانيلا وحي اللهو، ثم جاكرتا إندونيسيا وكولالمبور وماليزيا وسنغافورة. وفي كل دولة أتعرف على جامعاتها وأساتذتها ومدى ما وصل إليه المسلمون من مناصب. تعرفت على عبد الرحمن وحيد رئيس جماعة نهضة العلماء بإندونيسيا والذي أصبح رئيس جمهوريتها فيما بعد. دعاني إلى القصر الجمهوري وألقى محاضرة عن فكري والحاضرون ينظرون إلي بإعجاب. وكان قد أتى إلى القاهرة من قبل وهو طالب واستمع إلى محاضراتي قبل أن يكمل دراسته، وغادر إلى العراق. وتعرفت على زين العابدين رئيس جماعة المسلمين بسنغافورة والذي أصبح فيما بعد عمدة لها؛ فقبل العودة إلى القاهرة كان الطواف بالشرق الآسيوي بعد الطواف في المغرب العربي.
وكان الصراع في جامعة الأمم المتحدة التي أسسها يوتانت السكرتير العام للأمم المتحدة السابق بين الإداريين والأكاديميين. وقد كتبت مذكرة إلى رئيس الجامعة الإندونيسي، ورئيس قسم العلوم الإنسانية الذي أعمل به برئاسة موشاكوجي. كان الإداريون لهم رؤية إدارية محضة، وكان الأكاديميون لهم رؤية أكاديمية خالصة، وأصروا على تغليب الرؤية الإدارية على الرؤية الأكاديمية، كما أصررت على إقامة سيمينار مرة أسبوعيا ندعو فيه المتخصصين في الجامعات اليابانية ونقضي على عزلة جامعة الأمم المتحدة التي أنشأها يوتانت كجامعة للعالم الثالث، بحيث تفتحها عليه، وتفتح اليابان عليها.
وكانت الفائدة الكبرى هي السياحة في اليابان خاصة رؤية هيروشيما ونجازاكي، وأثر القنبلة النووية عليهما حتى بعد أن أعيد بناؤهما إلا جزءا صغيرا للذكرى. وما يميز الحكم الياباني بالإضافة إلى الديمقراطية الشديدة الحرفية، تقديس الإمبراطور كما هو الحال في المغرب العربي؛ فهو خارج لعبة الديمقراطية، يعيش في قصر في طوكيو هو وعائلته، ولا يكاد يراه أحد إلا نادرا. وناطحات السحاب الطويلة في وسط المدن لا تنفي البيت الياباني التقليدي في ضواحيها، ويظهر الإحساس بالجمال في كل شبر فيها، والخضرة والورود تحوط كل شيء. والكل يشهد بالنبوغ الياباني: أربع جزر بين آسيا والمحيط الهادي لا مواد أولية فيها ولا طاقة ولا أرض، تستورد الطاقة من الخارج، والحديد من جارتها، لديها فقط العقول والسواعد، وأصبحت تنافس أمريكا الممتدة من الأطلنطي إلى الهادي. والصين التي أصبحت الآن الأولى في التصدير نظرا لمساحتها من المحيط حتى أواسط آسيا، أشار إليها المصلحون كنموذج للمسلمين.
وامتحن الأولاد الثلاثة سنواتهم الدراسية قبل الثانوية العامة في السفارة المصرية، وحين أتت الثانوية، اضطرت الأسرة إلى العودة إلى مصر. وكان الأولاد قد دخلوا المدرسة الفرنسية وتعلموا ما استطاعوا، اللغة والعلوم الإنسانية. واضطررت إلى مغادرة منزل الجامعة الكبير والسكن في غرفة أرضية في منزل ياباني بكيشيجوجي. وكنت قد تعرفت على ممرضة يابانية في إحدى العيادات التي تملأ الأحياء، ورحبت أن أعلمها الإنجليزية، واتفقنا على أن تأتي مرة أسبوعيا في نهاية الأسبوع، وفي المقابل تعطيني هي درسا في أساليب الحياة اليابانية، تنسيق الزهور والرقص والموسيقى والرسم. وكانت تأتي ومعها بعض الحلوى والفاكهة من السوبر ماركت القريب من محطة المترو، وتتصل تليفونيا أنها وصلت، فأذهب إلى المحطة على الدراجة لأصطحبها وهي تجلس على المقعد الخلفي كما نفعل في مصر. وبعد الغداء نستريح، ونسمع الموسيقى السيمفونية، حفل السادسة مساء، ثم تغادر. ومرة أتت وهي جادة أكثر من اللازم، فلما سألت: ما الخبر؟ قالت كنت في عملية جراحية. ولما كنت أعلم ضعف مرتبها ساهمت معها بالنصف، وعندما غادرت بعد سنتين كانت تبكي. وأتت زوجتي من القاهرة إلى طوكيو لمصاحبتي في رحلة العودة النهائية، فبكت أكثر لأنني لم أستطع أن أراها بعد ذلك. وغادرت طوكيو في عام 1987م. وراسلتني عندما قرأت عني في صحيفة
Japan Times ، وهي صحيفة بالإنجليزية، ورددت عليها مرة، ثم انجرف كل منا في تيار الزمن. والمرأة اليابانية على الرغم من أدبها وإخلاصها لزوجها إلا أنها تحب الاستطلاع، وتغيير إيقاع الرتابة التي تعيش فيها، والصداقة نوع من المعرفة وحب الاستطلاع، إذا صادقت أحدا فلمرة واحدة، ثم تختفي وكأنه لم يعرفها حتى لا يكون لها سجل وتاريخ؛ فهناك فرق بين الأبدي لزوجها وأسرتها والحب الوقتي العابر لمن لاقته مصادفة وأعجبت به وتريد معرفته.
Unknown page